الإمامة

في أهم الكتب الكلامية
وعقيدة الشيعة الإمامية


تأليف
السيد علي الحسيني الميلاني


( 3 )

الإهداء .

إلى حامل راية الإمامة :
الإمام الثاني عشر المهديّ المنتظر ...





يـا أيها العـزيز مسّنا وأهلنا الضرّ
وجئنـا ببضاعةٍ مـزجاة فأوف لنا الكيل
وتصدّق علينا إنّ الله يجزي المتصدّقين .






( 4 )


( 5 )


( 6 )


( 7 )

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين



( 8 )


( 9 )


* الحركة العلمية في القرنين السابع والثامن .
* علم الكلام .
* الإمامة .
* هذا الكتاب .







( 10 )


( 11 )

(1)
الحركة العلمية في القرنين السّابع والثّامن


لقد امتاز القرنان السّابع والثامن ـ وعلى أثر التقلبّات والحوادث السياسية والاجتماعيّة في بلاد الاسلام ـ بحركةٍ علميّة واسعةٍ ، في مختلف العلوم والفنون الاسلامية ...
وفي خصوص علم الكلام ... تشكّلت في تلك الفترة ثلاثة مدارس ، أنجبت علماء كباراً في هذا العلم ، أصبحوا قدوةً للأجيال اللاحقة ، وتركوا آثاراً جليلةً فيه كانت وما زالت محطّ الأفكار والأنظار ...
ولكنّ التناقضات الفكرية بين هذه المدارس أدّت وقوع المواجهات والصراعات العقيدية فيما بينها على صعيد المؤلّفات والمناظرات . فكانت منذ اليوم الأّوّل الردود والنقود ثم تلتها ردود ونقود أخرى ... وهكذا إلى يومنا هذا ...
فلنعّرفها ولنشر إلى بعض ذلك :

1 ـ مدرسة الطوسي في العراق :
ففي العراق ـ وفي مدينة الحلّة بالذات ـ أقام المحقّق العظيم الشيخ نصير الدين الطوسي المتوفى سنة 672 ، مدرسة أنجب فيها تلامذةً عظاماً اشتهروا في الآفاق ، كالشيخ حسن بن المطّهر الحلي المعروف بالعلاّمة ، المتوفى سنة 726 ، وأمثاله من كبار علماء الطائفة الشيعية الاثني عشريّة ، الذين كان لهم الدور البارز في نشر المذهب الشيعي وترويجه في العالم .
وكان كتاب ( تجريد الاعتقاد ) أو ( تجريد الكلام ) تأليف المحقق النصير


( 12 )

الطوسي من أشهر المتون الكلاميّة ، التي امتازت بين الكتب الاعتقادية عند الشيعة الامامية ، لجمعه بين الدقة والرّصانة والايجاز ، ولذا تناوله العلماء ـ من الشيعة والسنة ـ بالشرح والتعليق ، وكان أول من تناوله بالشرح والايضاح تلميذه العلاّمة الحلي المذكور .
قال في كشف الظّنون : « تجريد الكلام ، للعلامة المحقق ، نصير الدين أبي جعفر محمد بن محمد الطوسي ، المتوفى سنة 672 . وهو كتاب مشهور ، اعتنى عليه الفحول وتكلّموا فيه بالردّ والقبول ، له شروح كثيرة وحواش عليها . فأوّل من شرحه : جمال الدين حسن بن يوسف بن مطهر الحلي شيخ الشيعة ، المتوفى سنة 726 ... وشرحه شمس الدين محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الاصفهاني ، المتوفى سنة 746 ... وقد اشتهر هذا الشرح بين الطلاّب بالشرح القديم ، وعليه حاشية عظيمة للعلاّمة المحقق السيّد الشريف .. » ثم ذكر الحواشي على حاشية الشريف ثم قال :
« ثم شرح المولى المحقق علاء الدين علي بن محمد الشهير بقوشجي المتوفى سنة 879 شرحاً لطيفاً ممزوجاً ، وقد اشتهر هذا الشرح بالشرح الجديد . قال في ديباجته بعد مدح الفن والمصنف :
إنّ كتاب التجريد الذي صنفه المولى الأعظم ، قدوة العلماء الراسخين ، أسوة الحكماء المتألّهين ، نصير الحق والملة والدين ، تصنيف مخزون بالعجائب ، وتأليف مشحون بالغرائب ، فهو وإن كان صغير الحجم ، وجيز النظم ، فهو كثير العلم ، جليل الشأن ، حسن النظام مقبول الأئمة العظام ، لم يظفر بمثله علماء الأعصار ، مشتمل على إشارات إلى مطالب هي الأمّهات ، مملوء بجواهر كلّها كالفصوص ، متضّمن لبيانات معجزة في عباراتٍ موجزة ، وهو في الاشتهار كالشمس في رابعة النهار ، تداولته أيدي النظّار .
ثم إنّ كثيراً من الفضلاء وجّهوا نظرهم إلى شرح هذا الكتاب ونشر معانيه ، ومن تلك الشروح وألطفها مسلكاً هو الذي صنّفه : العالم الربّاني ،


( 13 )

