قال (300 ـ 301) :
( ما ذكر من أفضلية بعض الأفراد بحسب التعيين أمر ذهب اليه الأئمّة ، وقامت عليه الأدلّة ، قال الامام الغزالي : حقيقة الفضل ما هو عندالله ، وذلك ممّا لا يطّلع عليه إلاّ رسول الله ) .
أقول :
إنّ الفضائل منها : نفسانيّة كالعصمة والأعلميّة ومنها : بدنيّة كالشجاعة ونحوها ، ومنها : خارجيّة كشرف الزوجة والأبناء مثلاً ... أمّا البدنيّة والخارجية فذلك ممّا يطّلع عليه جميع الناس ، وأمّا النفسانية فلا يطّلع عليها إلاّ رسول الله كما قال الغزالي وأقرّه السّعد ، ومن هنا قلنا باشتراط النصّ ، لأن من شرائط الإمامة العصمة والأعلميّة ، وهذان لا يطّلع عليهما إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلا بدّ من النصّ .
وقد عرفت أن لا نصّ إلاّ على علي عليه السّلام ...
قال (301) :
( وقد ورد في الثناء عليهم أخبار كثيرة ... فلو لا فهم ذلك لما رتّبوا الأمر كذلك ... ) .
أقول :
قد عرفت حال ما رووه في الثناء على المتقدّمين على علي عليه السلام ، وأمّا ترتيب الخلافة على ما وقع فليس به آية ولا رواية ولا إجماع ... وقد عرفت ... وحسن الظنّ بالصّحابة لا يجدي بعد أن ثبت وجود الفسّاق والمنافقين فيهم بكثرة كما اعترف به السّعد وغيره .
قال (301) :
( فقد ورد النّص بأنّ فاطمة ... ) .
أقول :
وأمّا فاطمة الزهراء عليها السّلام فقد اعترف بأنّه « قد ثبت أنّ فاطمة


( 272 )

الزهراء سيدة نساء العالمين » لكن ليس هذا وحده ما ثبت من فضائلها ، فإنّ من جلائل فضائلها قول والدها فيها : « فاطمة بضعة منّي فمن آذاها آذاني ومن آذاني آذى الله » فإنّ هذا الحديث يدلّ على عصمتها فتكون بذلك أفضل الناس بعد أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد أنصف الحافظ أبو القاسم السهيلي حيث قال بدلالة الحديث المذكور على أفضليتها من أبي بكر وعمر ، كما نقل عنه المناوي ذلك وأقرّه بشرح الحديث في ( فيض القدير ) .
قال (301) :
( وأنّ الحسن والحسين ... ) .
أقول :
فضائل الحسنين عليهما السلام لا تعدّ ولا تحصى ، ومن تأمّل فيها وأنصف حكم بكونهما أفضل الخلائق بعد والديهما ... كيف لا وهما إمامان معصومان بنصّ الكتاب والسنّة المعتبرة .
قال (301) :
( وأنّ أهل بيعة الرضوان ... من أهل الجنّة ) .
أقول :
من شهد ذلك وقتل في سبيل الله فمن أهل الجنة بلا كلام . ومن شهدها ومات بعد ذلك في حياة الرسول فالظاهر كونه من أهل الجنّة ايضاً . ومن بقي منهم بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان حكمه حكم وغيره ، فإنّه إن حفظ وصيّة رسول الله وعمل بها في اتّباع الكتاب والعترة كان من أهل الجنّة وإلاّ فلا .
وعلى الجملة فمن آمن بالله ورسوله وعمل الصالحات ومضى إلى ربه على هذه الحال فهو من أهل الجنة ، والآيات القرآنية الصريحة في هذا المعنى كثيرة جداً .
قال (301) :
( وحديث بشارة العشرة ... ) .


