المقصد السادس
في أمامة المفضول مع وجود الفاضل

قوله (373) :
( منعه قوم لأنه قبيح عقلاً... وجوّزه الأكثرون ... وفصّل قوم ... ) .
أقول :
الأدلة على عدم جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل كثيرة مذكورة في الكتب المفصّلة وقد ذكرنا بعضها سابقاً ، لا حاجة إلى إيرادها هاهنا بعد أن قال الشارح 365 في توجيه جعل الشورى بين الستة :
« وانما جعلها شورى بينهم لأنّه رآهم أفضل ممّن عداهم وأنه لا يصلح للإمامة غيرهم » .
وقال ابن تيمية :
« تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم عظيم ... » (1) .
وقال محبّ الدّين الطبري : « قولنا : لا ينعقد ولاية المفضول عند وجود الأفضل » (2) .
وكذا قال غيرهم .
فظهر أن القول بمنع إمامة المفضول متفق عليه بين الإمامية وغيرهم ، فيكون إمامته باطلةً بالكتاب والسنة والعقل والإجماع .
وحيث أن ظاهر الماتن والشارح هنا هو التوقف عن تجويز إمامة المفضول ، وقد كانا غير جازمين بأفضلية أبي بكر ، كان اللازم عليهما عدم الجزم بحقية خلافة
____________
(1) منهاج السنّة 3 | 277 .
(2) الرياض النضرة ـ باب خلافة أبي بكر .

( 144 )

أبي بكر .
أما أصحابنا فقد أثبتوا من الكتاب والسنة المتفق عليها أفضلية أمير المؤمنين ن وقد ثبت عدم جواز إمامة المفضول مع وجود الافضل ، فتكون النتيجة إمامة أمير المؤمنين عليه السلام .

المقصد السابع
في الكلام حول الصحابة

قوله (373) :
( يجب تعظيم الصحابة كلهم والكف عن القدح فيهم ، لأن الله عظّمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه ، والرسول قد أحبهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة ) .
أقول :
لابدّ أولاً من تعريف الصّحابي ، فقد اختلفت كلماتهم في تعريفه ، والذي يهمّنا الآن رأي الماتن والشارح ، لنبني البحوث اللاحقة :
قال ابن الحاجب : « الصّحابي من رأى النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يرو ولم تطل » .
فقال الماتن في شرحه : « قد اختلف في الصحابي ، فقيل من رأى الرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يرو عنه حديثاً ولم تطل صحبته له ، وقيل : إن طالت الصحبة ، وقيل : إن اجتمعا أي طول الصحبة والرواية .
والحق : أن المسألة لفظية وإن ابتني عليها ما تقدم من عدالة الصحابة . لنا : إنّ الصحبة فعل يقبل التقييد بالقليل والكثير ... » .
فهو إذن موافق لابن الحاجب في أنه « من رأى النبي » فقط .
ووافقهما الشارح التفتازاني مع إضافة قوله : وإن كان أعمى ، وهذه عبارته : « قوله : الصحابي من رآه صلّى الله عليه وآله وسلّم أي : مسلم رأي النبي يعني


( 145 )

صحبه ولو أعمى ، وفي بعض الشروح : أي رآه النبي عليه الصلاة والسلام » (1) .
فالصحابي : « من رأى النبي أو رآه النبي » .
هذا هو الموضوع الذّي اختاره هناك .
والحكم الذي اختاره هنا هو : « يجب تعظيم الصحابة كلهم والكف عن القدح فيهم » .
فيكون الحاصل : يجب تعظيم كل من رأى النبي أو رآه النبي والكف عن القدح فيه ...
وهل يرضى بهذا أحد ؟ وما الدليل عليه ؟
ثم ما معنى « تعظيم الصّحابة كلهم والكف عن القدح فيهم » ؟
أما « الكف عن القدح فيهم » فلا يختص بالصحابة ، لأنّه ان أريد من الكف عن القدح عدم الإتهام والرمي بالقوادح ، فالسلم لا يجوز رميه والإفتراء عليه مطلقاً ، وإن أريد منه عدم ذكر المساوي والقوادح الموجودة فيهم ، فكلذ مسلم يجب الكف عن إشاعة معايبه والسّتر على نقائصه ، إلاّ إذا اقتضت الضرورة ، كما في أبواب الإخبارات والشهادات ، ومن هنا كان وضع علم الرجال والجرح والتعديل لهم .
وأما « تعظيمهم » فإن أريد منه حفظ حرمتهم ، فهذا لا يختص بهم بل يعمّ المسلمين جميعاً ، وإن أريد القول بعدالتهم كلّهم فهذا مختلف فيه ، ولاأولى أن نذكر عبارة الماتن في شرح المختصر :
قال ابن الحاجب : « مسألة : الأكثر على عدالة الصحابة ، وقبل كغيرهم ، وقيل : إلى حين الفتن فلا يقبل الداخلون لأن الفاسق غير معيّن . وقالت المعتزلة عدول إلاّ من قاتل علياً . لنا : والذين معه . أصحابي كالنجوم ، وما تحقق بالتواتر تعنهم من الجد في الامتثال ، وأمّا الفتن فتحمل على اجتهادهم ،ولا إشكال بعد
____________
(1) شرح مختضر الأصول 2| 67 .
( 146 )