مولانا شمس الدين الاصبهاني ، فإنه بقدر طاقته حام حول مقاصده ، وتلقّاه الفضلاء بحسن القبول ، حتى أن السيد الفاضل قد علّق عليه حواشي ، تشتمل على تحقيقات رائقة وتدقيقات شائقة ، تنفجر من ينابيع تحريراته أنهار الحقائق ، وتنحدر من علوّ تقريراته سيول الدقائق .
ومع ذلك كان كثير من مخفيّات رموز الكتاب باقياً على حاله ، بل كان الكتاب على ما كان كونه كنزاً مخفّياً وسرّاً مطوّياً ، كدرّة لم تثقب ، لأنه كتاب غريب في صنعته ، يضاهي الألغاز لغاية ايجازه ، ويحاكي الإعجاز في إظهار المقصود وإبرازه .
وإني بعد أن صرفت في الكشف عن حقائق هذا العلم شطراً من عمري ، ووقفت على الفحص عن دقائقه قدراً من دهري ، فما من كتاب في هذا العلم إلاّ تصفّحت سينه وشينه ، أبت نفسي أن تبقى تلك البدائع تحت غطاء من الإبهام ، فرأيت أن أشرحه شرحاً يذلّل صعابه ، ويكشف نقابه ، وأضيف إليه فوائد إلتقطتها من سائر الكتب ، وزوائد استبطتها بفكري القاصر ، فتصدّيت بما عنيت .
فجاء بحمد الله تعالى كما يحبّه الأودّاء لا مطوّلاً فيمل ولا مختصراً فيخل ، مع تقرير لقواعده ، وتحرير لمعاقده ، وتفسير لمقاصد . انتهى ملخصاً .
وإنّما أوردته ليعلم قدر المتن والماتن ، وفضل الشّرح والشّارح (1) .
ثم ذكر كاشف الظّنون الحواشي والتعاليق على الشرحين القديم والجديد ، ثمّ الحواشي على تلك الحواشي ... بما لا حاجة الى ذكره اكتفاءً بما تقدّم (2) .

2 ـ مدرسة الإيجي في بلاد الفرس :
وفي إيران ... أسّس القاضي عضد الدين الايجي مدرسةً ، أنجب فيها
____________
(1) ونحن أيضاً أوردناه بطوله لنفس الغرض ، وليعلم ـ بالمقارنة بينه وبين ما سننقله عن التفتازاني في المتن والماتن ـ من الحاقد التعصّب !
(2) كشف الظنون 1 | 346 ـ 351 .

( 14 )

عدةً من الأعلام المشهورين ، وعلى رأسهم سعد الدين التفتازاني . فألّف الايجي كتاب ( المواقف ) وألّف التفتازاني كتاب ( المقاصد ) .
وهذان الكتابان ينظران في بحوثهما إلى ( التجريد ) كما لا يخفى على من قارن بينه وبين الكتابين ، لكنّهما لم يصرّحا بذلك . لكنّا نرى التفتازاني عندما لم يتمالك نفسه ، فيضطّر الى ذكر ( التجريد ) ومؤلّفه ، يذكرهما بسوء أدبٍ ، ممّا يدل على مدى تغيّظه ويكشف عن حقده ، فيقول :
« ومن العجائب أن بعض المتأخرين من المتشغّبين ، الذين لم يروا أحداً من المحدّثين ، ولا رووا حديثاً في أمر الدين ، ملأوا كتبهم من أمثال هذه الأخبار والمطاعن في الصّحابة الأخيار ، وإن شئت فانظر في كتاب التجريد المنسوب إلى الحكيم نصير الطوسي ، كيف نصر الأباطيل وقرّر الأكاذيب ؟ والعظماء من عترة النبي وأولاد الوصي الموسومون بالدراية ، المعصومون في الرواية ، لم يكن معهم هذه الأحقاد والتعصّبات » (1) .

3 ـ مدرسة ابن تيمية في بلاد الشام :
وفي الشام أسّس أحمد بن عبد الحليم الحراني المعروف بابن تيميّة المتوفى سنة 728 مدرسته المشتهرة باسمه ، والتي أنجبت ثلّةً من العلماء وعلى رأسهم : محمد بن أبي بكر الدمشقي المعروف بابن قيّم الجوزيّة المتوفى سنة 751 .
وقد اشتهر من كتب ابن تيميّة كتابه الذي أسماء ( منهاج السنّة ) ألّفه رداً على كتاب ( منهاج الكرامة ) للعلامة الحلّي المذكور آنفاً ... فتجاوز فيه جميع الحدود الشرعيّة والآداب الاسلامية ، ولم يخل منه ورقة من أنواع السبّ والشّتم ، للحلّي وشيخه الطّوسي ، حتى قال في موضعٍ من كتابه :
« إنّ هذا الرّجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنّه كان وزير الملاحدة
____________
(1) شرح المقاصد 5 | 265 .
( 15 )