( 273 )

أقول :
وكذلك الكلام هنا ... ثم إنّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة كما في الحديث الذي اعترف به ، فمن كان من أهل الجنة كانا سيّدين له ، ومن المعلوم كونهما أفضل حينئذٍ من سائر أهل الجنّة ، وأبوهما أمير المؤمنين عليه السلام أفضل منهما بالاجماع فهو أفضل أهل الجنّة بالأولويّة القطعيّة .
وحديث العشرة المبشرّة لا يروونه إلاّ عن عبدالرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وكلاهما من العشرة!
قال (301) :
( تطابق الكتاب والسنّة والإجماع على أنّ الفضل للعلم والتقوى ) .
أقول :
نعم الفضل للعلم والتقوى ، كتاباً وسنة وإجماعا ، ولا ريب في أنّ الأعلم والأتقى هو الأفضل ، فهو المتعيّن للإمامة والخلافة ... وقد ثبت أنّه الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام .
قال (302) :
( فإن قيل : قال الله تعالى : ( انما يريد الله ... ) وقال النبّي : إنّي تركت فيكم ... ومثل هذا يشعر بفضلهم على العالم وغيره ، قلنا : نعم ... ) .
أقول :
قد ثبت بالأحاديث المعتبرة أنّ المراد من « أهل البيت » في قوله تعالى : ( انما يريد الله ... ) هم الخمسة الطّاهرة ، حتى أنّ أم سلمة استأذنت في الدخول معهم فلم يأذن لها رسول الله وقال : إنّك إلى خير ... وإذهاب الرّجس مطلقاً دليل على العصمة ، فكان الخمسة معصومين بالآية المباركة .
ومن كان معصوماً كان أفضل ، ومن كان الأفضل كان الامام دون غيره .
وثبت أيضاً : أن المراد من « عترتي أهل بيتي » في الحديث هم الأئمة الإثنا عشر ، لأنّ الأمر المطلق بالتمسّك والإتباع والأخذ يستلزم عصمة المتبوع


( 274 )

والمقتدى ، كما ذكر الفخر الرازي وغيره في قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم ) ونظائر ذلك . ولأنّ الذين لا يفارقون القرآن ، بل يكونون معه ويكون معهم هو الأئمة المعصومون .
وفي هذا الحديث دلالة على بقاء الأئمة من العترة مادام القرآن باقياً ، ليكون حافظاً له من التّغيير ، مبيّناً لما احتاج منه إلى البيان والتفسير ...
ومن كان معصوماً كان أفضل النّاس علماً وعملاً ...
فظهر أنّ الآية المباركة والحديث دليلان آخران على أفضلية الأئمة من العترة الطاهرة ، والحديث المذكور أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وأحمد والحاكم وغيرهم من الأئمة ، بل هو من الأحاديث المتواترة المقطوع بصدورها عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم .

حول الصحابة
قال (303) :
( يجب تعظيم الصّحابة والكف عن مطاعنهم وحمل ما يوجب بظاهرة الطعن فيهم على محامل ... وللروافض سيّما الغلاة منهم مبالغات في بغض البعض من الصّحابة ... ) .
أقول :
لابدّ أوّلاً من تعريف الصّحابي ، فقد اختلفت كلماتهم في تعريفه ، والذي يهمّنا هنا معرفة رأي السّعد :
قال ابن الحاجب : « الصّحابي من رأي النّبي عليه الصّلاة والسّلام وإن لم يرو ولم تطل » .
فقال العضد بشرحه : « قد اختلف في الصحابي فقيل : من رأى الرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يرو عنه حديثاً ولم تطل صحبته له ، وقيل ... » (1) .
____________
(1) شرح المختصر 2 | 67 .
( 275 )

