هذا كلّه في الكلام على سند حديث الغدير بايجاز ، فانظر وأنصف من « المكابر » ؟

2 ـ دلالة حديث الغدير
قال : ( وبعد صحة الرواية :
فموخّر الخبر ـ أعني قوله : اللهّم وال من والاه ـ يشعر بأن المراد هو الناصر والمحب ، بل مجرد احتمال ذلك كاف في دفع الاستدلال .
ولو سلّم فغايته الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المآل ، لكن من أي يلزم نفي إمامة الأئمّة قبله ...
وإذا تأمّلت فما يدعون من تواتر الخبر حجة عليهم لا لهم ... )

أقول :
هذا غالية ما أمكنه الاعتراض به على الاستدلال بحديث الغدير ... ولا يخفى أنّ هذا الموضع من المواضع التي خالف فيها السّعد مشايخه المتقدمين عليه كالقاضي العضد والفخر الرازي ... فإنّ أولئك أنكروا أن يكون ( المولى ) يجيء يمعنى ( الأولى ) ثم ذكروا شبهات لهم بناء على ذلك ... آخذين كلّ ما هنا لك من مشايخ المعتزلة ... أمّا السّعد فلم ينكر مجئ كلمة ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) بل ظاهره الإقرار ، فكان الكلام معه أخصر وطريق الإفحام أقصر .
لقد دلّ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى . قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه » على الأولوية ، وأكّدت ذلك الدلائل القرائن الكثيرة الثابتة في رواية الفريقين :

من وجوه دلالة حديث الغدير

منها : نزول الآيات من القرآن الكريم في ذلك اليوم :
قوله تعالى : ( يا أيّها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وان لم تفعل


( 210 )

فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس ) نزلت قبل خطبة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (1) .
وقوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً ) نزلت بعد الخطبة الشريفة (2) .
وقوله تعالى : ( سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع ) . نزلت في قضية الرجل الذي جاء إلى النّبي بعد الخطبة قائلاً : « يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إلاّ الله وأنك رسول الله ، فقبلناه منك . وأمرتنا أن نصلّي خمساً ، فقبلناه منك . وأمرتنا بالزكاة فقبلناه . وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه منك ، وأمرتنا بالحج فقبلناه . ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضّلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه ؟ فهذا شيء منك أم من الله عزّ وجلّ ؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : والذي لا إله إلاّ هو إن هذا من الله .
فولّى الرّجل قائلاً : اللهم ان كان ما يقوله محمد حقاً فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم .
فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجرٍ فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله .
فأنزل الله تعالى ذلك » (3) .
ومنها : شعر حسان بن ثابت في ذلك اليوم بإذنٍ من النّبي ومشهدٍ من الصّحابة ... وفيه :
____________
(1) روى نزولها : ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر وأبو نعيم والثعلبي والواحدي والعيني والسيوطي وغيرهم ، لاحظ : الدر المنثور 2 | 298 ، أسباب النزول : 115 ، الفخر الرازي 12 | 49 وغيرها .
(2) روى نزولها : ابن مردويه وأبو نعيم وابن المغازلي والخطيب الخوارزمي و ...
(3) روى ذلك : الثعلبي والسمهودي والمنّاوي والحلبي وجماعة آخرون .

( 211 )

« فقال له قم يا علي فانني رضيتك من بعدي إماماً وهادياً » (1) .
ومنها : مناشدة الامام أمير الؤمنين عليه السلام الناس عن حديث الغدير (2) .
ومنها : مناشدة الزهراء عليها السلام واحتجاجها بالحديث (3) .
ومنها : بعض ألفاظ الحديث : كقوله :
« يا أيها الناس من وليّكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ـ ثلاثاً .
ثم أخذ بيد علي فقال : من كان وليّه فهذا وليه ، أللهم وال من والاه وعاد من عاداه » (4) .
فلو كان المراد من « المولى » هو « المحب والناصر » لما قال الأصحاب في الجواب : « الله ورسوله أعلم » .
وكقوله : « إنّ الله ولييّ وأنا ولي كلّ مؤمنٍ ، من كنت مولاه فعلي مولاه » (5) .
وكقوله : « أيّها الناس إني ولّيكم . قالوا : صدقت ، فرفع يد علي فقال : هذا وليّي المؤدّي عنّي ، وإنّ الله موال من والاه ومعاد من عاداه » (6) فإنّ « المؤدّي عنّي » قرينة على أنّ « الولاية » هي الأولوية ، وعلى أنّ الدعاء جاء في حقّ من قبل ولايته وأطاعه فيما يؤديه ، وعلى من لم يقبل ولايته ولم يطع أوامره ونواهيه الالهية ...
وكقوله : « من كنت أولى به من نفسه فعليّ وليّه ، أللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » (7) .
____________
(1) روى ذلك : ابن مردويه وأبو نعيم والخوارزمي وسبط ابن الجوزي والسيوطي وآخرون .
(2) روى ذلك من أكابر الحفاظ : عبدالرزاق وأحمد والبزار والنسائي وأبو يعلى والطبراني والخطيب وابن الأثير وابن كثير والسيوطي وغيرهم .
(3) أسنى المطالب للحافظ ابن الجزري .
(4) الخصائص : 101 .
(5) كنز العمال : 12 | 207 .
(6) الخصائص 100 ، تاريخ ابن كثير 5 | 212 .
(7) المعجم الكبير 5 | 186 .