الباطنّية الاسماعيليّة . ثما لمّا قدم الترك المشركون هلاكو أشار عليه بقتل الخليفة بقتل أهل العلم والدين ، واستبقاء أهل الصناعات والتجارات ، الذين ينفعونه في الدنيا ، وأنّه استولى على الوقف الذي للمسلمين ، وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم السّحرة وأمثالهم ، وأنه لما بنى الرصد الذي بمراغة على طريقة الصابئة المشركين كان أخس الناس نصيباً منه من كان إلى أهل الملل أقرب ، وأورفرهم نصيباً من كان أبعدهم عن الملل ، مثل الصابئة المشركين ، ومثل المعطّلة وسائر المشركين ، وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك .
ومن المشهور عنه وعن أتباعه الاستهتار بواجبات الاسلام ومحرّماته ، ولا يحافظون على الفرائض كالصلاة ، ولا ينزعون عن محارم الله من الخمر والفواحش وغير ذلك من المنكرات ، حتى أنهم في شهر رمضان يذكر عنهم من إضاعة الصلاة وارتكاب الفواحش وفعل ما يعرفه أهل الخبرة بهم ، ولم يكن لهم قوّة وظهور إلاّ مع المشركين ، الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى ...
وبالجملة ، فأمر هذا الطوسي وأتباعه في المسلمين أشهر وأعرف من أن يوصف .
ومع هذا ، فقد قيل : إنه كان في آخر عمره يحافظ على الصلوات ، ويشتغل بتفسير البغوي والفقه ونحو ذلك ، فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئّات » (1) .

موجز ترجمة نصير الدين الطّوسي
وهذه الكلمات إن دلّت على شيء فإنّما تدل على سخافة عقل ابن تيمية ، وبذاءة لسانه ، وقلّة دينه وورعه ... أمّا الامام نصير الدين الطّوسي فقد ترجم له بكلّ إكبارٍ وتبجيلٍ وتعظيم علماء القرن الثامن قبل غيرهم ، ففي ( فوات
____________
(1) منهاج السنة 2 | 99 ـ 100 .
( 16 )

الوفيات ) لابن شاكر الكتبي المؤرخ الشهير المتوفي سنة 764 :
« نصير الدين الطوسي : محمد بن محمد بن الحسن ، نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب علم رياضي ، كان رأساً في علم الأوائل ، لا سيّما في الأرصاد والمجسطي ، فإنه فاق الكبار ، وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو » ثم ذكر بعض قضاياه وأحواله مع وهولاكو ، الدالة على دهائه ، ثم ذكر أسماء مصنفّاته وقال : « وكان للمسلمين به نفع ، خصوصاً الشيعة والعلويين والحكماء وغيرهم ، وكان يبّرهم ويقضي أشغالهم ويحمي أوقافهم ، وكان مع هذا كلّه فيه تواضع وحسن ملتفى » قال : « وكان يعمل الوزارة لهولاكو من غير أن يدخل يده في الأموال » (1) .
وقال ابن كثير المتوفى سنة 774 : « النصير الطوسي ، محمد بن عبدالله الطوسي ، كان يقال له : المولى نصير الدين ، ويقال : الخواجا نصير الدين . اشتغل في شبيبته وحصّل علم الأوائل جيداً ، وصنف في ذلك في لم الكلام ، وشرح الاشارات لابن سينا ، ووزر لأصحاب قلاع الألموت من الاسماعيلية ، ثم وزر لهولاكو ، وكان معه في واقعة بغداد . ومن الناس ( يعني ابن تيمية ) من يزعم أنه أشار على هولاكو خان بقتل الخليفة . فالله اعلم . وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل ، وقد ذكره بعض البغاددة فأثنى عليه وقال : كان عاقلاً فاضلاً كريم الأخلاق ، ودفن في مشهد موسى بن جعفر » (2) .
وقال أبو الفداء المتوفى سنة 732 : « الشيخ العلاّمة نصير الدين الطوسي ، واسمه محمد بن محمد بن الحسين ، الامام المشهور ، وله مصنّفات عديدة كلّها نفيسة ، ودفن في مشهد موسى والجواد (3) .
وقال الذهبي المؤرخ المتوفى سنة 748 : « خواجا نصير الدين الطوسي ، أبو
____________
(1) فوات الوفيات 3 | 246 .
(2) البداية والنهاية 13 | 267 .
(3) المختصر في أخبار البشر 4 | 8 .

( 17 )

عبدالله محمد بن محمد بن حسن . مات في ذي الحجة ببغداد ، وقد نيّف على الثمانين ، وكان رأساً في علم الأوائل ، ذا منزلة من هؤلاكو » (1) .

موجز ترجمة ابن تيمية :
لكنّ ابن تيميّة معروف بالتهجّم على الكل ، فلم يسلم منه أحد من أئمة المذاهب والفرق ، ولذلك ولعقائده الفاسدة وآرائه الباطلة ، أفتى كبار أئمة أهل السّنة بضلالته ووجوب حبسه ، حتى يتوب ، فبقي في السجن حتى مات .
فلاحظ ترجمته في الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني 2 | 247 ، والبدر الطالع للشوكاني 2 | 260 وغيرهما .
ففي الدرر الكامنة : « نودي عليه بدمشق : من اعتقد عقيدة ابن تيمية حلّ دمّه وماله » .
وفي البدر الطّالع : « صرّح محمد البخاري الحنفي المتوفى سنة 841 بتبديعه ثم تكفيره ، ثم صار يصرّح في مجلسه : أن من أطلق القول على ابن تيمية أنه شيخ الاسلام فهو بهذا الاطلاق كافر » .
وقال ابن حجر المكي صاحب الصّواعق في فتاواه :
« ابن تيمية عبد خذله الله وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه ، وبذلك صرّح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله ، وكذب أقواله . ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الامام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد إبي الحسن السبكي ، وولده التاج ، والشيخ الامام العز ابن جماعة ، وأهل عصرهم وغيرهم ، من الشافعية المالكية والحنفيّة ، ولم يقصر اعتراضه على متأخرّي الصوفية ، بل اعترض على مثل عمر بن الخطّاب وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ .
____________
(1) العبر 3 | 326 .
( 18 )

والحاصل : انه لا يقام لكلامه وزن ، بل يرمى في كلّ وعرٍ وحزن ، ويعتقد فيه أنّه مبتدع ضال مضل غال ، عامله الله بعدله ، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله . آمين » (1) .