ذلك على قول المصوبة وغيرهم » .
قال الماتن بشرحه : « أقول : أكثر الناس على أن الصحابة كلهم عدول وقيل : هم كغيرهم فيهم العدل وغير العدل فيحتاج إلى التعديل ، وقيل : هم كغيرهم إلى ظهور الفتن أعني بين علي ومعاوية ، وأمّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً ، أي من الطرفين ، وذلك لأن الفاسق من الفريقين غير معيّن فكلاهما مجهول العدالة فلا يقبل . وأما الخارجون عنها فكغيرهم . وقالت المعتزلة : هم عدول إلاذ من علم أنه قاتل علياً فإنه مردود .
لنا ما يدلّ على عدالتهم من الآيات نحو قوله ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) أي عدولاً ، وقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) وقوله : ( والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم ) .
ومن الحديث نحو قوله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . وقوله : خير القرون قرني ثم من بعدهم الأقرب فالأقرب . وقوله في حقهم : لو أنفق أحد مثل الأرض ذهباً لما نال مدّ أحدهم . ولنا أيضاً ما تحقق عنهم بالتواتر من الجلد في أمتثالهم الأوامر والنواهي وبذلهم الأموال الأنفس ، وذلك ينافي عدم العدالة ، وأما ما ذكروه من الفتن فيحمل علىالإجتهاد (1) » .
أقول :
فالماتن يقول هناك بعدالة الصحابة كلّهم ، ويستدل لهذا القول بنفس الأدلة التي يستدل بها أو نحوها في هذا الكتاب على « وجوب تعظيم الصحابة كلّهم والكف عن القدح فيهم » فلماذا غيّر العبارة من العدالة إلى هذا القول ؟
لا يبعد عدوله عن ذلك الرأي ، ولأنّ غاية ما تدل عليه تلك الأدلة ـ إن تمت سنداً ودلالة ـ هو وجوب إكرامهم وإحترامهم وعدم إشاعة قوادحهم ومطاعنهم ، فيكون حالهم كحال غيرهم من المسلمين ، « فيهم العدل وغير
____________
(1) شرح المختصر في الأصول 2 | 67 .
( 147 )

العدل ، فيحتاج إلى التعديل » .
كما أنه يجوز ـ بل قد يجب ـ ذكر ما صدر منهم مما يوجب الفسق إذا احتيج إلى ذلك ... فضلاً عن حمل ذلك على الإجتهاد أو غيره من المحامل ... وهذا هوالقول الثاني من الأقوال المذكورة ، وهو الحق .
فظهر أن غاية مدلول ما استدل به في الكتاب كتاباً وسنةً ، هو المدح فلو فرض تمامية تلك الأدلة سنداً ودلالةً فإنها تكون مخصّصةً بالأدلة الدالة على جواز ـ وأحياناً وجوب ـ الذم والطعن والقدح والجرح ، لئلا يقتدي أحد بهكذا أناس في عقائده وأفعاله ، ولا يرتّب الأثر على رواياتهم وأقوالهم وشهاداتهم .
نعم حديث « أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم » الذي استدل به الماتن تبعاً لابن الحاجب يدل على عدالة الصحابة جميعاً وجواز الاقتداء بكل واحد منهم في أقواله وأفعاله ... لكنه حديث « باطل » ، « منكر » ، « موضوع » كما نص على ذلك كبار الأئمة والحفاظ أمثال : أحمد بن حنبل ، البزار ، ابن عدي ، الدار قطني ، ابن حزم ، البيهقي ، ابن عبدالبر ، ابن عساكر ، ابن الجوزي ، ابن دحية ، الذهبي ، الزين العراقي ، ابن حجر العسقلاني ، السخاوي ، السيوطي ، المتقي ، القاري ، ... * .
فالعجب من الماتن كيف استدل به هناك ، ولقد أحسن إذ لم يستدل به هنا ؟!
وكيف يكون كلّهم عدوالاً ؟ وفي القرآن المجيد آيات بنفاق بعضهم ، وفي السنّة الصحيحة تصريح بأن أكثرهم يذادون عن الحوض يوم القيام ؟ ومن تأمل في سيرتهم ووقف على أحوالهم في الكتب الموثوق بها وجد كثيراً منهم ( لما يدخل الايمان في قلوبهم ) .
فكما أن فيهم أناساً ثبت « جدّهم في الدين وبذلهم أموالهم وأنفسهم في
____________
* تجد كلمات هؤلاء وغيرهم في رسالتنا حول الحديث ، وهي مطبوعة في هذه المجموعة .
( 148 )

نصرة الله ورسوله » كذلك فيهم أناس ثبت ارتكابهم الكبائر الموبقة الموجبة للقصاص والحدود ... كما لا يخفى على من راجع السير المعتبرة والتواريخ المتقنة ، « نحن لا نلوّث كتابنا بأمثال ذلك ، وهي مذكورة هي المطولات ، وقد ذكرنا بعضها تبعاً للكتاب » .
فمن يليق بالتعظيم وبالإقتداء منهم القسم الأول ، وهم الذين بقوا بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على هدية وسنته ، حافظين لشريعته ووصيته وهي :
« إني يوشك أن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي ، وإنهم لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » .
أللهم اجعلنا من الثابتين على التوحيد وشريعة خاتم النبيّين ، ومن المتمسكين بالكتاب والعترة الطاهرين ، والحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله المعصومين .


