إن المعنى كانت فجأةً وبغتة ... ) .
أقول :
لا يخفى أنّه لم يذكر إلاّ هذا الموارد ، أمّا شيخه العضد فقد ذكر خالد ابن الوليد مع مالك بن نويرة ، وغيرها ... كما لا يخفى أنّه لم يناقش في ثبوت هذا الكلام عن عمر ...
ومعنى لفظة « الفلته » بفتح الفاء : « الفتنة » كما في ( المواقف ) وغيرها . أو « الفجأة والبغتة » كما في الكتاب ، أو « ما يندم عليه » كما عن بعض المحدّثين واللغويين .
وهي ـ بأيّ معنى كانت ـ تفيد الذمّ ، ويؤكّد ذلك وقوله : « وقى الله شرّها » فلولم تكن ذات شر لم يقل ذلك ، وأمّا أنّ الله وقى شرها أو بقي فهذا أمر آخر يجب أن ينظر فيه .
هذا ، ويشهد بدلالة الكلام على ذم أبي بكر وخلافته إنكار بعضهم كابن روزبهان الخبر من أصله .
ويشهد به أيضاً قول السّعد : ( وكيف يتصوّر منه القدح في امامة أبي بكر ... ) فلولا دلالة الكلام عليه لما احتاج إلى هذه الكلمات المشتملة على الأباطيل والافتراءات ... على أنّ عمر بن الخطاب قد صدر منه ما هو فوق ذلك بالنسبة إلى شخص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فكيف لا يمكن صدور هذا منه في أبي بكر وخلافته ؟!

جهل عمر
قال (281) :
( قدحوا في امامة عمر بوجوه : منها ـ أنه لم يكن عارفاً بالأحكام ... والجواب ـ بعد تسليم القصة ... ) .
أقول :


( 230 )

أما قوله : « بعد تسليم القصة » فتشكيك في البديهيّات ، فإنّ خبري أمره برجم الحامل والمجنونة موجودان في كتبهم المعتبرة المشهورة ، فراجع : ( صحيح البخاري ) باب لا يرجم المجنون والمجنونة من كتاب المحاربين ، و ( المستدرك على الصحيحين 4 | 389 ) كتاب الحدود حيث صحّحه وأقرّه الذهبي على ذلك ، و ( الاستيعاب ) بترجمة أمير المؤمنين ، و ( كنز العمّال ) في كتاب المحاربين عن : عبد الرزاق الصنعاني وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي ... وهو في السنن لأبي داود وابن ماجة ...
وخبر نهيه عن المغالاة في الصّداق رواه المفسّرون كالقرطبي والزمخشري وابن كثير والسيوطي والنيسابوري والخازن وغيرهم بتفسير الآية المباركة ( وآتيتم احداهن قنطارا ) (1) وهو في كتب الحديث والمعتبرة ، فقد رواه : عبدالرزاق وسعيد ابن منصور وأبو يعلى الموصلي وابن المنذر وعبد بن حميد كما في ( الدر المنثور ) (2) وأحمد والطّبراني وابن حبان كما في ( الدرر المنتثرة ) ورواه البيهقي (3) والحاكم (4) والقسطلاني (5) والمتّقي الهندي عن جماعة (6) .
وكذا التشكيك في علمه بالحمل والجنون ، فإنّه غير مجد بل مضرّ ، لأنّه حينئذٍ يدلّ على تجرّيه وعدم مبالاته بأحكام الله ونفوس المسلمين ...
وكذا التشكيك في ظهور كلامه في التّحريم فالذي أخرجه البيهقي هو : « خطب عمر بن الخطّاب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال : ألا لا تغلوا في صداق النّساء فإنّه لا يبلغني عن أحدٍ ساق أكثر من شىء ساقه رسول الله أو سيق
____________
(1) سورة النساء : 20 .
(2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2 | 133 .
(3) السنن الكبرى 7 | 233 .
(4) المستدرك على الصحيحين 2 | 177 .
(5) إرشاد الساري 8 | 57 .
(6) كنز العمّال 8 | 298 .

( 231 )

إليه إلاّ جعلت فضل ذلك في بيت المال ثم نزل ، عرضت له امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين أكتاب الله تعالى أحقّ أن يتّبع أو قولك ؟ قال : بل كتاب الله تعالى ، فما ذاك ؟ قالت : نهيت الناس آنفاً أن يغالوا في صداق النّساء ، والله تعالى يقول فيه كتابه : وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً ، فقال عمر رضي الله عنه ، كل أحدٍ أفقه من عمر ـ مرّتين أو ثلاثاً ـ » فأيّ معنى لجعل المهر في بيت المال إن لم يكن المقصود هو المنع التحريمي ؟
وأمّا قوله : ( إنّ الخطأ في مسألةٍ أكثر لا ينافي الاجتهاد ولا يقدح في الامامة ) ففيه : إن من شئون مقام الإمامة ووظائفها حفظ الشّريعة وتعليمها للناس بالفعل والبيان ، فكيف لا يكون الجهل قادحاً ؟ وأيّ وقع في النفوس لامام تذكّره النساء أولى الأحكام الشرعيّة وأوضح الآيات القرآنية ؟ وهل كان جهل عمر بمسألةٍ أو مسألتين أو عشرات من المسائل ؟
وأمّا قوله : ( والاعتراف بالنقصان هضم للنفس ودليل على الكمال ) فاعتراف بنقصانه من الكلّ « حتّى المخدّرات » ، ومن كان كذلك كيف يليق لإمامة الكلّ ؟

إنكاره موت النبي
قال (282) :
( ومنها : إنّه لم يكن عالماً بالقرآن حتى شك في موت النبي ... فالجواب : إنّ ذلك كان ... ) .
أقول :
لابدّ للسّعد ـ كغيره ـ من الاعتذار له بكلّ وجه ، فتراه يذكر له عذرين بينهما بعد المشرقين ، لأنّ حاصل الأوّل كون السبب لإنكاره موت النبي ـ خروجه عن حال الفهم والمعرفة لتشوّش باله واضطراب حاله . وحاصل الثاني : كون إنكاره لذلك عن فهمٍ للقرآن وتأمّلٍ في آياته ! لكن كليهما بارد باطل .