( 212 )

ومنها : شهادة صحابة مشهورين بولاية أمير المؤمنين عليها السلام وإمامته إستناداً إلى حديث الغدير ... فإنّهم دخلوا عليه فقالوا : « السلام عليك با مولانا . قال : وكيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب ؟ قالوا : سمعنا رسول الله يقول : من كنت مولاه فهذا مولاه » (1) .
ومنها : تهنئة الشيخين وسائر الصحابة أمير المؤمنين عليه السلام قائلين « أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (2) .
ومنها : إستنكار بعض الصحابة هذا الكلام (3) فلو كان بمعنى « الناصر والمحب » لما استنكر .
ومنها : تمنّي بعض الصحابة ورود هذا الكلام في حقّه (4) .
إلى غير ذلك من الوجوه ...
فهل يبقى مجال بالنظر إلى كل ذلك لاحتمال ـ أو دعوى ـ إشعار مؤخر الحديث بأنّ المراد بالمولى هو الناصر والمحب ؟ وهل يعقل أن يكون ذلك الاهتمام الذي كان من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمجرّد بيان كون علي عليه السلام محبّاً وناصراً لمن كان النّبي محبّاً وناصراً له ؟
ثم أي منافاة بين هذه الجملة وجملة « من كنت مولاه » لتكون مشعرة بما يدعيه السّعد ؟ بل إنها أيضاً من مؤكّدات الدلالة على الأولوية ، لأنّه لو كان صلّى الله عليه وآله وسلّم قد قال : « من كانت طاعتي مفترضة عليه فطاعة علي عليه مفترضة ، أللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » لكان كلاماً صحيحاً لا تهافت فيه .
ومن هنا ترى أن بعض حفّاظهم المحققين ـ كمحب الدين الطبري المتوفى
____________
(1) مسند أحمد 5 | 419 ، الرياض النضرة 2 | 222 ، تاريخ ابن كثير 7 | 347 ، المرقاة في شرح المشكاة 5 | 574 .
(2) رواه جماعة من كبار المحدثين ، منهم أبوبكر ابن أبي شيبة ، كنز العمال 13 | 134 .
(3) مسند أحمد 4 | 370 ، الخصائص 100 ، ابن كثير 7 | 346 .
(4) رواه ابن ماجة 1 | 45 عن سعد بن أبي وقاص .

( 213 )

سنة 694 ـ يستبعد ما ادّعاه السعّد من المعنى (1) بل إنّ بعض مؤلّفيهم المتعصّبين يكذبّ مؤخر الحديث فيقول : « إن هذا اللفظ وهو قوله : أللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله . كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ... » قال : « إن دعاء النبي مجاب ، وهذا الدعاء ليس بمجاب ، فعلم أنه ليس من دعاء النبي ... » (2) .
وأمّا : ( ولو سلّم فغايته الدلالة على الامامة ، وهو جواب لم يذكره القوم ) ففيه : أنّه قد ذكره القوم قبله بقرون ، سواء أراد من « القوم » قومه أو أصحابنا ، فقد ذكر شيخنا أبوجعفر الطوسي المتوفى سنة 460 « فأمّا الجواب عمّا قالوه من ثبوت الإمامة بعد عثمان . فهو : ما تقدّم عند كلامنا في النص الجلي ، وهو : إن الأمة مجمعة على أنّ إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد قتل عثمان لم تحصل له بنص من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تناول تلك الحال واختص بها دون ما تقدّمها . ويبطله أيضاً : إنّ كلّ من أثبت لأمير المؤمنين عليه السلام النص على الامامة بخبر الغدير أثبته على استقبال وفاة الرسول من غير تراخ عنها » (3) .
أقول :
ويبطله أيضاً : أنه كانت ولاية النبي صلّى الله عليه وآله سلّم عامة كما يدلّ عليه كلمة « من » الموصولة ، فكذا علي . فيجب أن يكون على هو الولي لأبي بكر دون العكس .
ويبطله أيضاً : انّه بعد التسليم بدلالة حديث الغدير على إمامة الأمير والاعتراف بعدم النصّ على خلافة من تقدمه ، يكون تقييد إمامته عليه السلام بالزمان المتأخر عن زمانهم تقييداً بلا دليل .
____________
(1) الرياض النضرة 1 | 205 .
(2) منهاج السنة 4 | 16 .
(3) تلخيص الشافي 2 | 200 .

( 214 )

أقول : بل ورد النّص عنه صلّى الله عليه وآله سلّم في عدم استخلافه أحداً ممّن تقدّم عليه ، وقوله في علي : « أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلّن الجنّة أجمعون » رواه غير واحد من محدثيهم بأسانيدهم عن ابن مسعود عن النّبي .
وأمّا قوله : ( وإذا تأمّلت فما يدّعون من تواتر الخبر حجة عليهم لا لهم ، لأنّه لو كان مسوقاً لثبوت الامامة دالاً عليه لما خفي على عظماء الصحابة ... ) .
فتكرار لما سبق ...
فتلخّص ـ أن الحديث متواتر سنداً ، نصّ دلالةً ... والحمد الله على ذلك .