( 149 )

المراصد


على شرح المقاصد


( 150 )


( 151 )

الإمامة

تعريف الإمامة

قال (234) :
( والإمامة رياسة عامة في أمر الدّين والدنيا خلافةً عن النبي ... )
أقول :
لا خلاف ظاهراً في تعريف الإمامة .
والإمام هو المؤتمّ به ، أي المقتدى والمتّبع ، قال الله سبحانه لإبراهيم عليه السلام : ( إنّي جاعلك للناس إماماً ) (1) .
وقال العلاّمة الحلّى رحمة الله بتعريف الإمامة : « الإمامة رياسة عامة في أمور الدّين والدنيا لشخصٍ من الأشخاص نيابةً عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم » .
وقال المقداد السيوري رحمة الله بشرحه : « الإمامة رياسة عامة في أمور الدّين والدنيا لشخص إنساني . فالرياسة جنس قريب ، والجنس البعيد هو
____________
(1) سورة البقرة : 118 .
( 152 )

النسبة ، وكونها عامة فصل يفصلها عن ولاية القضاة والنواب ، وفي أمور الدين والدنيا بيان لمتعلّقها فإنّها كما تكون في الدين فكذا في الدنيا ، وكونها لشخص إنساني فيه إشارة إلى أمرين :
أحدهما : أنّ مستحقّها يكون شخصاً معيّناً معهوداً من الله تعالى ورسوله ، لا أيّ شخص إتفق . وثانيهما : إنّه لا يجوز أن يكون مستحقها أكثر من واحد في عصر واحد .
وزاد بعض الفضلاء في التّعريف : بحقّ الأصالة ، وقال في تعريفها : الإمامة رياسة عامة في أمور الدّين والدنيا لشخص إنساني بحق الأصالة . واحترز بهذا عن نائب يفوّض إليه الإمام عموم الولاية ، فإنّ رياسه عامة لكن ليست بالأصالة .
والحق : إنّ ذلك يخرج بقيد العموم ، فإنّ النائب المذكور لا رياسة له على إمامه ، فلا تكون رياسته عامة . ومع ذلك كلّه : فالتّعريف ينطبق على النّبوة ، فحينئذٍ يزاد فيه : بحق النيابة عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بواسطة بشر » (1) .
قال :
( فإن قيل : الخلافة عن النبي إنّما تكون فيمن استخلفه النبي ، ولا يصدق التعريف على إمامة البيعة ونحوها ... قلنا : لو سلّم ، فالاستخلاف أعم من أن يكون بوسط أو بدونه ) .
أقول :
لا نزاع في أنّ موضوع البحث هو الإمامة الحقّة التي وصفت في القرآن الكريم بعهد الله (2) دون السلطنة والملوكيّة ، وهذه الإمامة لا تكون إلاّ لمن
____________
(1) النافع يوم الحشر ـ شرح الباب الحادي عشر : 44 .
(2) سورة البقرة : 118 .

( 153 )

استخلفه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهو لا يفعل إلاّ بأمر من الله ، فمن ناله هذا العهد كان له الرئاسة العامة في أمور الناس الدّينيّة والدنيويّة نيابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم .
ومن هنا يظهر أنّه لا بدّ من النصّ على الإمام ، فمن كان إماماً بالبيعة أو الشورى أو القهر والغلبة ... فتلك السّلطنة لا الولاية الإلهيّة ...
وقد التفت السّعد إلى هذا فأجاب بأنّ الاستخلاف ( أعم من أن يكون بوسط أو بدونه ) .
فإن أراد مطلق الاستخلاف فهو صحيح لكنّ الكلام ليس فيه ، وإن أراد خصوص استخلاف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كم هو الظّاهر ـ توقّف الأمر على معرفة ( الوسط ) وثبوت الاذن منه صلّى الله عليه وآله وسلّم في توسّطه ، فلا يجوز وصف ( إمامة البيعة ) بـ ( الخلافة عن النبي ) ما لم يقم الدليل المعتبر عنه في ذلك ، بحيث يكون الامام بالبيعة كالإمام المنصوص عليه من قبله مباشرة . وعلى فرض ثبوت ذلك بالنسبة إلى خصوص ( البيعة ) فهل أنّ ( القهر والغلبة ) أيضاَ ( وسط ) يتحقّق به استخلاف النبي ؟ وهل يجوز تسمية من استولى بالقهر والغلبة بـ ( خليفة رسول الله ) و ( أمير المؤمنين ) كما عليه القوم ؟

الإمامة من الأصول
قال (232) :
( لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق ... ) .
أقول :
لا نزاع ـ كما عرفت ـ في أنّ الإمامة خلافة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهي لا تكون إلاّ لمن استخلفه ، فهي من توابع ( النبوّة ) وفروعها ، فهي


( 154 )

إذن من الأصول لا الفروع .
وأيضاَ : ففي الأحاديث المتفق عليها ما يدل على أنّ الإمامة من أصول الدين ، منها قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » هذا الحديث الذي أرسل بهذا اللفظ في الكتاب 239 إرسال المسلّمات ، وأخرجه أحمد وغيره مسنداً بلفظ : « من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية » (1) والبيهقي وغيره بلفظ : « من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » (2) . وروي أيضاً بألفاظ أخرى .
وهذا هو الحق الذي عليه أصحابنا .
وأمّا القوم فالمشهور بينهم أنّها من الفروع ، بل ادّعى عليه القاضي العضد الاجماع في المواقف (3) لكن عبارة السّعد : أنّ البحث عنها بالفروع أليق ، وعن القاضي البيضاوي القول بكونها من الأصول .