فالمختار عند الماتن والشارح هو القول الأول .
ووافقهما السّعد في الحاشية وهذه عبارته :
« قوله : الصحابي من رآه ، أي مسلم راي النبي ، يعني صحبه ولو أعمى ، وفي بعض الشروح ، أي رأه النبي عليه الصلاة والسلام » (1) .
فالصحابي : من رأى النبي مسلماً أو رآه النبي .
هذا هو الموضوع . والحكم : وجوب تعظيم الصّحابة كلهم والكفّ عن مطاعنهم وحمل ما يوجب ...
فالحاصل : وجوب تعظيم كلّ مسلم رأى النبيّ أو رآه النبي ، والكف عن مطاعنه ...
فهل يرتضي هذا أحد؟ وما الدليل عليه؟
وكيف يقول السّعد هذا ؟ وسيصرّح في 310 بالعبارة التالية :
( إنّ ما وقع بين الصّحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ ، والمذكور على ألسنة الثقات ، يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن الطريق الحق ، وبلغ حدّ الظلم والفسق ، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد ، وطلب الملك والرياسة ، والميل إلى اللذات والشهودات ، إذ ليس كلّ صحابي معصوماً ولا كلّ من لقي النّبي بالخير موسوماً ... ) .
كيف يقول هنا : يجب تعظيم الصحابي ـ أي كلّ من لقي النبي ـ ... ويقول هناك : « ليس كل صحابي معصوماً ولا كل من لقي النبي بالخير موسوماً »؟
أللهمّ إلاّ أن يقال : كلامه هنا عام وقد خصّصه كلامه ذاك ، فيكون حكم ما ذكره هنا حكم ما ورد كتاباً وسنةً في مدح الأصحاب عموماً ، فإنّ الله تعالى والنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يأمران بحبّ من حاد عن الطريق الحق وبلغ حدّ الظلم والفسق ... بل الحكم الشرعي هو الاجتناب والتبرّي عن هكذا
____________
(1) شرح المختصر 2 | 67 .
( 276 )

أشخاص .
هذا مقتضى التحقيق الحقيق بالقبول والتصديق .
وعلى الجملة ، فإنّ من الأصحاب من لا يجوز تعظيمه والاقتداء به ، ومنهم من يجب تعظيمه وتكرمه ، وهذا القسم هوالذي يحمل ما يوجب بظاهره الطعن منهم على محامل وتأويلات ... كما هوالحال بالنّسبة إلى سائر المسلمين ...
قال (305) :
( أمّا توقف عليّ في بيعة أبي بكر فيحمل على أنه لما أصابه من الكآبة والحزن بفقد رسول الله ... ) .
أقول :
هذا حمل باطل ، فإنّه عليه السّلام قد أصابه بفقد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكآبة والحزن ما لا يوصف ، ولكنّ ذلك ما كان بحيث يكون مانعاً له عن الحضور للبيعة مدة ستة أشهر لو كان يرى أبابكر إمام حق ... وهويعلم بأنّ من بات وليس في عنقه بيعة إمام فمات مات ميتة جاهلية! ولو سلّم أن المانع له ذلك فلم لم يأمر قومه وأتباعه وزوجته بالبيعة؟
إنّ هذا الحمل باطل ، بل الأدلّة والشواهد من الخطبة الشقشقيّة وغيرها دالة على خلافة ... وقد تقدم في الكتاب طرف من ذلك ...
قال (306) :
( بل لأنّه تركهم واختيارهم من غير إلزام ... ) .
أقول :
ما الداعي لتوجيه تخلّف الجماعة عن بيعة أمير المؤمنين عليه السّلام؟ وكيف يلتئم هذا التوجيه مع ما ثبت عن بعضهم م الندم على المخلّف عن البيعة والقتال مع الامام؟
وهل يكون ترك الإلزام من الامام عليه السّلام عذراً لترك الواجب بحكم الاسلام؟ ثمّ لينظركم فرق بين إمامة أمير المؤمنين الذين ترك الإلزام ، وإمامة الذين


( 277 )