( 232 )

أمّا الأوّل فلأنّه لو كان تشوش باله واضطراب حاله بمجرّد سماع قولهم مات النبي ، للزم يزول عقله بالكليّة لمّا تحقّق عنده موت النّبي بقول أبي بكر ، لكنه بادر إلى السقيفة مرتاح البال ، وجعل يزوّر في نفسه كلاماً ليقوله للأنصار فيخصمهم به ، ثم حضرها وفعل هناك ثم خارجها ما فعل حتّى أتمّ الأمر لأبي بكر .
ثمّ إنّ السّعد لم يذكر السبب « لتشوش البال واضطراب الحال والذّهول عن جليّات الأحوال » فإن كان السبب محبّة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والتألّم من فقده ، كان اللازم أن يكون من جملة الذين تولّوا تجهيز النّبي ودفنه ، لا المعرضين عن ذلك ، الغاصبين لتراثه ...
وأيضاً : لو كان السبب في الإنكار ما ذكر لما جعل القوم كلام أبي بكر له دليلاً على أعلميته كما في كلام الكرماني في شرح الحديث في ( الكواكب الدراري ) : « وفيه فضيلة عظيمة لأبي بكر ورجحان علمه على عمر وغيره » .
وأيضاً : لو كان ما ذكر هو السبب فلما ذا لم يكذّب خبر موته صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد ؟ قال السّيوطي : « أخرج ابن جرير عن القاسم بن عبدالرحمن ابن رافع أخي بني عدي بني النجار قال : إنتهى أنس بن النصر عم أنس بن مالك إلى عمر وطلحة بن عبيدالله في رجالٍ من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : قتل محمد رسول الله . قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ، واستقبل القوم فقائل حتى قتل » (1) .
وأمّا الثاني فلأنّ المعنى الذي يزعم أنّه فهمه من الآيات لا ينافيه الآية : ( انّك ميّت وانّهم ميّتون ) فلماذا سكن حين تلاها أبوبكر عليه ولم يقل له : لا دلالة في الآية على من جوّز بالآيات الموت عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم في المستقبل وأنكره في هذه الحال ؟
____________
(1) الدر المنثور 2 | 81 .
( 233 )

تصرّفه في بيت المال
قال (282) :
( ومنها : إنّه تصرّف في بيت المال بغير حق ... والجواب ... ) .
أقول :
إنّ الإشكال هو : تصرّفه في بيت المال بغير الحق وإعطاؤه منه ما لا يجوز وما ذكر من إطائه كذا وكذا ، ومن تفضيله لبعض الناس على بعض ، جملة من موارد تلك التصرّفات ... وقد عكس الأمر بالنسبة إلى أهل البيت حتّى منعهم خمسهم الذي هو ذوي القربى ، ومنع فاطمة عليها السلام إرثها ونحلتها التي وهبها رسول الله لها .
وقد جعل السّعد « التفضيل » في مقابل « التصرّف » ثم أوجز الكلام في الجواب فقال :
( إنّ حديث التصّرف في الأموال محض افتراء ) .
فإن أراد حديث إعطاء عائشة وحفصة فهذا ما رواه الحاكم (1) والطبري (2) وابن الأثير (3) وغيرهم من محدّثين ومؤرّخين ... فإن كانوا مفترين فما ذنبنا ؟ وإن أراد حديث استقراضه من بيت المال ، فهو في كتب الحديث والتاريخ أيضاً ... (4) فإن كانوا مفترين عليه فما ذنبنا ؟
وقال : ( وأمّا التفضيل فله ذلك بحسب ما يرى من المصلحة ) فجوّز التفضيل في العطاء من بيت المال لبعض الناس على البعض الآخر « بحسب ما يرى من المصلحة » ولم يبيّن المراد من المصلحة ، فهل المراد منها مصلحة الإسلام
____________
(1) المستدرك 4 | 8 .
(2) تاريخ الطبري 4 | 162 .
(3) الكامل في التاريخ 2 | 247 .
(4) تاريخ الطبري 5 | 22 ، الكامل 3 | 29 ، كنز العمّال 6 | 362 ـ 363 .

( 234 )

والمسلمين ؟ أو مصلحته الشّخصيّة ؟
وأجاب عن منع أهل البيت خمسهم بما حاصله « أنّه اجتهد » .
فيقال له : أيّ اجتهادٍ هذا يؤدّي إلى مخالفة حكم الكتاب بمنع أهل البيت حقّهم ، في الوقت الذي يؤدّي إلى إعطاء كلٍ من عائشة وحفصة عشرات الآلات من أموال المسلمين .