* * *

____________
(1) الفتاوى الحديثية : 86
( 19 )

(2)
علم الكلام

تعريفه :
الظاهر أن لا اختلاف كبير في تعريف علم الكلام وفائدته والغرض من وضعه ، فقد قال الايجي : « الكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة بإيراد الحجج ودفع الشبه » .
قال : « فائدته : أمور :
الأول : الترقي من حضيض التقليد الى ذروة الايقان ...
الثاني : إرشاد المسترشدين بإيضاح المحجّة ، وإلزام العاندين بإقامة الحجة .
الثالث : حفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين .
الرابع : أن يبنى عليه العلوم الشرعيّة فإنّه أساسها ...
الخامس : صحة النّية والاعتقاد ، إذ بها يرجى قبول العمل » .
قال : « وغاية ذلك كلّه الفوز بسعادة الدارين » .
وقال التفتازاني : « الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلّة اليقينية » قال : « وغايته : تحلية الايمان بالايقان ، ومنفعته : الفوز بنظام المعاش ونجاة المعاد » .
والفيّاض اللاهيجي شارح التجريد ذكر كلا التعريفين في كتابه ( شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام ) .
فالغرض الذي من أجله وضع علم الكلام من قبل علماء الاسلام هو


( 20 )

معرفة أصول الدين عن طريق الاستدلال بالعقل والنقل ، ليكون أبناء الدين على علم بالأسس التي بنيت عليها عقائدهم ، إذ التقليد في الأصول غير جائز عند اكثر العلماء ـ إن لم يكن كلّهم ـ وأنّه لا بد على كلّ مكلّف من النظر فيها .
فهذا هو الهدف الأول من وضع هذا العلم وتدوينه والتأليف فيه ، فهو من العلوم الضرورية للأمة ، لأنه العلم المتكفّل لبيان ما على المكلّفين الالتزام به من الناحية الاعتقادية ، كما أن علم الفقه يتكفّل بيان ما يجوز وما لا يجوز لهم من الناحية العملية جواز التقليد فيه .
وكما أن علم الفقه هو السبب في بقاء الشريعة في أحكامها الفرعية ، كذلك علم الكلام في الحفاظ على الأصول الاعتقاديّة .
على أن من الطبيعي أنّه إذا استوعب الإنسان الأدلّة والبراهين ، تمكّن من الدّفاع عن معتقداته ، والاجابة عن الشبهات المتوجهة اليه ، بل ودعوة الآخرين إليها بقلمه ولسانه .
ومن هنا كثر اهتمام العلماء بهذا العلم ، وكثرت الكتب المؤلّفة فيه من مختلف المذاهب الاسلاميّة .

علم الكلام من أسباب هزائمنا ؟
تبيّن أن موضوع علم الكلام هو أصول الدين ، من التوحيد وصفات الباري ، والنبوة وشئونها والنّبي وصفاته ، والمعاد ... وغير ذلك ... وأن الغرض منه معرفة هذه الاصول ودعوة الآخرين إليها بالحكمة والموعظة الحسنة ... فكيف يكون من أسباب هزائم المسلمين أمام اعداء الاسلام ؟
إنّه طالما بنيت الأصول الإعتقادية على الحق ، وقصد بالبحث عنها الوصول الى الحقيقة والواقع ، والتزم الباحث ـ لا سيّما في مرحلة إقامة الحجة على الغير ـ بالعدل والانصاف ، والاخلاق الكريمة ، والقواعد المقرّرة للمناقشة والمناظرة ... كان علم الكلام من خير أسباب صمودنا أمام الأعداء . ووحدتنا فيما بيننا ...


( 21 )

أمّا إذا كان الغرض من علم الكلام هو التغلّب على الخصم ولو بالسبّ والشتم ، فلا شك في أن هذا الأسلوب فاشل ، وأنّه سيودّي الى تمزّق المسلمين وتفرّق صفوفهم ، وإلى الهزيمة أمام الأعداء ...
فالقول بأنّ « أسلوب علم الكلام فشل حتى الآن » وأنه « أحد أسباب هزائمنا » على اطلاقه ليس بصحيح ...
وعلى الجملة ، فإنّ علم الكلام لم يكن في يومٍ من الأيام من أسباب ضعف المسلمين ، وهزيمتهم ، بل كان ـ متى ما استخدم على حقيقته واتّبعت أساليبه الصحيحة ، وطبقّت قواعده الرّصينة ـ من أسباب وحدة كلمة المسلمين ورصّ صفوفهم وصمودهم أمام الخصوم ... ولا ننكر أن بعض المتكلّمين اتّخذوه وسيلةً لتوجيه عقائدهم الباطلة وأفكارهم الفاسدة ، إلاّ أنّ هذا لا يختص بعلم الكلام ، فقد اتخذ غيره من العلوم الاسلامية وسيلةً للأهداف والأغراض المخالفة للحق والدين ... وهذا لا يسوّغ إتهام « العلم » بل على النّاس أن يفرّقوا بين المتكلّمين ، فيعرفوا المحق فيتبّعوه ، ويعرفوا المغرض فيحذروه ...