هدّدوا آل رسول الله بتحريق دارهم على من فيها؟
قال (308) :
( وما ذهب إليه الشيعة من أن محاربي علي كفرة ... فمن اجتراءاتهم وجهالاتهم ... ) .
أقول :
قال شيخنا أبو جعفر الطوسي المتوفى سنة 460 : « فصل في أحكام محاربي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والقاعدين عن نصرته عليه السلام : عندنا أن من حارب أمير المؤمنين وضرب وجه ووجه أصحابه بالسيف كافر ، والدليل المعتمد في ذلك : اجماع الفرقة المحقة من الإماميّة على ذلك ، فإنهم لايختلفون في هذه المسألة على حالٍ من الأحوال ، وقد دلّلنا علىأن إجماعهم حجة فيما تقدم .
وأيضاَ : فنحن نعلم أن من حاربه كان منكراً لامامته ودافعاً لها ، ودفع الامامة كفر ، كما أنّ دفع النبوة كفر ، لأنّ الجهل بهما على حدٍ واحد ، وقد روي عن النّبي أنه قال : من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية . وميتة الجاهلية لا تكون إلاّ على كفر .
وأيضاَ : روي عنه أنه قال : حربك يا علي حربي وسلمك يا علي سلمي ، ومعلوم أنه إنما أراد أن أحكام حربك تماثل أحكام حربي ، ولم يرد أن إحدى الحربين هي الأخرى ، لأن المعلوم ضرورة خلاف ذلك ، وإذا كان حرب النّبي كفراً وجب مثل ذلك في حرب أمير المؤمنين ، لأنه جعله مثل حربه .
ويدلّ على ذلك أيضاَ : قوله أللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، ونحن نعلم أنه لا تجب عداوة أحد بالاطلاق إلاّ عداوة الكفار .
وأيضاً : فنحن نعلم أن من كان يقاتله يتحل دمه ويتقّرب إلى الله بذلك ، واستحلال دم امرئ مسلم كفر بالاجماع ، وهوأعظم من استحلال جرعة من الخمر الذي هو كفر بالاتفاق ... » (1) .
____________
(1) تلخيص الشافي 4 | 131 ـ 133 .
( 278 )

قال ( 310) :
( فان قيل : يزعمون ... قلنا : مقاولتهم ومخاشنتهم في الكلام كانت محض نسبة إلى الخطأ ... وبالجملة فلم يقصدوا إلاّ الخير والصّلاح في الدين ... ) .
أقول :
إذا كان يحسن الظن بأصحاب الجمل وأهل صفّين وغيرهم ، ويحمل أعمالهم ـ حتى المقاتلة فضلاً عن اللعن والتّفضليل ـ على الصحة ... فمن البعض الذي نصّ بعد هذه العبارة على أنّه « قد حاد عن طريق الحق وبلغ حدّ الظلم والفسق ، وكان الباعث له الحقد والعناد ... » .
قال (311) :
( فان قيل : فمن علماء المذهب من لم يجوّز اللعن على يزيد مع علمهم بأنّه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد . قلنا : تحامياً عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى ... وإلاّ فمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق؟ ... ) .
أقول :
هذا توجيه لما ذهب إليه بعض النواصب ، لكنّ مقتضى مذهب أهل السنة القائلين بإمامة من تغلّب بالجور والقهر ، وبعدم جواز عزل الحاكم وإن ظلم أو فسق ... هو المنع من لعن يزيد ...
ثم إنّ الأعلى كائناً من كان إن كان مستحقا للّعن فهو ملعون مثل يزيد ، وان كان له دخل في تمكّن يزيد من رقاب المسلمين وتسلّطه على أهل بيت سيّد المرسلين ، فهو شريك في جميع ما فعله نغل معاوية اللعين ... فيستحق ما يستحقّه ... وإنّ الحق يقال على كلّ حال ...

الخاتمة في المهدي
قال (312) :


( 279 )