حديث المنزلة
قال (275) :
( وأما حديث المنزلة ... والجواب : منع التواتر ، بل هو خبر واحد في مقابلة الاجماع . ومنع عموم المنازل ... ولو سلّم العموم فليس من منازل هارون الخلافة والتصرّف بطريق النيابة على ما هو مقتضى الامامة ، لأنه شريك له في النبوّة ، وقوله : أخلفني ليس استخلافاً بل مبالغة وتأكيداً في القيام بأمر القوم . ولو سلّم فلا دلالة على بقاءها بعد الموت ... ) .

سند حديث المنزلة
أقول :
أمّا الكلام في السند فإنّ السّعد لم يمنع صحة الحديث كما فعل شيخه في ( المواقف ) ـ تبعاً للآمدي الزّنديق بنصّ الذّهبي ـ وإنّما منع التواتر قال : ( بل هو خبر واح في مقابلة الاجماع ) .
والجواب : إن حديث المنزلة مخرّج في كتابي البخاري ومسلم (1) اللذين هما
____________
(1) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، غزوة تبوك . صحيح مسلم ، الترمذي ، ابن ماجة ، أبو داود

=


( 215 )

أصحّ الكتب عندهم بعد القرآن ، واشتهر بينهم قطعيّة صدور أحاديثهما (1) ، مضافاً إلى تصريح غير واحد من كبار محدّثيهم بتواتره ، قال ابن عبدالبرّ : « هو من أثبت الأخبار وأصحّها ، رواه عن النبي سعد بن أبي وقاص ـ وطريق سعد فيه كثيرة جدّاً ، قد ذكر ابن أبي خيثمة وغيره ـ ورواه : ابن عباس وأبو سعيد الخدري ، وأم سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبدالله ، وجماعة يطول ذكرهم » (2) .
ثمّ إن ظاهر قوله ( خبر واحد في مقابلة الاجماع ) هو أن الموجب لأن يكون حديث المنزلة خبراً واحداً هو الاجماع المدّعى على خلافة أبي بكر ، لكنّ الاجماع المذكور لو سلّم لا يوجب أن يكون الخبر الثابت يقيناً خبراً واحداً مفيداً للظن ، المذكور لو سلّم لا يوجب أن يكون الخبر الثابت يقيناً خبراً واحداً مفيداً للظن ، وإنّما يوجب رفع اليد عن ظهور الخبر المتواتر في مدلوله المنافي للاجماع . وعلى الجملة فإنّ المقابلة للاجماع إنّما تؤثّر في دلالة الخبر وان كان متواتراً ، ولا تؤثر في سند الخبر المتواتر بأن تجعله ظنيّاً ... ومن هنا يفهم أن السّعد يرى الحديث متواتراً سنداً ، وأنّه تام الدلالة على إمامة علي عليه السلام ، إلاّ أنّ الاجماع هو المانع من الإذعان بذلك !
لكنك قد عرفت حال الاجماع المزعوم حتى من كلام السّعد نفسه ...

دلالة حديث المنزلة
وأما الكلام في الدّلالة فالجواب عن الشبهة الأولى ـ وهي عمدة ما في المقام ـ هو أن معيار العموم جواز الإستثناء كما نصّ عليه الأصوليّون قاطبة ، كما لا يخفى على من لاحظ مباحث العموم في ( المنهاج للبيضاوي ) وشروحه ، وفي ( مسلّم الثبوت للبهاري ) وشرحه ، وغيرها من كتب الأصول ، ومن الواضح جداً أنّ اسم
____________
=
... لاحظ جامع الأصول 9 | 468 .
(1) لاحظ كلام الحافظ ابن القيسراني المقدسي في كتاب الجمع بين رجال الصحيحين وكلام النووي وشارحه السيوطي في تدريب الراوي . وغيرهما .
(2) الاستيعاب ، ترجمة أمير المؤمنين 3 | 1090 .

( 216 )

الجنس المضاف من ألفاظ العموم كما نص عليه جميعهم كذلك ، منهم السّعد نفسه في شرح شرح مختصر الأصول ، تبعاً لابن الحاجب والقاضي العضد ، فقد جاء في ( شرح المختصر ) ما نصه : « ثمّ الصيغة الموضوعة له ، أي للعموم ، عند المحققين هي هذه : فمنها : أسماء الشرط والاستفهام نحو : من وما ومهما وأينما ، ومنها : الموصولات نحو : من وما والذي ، ومنها : الجموع المعرفة تعريف جنس لا عهد ، والمجموع المضافة نحو العلماء وعلماء بغداد ، ومنها : اسم الجنس كذلك أي معرفّاً تعريف جنس أو مضافاً » (1) .
وفي ( شرح المنهاج ) : « المسألة الثانية فيما يفيد العموم ... وأما الجمع المضاف سواء كان جمع كثرة نحو قوله تعالى : ( يا عبادي ) الآية : أو جمع قلة نحو قوله عليه السلام : أولادنا أكبادنا . وكذا اسم الجنس يكون عاماً إذا كان محلّىً بالألف واللام نحو قوله : ( يا أيّها الذين اعبدوا ) أو مضافاً نحو قوله تعالى : ( عن أمره ) » .
وفي ( فواتح الرحموت ) : « إنّ المفرد المضاف أيضاً من صيغ العموم ، كيف ويصح الاستثناء وهو معيار العموم » .
وكما تجد هذه القاعدة في الكتب الأصولية ، كذلك تجدها في الكتب الأدبية ، وفي كلام السّعد نفسه ، فقد ذكر السّعد في ( شرحه المختصر على تلخيص المفتاح ) بتعريف علم البلاغة : « فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب للحال والمقام . يعني إذا علم أن ليس ارتفاع شأن الكلام الفصيح في الحسن الذاتي إلاّ بمطابقته للاعتبار المناسب على ما يفيده إضافة المصدر ، ومعلوم أنه إنما يرتفع بالبلاغة ... فليتأمل » قال الخطائي في حاشية :
« قوله : على ما يفيد إضافة المصدر . لأنّها تفيد الحصر كما ذكروا في ضربي زيداً قائماً أنه يفيد انحصار جميع الضربات في حال القيام . وفيه تأمّل . لأن إضافة
____________
(1) شرح مختصر الأصول 2 | 102 .
( 217 )