نصب الإمام
قال (235) :
( واجب على الخلق سمعاً عندنا عامة المعتزلة ، وعقلاً عند بعضهم ، وعلى الله عند الشيعة ... لنا وجوه ... ) .
أقول :
قد وقع الانفاق بيننا وبين القوم على وجوب نصب الإمام . خلافاً لمن نفاه مطلقاً أو في بعض الحالات ... لكنهم يقولون بوجوب نصبه على الخلق ، وقد استدل في الكتاب بوجوه
____________
(1) مسند أحمد 4 | 96 .
(2) سنن البيهقي 8 | 156 .
(3) المواقف في علم الكلام 8 | 344 .

( 155 )

قال (236) :
( الأول وهو العمدة : إجماع الصّحابة ، حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات ، واشتغلوا به عن دفن الرسول ... )
أقول :
نعم ، ترك أبوبكر وعمر ومن تابعها جنازة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على الأرض وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة حيث اجتمع الأنصار ... للنّظر في أمر الخلافة ... وهي عندهم من فروع الدين ! ثم أقبلوا على بني هاشم وأتباعهم ... الذين بقوا حول الجنازة ... يطالبونهم البيعة لأبي بكر ... !
يقول السّعد 236 : ( روي أنّه لمّا توفي النّبي خطب أبوبكر فقال : أيها الناس ... ) .
فالذين « جعلوا ذلك أهم الواجبات » « حتّى قدّموه على دفن النبي » هم طائفة من الصحابة لا كلّهم ، بل تلك الطائفة أيضاً لم يتحقق بينها الاجماع ـ بعد الصّياح والنزاع ـ بل بقي رئيس الخزرج وأتباعه مقاطعين لأبي بكر وعمر إلى أن مات ، فأين الاجماع ؟
هذا حال الاجماع المدعى في المقام « وهو العمدة » فلا حاجة إلى الكلام حول الوجوه الأخرى ...
وأمّا خطبة أبي بكر التي أوردها 236 فلا ذكر لها في كتب الحديث والسير ، ولا ندري من الرّاوي لها ، وفي أيّ كتاب ؟ ومن الذين خاطبهم بقوله : « فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم الله ، فتبادروا من كلّ جانب » ؟ وأين ؟ في السقيفة أو خارجها ؟ وكأنّ السعد أيضاً لا يدري شيئاً من ذلك ولذا يقول : « روي ... » ! .
ثم إنّه يرد على القول بوجوب نصبه على الخلق إشكال مبني على ما رووه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال : « الخلافة بعدي ثلاثون سنت » وعلى ما ذهبوا من أنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة ، وذلك أنه لو وجب نصب الإمام على الأمة لزم إطباقها في أكثر الأعصار على ترك الواجب ، لأنهم لم ينصبوا الإمام


( 156 )

المتصف بما يجب من الصّفات بعد علي عليه السلام ، أي منذ ثلاثين ينة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى اليوم ، لكن الأمة لا تجتمع على الضلالة ، فالنصب غيرواجب عليها .
وقد تعرّض السّعد لهذا الإشكال فأجاب 239 عن لزوم اجتماع الأمة على الضّلالة بأنه ( إنما يلزم الضلالة لو تركوه عن قدرة وأختيار لا عجز واضطرار ) وأما عن الحديث فبأنه : ( من باب آحاد ) و ( يحتمل الصرف إلى الخلافة على وجه الكمال ) .
قلت : لكن فيه :
أولاً : إنه يقتضي تقييد وجوب النصب على الخلق بحال القدرة والاختيار ، والحال أنّ كلماتهم مطلقة ، فراجع المواقف وغيره من كتبهم .
وثانياً : إنه لم يتّفق في تاريخ الاسلام إجتماع الأمة على الامام الحق فاضطروا إلى متابعة غيره ، بل إنهم غدروا الحق وخذلوه كما كان في قوم موسى وغيره من الأنبياء ، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديث المتفق عليه : « لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر ... » (1) .
وثالثاً : إذا اجتمعت الأمة على إمامة الامام غير الحق فهل هذه ضلالة أو لا ؟ لازم كلامه وجوب إطاعة هذا الامام وكونهم على حق ‍‍‍‍!! بل صريح كلامهم في غير موضع إمامة الفاقد للشرائط بل إمامة من صار إماماً بالقهر الغلبة . ففي الكتاب 257 ( ومن صار إماماً بالقهر والغلبة ينعزل بأن يقهره آخر ويغلبه ) فهل يريدون من هذه الإمامة ، نفس ما هو موضوع البحث ، أعني ( الخلافة عن النبي ) ؟ وهل يجعلون هكذا شخص مصداقاً لقوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « من مات ولم يعرف
____________
(1) هذا الحديث بهذا اللفظ ونحوه متفق عليه بين المسلمين ، ومن رواته من أهل السنة : أحمد والبخاري والترمذي ... أنظر : فيض القدير شرح الجامع الصغير 5 | 261 .
( 157 )