منعه عن المتعتين
قال (283) :
( ومنها : إنه منع متعة النكاح ... ومتعة الحج ... والجواب ) .
أقول :
لم ينكر أصل تحريم المتعتين كما فعل بعضهم مكابرةً ... قال عمر : « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما » رواه : الطحاوي في شرح معاني الآثار 374 ، والبيهقي في سننه 7 | 206 ، وابن رشد في البداية 1 | 346 والرازي في تفسيره 2 | 167 وابن حزم في المحلّى 7 | 107 والجصّاص في أحكام القرآن 1 | 279 والقرطبي في تفسيره 2 | 370 وابن قدامة في المغني 7 | 527 وابن القيّم في زاد المعاد 2 | 205 والسرخسي في المبسوط 5 | 153 وابن خلكان في الوفيات 5 | 197 والسيّوطي في الدرّ المنثور 2 | 141 والمتقي في كنز العمّال 8 | 293 .
فعمر ينسب التحريم إلى نفسه ويتوعّد المخالف ، فلا يدّعي ألنّسخ في حياة النبي ، ولا قيام الدليل عنده على ذلك ، فهو ليس إلاّ بدعة أو اجتهاداً في مقابل النصّ ، وكلاهما محرّم قطعاً ، فهذا جواب قوله : ( إن هذه مسائل اجتهادية ) وقوله : ومعنى أحرمهنّ : أحكم بحرمتهنّ وأعتقد ذلك لقيام الدليل كما يقال : حرّم المثلّث الشّافعي وأباحه أبو حنيفة ) .
وأمّا قوله : ( وقد ثبت نسخ إباحة متعة النساء بالآثار المشهورة ، إجماعاً من الصّحابة على ما روى محمد بن الحنفية عن علي : إن منادي رسول الله نادى يوم


( 235 )

خيبر ... ) ففيه :
أوّلاً :
ثبوت النسخ موقوف على دليل قاطع وهو غير موجود ولا أثر مشهور بذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولو كان لما كان الإختلاف بين الصحابة وعامة المسلمين حتّى اليوم .
وثانياً : قد اشتهر القول بحلّية المتعة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أمير المؤمنين عليه السّلام وأهل البيت وابن عباس ، وجماعة من الصحابة ، منهم : ابن مسعود وجابر بن عبدالله وأبو سعيد الخدري وسلمة بن أمية ومعبد بن أميّة وعمرو بن حريث ومعاوية وأسماء بنت أبي بكر ، ورواه جابر عن جميع الصحابة مدة رسول الله ومدّة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر . وعليه من التابعين : طاووس وعطاء وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكة أعزّها الله (1) وذكر القرطبي من الصّحابة عمران بن حصين وأضاف عن ابن عبدالبر : « أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلّهم يرون المتعة حلالاً على مذهب ابن عباس » (2) ومن أشهرهم الامام ابن جريج المكي المتوفى سنة 149 وهو فقيه كبير ومحدّث ثقة من رجال الصحيحين ، فقد ذكروا بترجمته أنه تزوّج من تسعين امرأة بنكاح المتعة .
وثالثاً : الخبر الذي ذكره عن محمد بن الحنفية عن أبيه كذب من وجوه :
الأول : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان على رأس المنكرين لتحريم نكاح المتعة .
والثاني : إنّه معارض بما وضعوه على لسانه بنفس السند وأنّ التحريم كان
____________
(1) المحلّى 9 | 519 .
(2) تفسير القرطبي 5 | 133 .

( 236 )

يوم حنين (1) وآخر أنّه كان في غزوة تبوك (2) وثالث أنّه كان في حجّة الوداع (3) .
والثالث : إنه قد روي هذا الحديث بنفس السند ولم يذكر في إلاّ تحريم الحمر الإنسية في يوم خيبر (4) .
والرابع : إن تحريم متعة النساء يوم خيبر « شيء لا يعرفه أحد من أهل السّير ورواة الأثر » كما نصّ عليه كبار الأئمّة كالسهيلي وابن عبدالبر والبيهقي وابن حجر والقسطلاني وابن القيّم والعيني وابن كثير (5) .
والخامس : إنّ الرّاوي للخبر عن « محمد بن الحنفية » هو « محمد بن شهاب الزهري » وهو من الوضّاعين على أهل البيت .
وأمّا دعوى رجوع ابن عباس عن قوله في المتعة فمن أعاجيب الأكاذيب أيضاً . فقد عرفت مذهب ابن عباس وأنّ فقهاء مكة واليمن على مذهبه ، بل في صحيح مسلم باب نكاح المتعة : إنه كان يفتي بها في حكومة عبدالله بن الزبير بمكة وأن ابن الزبير هدّده بالرّجم ... وقال ابن حجر العسقلاني : « روي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة » (6) وقال ابن كثير : « ما رجع ابن عباس عمّا كان يذهب اليه من إباحتها » (7) .
فالعجب من السّعد ؟ إن كان روى حديثاً ورآى محدّثاً فما هذه الأباطيل ؟ وإلاّ فلماذا الدخول في هذه التفاصيل ؟
____________
(1) سنن النسائي 6 | 126 .
(2) المنهاج في شرح مسلم هامش القسطلاني 6 | 130 .
(3) مجمع الزوائد 4 | 265 .
(4) عمدة القاري شرح البخاري ـ كتاب المتعة .
(5) لاحظ : زاد المعاد 2 | 184 تاريخ ابن كثير 4 | 193 فتح الباري 9 | 138 عمدة القاري 17 | 246 إرشاد الساري 6 | 536 .
(6) فتح الباري 9 | 139 .
(7) تاريخ ابن كثير 4 | 193 .