( ممّا يلحق بباب الامامة بحث خروج المهدي ... ) .
أقول :
ليس بحث المهدي وخروجه ممّا يلحق بباب الامامة ، بل إنه من صلب باب الامامة ، فإنّه الإمام الثاني عشر المنصوص عليه من النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، والأحاديث به متواترة والاعتقاد به من ضرورّيات الدين ، فمن أنكره عدّ من المرتدّين .
قال (313) :
( وزعمت الامامية من الشيعة أن محمّد بن الحسن العسكري اختفى عن الناس خوفاً من الأعداء ، ولا استحاله في طول عمره كنوح ولقمان والخضر عليهم السلام .
وأنكر ذلك سائر الفرق ، لأنه ادعاء أمر يستبعد جداً ... ) .
أقول :
المهدي من هذه الأمّة ، ومن قريش ، ومن العترة النبوية ، ومن ولد فاطمة عليها السلام كما في الأحاديث الكثيرة التي أورد بعضها في الكتاب ...
ثم إنّه من ولد الحسين بن علي عليهما السلام كما في الأحاديث الكثيرة أيضاً المتفق عليها بين الفريقين ... منها أنّه لمّا أخبر به سأله سلمان : « من أيّ ولدك يا رسول الله ؟ قال : من ولدي هذا . وضرب بيده على الحسين » (1) .
ثم إنّ مقتضى الأحاديث الصّحيحة المتفق عليها وجود المهدي عليه السلام ، وهي طوائف :
1 ـ ما جاء في أنّ من مات بغير إمام ما ميتة جاهليّة . وقد تقدّم ذكره في الكتاب ببعض ألفاظه ، وقد أرسله السّعد إرسال المسّلمات .
2 ـ ما جاء في أنّ الأئمة بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أثنا عشر . وقد
____________
(1) دخائر العقبى في مناقب ذوي القربى : 136 .
( 280 )

تقدّم في الكتاب ذكره كذلك .
3 ـ ما جاء في أنّ الحسين عليه السلام إمام أخو إمام أبو أئمّة تسعة . وقد تقدّم في الكتاب إشارة إليه كذلك .
وهذا هو الحق الثابت عند أهله ، وأخبارهم وآثارهم به متواترة قطعية .
ثمّ إنّ السعد لا ينكر ولادة الامام المهدي ابن الحسن العسكري عليه السلام ، وبولادته صرّح كثير من علماء أهل السنة من محدثين ومؤرخين وفقهاء وعرفاء ، كالحافظ أحمد بن محمّد البلاذري ، وابن الازرق المؤرخ ، والحافظ أبي بكر البيهقي ، وابن الوردي ، وصلاح الدين الصّفدي ، وكمال الدين ابن طلحة الشافعي ، وسبط ابن الجوزي الحنفي ، ونور الدين ابن الصبّاغ المالكي ، وصدر الدّين الحمويني ، وابن حجر المكي ، وابن عربي ، وعبدالوهّاب الشّعراني ... وغيرهم ... وكلمات الجميع مدوّنة في الكتب المؤلّفة في أخبار المهدي التي تعدّ بالمئات ...
وقد صرّح غير واحد منهم باختفائه عن الناس ، كابن حجر المكي الشافعي والقندوزي الحنفي كما في ( ينابيع المودّة ) وابن الصبّاغ المالكي في ( الفصول المهمّة ) ...
فالمهدي ـ وهو ابن الحسن العسكري ـ مولود موجود ، والسّعد ليس من المنكرين ، وإنّما قال :
( لأنّه ادعاء أمر يستبعد جداً ... ) .
وقال :
( ولأن اختفاء إمام هذا القدر من الأنام بحيث لا يذكر منه إلاّ الاسم بعيد جداً ) .
وفيه : أولاً : إنّه ليس بحيث لا يذكر منه إلاّ الاسم ، فإنّ أوليائه بوجوده ينتفعون وبنور هدايته يستضيئون ، وما يدري السّعد ! وثانياً : إنّ المراد من الاختفاء هو عدم العلم بشخصه ومكانه ، وإلاّ فإنّه يتجوّل في البلاد ويحضر


( 281 )