* * *

( 22 )

(3)
الإمامة

الامامة في علم الكلام :
وانصبّ اكثر اهتمام علماء الكلام من الفرق المختلفة بموضوع « الامامة » ، لأنّ « الإمامة » كما عرّفت في كتب الشيعة والسنة : « نيابة عن النبي في أمور الدين والدنيا » ولأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ـ في الحديث المتفق عليه ـ « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » . فتكون الشئون الدينية والدنيوية منوطة كلها بالامام ، وتكون معرفته ثم طاعته واجبةً في جميع المجالات .
أمّا الشيعة فالإمامة عندهم ـ للحديث المذكور وغيره من الأدلة النقلية والعقلية ـ من أصول الدين ، فيشملها موضوع علم الكلام ... وأما . السّنّة فإنّهم ـ وان اضطربوا وتذبذبوا ـ بحثوا عنها في هذا العلم بالتفصيل .
وعلى كلّ حالٍ فقد أصبح موضوع الامامة يشكل أحد الأبواب الواسعة في الكتب الكلاميّة ، ولا يزال يشغل بال جلّ علماء الكلام ، حتّى ألّفوا فيه كتباً مفردةّ لا تحصى ...

الإمام بعد النبي ؟
واختلف المسلمون في هذه المسألة ، فقيل : الامام بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو « علي بن أبي طالب » ... للنصوص الكثيرة الدالّة على ذلك ، المتفق عليها بين المسلمين ... وقد عرف القائلون بهذا القول بـ « الشيعة » .


( 23 )

وقيل : الإمام بعد النبي هو « أبو بكر بن أبي قحافة » وقد عرف القائلون بهذا القول بـ « السنة » ... لكنّهم يعترفون بأن لا نص على إمامة أبي بكر ... فضلاً عن أن يكون متفّقاً عليه ... فإذا طولبوا بالدليل ـ بعد الاعتراف بما ذكر ـ قالوا : الدليل إجماع الصّحابة ... في حين يعترفون بأنّ إمامة أبي بكر إنما انعقدت ببيعة « عمر بن الخطّاب » و « أبي عبيدة ابن الجراح » وأن كثيرين من أعلام الصّحابة امتنعوا عن البيعة ، وعلى رأسهم «علي بن أبي طالب » و « الزهراء بضعة الرسول » .

موقف علي والزهراء من خلافة أبي بكر :
ولا ريب في أنهما كانا على رأس الذين أبوا عن البيعة مع أبي بكر ، ففي كتابي البخاري ومسلم :
« كان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة ، فلمّا توفيّت فاطمة انصرفت وجوه الناس عنه عند ذلك .
قال : معمر : قلت للزهري : كم مكثت فاطمة بعد النبي « ص » ؟
قال : ستة أشهر .
فقال رجل للزهري : فلم يبايعه علي ـ رضي الله عنه ـ حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها ؟
قال : ولا أحد من بني هاشم » .
قال البيهقي :
« رواه البخاري في الصحيح من وجهين عن معمر .
ورواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وغيره عن عبدالرزاق » (1) .
وعن عائشة :
« إن فاطمة ـ عليها السلام ـ ابنة رسول الله ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم
____________
(1) السنن الكبرى 6 | 300 .
( 24 )

ـ سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم : أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله ممّا أفاء الله عليه . فقال لها أبوبكر : إنّ رسول الله قال : لا نورّث ما تركناه صدقة .
فغضبت فاطمة بنت رسول الله فهجرت أبا بكر .
فلم تزل مهاجرته حتى توفّيت .
وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر » (1) .
فقال التفتازاني :
« وأمّا توقّف علي ـ رضي الله عنه ـ في بيعة أبي بكر رضي الله عنه فيحمل على أنه لما أصابه من الكآبة من الحزن بفقد رسول الله ، صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم لم يتفرّغ للنظر والاجتهاد ، فلمّا نظر وظهر له الحق دخل فيما دخل فيه الجماعة » .
ولا أظنّ التفتازاني نفسه يرتضي هذا الحمل ، ولكنه من « ضيق الخناق » !
إنّه يقول هذا بالنسبة إلى « علي » . أمّا بالنسبة إلى غيره فيقول :
إنّهم اشتغلوا بأمر الإمامة عن دفن الرّسول » !!
ولا يعرّض التفتازاني ـ ولا غيره ـ إلى الجواب عن إباء الزهراء الصدّيقة وامتناعها من البيعة لأبي بكر ، حتى أنّها توفّيت ولم بتايعة ، ولم يحملها بعلها على البيعة ، وهما يعلمان بأنّ « من مان ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة » !
والزهراء ـ كما يعلم الجميع ـ بضعة الرّسول وروحه التي بن جنبيه ، من أغضبها فقد أغضبه ، كما في الأحاديث المتفق عليها ، والتي لأجلها قال غير واحدٍ من أعلام السنّة بكونها أفضل من الشيخين (2) .
ومن هنا يظهر الجواب عمّا جاء في كلام العضد وشارحه والتفتازاني وغيرهم
____________
(1) صحيح البخاري . كتاب الخمس ، وفي باب غزوة خيبر . أخرجه هو مسلم في باب قوله « ص » : لا نورّث .
(2) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 4 | 421 .