المصدر إنما تفيد العموم لأنّ اسم الجنس المضاف من أدوات العموم ، والانحصار في المثال المذكور إنما هو من جهة أنّ العموم فيه يستلزم الحصر ... » .
وفي حاشية الجلبي على ( شرحه المطوّل ) : « قوله : واستغراق المفرد أشمل . قد سبق تصريح الشارح بأنّ اضافة المصدر تفيد الحصر وحقق هناك أن مبناه كون المصدر المضاف من صيغ العموم ، فهذه القضية كلية ... » .
هذا ، ولو أردنا أيراد كلماتهم لطال بنا المقام ... فالعجب من السّعد كيف ينسى في هذا الموضع ما قرّره هو وغيره من الأعلام ؟
فظهر سقوط قوله : ( منع عموم المنازل ) .
وكذا قوله : ( بل غاية الاسم المفرد المضاف إلى العلم الإطلاق ، وربما يدعى كونه معهوداً معيّناً كغلام زيد ) .
فإنّ تبادر العهد من « غلام زيد » بسبب القرينة لا يستلزم عدم العموم في كلّ اسمٍ مضاف ، لانّ اسم الجنس المعرّف باللام والجمع باللام أو المضاف الدالة على العموم ـ كما صرّح بذلك علماء الأصول ـ تحمل على العهد أينما تحقّق العهد ، وهذا لا ينقي كونها للعموم حيث لا عهد ، فكذا في اسم الجنس المضاف ، قال الجلال المحلّي في ( شرح جمع الجوامع ) : « والجمع المعرّف باللاّم نحو : قد أفلح المؤمنون ، أو الاضافة نحو : يوصيكم الله في أولادكم للعموم ما لم يتحقق عهد لتبادره إلى الذّهن » .
وكيف يقول : ( غاية الاسم ... الاطلاق ) ؟ والحال أنّه حيث لا يتحقق العهد يكون الأستثناء صحيحاً ، وقد عرفت أن صحّته دليل العموم ، كما عرفت أن اسم الجنس المضاف من صيغ العموم .
سلّمنا أن غايته الإطلاق ، فإنّ الاطلاق أيضاً كاف لإثبات دلالة الحديث على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام ، لانّ المتكلّم الحكيم إذا جاء بلفظ مطلق ولم ينصب قرينة على التقييد أفاد العموم وإلاّ لزم الإهمال ، بل لقد نصّ السّعد نفسه في ( شرح التوضيح ) على أنّه لابدّ من حمل صيغ العموم على الكلّ احترازاً عن


( 218 )

ترجيح البعض بلا مرجّح ، فكذلك الأمر في عموم المطلق وشموله لجميع أفراده .
إذن ، لا سبيل إلى إنكار دلالة الحديث على العموم ، ومن هنا اعترف شيخه القاضي العضد بذلك (1) إلاّ أنّه ادعى العهد ، لكنّ السّعد يقول : ( وربما يدعى كونه معهوداً كغلام زيد ) فهو غير جازم بالعهد ، وذلك لأنّه يدري أنّ العهد المدعى ليس إلاّ قرينيّة زمان صدور الحديث ، وهو وقت الخروج عن المدينة إلى تبوك ... كما نصّ عليه شارح المواقف ... وهو موقوف على كون المورد مخصّصاً وهو باطل ، ولذا قال : ( وأمّا الجواب : بأنّ النبي لمّا خرج ... فربّما يدفع بأنّ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، بل ربما يحتجّ ... ) .
هذا أولاً :
وثانياً : إنّ ورود الحديث غير مختص بهذا المورد ، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا الكلام لعلي عليه السلام في مواضع عديدة ، منها عند المؤاخاة ، وقد أوردنا الخبر في ذلك في ( الطّرائف ) عن أحمد بن حنبل كما في ( كنز العمّال ) ، وسيأتي خبر آخر فيه قريباً .
وأمّا قوله : ( وليس الاستثناء المذكور إخراجاً ... بل منقطع ... ) .
فهذا الإشكال ذكره شيخه القاضي العضد ... فأنصف السّعد وأجاد في دفعه بقوله : ( اللهمّ إلاّ أن يقال : إنها بمنزلة المستثنى ، لظهور انتفائها ) .
إلى هنا تمّ دلالة الحديث على العموم ...
قال : ( ولو سلّم العموم فليس من منازل هارون الخلافة والتصرّف ... وقوله : اخلفني ليس استخلافاً ... ) .
ويردّه تصريح كبار المفسّرين منهم بتفسير قوله : ( اخلفني ) بأنّ المعنى « كن خليفتي ونافذ أمرك فيهم » فلاحظ تفاسير : ( الكشاف ) و ( الرازي ) و ( البيضاوي ) و ( النيسابوري ) و ( النسفي ) و ( ابن كثير ) و ( الخازن ) ...
____________
(1) المواقف في علم الكلام 8 | 363 .
( 219 )