( 237 )

هذا وقد حققنا الموضوع في رسالة منفردة مطبوعة *

جعله الخلافة شورى
قال (284) :
( ومنها : إنه جعل الخلافة شورى بين ستة ... والجواب ... ) .
أقول :
قال العلامة الحلي رحمه الله :
« ومنها : قصّة الشورى ، وقد أبدع فيها أموراً ، فإنّه خرج بها عن الاختيار والنصّ جميعاً وحصرها في ستة ، وذمّ كلّ واحد منهم بأن ذكر فيه طعناً لا يصلح معه للامامة ثم أهّله بعد أن طعن فيه ، وجعل الأمر إلى ستّة ثم إلى أربعة ثم إلى واحد وصفه بالضّعف والقصور ، وقال : إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه ، وإن صاروا ثلاثة وثلاثة فالقول للّذين فيهم عبدالرحمن ، وذلك لعلمه ، بأنّ علياً وعثمان لا يجتمعان ، وأن عبدالرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه وابن عمه ، وأنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخّروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام ، وأنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم أو الذين ليس فيهم عبدالرحمن .
وروى الجمهور إنّ عمر لمّا نظر إليهم قال : قد جاءني كلّ واحد منهم يهزّ عفريته يرجو أن يكون خليفة .
وأمّا أنت يا طلحة أفلست القائل : إن قبض النبي للنكحنّ أزواجه من بعده ، فما جعل الله محمداً أحق ببنات أعمامنا ، فأنزل الله فيك : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً ) .
وأمّا أنت يا زبير فوالله ما لان قلبك يوماً ولا ليلة وما زلت جلفاً جافياً مؤمن الرّضا كافر الغضب ، يوماً شيطان ويوماً رحمان ، شحيح .
____________
* وتجدها أيضاً في هذه المجموعة .
( 238 )

وأمّا أنت يا عثمان لروثة خير منك ، ولئن وليّتها لتحملنّ بني أبي معيط على رقاب الناس ولئن فعلتها لتقتلنّ ، ثلاث مرات .
وأما أنت يا عبدالرحمن فإنّك رجل عاجز تحب قومك جميعاً .
وأمّا أنت يا سعد فصاحب عصبيّة ومقنب وقتال ، لا تقوم بقربة لو حملت أمرها .
وأمر أنت يا علي فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم .
فقام علي مولياً يخرج ، فقال عمر : والله إنّي لأعلم مكان الرجل ، لو وليّتموه أمركم حملكم على المحجة البيضاء ، قالوا : من هو ؟ قال : هذا المولى عنكم ، إن ولّوها الأجلح سلك بكم الطريق المستقيم . قالوا : فما يمنعك من ذلك ؟ قال : ليس إلى ذلك سبيل . قال له ابنه عبدالله : فما يمنعك منه ؟ قال : أكره أن أتحمّلها حياً وميّتاً ، وفي رواية : لا أجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة .
وكيف وصف كلّ واحد بوصف قبيح كما ترى زعم أنه يمنع من الامامة ، ثم جعل الأمر فيمن له تلك الأوصاف ، وأيّ تقليد أعظم من الحصر في ستة ثم تعيين من أختاره عبدالرحمن ، والأمر بضرب رقاب من يخالف منهم ؟
وكيف أمر بضرب أعناقهم أن تأخّروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيّام ؟ ومن المعلوم أنّهم لا يستحقّون ذلك ، لأنّهم إن كلّفوا أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الامام ، فربما طال زمان الاجتهاد وربما نقص ، بحسب ما يعرض فيه من العوارض ، فكيف يسوغ الأمر والقتل إذا تجاوزت الثلاثة ؟ ثم أم بقتل من يخالف الأربعة ، ومن يخالف العدد فيه عبدالرحمن وكل ذلك ممّا لا يستحق به القتل .
ومن العجب اعتذار قاضي القضاء بأنّ المراد القتل إذا تأخّروا على طريق شق العصى وطلبوا الأمر من غير وجهه ، فإنّ هذا مناف لظاهر الخبر ، لأنّهم إذا شقّوا العصى وطلبوا الأمر من غير وجهه أول الأمر وجب قتالهم » (1) .
____________
(1) نهج الحق وكشف الصدق : 285 ـ 288 .
( 239 )

فكم فرق بين هذا وما ذكره السّعد عن لسان أصحابنا ؟ وأيّ جواب يكون له أو لغيره عن هذا الذي ذكره العلامة الحلّي مستند إلى أخبار القوم ورواياتهم ؟
وأمّا ما أرسله هنا من « أنّه لو كان بعد النبي لكان عمر » و« لو لو يبعث فينا نبياً لبعث عمر » فسيأتي الكلام على ذلك ...

قضايا عثمان
قال (285) :
( من مطاعنهم في عثمان : إنّه ولّى أمور المسلمين من ظهر منهم الفسق والفساد ... وأنه صرف أموال بيت المال إلى أقاربه ... وأنه حمى لنفسه ... وأنه أحرق مصحف ابن مسعود وضربه ... وضرب عماراً ... وضرب أباذر ونفاه إلى الربذة ، وأنه ردّ الحكم ... وأنه أسقط القود عن عبيدالله بن عمر ... والجواب ... ) .
أقول :
لم يذكر ممّا نقم على عثمان إلاّ موارد ، وقد قسّم ما ذكره إلى أقسام :
فبعضها : ما لم يكذّبه إلاذ أنّه أجاب عنه بأنّه ( لا يقدح في إمامته ، كظهور الفسق والفساد من ولاة بعض البلاد ، إذ لا إطلاع له على السرائر ، وإنّما عليه الأخذ بالظاهر والعزل عند تحقّق الفسق ... ) .
أقول : فيه اعتراف بظهور الفسق والفساد منولاة بعض البلاد ، ولمّا كان بعضهم من الصحابة ، فقد أذعن بوجود الفسّاق والمفسدين فيهم ، وهذا إبطال لقول من قال بعدالة الصحابة كلّهم ...
وقوله : ( لا اطّلاع له على السرائر وإنما عليه الأخذ بالظاهر والعزل عند تحقق الفسق ) مردود بوجهين :
فأوّلاً : إنّ منهم من كان قد ظهر منه الفسق والفساد سابقاً ... فالوليد بن عقبة هو الذي وصفه الله سبحانه في كتابه بالفاسق في قوله عزّ وجلّ : ( أفمن كان