( 25 )

من : أنه عليه السلام لو كان هو المنصوص عليه بالإمامة لما ترك محاجّة القوم ومخاصمتهم ، وإظهار النص عليه والتمسّك به (1) .

السّنة عيال على المعتزلة :
لكنّ أهل السّنة ـ إذا أمعنت النظر وأنصفت ـ لا أساس لما يقولون به في مسألة الامامة ، بل إنّ غاية ما يحاولونه توجيه ما فعله القوم ، وتبرير ما هو الواقع تاريخياً ، أمّا أنّ الحق ما هو ؟ وما الذّي أراده الله ورسوله منهم ؟
كما أنهم يحاولون الردّ على الأدلة العقلية والنصوص المتفق عليها ... لكنّهم في هذه المرحلة عيال على متكلّمي المعتزلة ، فإنّ مباحث الامامة في ( المواقف ) و ( المقاصد ) ـ وهما أهّم كتب القوم في الكلام ـ مأخوذة ـ في الأغلب ـ من الفخر الرازي ، وهو في أغلب بحوثه عيال على المعتزلة .
فالشبهات التي طرحوها حول « العصمة » مأخوذة من كتاب ( المغني ) للقاضي عبدالجبار بن أحمد المعتزلي المتوفى سنة 415 ، الذي ردّ عليه الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 بكتاب ( الشافي ) (2) .
وكذا إنكار ظهور المعجزة على يد الإمام وعلمه بالمغيّبات (3) .
وكذا حملهم نصوص إمامة أمير المؤمنين على زمن ما بعد عثمان (4) .
وكذا دعوى التفتازاني أنّ النصّ الجلي على أمير المؤمنين ممّا وضعه هشام بن الحكم ونصره فلان وفلان (5) .
وهكذا غيرها ... كما لا يخفى على المتتبّع .
____________
(1) شرح المواقف 8 | 354 ، شرح المقاصد 5 | 360 .
(2) الشافي 1 : 137 ، 300 .
(3) الشافي 2 | 26 .
(4) الشافي 2 | 305 .
(5) الشافي 2 | 119 .

( 26 )

ووجدنا في أهل السنة المعاصرين من يخالف أسلافه في إنكار النص ، إنما يصحّح خلافة من تقدّم على علي بدعوى الإمام عن الامامة ، وهو في هذا تبع للمعتزلة ... وسيأتي كلامه .

متى بايع عليّ ؟
قد ثبت أنّه بايع بعد وفاة الزهراء ، وبعد انصراف وجوه الناس عنه ... كما في نصّ الحديث ... وكانت المدّة ستة أشهر ... وتفيد الأحاديث : أنّ الزهراء لو بقيت أضعاف هذه المدّة لما بايعت ولما بايع علي ... ولكنّها لحقت بأبيها ، وبقي على وحده ، فاضطّر إلى البيعة ، قال :
« فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمرّ من طعم العلقم » (1) .
وقال : « اللّهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم قد قطعوا رحمي ، وأكفؤوا إنائي ، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري ، وقالوا : ألا إنّ في الحق أن تأخذه ، وفي الحق أن تمنعه ، فاصبر مغموماً ، أو مت متأسّفاً . فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد ، إلاّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن المنيّة ، فأغضيت على القذى ، وجرعت ريقي على الشجا ، وصبرت من كاظم الغيظ على أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من وخز الشغار » (2) .
وقال في كتابٍ له إلى معاوية :
« وزعمت أني لكلّ الخلفاء حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، فإن يكن ذلك
____________
(1) نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 68 .
(2) نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 336 .

( 27 )

كذلك فليست الجناية عليك فيكون العذر اليك : وتلك شكاة ظاهر عنك عارها .
وقلت : إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع .
ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت ! وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ، ولا مرتاباً بيقينه ! وهذه حجتّي إلى غيرك قصدها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها » (1) .
هذا كلّه ، مضافاً إلى الخطبة الشقشقية المشهورة ، وغيرها من كلماته المعروفة في خطبة وكتبه .

علي في الشورى وقوله : لأسلمنّ ... :
وفي الشّورى ... طالب عليه السّلام بحقّه ، وصرّح بحرصه عليه منذ اليوم الأول ، ففي خطبةٍ له :
« وقد قال قائل : إنّك على هذا الأمر ـ يا ابن أبي طالب ـ لحريص !
فقلت : بل أنتم ـ والله ـ لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب ، وإنّما طلبت حقّاً لي ، وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه .
فلمّا قرعته بالحجّة الملأ الحاضرين هبّ كأنّه بهت لا يدري ما يجيبني به .
أللهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم قطعا رحمي ، وصغّروا غظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرأ هو لي ، ثم قالوا : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه » (2) .
« ومن خطبةٍ له عليه السلام : لّما عزموا على بيعة عثمان : لقد علمتم أني
____________
(1) نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 387 .
(2) نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 246 .