وإذا كان من جملة المنازل الثابتة لهارون بخلافته : فرض طاعته ونفوذ أمره في الأمّة ، فعلي عليه السلام المنزّل منزلة هارون كذلك ، ولو النبي بهذا المعنى وقال : أنت مني بمنزلة هارون من موسى في فرض الطّاعة ونفوذ الأمر وإن لم تكن شريكي في النبّوة ، لكان كلاماً مستقيماً لا تنافي فيه أصلاً .
ويؤكّد ذلك أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم في غير واحد من الأخبار المعتبرة بإطاعة علي إطاعةً مطلقة ، وأنّ من أطاع علياً فقد أطاعه ومن أطاعه فقد أطاع الله ، منها : ما أخرجه الحاكم بسنده عن أبي ذر رحمه الله قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصى علياً فقد عصاني . هذا الحديث صحيح الإسناد » (1) .
هذا ، ولولا دلالة هذا الحديث على حصول تلك المنازل لعلي عليه السلام لم يقل عمر بن الخطّاب ـ فيما رواه جماعة منهم الحاكم وابن النجّار كما في ( كنز العمال ) ـ « كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب ، فإنّي سمعت رسول الله يقول في علي ثلاث خصالٍ لئن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس : كنت أنا وأبوبكر وأبو عبيدة بن الجرّاح ونفر من أصحاب رسول الله والنّبي متكئ على علي بن أبي طالب ، حتى ضرب بيده على منكبه ثم قال : وأنت يا علي أوّل المؤمنين إيماناً وأوّلهم إسلاماً ثم قال : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى . وكذب عليّ من زعم أنّه يحبّني ويبغضك » .
ولم يقل مثله سعد بن أبي وقاص كما رواه ابن ماجة في ( سننه ) وغيره .
ولم يحتج به كبار الصحابة في مواطن مختلفة ، وأمير المؤمنين نفسه في احتجاجه على أهل الشورى .
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 3 | 121 .
( 220 )

أحاديث أخرى
قال ( 276) :
( الرابع النصوص الجليّة ... والجواب : ما مرّ أنّها أخبار آحاد في مقابلة الاجماع ، وأنّها لو صحّت لما خفيت على الصحابة والتّابعين ... ولو سلّم فغايته إثبات خلافته لا نفي خلافة الآخرين ) .
أقول :
لم يمنع السّعد بصراحةٍ أسانيد هذه الأحاديث تبعاً لشيخه العضد ، وإنّما أجاب عنها بكونها آحاداً في مقابلة الاجماع ، وقد عرفت ما فيه .
وأمّا دلالة فكلامه تكرار لما سبق ، وقد عرفت جوابه أيضاً . وأمّا قوله : ( ولو سلّم ... ) .
ففيه : أوّلاً : أنّه خلاف ظاهر هذه الأحاديث ، خصوصاً المشتمل منها على كلمة من بعدي : وثانياً : أنّه موقوف على ثبوت خلافة الآخرين وهي لا تثبت إلاّ بالنصّ أو الإجماع ، أمّا الأول فمفقود وأمّا الثاني فغير حاصل . وثالثاً : إن كان الذين من قبله مؤمنين متّقين فهو وليّهم وأميرهم وإمامهم ، وإن لم يكونوا مؤمنين متّقين فهو وليّهم وأميرهم وإمامهم بالأولوية القطعية .
وأمّا ضبط كلمة « ديني » بـ « كسر الدال » فلم نفهم وجهه ... لا سيّما وفي بعض الألفاظ : « يقضي ديني » (1) فإنّه بفتح الدال قطعاً ، ولا بأس بنقل الحديث كاملاً عن ( مجمع الزوائد ) .
« عن سلمان رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله إنّ لكلّ نبيّ وصيّاً فمن وصيّك ؟ فسكت عني . فلمّا كان بعد أن رآني قال : يا سلمان فأسرعت إليه قلت : لبّيك . قال : تعلم من وصيّ موسى ؟ قال : نعم ، يوشع بن نون . قال : لم ؟ قلت :
____________
(1) مجمع الزوائد 9 | 113 ، الرياض النضرة 2 | 279 منتخب كنز العمال ـ هامش أحمد ـ 5 | 32 .
( 221 )

لأنّه كان أعلمهم يومئذ . قال : فإنّ وصيّي وموضع سرّي وخير من أترك بعدي ينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب » .
قلت : ومن عمدة ما في الباب الحديث : « إنّ عليّاً مني وأنا من علي وهو ولي كلّ مؤمن من بعدي » الذي أخرجه أبو داود الطيّاسي وأحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم والطبري وابن حجر العسقلاني ... وغيرهم .