إمام زمانه مات ميتةً جاهلية » فيوجبون معرفته وطاعته ؟
إن قالوا : لا بل نريد من إمامته الملوكية والسلطنة ، بل هو صريح الكتاب 245 حيث قال : ( مبنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار الإقتدار ، وأما عند فقد صارت الرياسة الدنيوية تغلبيّة ، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالامام ضرورة ، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط ، والضرورات تبيح المخظورات ، وإلى الله المشتكى في النائبات ، وهو المرتحبى لكشف الملمات ) .
قلنا : فذلك خارج عن البحث ، فلماذا يدخل فيه ؟ ولماذا يستدل لوجوب معرفته وإطاعته بالآية والحديث كما في الكتاب 329 ؟
وإن قالوا : نعم . قلنا : فما الفرق بين هذا الامام الفاقد للعلم العدالة وغيرها من الصفات المعتبرة وبين الواجد لها ؟ وأيّ ثمرة لذكر صفات الامام والقول باعتبارها ؟
وأمًا الحديث فيردّ جوابه عنه بأنّه خبر واحد : استدلاله هو به تبعاً لشيخه العضد على إمامة أبي بكر ومن بعده 266 ويردّ احتمال صرفه : أنه تأويل بلا دليل ، ولذا عبّر بالإحتمال ...
وأمّا أصحابنا فلا يتخطّون عن التّعريف ... فالإمامة نيابة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلافة عنه في كلّ ما لأجله بعث ، فهي من توابع النبوة وفروعها ، وكلّ دليل قام على وجوب بعث النبي وإرسال فهو دال على وجوب نصب الامام النائب عنه والقائم مقامه في وظائفه ... واستدلّوا على ذلك بأدلةٍ كثيرة من الكتاب والسنة والعقل ... لم تذكر في الكتاب ...
أمّا في الكتاب فآيات منها قوله تعالى : ( وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ... ) (1) .
____________
(1) سورة القصص : 68 .
( 158 )

وأمّا من السنّة فأخبار منها : ما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه لمّا عرض نفسه على بعض القبائل ، ودعاهم إلى الله والاسلام ، قال له رجل منهم : « أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرت الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء » (1) .
وأمّا من العقل فوجوه :
منها : الوجوه الدالة على اعتبار العصمة والأفضلية في الامام ، لأن العصمة حالة خفية لا يطّلع عليها إلاّ الله سبحانه ، وكذا الأفضلية ، فيجب أن يكون النصب من قبله .
ومنها : قاعدة اللطف ، ولم يذكر في الكتاب إلاّ هذا الوجه ، وكذلك فعل القاضي العضد في المواقف ... ليوهم أن لا دليل لأصحابنا غيره ... ثم منع ـ تبعاً له ـ وجوب اللطف على الله ... 241 .
أقول : اللطف عندنا : ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبّعده عن المعصية ولا حظّ له في التمكين ولا يبلغ الإلجاء ، لتوقف غرض المكلّف عليه ، وإنّ المريد لفعل من غيره إذا علم أنّه لا يفعله إلاّ بفعل يفعله المريد من غير مشقة لو لم يفعله لكان ناقصاً لغرضه ، وهو قبيح عقلاً (2) .
ولا ريب في أنّ ( الامام ) كذلك ، مثل ( النبي ) .
فنصب الامام واجب على الله كبعث النبي ، لتكون ( الله الحجّة البالغة ) (3) و ( لئلا يكون الناس على الله حجة ) (4) و ( ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من
____________
(1) السّيرة النبوية لابن هشام 2 | 66 ، السيّرة الحلبية 2 | 154 .
(2) الباب الحادي عشر للعلامة الحلي : 35 .
(3) سورة الأنعام : 149 .
(4) سورة النساء : 164 .

( 159 )

حي عن بيّنة ) (1) .
وحينئذٍ لا يقال بأن لا وجوب على الله ، ولا حكم للعقل في مثل ذلك ، لأنّ معنى هذا الوجوب العقلي درك العقل حسن إرسال الرسول ونصب الإمام ، إذ بذلك يعرف الله ويعبد ، وهذا هو الغرض من الخلقة حيث قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) (2) .
فسقط منع وجوب اللّطف ... وتفصيل الكلام في كتب علمائنا الأعلام ، كالذخيرة والشافي وتلخيصه وتجريد الإعتقاد وشرحه وغيره من كتب العلامة الحلي وشروحها وغير ذلك .
ثم إنّ القاضي العضد لم يشكل في الاستدلال بهذا الوجه ـ بعد منع وجوب اللّطف ـ إلاّ بأنّ اللّطف الذي ذكرتموه إنّما يحصل بإمام ظاهر قاهرٍ (3) وتبعه السّعد فأورده وتكلّم عليه ، وليته اقتدى بشيخه فلم يذكر غيره من الايرادات الباردة السخيفة ، كقوله 241 .
( إنّ أداء الواجب وترك القبيح مع عدم الإمام أكثر ثواباً لكونهما أشق وأقرب إلى الإخلاص ، لاحتمال انتفاء كونهما من خوف الامام . وأيضاً : فإنّما يجب لو لم يقم لطف آخر مقامه كالعصمة مثلاً ، فلم لا يجوز أن يكون زمان يكون الناس فيه معصومين مستغنين عن الامام ؟ ... ) .
فإنّ الأوّل منهما مستلزم لرفع اليد عن أصل الوجوب ، لكنّ أصحابنا ذكروا في اللّطف أن لا يبلغ حدّ الإلجاء ... والثاني منهما محال ، وعلى فرضه فخروج عن البحث ، لأنّ الكلام في نصب الإمام ليقتدي به الأنام ، وإذا كان جميع الناس معصومين كانوا جميعاً أئمّة فمن المأموم ؟
____________
(1) سورة الأنفال : 42 .
(2) سورة الذاريات : 56 .
(3) المواقف في علم الكلام 8 | 348 .