( 240 )

مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ) (1) فالمؤمن علي والفاسق هو الوليد بن عقبة كما رواه ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والواقدي وابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر من طرق (2) .
ومن المعلوم أن تولية الفاسق قادح في الامامة .
وثانياً : إنّه ـ وإن كان لا اطلاع له على السرائر وإنّما عليه « الأخذ بالظاهر » لكن عليه « العزل عند تحقّق الفسق » كما ذكر ... إلاّ أن عثمان لم يعزل من تحقّقّ عنده الفسق منهم ، وهذا قادح في الامامة . فسعيد بن العاص مثلاُ لم يعزله باختياره عن الكوفة بعد أن بأفعاله ، بل ردّه أميراً على الكوفة وأمره بالتضييق على أهلها ، فلمّا جاء ليدخل الكوفة خرج عليه بالسّلاح فتلّقوه فردّوه ، وكتبوا إلى عثمان : « لا حاجة لنا في سعيدك ولا وليدك » (3) .
وبعضها : ما كذّبه قائلاً : ( وبعضها افتراء محص كصرف ذلك القدر من بين المال إلى أقاربه ، واخذ الحمى لنفسه ، وضرب الصحابة إلى الحدّ المذكور ) .
أقول :
أمّا إنكاره صرف الأموال من بيت المال فلم يعلم أنه ينكر أصل الصرّف أو كونه من بيت المال فيدّعي كونه من ماله الخاص كما زعم ابن روزبهان ؟ وكيف كان ففي رواية المؤرخين المعتمدين عندهم أنه صرفها بيت المال ... فلاحظ : تاريخ الطبري 5 | 49 ، 113 والكامل 3 | 43 ، والمعارف لابن قتيبة : 84 وتاريخ ابن كثير 7 | 152 ، وتاريخ أبي الفداء 1 | 168 والعقد الفريد 3 | 77 والسيرة الحلبيّة 2 | 82 ... فإنّ كانوا مفترين عليه فما ذنبنا ؟
وأمّا إنكاره أخذ الحمى فيردّه تسليم ابن حجر المكي في ( الصواعق )
____________
(1) سورة السجدة : 18 .
(2) الدر المنثور 5 | 177 ـ 178 .
(3) تاريخ الطبري 5 | 94 ، الكامل في التاريخ 3 | 73 ، الاستيعاب ترجمة سعيد بن العاص 2 | 621 .

( 241 )

والحلبي في ( سيرته ) وغيرهما صحّة ذلك الخبر المروي في كتبهم ...
وأمّا إنكاره ضرب الصّحابة إلى الحدّ المذكور فتقييده بـ ( إلى الحدّ المذكور ) يفهم قبوله أصل المطلب ، هذا كاف ، لكن ضرب ابن مسعود إلى حدّ كسر أضلاعه موجود في أخبار القوم وكتبهم ، ولذا قال بعض المتكلّفين بأنّ ضربه كان للتأديب وللإمام ذلك ، وقال آخر : ضربه بعض غلمان عثمان لمّا رأوه يقع فيه ، وكذا ضرب عمّار إلى حدّ الفتق فقد ذكره غير واحد منهم ، بل في رواية ابن عبدالبرّ ذلك مع إضافة حيث قال : « حتى انفتق له فتق في بطنه وكسروا ضلعاً من اضلاعه » بل ظاهر الخبر أنه كان مشرفاً على الموت ففيه : « فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا : والله لئن مات لاقتلنا به أحداً غير عثمان » (1) .
وبعضها : ما لم يكذّبه ولم ينكر قدحه في الامامة فاضطرّ إلى الجواب بقوله : ( وبعضها أجتهاديّات مفوّضة إلى رأى الامام حسب ما يراه من المصلحة كالتأديب والتعزير ، ودرء الحدود والقصاص بالشبهات والتأويلات ) .
أقول :
هل كان مما فوّض إلى رأيه ضرب مثل أبي ذر ونفيه إلى الرّبذة ؟ وهل يسمّى مثل هذا تأديباً وتعزيراً ؟ ولما ذا ؟
روى البلاذري وغيره : « لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم ، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم ، جعل أبوذر يقول : بشّر الكانزين بعذابٍ أليم ، ويتلو قول الله عزّ وجلّ ( والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم ) .
فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ناتلاً مولاه أن أنته عمّا يبلغني عنك . فقال : أينهاني عثمان عن قرائة كتاب الله وعيب من ترك أمر
____________
(1) الاستيعاب ـ ترجمة عمّار 3 | 1135 .
( 242 )