من موارد القدح في إمامة الآخرين
قال (278) :
( الخامس : القدح في إمامة الآخرين ... أمّا إجمالاً فلظلمهم لسبق كفرهم ، لقوله تعالى : ( والكافرون هم الظّالمون ) والظالم لا يكون إماماً لفوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) والجواب ... ) .
أقول :
قد تقدّم تقرير الاستدلال بالآية وأن العهد هو الإمامة حتّى عند المفسرّين من أهل السّنة ...

قضية فدك
قال ( 278) :
( وأمّا تفصيلاً فممّا يقدح في إمامة أبي بكر أنه خالف كتاب الله تعالى في منع إرث النّبي بخبرٍ رواه ... ومنها أنّه منع فاطمة فدك ... والجواب ... ) .
أقول :
لا يخفى الفرق الكبير والاختلاف الكثير بين ما ذكره السّعد وما ذكره شيخه العضد ، تقريراً وجواباً ... فراجع ، والملاحظ :
1 ـ إنّ السّعد لم ينكر تفرّد أبي بكر بما نسبه إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة .


( 222 )

2 ـ إنّه لم ينكر أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهب فاطمة عليها السلام فدكاً .
3 ـ إنّه لم ينكر تصديق أبي بكر أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ادّعاء الحجرة لهنّ من غير شاهد ، ولم يجب عن هذا النقض بشيء أصلاً .
4 ـ إنّه لم ينكر كون فدك بيد الزهراء عليها السلام منذ حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بل أثبت ذلك بقوله : « ثمّ ردّها عمر بن عبدالعزيز أيّام خلافته إلى ما كانت عليه » .
وخلاصة كلام أصحابنا في هذا المقام هو :
إنّ أبابكر انتزع من فاطمة فدكاً (1) ـ وهي غير خيبر وليست قرية منها ـ فطالبت فاطمة عليها السلام منه رفع الاستيلاء على هذا الملك الحاصل لها هبةً من والدها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (2) واذا كان السّعد لا ينكرها هاتين المقدّمتين فلما ذا لا يعترف بالحقّ صراحة ؟ وإن كان منكراً لكلتيهما أو إحداهما فلما ذا يصرّح بالانكار ولم يدافع عن أبي بكر ؟ إنّ الشيء الذي قاله هو :
( والجواب : إنّه لو سلّم صحة ما ذكر فليس على الحاكم أن يحكم بشهادة رجل وامرأة وإن فرض عصمة المدعي والشاهد ، وله الحكم بما علمه يقيناً وان لم يشهد به شاهد ) .
لكن فيه :
أوّلاً : إنّ أبابكر لم يكن حاكماً في القضية بل كان خصماً .
وثانياً : إنّ الزهراء عليها السلام كانت صاحبة اليد فلم يكن له أن يطالبها بالشهود ، بل كا عليه إقامة البيّنة ليجوز له الاستيلاء على ملكها .
وثالثاً : إذا أقام المدعي البيّنة وجب على الحاكم أن ينظر فيها ، فإن وجدها
____________
(1) لاحظ : الدر المنثور 4 | 177 .
(2) الصواعق المحرقة : 31 .

( 223 )

معتبرة ولا معارض وجب عليه الحكم على طبقها ، وليس له الحكم بعلمه حتى النبي ، فإنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم يصرّح بذلك حيث يقول في الحديث المتفق عليه : « إنّما أنا بشر وإنّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض ، فاقضي نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحقّ أخيه فإنّما أقطع له قطعةً من النار » (1) .
ورابعاً : إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى باليمين مع الشاهد الواحد (2) فهلاّ طلب أبوبكر من الزهراء اليمين وقد شهد لها علي عليه السلام ؟
وخامساً : إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى بالشاهد الواحد وهو عبدالله بن عمر (3) ، فهلاّ قضى أبوبكر بأمير المؤمنين عليه السّلام وحده ؟ وهل كان عنده أقل من عبدالله بن عمر ؟‍‍!
وسادساً : هذا كلّه بعض النظر عن عصمة الزهراء عليها السلام ، وعصمة أمير المؤمنين والحسنين ( ولم يذكرهما السّعد ) وبغض النظر عن كون أم أيمن مشهوداً لها بالجنة كما في ترجمتها من ( الإصابة ) وغيرها .
ثم إنّها سلام الله عليها ـ بعد أن لم يصدّق أبوبكر علياً والحسنين وأم أيمن ، مع أنّه صدّق أزواج النبي في ادّعائهنّ من غير شاهد ـ جاءت تطالب بفدك وغير فدك من إرثها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم :
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة واللفظ للأوّل قالت : « إنّ فاطمة عليها السلام بنت النبي أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر . فقال أبوبكر : إنّ رسول الله قال : لا نورّث ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمد في هذا المال ، وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله ، ولأعملنّ فيها بما عمل
____________
(1) جامع الأصول 10 | 553 أخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي وأبو داود والنسائي .
(2) جامع الأصول 10 | 555 أخرجه مالك ومسلم وأبو داود والترمذي ...
(3) جامع الأصول 10 | 557 أخرجه البخاري .