( 160 )

وأمّا الاشكال بالنقض بالامام الغائب عن الأبصار فقال 241 .
( وأيضاً : إنّما يكون منفعة ولطفا واجباً إذا كان ظاهراً قاهراً زاجراً عن القبائح ، قادراً على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء الاسلام وهذا ليس بلازم عندكم ، فالإمام الذي ادّعيتم وجوبه ليس بلطف ، والذي هو لطف ليس بواجب .
وأجاب الشيعة : بأن وجود الإمام لطف سواء تصرّف أو لم يتصرّف ...
وردّ : بأنّا لا نسلّم أن وجوده بدون التصرف لطف ... وثانياً : لأنه ينبغي أن يظهر لأوليائه ... ) .

أقول :
ولا يخفي سقوط الوجهين :
أمّا الأول فإنّ منشأه توهّم أنّ الإمامة هي السلطنة الظاهريّة فحسب ، لكنّه عرّفها بأنّها رياسة في الدين والدّنيا ... وكذلك عرّفها غيره ، وقد عرفت أن لا خلاف هنا ... فهي منصب إلهي كالنبوة ، فكما أنّ النبوة باقية ، كذلك مع السلطة الدنيوية والحكومة الظاهرية وقد تفترق عنها والنبوة باقية ، كذلك الامامة ، و ( البعث ) و ( النصب ) من الله في جميع الأحال على حاله ، و ( النبي ) و ( الامام ) باقيان على النبوة والامامة . وعلى الناس الانقياد لهما والتسليم لأوامرهما ونواهيهما ، ولا إلجاء من الله كما عرفت . فإن فعلوا اجتمع الرياستان وتمّ اللطف ، وإلاّ افتراقتا ولم تبطل النبوة والامامة ، بل خسرت الأمة فوائد بسط اليد ونفوذ الكلمة منهما . على أن وجود النبي أو الامام الفاقد للسطنة الظاهرية ينطوي على بركاتٍ وآثار يفهمها أهلها ، حتى ولو كان غائباً عن الأبصار .
وأمّا الثاني : فإن ظهوره لأوليائه واقع ، وتلك كتبهم المؤلّفة في هذا الباب من السابقين والـلاّحقين ، فيها حكايات وقصص يروونها عن طريق الثقات المعتمدين ، فكم من مسألة علميّةٍ أجاب عنها ، ومشكلةٍ عامةٍ أو خاصةٍ حلّها ، وحاجةٍ مهمّةٍ قضاها ... لكنّه في أكثر الأحيان لا يعرف ، ولا يعرّف نفسه إلاّ لخواص أوليائه من عباد الله الصالحين ، الذين لا تخلو منهم الأرض في كلّ عصر وزمان ...


( 161 )

ما يشترط في الإمام
قال (224) :
( يشترط في الإمام أن يكون : مكلفاً ، حراً ، ذكراً ، عدلاً ... وزاد الجمهور : إشتراط أن يكون شجاعاً ... مجتهداً ... ذا رأي ... واتفقت الأمة على اشتراط كونه قرشياً ، أي : من أولاد نضر بن كنانة ، خلافاً للخوارج وأكثر المعتزلة . لنا : السنّة والاجماع ... ) .
أقول :
قد عرفت في التعريف أن ( الامام ) إنّما هو ( خليفة النّبي ) ... والقوم لم يشترطوا فيه بالاتفاق إلاّ :
التكليف والحريّة والذّكورة والعدالة .
واختلفوا في شروط هي :
الشجاعة والاجتهاد والرأي
قال :
( واتفقت الأمة على اشتراط كونه قرشياً ) فادّعى الاتّفاق ، لكن قال :
( خلافاً للخوارج وأكثر المعتزلة ) !!
ثمّ استدل لإشتراط القرشيّة بالكتاب والسنة ... وأصرّ عليها إصراراً ...
أقول :
أمّا التكليف والحريّة والذكورة ... فالواجدون لها من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالآلاف ، وكذا ( العدالة ) لا سيّما بناء على المشهور بينهم من أصالة العدالة في الصّحابة ، وكذا ( الشجاعة ) و ( الرأي ) فإنهما ـ على القول باعتبارهما ـ كانا في كثير من الصحابة ، وكذا ( الاجتهاد في الأصول والفروع ) عند القوم ، وبه يوجّهون المخالفات الصريحة من الصّحابة ... فما الذي رجّح أبابكر وعمر وعثمان على غيرهم من الصّحابة فكانوا خلفاء لرسول الله صلّى الله عليه وآله


( 162 )