( 28 )

أحق بها من غيري ، ووالله لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة ، إلتماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه » (1) .
فهو عليه السلام في هذا الكلام أيضاً يصرّح بأنه أحقّ بالامامة من غيره مطلقاً ، ويقول للقوم بأنّكم عالمون بذلك ، ولم يقل قوله : « والله لأسلمنّ ... » إلاّ بعد أن ناشد القوم بحقّه ، وبعد أن هدّدوه بالقتل إن لم يبايع :
يقول ابن أبي الحديد : « ونحن نذكر ـ في هذا الموضع ـ ما استفاض من الروايات من مناشدته أصحاب الشورى ، وتعديده فضائله وخصائصه ، التي بان بها منهم ومن غيرهم . وقد روى الناس ذلك فأكثروا ، والذي صحّ عندنا أنه لم يكن الأمر كما روي من تلك التعديدات الطويلة ، ولكنه قال لهم ، بعد أن بايع عبدالرحمن والحاضرون عثمان ، وتلكّأ هو عليه السلام عن البيعة :
إنّ لنا حقّاً إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى ـ في كلام ذكره أهل السيرة ، وقد أوردنا بعضه فيما تقدم ـ ثم قال لهم :
أنشدكم الله ، أفيكم أحد آخى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بينه وبين نفسه حيث آخى بين المسلمين وبعضٍ ، غيري ؟
فقالوا : لا .
فقال : أفيكم أحد قال له رسول الله : من كنت مولاه فهذا مولاه ، غيري ؟
فقالوا : لا .
فقال : أفيكم أحد قال له رسول الله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي ، غيري ؟
قالوا : لا .
____________
(1) نهج البلاغة صبحي الصالح : 102 .
( 29 )

قال : أفيكم من أوتمن على سورة براءة وقال له رسول الله : إنّه لا يؤدي عني إلاّ أنا أو رجل مني ، غيري ؟
قالوا : لا .
قال : أتعلمون أنّ أصحاب رسول الله فرّوا عنه في مأقط الحرب في غير موطن ، وما فررت قط ؟
قالوا : بلى .
قال : أتعلمون أني أول الناس إسلاماً ؟
قالوا : بلى .
قال : فأيّنا أقرب إلى رسول الله نسباً ؟
قالوا : أنت .
فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه وقال : يا علي : قد أبى الناس إلاّ على عثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً .
ثم قال : يا أبا طلحة ، ما الذي أمرك به عمر ؟
قال : أن أقتل من شق عصا الجماعة .
فقال عبد الرحمن لعلي : بايع إذن ، وإلاّ كنت متّبعاً غير سبيل المؤمنين ، وأنفذنا فيك ما أمرنا به .
فقال : لقد علمتم أني أحق بها من غيري ، ووالله لأسلمنّ ...
ثم مدّ يده فبايع » (1) .
فهذا واقع الحال في الشوري وقبلها ...
____________
(1) شرح نهج البلاغة 6 | 167 .
( 30 )

رأي عليّ في خلافة من تقدّمه :
وبما ذكرنا يظهر رأي الامام عليه السلام في خلافة من تقدّمه وموقفه منهم ... وأنه ما كان بإمكانه من أن يتخّذ موقفاً تجاههم ... فقول بعض أهل السنة المعاصرين (1) :
« لو أنّ علياً ـ كرّم الله وجهه ـ اتخذ يوم السقيفة موقفاً مستقلاً ، اتخذ يوم استخلاف أبي بكر لعمر موقفاً مستقلاً ، أو يوم الشورى التي بويع على أعقابها لعثمان موقفاً مستقلاً ، إذن لتركنا كلّ نهج ، واتّبعنا نهج علي . آية هذا الاعتقاد : إن علياً لمّا اتخذ موقفاً صريحاً أمام أيام الفتنة من معاوية اتّجه جمهور المسلمين إلى ما اتّجه إليه علي » .
تجاهل عن الواقع ... وقد سبقه إلى هذا القول جماعة من أعلام المعتزلة ...
يقول ابن أبي الحديد : « وقد صرّح شيخنا أبو القاسم البلخي بهذا ، وصرّح به تلامذته وقالوا : لو نازع عقيب وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسلّ سيفه لحكمنا بهلاك كلّ من خالفه وتقدّم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ، ولكنه مالك الأمر وصاحب الخلافة ، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها ،وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها » قال ابن أبي الحديد : « وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي وبه أقول » (2) .
وهذا عجيب للغاية !
يقولون : « لو نازع ... »
____________
(1) هو الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي الشامي .
(2) شرح نهج البلاغة 2 | 296 .

( 31 )

وتقول الأحاديث الصحيحة : كان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة ، فلمّا توفّيت انصرفت وجوه الناس عنه ، وعند ذاك بايع أبا بكر !
ويقول هو : « وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر ... » ويقول : « فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ... » .
ويقولون : أمسك !
يقول : صبرت ...
ويقولون : ضحّى ، تنازل ، أغضى ... !