( 224 )

به رسول الله ، فأبي أبوبكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً .
فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت .
وعاشت بعد النبي ستة أشهر .
فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبابكر وصلّى عليها .
وكان لعليّ من الناس وجه حياة فاطمة » (1) .
لكنّ الكلام في الحديث الذي ادّعاه ، فإنّ القوم لم يتمكنوا من إثبات تماميته سنداً ودلالة ، أمّا سنداً فإنّ ما ذكره السّعد في الجواب من ( أن الخبر المسموع من فم رسول الله إن لم يكن فوق التواتر فلا خفاء في كونه بمنزلته ، فيجوز للسامع المجتهد أن يخصص به عام الكتاب ) مشتمل على ثلاثة دعا و :
1 ـ إنّ أبابكر سمع الحديث من فم رسول الله ...
2 ـ إنّ أبابكر مجتهد ...
3 ـ إنّ للسامع المجتهد أن يخصّص به عام الكتاب .
وهذه الدعاوى لابدّ لها من إثبات ، فإنّها أوّل الكلام ، ولو أنّا تيقّنا بأنّ أبابكر سمع الحديث من فم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان كلّ هذا البحث ... لكنّ أبابكر متهم في هذا الموضع فهو خصم لا حكم ، واطلاعه هو وحده بهذا الحديث ، بحيث لم يسمعه من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أحد من أهله وذويه ، يورث الشك في روايته ، بل لم يسمع أحد من أبي بكر هذا الحديث عن النبي حتى تلك الساعة ، بل ادعاء الأزواج إرثهنّ من رسول الله تكذيب له ... كما كان تصديقه لهنّ في ادعّاء الحجرة يكشف عن غرض له في نفسه مع الزهراء وأهل البيت !
هذا كلّه بناءً على ثبوت دعوى أبي بكر سماع ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم . وأمّا بناءً على وضع هذا الحديث بعد ذلك تبريراً وتوجيهاً لمنع أبي
____________
(1) صحيح البخاري : باب غزوة خيبر . صحيح مسلم : كتاب الجهاد والسير .
( 225 )

بكر فاطمة عليها السلام حقّها ، كما عليه الحافظ البارع الناقد ابن خراش البغدادي المتوفى سنة 283 (1) . سقوط تلك الدّعاوى والتوجيهات في غاية الوضوح . وعلى كلّ تقدير فالحديث باطل .
وأمّا دلالة ففي الحديث المزعوم احتمالات كما ذكر العضد (2) ولم يشر إلى ذلك السّعد ، والحاصل أنّه كما يحتمل أن تكون كلمة « صدقة » مرفوعة على الإخبار به عن « ما » الموصولة في « ما تركناه » كذلك أن يكون « ما » منصوبةً محلاً على المفعولية لـ « تركناه » وتكون « صدقة » حالاً من « ما » فما المثبت للاحتمال الأوّل ؟ بل المتعيّن ـ إن صح الحديث ـ هو الثاني لتكذيب علي والزهراء والحسنين وأهل البيت والعبّاس وأزواج النبي وسائر المسلمين ... هذا الحديث أو عدم سماعهم إيّاه من رسول الله ... بل إنّ ردّ عمر بن عبدالعزيز فدكاً إلى أولاد فاطمة ـ وهو عند جماعة من أعلامهم خامس الخلفاء الراشدين ـ تكذيب صريح ، بل إنّ أبابكر كذّب نفسه في أواخر حياته ، حيث تمنّى أن كان قد سأل النبّي (3) عن حقّ أهل البيت في الخلافة ، فإنّ هذا ـ وإن تضليلاً ـ دليل على ندمه على تصدّي الأمر وما ترتّب عليه من أفعال وتروك .
وبعد فإنّ السّعد لم يجب عن هذه القضية جواباً ، وإنّما قال كلاماً أساسه حسن الظنّ بأبي بكر والتعصّب على الشيعة ... ثمّ إنه صرّح بهذا بقوله :
( ولعمري إنّ قصّة فدك على ما يرويه الروافض من بيّن الشواهد على أنهماكهم في الضلالة وافترائهم على الصحابة ... ) إلى آخر ما قال ممّا لا يليق بنا الجواب عنه ...
____________
(1) لاحظ : تذكرة الحفاظ 2 | 674 ، ميزان الاعتدال 2 | 600 ، لسان الميزان 3 | 444 ، طبقات الحفاظ : 297 وقد ذكرنا تفصيل ذلك في ( الطرائف )
(2) شرح المواقف في علم الكلام 8 | 355 .
(3) تاريخ الطبري 4 | 52 وغيره .

( 226 )

استخلاف عمر
قال (279) :
( ومنها : إنّه خالف رسول الله في الاستخلاف ... والجواب : إنّا لا نسلم أنّه لم يستخلف أحداً بل أستخلف إجماعاً ، أما عندنا فأبابكر وأما عندكم فعليّاً ... ) .
أقول :
إن اراد من استخلافه صلّى الله عليه وآله وسلّم أبابكر النصّ عليه ، فهو مع كونه خلاف الواقع خلاف ما نصّ عليه سابقاً ولا حقاً . وإن أراد أن بيعة عمر لأبي بكر ثم متابعة أكثر الناس في ذلك استخلاف من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فهذا افتراء على الله ورسوله ...
وقوله : ( لا نسلّم أنّه عزل عمر بل انقضى توليته ... ) تأويل بلا دليل .
وقول : ( ولا نسلّم أن مجرّد فعل ما لم يفعله النبي مخالفة وترك لاتّباعه ... ) مغالطة ، لأنّ المفروض عندهم أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يستخلف ، مع كونه أعرف بالمصالح والمفاسد وأوفر شفقة على الأمّة ... فكانت المصلحة والشفقة في عدم الاستخلاف ، فيكون الاستخلاف مخالفةً له وتركاً لاتّباعه ... فيكون قادحاً في استحقاق الإمامة .