وسلّم دونهم ؟
بل في الصّحابة من هو خير منهم في ما عدا الصفات الثلاثة الأولى ، ولذا وقع الاختلاف بين القوم في اشتراط ما عداها !!
ثم إنّ الواجدين لهذه الصفات كلّها في قرش جمع غفير ... فما الذي ميّز الثلاثة عن غيرهم ؟
على أنّ اعتبار القرشيّة ينافي مذهب عمر بن الخطّاب ... فإنّه تمنى حياة بعض الموالي ليجعل فيه الخلافة من بعده ! فقد قال : « لو كان سالم حيّاً ما جعلتها شورى ) يعنى : سالم بن معقل مولى أبي حذيفة وكان من أهل فارس من اصطخر ، وقيل : إنّه من عجم الفرس من كرمد ، ذكر ذلك ابن عبدالبرّ ، وقال : كان من فضلاء الموالي ، ثمّ حمل كلام عمر على أنّه كان يصدر فيها عن رأيه (1) ولا يخفى بعده عن الكلام كلّ البعد ، وقد رووا كلامه بلفظ : « لو كان سالم حيّاً ما تخالجني فيه شك » وعنه « لو استخلفت سالماً مولى أبي حذيفة فسألني عنه ربي ما حملك على ذلك لقلت ربي سمعت نبيّك صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يقول إنّه يجبّ الله تعالى حقاً من قبله » (2) .
بل رووا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما ينافي اعتبار القرشية بصراحة ، فقد أخرج أحمد بسنده عن عائشة قالت : « ما بعث رسول الله زيد بن حارثة في جيش قط إلاّ أمرّه عليهم ولو بقى بعده استخلفه » (3) .
والواقع أنّهم يسعون في تقليل شرائط الإمامة وتهوينها كي يتمكنوا من إثبات إمامة أبي بكر وعمر وعثمان ... وإلاً فقد عرفت أنّ ( الامامة ) إنّما هي ( خلافة عن النبي ) ... فيعتبر في الإمام أن يكون كالنّبي ، أي إنّ الله ما نصب للإمامة أحداً إلاّ كان واجداً لصفات من نصبه نبياً ، بأن كان أفضل الناس
____________
(1) الاستيعاب 2 | 567 .
(2) حلية الأولياء 1 | 177 .
(3) المسند 6 | 226 .

( 163 )

وأعلمهم ، معصوماً من الخطأ والنسيان مطلقاً ... فما كان للقاضي العضد من جواب عن هذا إلاّ أن قال : « إنا ندلّ على خلافة أبي بكر ولا يجب له شيء ممّا ذكر » و « إنّ أبابكر لا تجب عصمته إتفاقاً » (1) .
قال (246) :
( واشترط الشيّعة أن يكون هاشمياً بل علوياً ، وعالماً بكلّ أمر حتى المغيّبات ، قولاً بلا حجة ، مع مخالفة الاجماع . وأن يكون أفضل أهل زمانه ، لأنّ تقديم المفضول قبيح عقلاً ، ونقل عن الأشعري ، تحصيلاً لغرض نصبه وقياساً على النبوة . وردّ بالقدح في قاعدة القبح ... وأن يكون معصوماً ... ) .
أقول :
مذهب أصحابنا أن الصّفات المعتبرة في الإمام ، والتي لأجلها يكون النصب من الحكيم العلاّم ، لم تتوفّر إلاّ في أمير المؤمنين وأبنائه الأحد عشر عليهم الصلاة والسّلام ، فكانوا هو الأئمّة ، دون غيرهم من أفراد الأمة ... فإن أراد من قوله : ( اشترطت الشيعة أن يكون هاشمياً بل علويّاً ) هذا المعنى فهو صحيح .
وأمّا كونه ( عالماً بكلّ أمر حتى المغيّبات ) .
فهو لازم مقام الامامة التي هي النيابة عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والوراثة له في كلّ شيء إلاّ الوحي ، فان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان عالماً بكلّ أمرٍ حتّى المغيّبات ، كما هو صريح القرآن الكريم في غير واحدة من الآيات .
بل لقد ادّعى القوم العلم بالغيب لبعض الصحابة ، من ذلك ما رووه في صحاحهم في حذيفة بن اليمان أنّه : « أعلمه رسول الله بما كان وما يكون إلى يوم القيامة » (2)
____________
(1) المواقف في علم الكلام 8 | 350 .
(2) مسند أحمد 5 | 386 ، صحيح مسلم ـ كتاب الفتن ، الاصابة 1 | 218 .

( 164 )