الله ؟! ...
وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال : يا معاوية ، إن كانت هذا الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك ، فهذا الإسراف . فسكت معاوية » .
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث زيد بن وهب قال : « مررت بالربذة فقلت لأبي ذر : أنزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذا الآية : ( الذين يكنزون الذهب والفضّة ) فقال : نزلت في أهل الكتاب فقلت : فينا وفيهم ، فكتب يشكوني إلى عثمان ، فكتب عثمان : أقدم المدينة فقدمت ، فكثر الناس عليّ كأنّهم لم يروني قبل ذلك . فذكر ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحيّت فكنت قريباً . فذلك الذي أنزلني هذا المنزل » .
قال ابن حجر بشرحه : « وفي رواية الطبري : إنهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه الشام ، فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام ... وفي رواية الطبري : تنحّ قريباً . قال : والله لن أدع ما كنت أقوله . ولابن مردويه : لا أدع ما قلت » .
وفي حوادث سنة ثلاثين من تاريخي الطبري وابن الأثير : كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب ذلك امور كثيرة ، من سبّ معاوية إيّاه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع ... أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها ... » .
وعلى الجملة فإنّ نكير سيدنا أبي ذر رضي الله عنه كان موجّهاً إلى معاوية ومروان وعبدالرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وطلحة بن عبيد الله وأمثالهم الذين خضموا على عهد عثمان مال الله خضمة الإبل نبتة الرّبيع ... إلى أن أسكنه عثمان الربذة فما فمات بها ... وقد نصّ على تسيير عثمان أباذر قهراً جمهور المؤرّخين والمحدّثين ، حتى أرسله غير واحد منهم كالشهرستاني في ( الملل والنحل ) والحلبي في ( سيرته ) وابن حجر المكي في ( صواعقه ) ولم ينكره السّعد في الكتاب .
هذا قضية أبي ذر وعلى هذه فقس ما سواها ...


( 243 )

وهل كان ممّا فوّض إلى رأي الامام تعطيل القصاص ؟ وهل يسمّى تعطيله درء له بالشبهة ؟ وما هي الشبهة في قضية عبيدالله بن عمرو والهرمزان ؟
لقد قتل عبيدالله بن عمر الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة وهما مسلمان بلا ذنب أتيا به ، بل أراد ألاّ يترك سبياً بالمدينة إلاّ قتله وأمسك عثمان عن القصاص ، وهذا ممّا أكثر الناس فيه وأعظموه حتى قال أمير المؤمنين عليه السلام له : يا فاسق لئن ظفرت بك يوما لأقتلنّك .
راجع : الطبري 5 | 42 ، الإصابة 3 | 619 ، سنن البيهقي 8 | 61 ، طبقات ابن سعد 5 | 8 ، الكامل 3 | 32 ...
فلو كان في القضية شبهة دارئة لما كان ذلك الموقف من المسلمين ومن أمير المؤمنين عليه السّلام ، حتّى أنّه لّما ولي الأمر تطلّب عبيدالله ليقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، وقتل بصفّين ... كما في الاستيعاب .
ولو كان في القضية شبهة دارئة لما افتعل القوم له المعاذير المختلفة ... كما لا يخفى على من راجع كتب الحديث والكلام ...
هذه قضيّة عبيدالله بن عمر ... وعلى هذه فقس ما سواها .
وبعضها : ما زعم كونه بإذن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : ( وبعضها كان بإذن النبيّ ، كردّ الحكم بن أبي العاص ، على ما روي أنّه ذكر ذلك لأبي بكر وعمر فقالا : إنك شاهد واحد ، فلمّا آل الأمر إليه حكم بعلمه ) .
أقول : لا خلاف في أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعن الحكم وولده وأنه طردهم عن المدينة المنوّرة ... وهذان الأمران موجودان في كافّة المصادر ...
كما أنّ من الثابت أنهم لم يزالوا طرداء حتّى ردّهم عثمان ... هذان الأمران أيضاً موجودان في كافة المصادر ... وفي غير واحد منها : إنه آواه وأعطاه مائة ألف .
كما أنّ المصادر كلّها متّفقة على أنّ ردّ الحكم كان مما نقم على عثمان ... راجع الأنساب 5 | 28 ، والمعارف 84 ومرآة الجنان 1 | 85 والعقد الفريد


( 244 )

2 | 261 وغيرها .
بقي أن نعرف إذن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعثمان بردّ الحكم وإيوائه ، فأين الخبر في ذلك ؟ ومن الذي رواه ؟ يقول السّعد : ( على ما روي ... ) وهو أيضاً لا علم له بالرواية ! بل أخذ هذا الجواب ـ مثل كثير من المواضع ـ من عبد الجبار المعتزلي حيث قال في ( المغني ) : « قد نقل أن عثمان لمّا عوتب على ذلك أنه استأذن رسول الله » لكن المعتزلي أيضاً يقول : « قد نقل » . وقد اعترضه السيّد المرتضى في ( الشافي ) بأنّ هذا لم يسمع من أحد ولا نقل في كتاب ، ولا نعلم من أين نقله ؟ وفي أبي كتاب وجده ؟ فإنّ الناس كلّهم رووا خلافه !
ثم إن أبابكر وعمر لم يردّا عثمان لكونه شاهداً واحداً ، وإنّما ردّاه لأنّهما لم يصدّقاه ، حتى قال له عمر : « ويحك يا عثمان !! » وهذا نصّ الخبر كما رواه الحلبي ، قال : « كان يقال له : طريد رسول الله ولعينه وقد كان طرده إلى الطائف ومكث به مدة رسول الله ومدّة أبي بكر معد أن سأله عثمان في إدخاله المدينة ، فأبي فقال له عثمان : عمي ، فقال : عمّك إلى النار ، هيهات هيهات أن أغيّر شيئاً فعله رسول الله ، والله لا رددته أبداً ، فلمّا توفي أبوبكر وولي عمر كلّمه عثمان في ذلك فقال له : ويحك يا عثمان ! تتكلّم في لعين رسول الله وطريده وعدّو الله وعدوّ رسوله ، فلمّا وليّ عثمان ردّه إلى المدينة ، فاشتدّ ذلك على المهاجرين والأنصار ، فأنكر ذلك عليه أعيان الصحابة ، فكان ذلك من أكبر الأسباب على القيام عليه ... » (1) .
فلو كان هناك إذن من رسول الله حقّاً لعلمه أبوبكر وعمر وأعيان الصحابة من المهاجرين والأنصار ولما قال له : « يحك يا عثمان »؟ ولو كان عند شهادة لما قالوا له : تتكلّم في لعين رسول الله وطريده ... ».
على أنّه قد روي عن عثمان الاعتذار بالقرابة ، قال ابن عبد ربه في ( العقد الفريد ) : « لمّا ردّ عثمان الحكم طريد أبي بكر وعمر إلى المدينة تكلّم
____________
(1) السيرة الحلبية 2 | 85 .
( 245 )