جهل أبي بكر
قال (280) :
( ومنها : إنّه لم يكن عارفاً بالأحكام حتى قطع يد سارق من الكوع لا يمينه ، وقال لجدةٍ سألته عن ارثها ... ولم يعرف الكلالة ... ) .
أقول :
هذه من موارد جهل أبي بكر بأوضح الأحكام الشرعيّة والألفاظ القرآنية ...


( 227 )

وسيأتي كلام الغزالي الذي أورده السّعد في أن الفضل للعلم والتقوى ...
وهو لم يجب عن هذه الموارد إلاّ أن قال :
( والجواب ـ بعد التسليم ـ إنّ هذا لا يقدح في الاجتهاد ، فكم مثله للمجتهدين ) .
أمّا قوله « من التسليم » فلم نفهم وجهه ؟ إن كان يشكّك في ثبوتها فلماذا لم يصرّح ولم يبيّن ؟ إنّه لا حاجة إلى إيراد أخبار تلك الموارد بعد إذعان الكلّ بها حتّى شيخه العضد ، فإنّه بعد أن ذكر قضية إحراق الفجائة ، وقطع يسار السارق ، والجهل بميراث الجدّة ... (1) لم يناقش في ثبوتها ...
وأمّا قوله ( إنّ هذا لا يقدح في الاجتهاد فكم مثله للمجتهدين ) . ففيه : أيّ اجتهاد هذا ؟ إن قلنا : كيف طرح نصّ الكتاب بخبر واحد مفروض اختص به ؟ قالوا : اجتهد . وإن قلنا : كيف خالف الشرع في قطع يد السارق ؟ قالوا : اجتهد وإن قلنا : كيف يكون إماماً وهو يجهل حكم الإرث ومعنى لفظ الأب ؟ قالوا : انه مجتهد ، والجهل لا يقدح في الاجتهاد ، فكم مثله للمجتهدين ؟
ولو سلّم أنّ « الجهل » غير قادح ، فهلاّ توقف عن الحكم في قطع يد السّارق ـ كما توقف عن الجواب عن الارث حتى وجد الحكم عند المغيرة بن شعبة اللّعين ، وعن معنى الأب ـ فلم يقطع حتى يسأل ؟ وهل الاجتهاد عذر ؟ لو كان عذراً فلماذا أوقع الذنب على الجلاّد ؟ أو وجّهوا الحكم بـ « لعلّه ... ولعلّه ... » كما لا يخفى على من راجع ( المواقف ) و ( الصواعق ) ؟ حتى اضطرّ بعضهم في ( حواشيه على شرح العقائد النسفيّة ) إلى أن يقول : « قد قطع يسار السارق وهو خلاف الشرع ، والظاهر أنّ القضاء بغير علم ذنب ، وما كان هو معصوماً » !
لكنّ عليّاً عليه السّلام ما خالف الكتاب والسنة في مورد ، وما جهل بحكم ولا لفظ ، بل ادعى الأعلميّة ـ وهو الصادق المصدّق ـ واعترف له بذلك كبار
____________
(1) شرح المواقف 8 | 357 .
( 228 )

الصحابة ، ورجوعهم إليه في المعضلات والمشكلات ، واعترافهم أمامه بالجهل ... مشهور ... فيكون هو الامام دون غيره ... وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنّة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين » (1) .

تمنّيه لو سأل النبي
قال (280) :
( ومنها : إنه شك عند موته ... والجواب : إن هذا على تقدير صحّته لا يدلّ على الشك بل على عدم النّص ... ) .
أقول :
هذا الخبر وراه سعيد بن منصور والطبري وأبو عبيد وابن قتيبة والعقيلي والطبراني وابن عساكر وابن عبد ربّه وغيرهم (2) فإن كان هؤلاء كلّهم ـ وهم من كبار الأئمّة الحفّاظ منهم ـ كاذبين على أبي بكر فما ذنبنا ؟
وهو يدل على الشك ، سلّمنا أنه يدلّ على عدم النّص فهل كان يرى ضرورة النصّ في الإمامة ؟ إن قالوا : نعم بطلت خلافته واستخلافه لعمر لعدم النصّ ، وإن قالوا : لا بل كان يرى إمامته حقاً لأنها « كانت بالبيعة والاختيار » فلماذا تمنّى النّص ؟

قول عمر : كانت بيعة أبي بكر فلتة
قال (280) :
( ومنها : إن عمر مع كونه وليّه وناصره قال : كانت بيعة ... والجواب :
____________
(1) مجمع الزوائد 5 | 211 .
(2) تاريخ الطبري 4 | 52 ، العقد الفريد 3 | 68 كنز العمّال 3 | 135 .