وبعد :
فإنّ الأئمّة الأثني عشر عليهم السلام كانوا كذلك ، وتلك خطب أمير المؤمنين عليه السلام الدالّة على إحاطة علمه موجودة في الكتب ، وقد أذعن بها القاضي العضد والشريف الجرجاني (1) وبذلك تعرف ما في قول السّعد : « وهذه جهالة تفرد بها بعضهم » .
وأمّا كونهم أفضل أهل زمانهم ... فسيذكر بعض الأدلة على ذلك وتقديم المفضول قبيح عندنا وعند الأشعري وأتباعه ن بل جاء في الكتاب 290 : ( ذهب معظم أهل السنّه وكثير من الفرقّ إلى أنه يتعيّن للامامة أفضل أهل العصر ) .
ومن هذه العبارة يظهر ما في نسبة صاحب المواقف وشارحها القول بجواز تقديم المفضول إلى الأكثرين (2) .
ومنها ومن قول ابن تيمية : « تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم عظيم » (3) يظهر أيضاً ما في ردّ بعضهم ( بالقدح في قاعدة القبح ) .
هذا ، وإنّ عمدة الصّفات المستلزمة للأفضلية هي ( الأعلميّة ) و ( التقوى ) فقد قال الله تعالى : ( إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) (4) وقال : ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (5) وكذا دلّت الأحاديث النّبوية ، ودلّ عليه العقل وقام الإجماع كما نص في الكتاب 301 ... وسيذكر بعض الأدلة على أنّ عليّاً عليه السلام أعلم الأمة وأتقاها بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ...
وعلى الجملة فإنّ الإمام منصوب من العليم الحكيم ، كما أنّ النبي مبعوث منه ، وكما يدلّ اختياره للنبوة على الأفضلية قطعاً كما نص عليه في الكتاب 247
____________
(1) شرح المواقف 8 | 370 .
(2) شرح المواقف 8 | 373 .
(3) منهاج السنة 3 | 277 .
(4) سورة الحجرات : 13 .
(5) سورة الزمر : 9 .

( 165 )

كذلك يدل اختياره للإمامة على الأفضلية ، ومن هنا أجاب في الكتاب عن وجوه القول بجواز تقديم المفضول بقوله 247 : بأنّها لا تصلح للاحتجاج على الشيعة ( فإن الإمام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق ) .
وأمّا العصمة ... فلا حاجة إلى إقامة الدليل على اشتراطها في الامام ، بعد أن عرفت أنّ ( الامامة ) إنّما هي ( خلافة عن النبي ) فيعتبر في الامام كلّ ما يعتبر في ( النبّي ) إلاّ النبوة ، ومنه العصمة ، وأنّه لمّا كانت العصمة أمراً خفيّاً لا يطّلع عليه أحد كان النص من الله تعالى هو الطّريق إلى معرفة الإمام وتعيينه ، بل كان على الخصم إقامة الدّليل على عدم وجوب العصمة ، فلذا جاء في الكتاب 249 :
( إحتجّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالاجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان مع الإجماع على أنهم لم تجب عصمتهم ...وقد يحتج كثير بأن العصمة ممّا لا سبيل للعباد إلى الإطّلاع عليه ، فإيجاب نصب إمامٍ معصوم يعود إلى تكليف ما ليس في الوسع ) .
أقول :
ولا يخفى سقوط الوجهين ، أمّا الأول فالاجماع على إقامة القوم غير واقع . وأمّا الثاني ، فالأنّه موقوف على أن يكون النصب بيد الخلق وهوباطل ... ولذا اضطر السّعد إلى أن يقول 249 :
( وفي انتهاض الوجهين على الشيعة نظر ) .
ومع ذلك فقد استدل أصحابنا لا شتراط العصمة بوجوهٍ من الكتاب والسنة والعقل ... وقد ذكر بعضها :
قال (249) :
( احتجّوا بوجوه : الأوّل : القياس على النبّوة ... وردّ بأنّ النبّي مبعوث من الله ، مقرون دعواه بالمعجزات الباهرة الدالة على عصمته ... ولا كذلك الإمام فإنّ نصبه مفوّض إلى العباد الذين لا سيبل لهم إلى معرفة عصمته ... ) .
أقول :


( 166 )

ليس أمر الامامة مقيساً على النبوة ، بل هي من توابع النبوة وشئونها كما عرفت ، وكما أنّ النبي مبعوث من الله فكذلك الامام منصوب منه . وكما أنّ دعوى النّبي مقرونة بالمعجزات ، فكذلك الامام تظهر المعجزة على يده متى اقتضت المصلحة ، ولذا كان ظهور المعجزة على يده قائماً مقام النص ، كما نص عليه علماؤنا (1) ... والعجب من السّعد كيف يقول : « فإنّ نصبه مفوّض إلى العباد الذين لا سبيل لهم إلى معرفة عصمته » فانّه ليس إلاّ مصادرة ، مع أنّه يناقض كلامه السابق حيث اعترض على الاحتجاج بجواز تقديم المفضول بأنّ ( الأفضليّة أمر خفي ) قائلاً : بأنّ ( هذا وأمثاله لا يصلح للاحتجاج على الشيعة ، فإنّ الامام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق ) !!
قال : (250) :
( الثّاني : إنّ الامام واجب الطاعة . قال الله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (2) ... والجواب : إنّ وجوب طاعته إنّما هو فيما لا يخالف الشّرع ... ) .
أقول :
إن الأمر المطلق بالإطاعة المطلقة دليل العصمة ، لا سيّما في هذه الآية حيث عطف ( أولي الأمر ) على ( الرّسول ) ، ولذا اعترف إمامهم الفخر الرازي بدلالة الآية على العصمة (3) وأمّا حمله ( أولي الأمر ) على غير ( الإمام ) فيردّه عدم إنكار السّعد الاستدلال من هذه الناحية .
قال : (250) :
( الثالث : إنّ غير المعصوم ظالم ... والجواب ... ) .
____________
(1) تلخيص الشافي 1 | 274 ، الباب الحادي عشر : 48 .
(2) سورة النساء : 59 .
(3) تفسير الفخر الرازي 10 | 144 .