موقف عليّ من معاوية :
وأمّا موقف الامام عليه السلام من معاوية فقد اختلف تماماً ، لأن ظروفه أختلفت ، فما كان يشكو منه سابقاً ـ وهو عدم المعين إلاّ أهل بيته ـ منتفٍ الآن ... لقد وجد الآن من يعينه على أمره ، لقد بايعه المسلمون وعلى رأسهم المهاجرون والأنصار ، وأعلنوا الوقوف معه ضد كلّ من يبغي عليه ، وهم يعرفون معاوية واسلافه وفئته الباغية ... لكنّ الامام عليه السلام لم ينابذه الحرب الاّ بعد أن أرسل إليه الرّسل والكتب ، وأتّم عليه الحجج ... وقد كان ممّا قال له :
« إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر عمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد ، وإنّما الشورى للمهاجرين والإنصار ، فإن اجتمعوا على رجلٍ وسمّوه إماماً كان ذلك الله رضىً ، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على أتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاّه الله ما تولّى » (1) .
وقد جاء هذا المعنى في خطبةٍ له عليه السلام :
« أيها الناس ، إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله
____________
(1) نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 366 .
( 32 )

فيه ، فإن شغب شاغب استعتب ، فإن أبي قوتل ، ولعمرى ، لئن كانت الامامة لا تنعقد حتى يحضرها عامّة الناس ، فما الى ذلك سبيل ، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثم ليس للشاهد أن يرجع ، ولا الغائب أن يختار . ألا وإني أقاتل رجلين ، رجلاً ادعى ما ليس له ، وآخر منع الذي عليه » (1) .
إذن ، يعتبر في الامام النص والأفضلية ، كالنصوص والفضائل التي ناشد به أصحاب الشورى ، والمقصود هم والذين سبقوهم ، وكالأعلّمية التي ذكرها في الخطبة المذكورة هذه ... فإن بايع المهاجرون والأنصار كان « أقواهم عليه » ... وكان على الآخرين المتابعة والطّاعة .
وقد توهّم بعض المتكلّمين من أهل السنة ، كالشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب ( التحفة الاثنا عشريّة ) فتمسّك بما جاء في كتاب الامام عليه السلام الى معاوية وجعله معارضاً لحديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ... غافلاً عن أنّ احتجاج الامام عليه السلام بما ذكره إنّما هو لإلزام معاوية ، لكونه يرى صحّة امامة أبي بكر وعمر وعثمان لبيعة المهاجرين والأنصار فقد بايعوني كلّهم ... ولو أنّهم جميعهم اجتمعوا على أمرٍ كان لله فيه رضىً ، لأنّه حينئذٍ يكون فيهم المعصوم الذي فعله حجة ... لكنّ الواقع عدم تحقّق هكذا اجماعٍ على واحد من الثلاثة ... فما ذكره الامام لمعاوية ليس إلاً للالزام .

أثر علم الكلام في التشيّع :
وكما ذكرنا من قبل ... فإنّ الاستدلال إن كان منطقياً والبحث سليماً ، وكانت الأدلة على أسس رصينةٍ وقواعد متينة ... فلا شك في تأثيره في القلوب الطالبة للحق ، المحبّة للخير والفلاح ...
____________
(1) نهج البلاغة ط صبحي الصالح : 247 .
( 33 )

وبالفعل ... فقد كان لعلم الكلام وأساليبه الصحيحة المستندة الى الكتاب والسنة والعقل السليم الاثر البالغ في تقدم مذهب الامامية وتشيّع الأمم ...
ويكفينا ـ في هذا المجال ـ ذكر سبب تشيع أهالي جبل عامل (1) عن أحد كبار علماء تلك المنطقة :
« روي أنّه لمّا مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لم يكن من شيعة علي عليه السلام إلاّ أربعة مخلصون : سلمان ، والمقداد ، وأبو ذر ، وعمّار . ثم يتبّعهم جماعة قليلون اثنا عشر ، وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج ، حتى بلغوا ألفاً وأكثر ، ثم في زمن عثمان لمّا أخرج أبا ذر إلى الشام بقي أيّاماً ، فتشّيع جماعة كثيرة ، ثم أخرجه معاوية إلى القرى ، فوقع في جبل عامل ، فتشيّعوا من ذلك اليوم ... فظهر أنه لم يسبق أهل جبل عامل في التشيّع إلاّ جماعة محصورون من أهل المدينة ، وقد كان أيضاً في مكة والطائف واليمن والعراق والعجم شيعة قليلون . وكان أكثر الشيعة في ذلك الوقت أهل جبل عامل (2) .
ومن هنا قال السيد الصّدر العاملي ـ في فصل علم الكلام ـ : « وأمّا أوّل من ناظر في التشيّع .. هو المولى الأعظم والإمام الأقدم ، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أبوذر الغفاري ، رضي الله تعالى عنه » ثم ذكر الكلام السّابق وغيره وتشيع أهالي جبل عامل على يده (3) .
____________
(1) إنما اخترنا هذا المورد للاستشهاد تنبيهاً على كلمةٍ لأحد علماء هذه المنطقة يقول فيما وهو يتهجّم على علم الكلام : « لم يتشيّع سنيّ إلاّ على مستوى الأفراد والقناعات » .
(2) أمل الآمل في علماء جبل عامل 1 | 13 .
(3) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : 351 .