الناس في ذلك ، فقال عثمان : ما ينقم الناس منّي ؟ إني وصلت رحماً وقريّت عيناً » .
وبعد فهنا مطالب :
الأول : إنه من هذه المطالب ونظائرها المستندة إلى كتب أهل السنة وأخبارها يظهر أنّ السّبب في قيام النّاس على عثمان هو مخالفاته للكتاب والسنّة .
والثاني : إن الذين قاموا عليه كانوا من أعيان الصّحابة من المهاجرين والأنصار ، بعد أن نصحوه وذكّروه فلم تنفعه النصيحة ولم يرتدع عن أفعاله القبيحة .
والثالث : إنه لا مجال لحسن الظن بعد هذه التفاصيل ، وكيف يحسن الظن بالصّحابة والحال أنّه لم يكن فيما بينهم أنفسهم حسن الظن ؟

كيفية انعقاد الإمامة لعمر
قال (287) :
( فتشاور الصحابة وجعل الخلافة لعمر وقال لعثمان : أكتب ... وعرضت الصحيفة على جملة الصحابة ... فانعقدت له الامامة بنصّ الامام الحق وإجماع أهل الحل والعقد ... ) .
أقول :
أولاً : ليس في المصادر المعتبرة أن أبابكر استشار الصحابة في جعل الخلافة لعمر .
وثانياً : استخلاف عمر كان ممّا كتبه عثمان من عند نفسه ولم يكن بأمر من أبي بكر ... وهذا ما يذكره المؤرخون قاطبة ، فراجع منهم الطبري 2 | 618 ، نعم ، أقرّ كتابته بعد إفاقته ...
وثالثاً : لم يكن أبوبكر الامام الحق ليعتبر تنصيصه على من بعده .
ورابعاً : لم يتحقق إجماع أهل الحلّ والعقد على إمامة عمر ، فإنّ دخول بعضهم على أبي بكر وقوله له : « ماذا تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظاً غليظاً ؟ »


( 246 )

مشهور . فقد روى ابن سعد عن عائشة قالت : « لمّا حضرت أبابكر الوفاة استخلف عمر ، فدخل عليه علي وطلحة فقالا : من استخلفت ؟ قال عمر ، قالا : فماذا أنت قائل لربّك ؟ ... » (1) ورواه ابن أبي شيبة في ( المصنف ) وأبو يوسف في ( الخراج ) واللفظ : « فقال الناس » وفي رواية جماعةٍ عن أبي بكر أنّ ذلك كان قول المهاجرين كلّهم (2) .
ولو سلّم فلا عبرة به ، إذ الإمامة لا تنعقد إلاّ بنصّ من الله ورسوله .
قال (288) :
( وجعل الخلافة شورى ... )
أقول :
نعم قد عرف عمر حقّ عثمان عليه بكتابة اسمه في الكتاب كما أشرنا ... فعقد الخلافة له من بعده بصورة غير مباشرة ، وذلك قول الامام علي عليه السلام لمّا سمع بذلك للعبّاس : « عدلت عنا ، فقال : ما أعلمك؟ قال : قرن بي عثمان وقال : كونوا مع الأكثر ، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف . فسعد لا يخالف ابن عمه عبدالرحمن وعبدالرحمن صهر عثمان لا يختلفون ، فيولّيها عبدالرحمن عثمان او يولّيها عثمان عبدالرحمن ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني » (3) .
فأنت ترى كيف عقد عمر لأبي بكر ، وعقد أبوبكر لعمر والكاتب عثمان وعقد عمر لعثمان ؟!
لكن بلغت مفاسد عثمان حدّاً حتّى قاطعه عبدالرحمن بن عوف الذي كان
____________
(1) الطبقات الكبرى 3 | 274 .
(2) أنظر : تاريخ الطبري 2 | 617 ، العقد الفريد 4 | 267 ، اعجاز القرآن للباقلاني 184 هامش الانقان ، الفائق للزمخشري 1 | 45 .
(3) تاريخ الطبري 3 | 294 .

( 247 )

عقد الخلافة له على يده (1) وقام عليه المهاجرون والأنصار حتّى كان ما كان .
قال (288) :
( ثم اجتمع الناس بعد ثلاثة أيام على علي ... ) .
أقول :
قد عرفت أنه عليه السلام إمام معصوم منصوص عليه ، فإن انقادت له الناس حصل لهم لطف تصرّفه ... نعم إنّما يحتجّ بالاجماع عليه إلزاماً لمن يرى تحقق الإمامة به ... أمّا أنّ طلحة والزبير « قد صحت توبتهما عن مخالفته »؟ وأنّ فلاناً وفلاناً بايعوه « إلاّ أنّهم استعفوا عن القتال » فهذه أمور ليس للبحث عنها كثير فائدة ... والمهمّ :
1 ـ اعترافه بالاجماع على إمامته .
2 ـ إعترافه بأنّ المخالفين له باغون ، ولا سيّما للحديث : « يا عمّار تقتلك الفئة الباغية » (2) .
3 ـ إعترافه بالحديث : « إنّك تقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين » (3) .
قال (289) :
( إنّ الإمامية يزعمون أنّ الإمام الحق بعد رسول الله علي ثم ابنه الحسن ثم أخوه الحسين ... » .
أقول :
قد عرفت أنّ الإمامة رياسة دينية ودنيوية نيابة عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ... وأنّه لابدّ للمسلمين من إمام يقتدون به في جميع أمورهم الدينية والدنيوية في كل زمان ، ليصح قوله صلّى الله وآله : « من مان ولم يعرف إمام
____________
(1) المعارف : 306 .
(2) حديث متفق عليه .
(3) حيدث متفق عليه .

( 248 )

زمانه مات ميتة جاهليّة » ، فمن أئمة القوم الذين يقتدون بهم ويأخذون منهم معالم ؛ دينهم بعد الخلفاء الأربعة ؟
أمّا الاماميّة فالأئمة عندهم كما ذكر ، ونصّ كلٍ من السابقين على من بعده ثابت بالتواتر عندهم كما لا يخفى على من راجع كتبهم ، لا سيّما المؤلفة منها في ذلك بالخصوص ، مثل ( كفاية الأثر في النص على الأئمّة الاثني عشر ) و ( إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات ) و ( الإشراف على النص على الأئمّة الأشراف ... وهي روايات مروية بالأسانيد المعتبرة عن العترة الطّاهرة ، فقول السّعد : ( والعاقل يتعجب من هذه الروايات والمتواترات التي لا أثر لها في القرون السابقة من أسلافهم . ولا رواية عن العترة الطاهرة ، ومن يوثق بهم من الرواة المحدثين ) جهل أو تجاهل ... كما أن رمي زيد بن علي ـ رضي الله عنه ـ بـ « دعوى الخلافة » افتراء محض ...
ويكفينا من الأخبار الموثوقة عن طريق أهل السنة : حديث : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » فإن من مات في زمن يزيد بن معاوية أو بني مروان أو بني العباس أو سائر الملوك ولم يعرف ملك زمانه ولم يعتقد بامامته فلا يحكم بموته ميتة جاهلية ، فتعيّن أن يكون المراد غيرهم ، وليس إلاّ أئمّه أهل البيت . وحديث « الاثنا عشر خليفة » المتّفق عليه ... فإنّه لا ينطبق إلاّ على ما نذهب إليه وان حاولوا صرفه عن ذلك . وحديث : إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للحسين عليه السلام : « إبني هذا إمام إبن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم » والأحاديث الأخرى الواردة في هذا المعنى ، روى ذلك أبو نعيم الاصفهاني في أربعينه في المهدي والحمويني في فرائد السمطين والخوارزمي في مقتل الحسين 1 | 145 ومحبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى : 136 والكنجي الشافعي في البيان في أخبار الزمان : 90 والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة : 442 وغيرهم من السابقين واللاّحقين .
ويكفينا من الأدلة الأخرى أن العصمة والأفضلية من شروط الامامة ، وهما


( 249 )

مفقودان في غير هؤلاء الأئمّة .
هذا ، ولا يخفى أنّ السّعد قد أراح نفسه هنا من جهتين إحداهما : بيان الأئمّة من بعد الخلفاء الأربعة عند أهل السنة . والثّانية : الكلام مع الامامية فيما يذهبون إليه ، بل اكتفى بقوله : ( والعاقل يتعجب ... ) .

مبحث الأفضلية
قال (291) :
( لمّا ذهب معظم أهل السنة وكثير من الفرق إلى أنّه يتعيّن للإمامة أفضل العصر إلاّ كان في نصبه مرج وهيجان فتن احتاجوا إلى بحث الأفضلية ، فقال أهل السنة : الأفضل أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، وقد مال البعض منهم إلى تفضيل علي على عثمان ... ) .
أقول :
قد اضطربت كلمات القوم في كبرى هذا المقام وصغراه ... لأنهم إن أنكروا الكبرى فقد أنكروا الكتاب والسنّة ودلالة العقل ، وإن التزموا بها ـ ولابدّ من ذلك ـ وقعوا في حيص بيص من ناحية الصغرى لاستحالة إثبات أفضلية أبي بكر ـ فضلاَ ، عمن بعده ـ على أمير المؤمنين عليه السلام . وفي الصّغرى اختلفوا في التفضيل بين علي وعثمان على ثلاثة أقوال أشار إليها السّعد ولم يذكر القول الرّابع ، قول المؤمنين لأهل الحق في أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام من أبي بكر ومن بعده ... وسندكره .
وكذلك السّعد اضطربت كلماته ، ففي المتن يقول : ( الأفضلية عندنا بترتيب الخلافة مع تردد فيما بني عثمان وعلي ) ويقول في الشرح : ( لا قاطع شاهد من العقل على تفضيل بعض الأئمّة على البعض والأخبار الواردة على فضائلهم متعارضة ، لكن الغالب على الظن أن أبابكر أفضل ثم عمر ، ثم تتعارض الظنون في عثمان وعلي ) والفرق بين العبارتين واضح جداً .