الموسم ، بخدمه وحشمه ... وثالثاً : إنّ الاستبعاد المجرّد لأمر يرتفع بمجرّد وقوع نظير له في الوجود ، فكيف ، والنظائر كثيرة لا تحصر؟
قال :
( ولأنّ بعثه مع هذا الاختفاء عبث ... ) .
أقول :
هذا اعتراض على الله سبحانه ـ وإلاّ فإنّ نظائره بين الأنبياء كثيرون ...
قال : ( ولو سلّم فكان ينبغي أن يكون ظاهراً ... ) .
أقول :
صحيح أنّ الانتفاع الكامل به يكون إذا كان ظاهراً ، ولكن الانتفاع به حال كونه مختفياً يعلمه أهله ولكن غيرهم لا يشعرون ...
قال :
( فما يقال : إن عيسى يقتدي بالمهدي أو بالعكس شيء لا مستند له ، فلا ينبغي أن يعوّل عليه ) .
أقول :
هذا إنكار للحديث المتفق عليه الصريح في أنّ عيسى عليه السلام يصلّي خلفه ، ولعلّ الوجه لعدم التعويل عليه كلامه بعد ذلك :
قال :
( نعم هو وإن كان حينئذٍ من أتباع ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فليس منعزلاً عن النبوة ، فلا محالة يكون أفضل من الامام ، إذ غاية علماء الأمّة الشبه بأنبياء بني إسرائيل ) .
أقول :
إنّ البحث عن المهدي عليه السلام وأخباره يستوعب كتباً عديدة ، ونحن نتعرّض باختصار لبعض ما ورد في خصوص أن عيسى عليه السلام يقتدي به في الصلاة . ليتبينّ أن ما ذكره السعد هنا جهل أو تعصّب فنقول :


( 282 )

أخرج البخاري ومسلم ، كلاهما في باب نزول عيسى ، عن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم » .
وأخرجه ابن ماجة عن أبي أمامة الباهلي .
والحاكم عن أبي نضرة وصححه على شرط مسلم .
وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبدالله .
وهو عند غيرهم عن غير واحدٍ من الصحابة .
والحديث بذلك متواتر كما نصّ عليه بعض الأعلام ، فلاحظ : الصواعق المحرقة 99 حيث ذكر ذلك وأضاف : « إن المهدي يصلي بعيسى هو الذي دلّت عليه الأحاديث » .
وقال الحافظ السيوطي رداً على من أنكر ذلك :
« هذا من أعجب العجب ، فإنّ صلاة عيسى خلف المهدي ثابتة في عدّة أحاديث صحيحة ، بإخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدّق الذي لا يخلف خبره ... » راجع : الحاوي للفتاوي 2 | 167 .
أللهمّ ثبّتنا على القول بإمامته وإمامته وإمامة آبائه الطاهرين وشريعة سيد المرسلين ، ووفّقنا لما تحبّه وترضاه يوم الدين ، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم يا أرحم الرّاحمين ، وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين والحمد لله ربّ العالمين .


( 283 )

رسالة
في صلاة أبي بكرٍ


( 284 )


( 285 )


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنه الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين .
وبعد ...
فهذه رسالة وجيزه تناولت فيها خبر : أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر في أيّام مرض موته أبابكر بالصلاة بالمسلمين ، وأنّه خرج إلى المسجد وصلّى خلفه معهم ... بالبحث والتحقيق ، وإنّه بذلك لحقيق :
لتعلّقه بأحوال النبّي صلّى الله عليه وآله وسيرته المباركة ...
ولتمسّك بالقائلين بخلافة أبي بكر من بعده به ...
وللأحكام الشرعية والمسائل الاعتقادية المستفادة منه ...
ولأمور غير ذلك ...
لقد بحثت عن الخبر من أهمّ نواحيه ، وسبرت ما قيل فيه ، وتوصّلت على ضوء ذلك إلى واقع الحال ... وحقّ المقال ...
فإلى أهل التحقيق والفضل ... هذا البحث غير المسبوق ولا المطروق من


( 286 )

قبل ، أرجو أن ينظروا فيه بعين الإنصاف ... بعيداً عن التعصّب والاعتساف .. وما توفيقي إلاّ بالله .

* * *


( 287 )


(1)
أسانيد الحديث ونصوصه

لقد أتفّق المحدّثون كلّهم على إخراج هذا الحديث ، فلم يخل منه ( صحيح ) ولا ( مسند ) ولا ( معجم ) ... لكنّا اقتصرنا هنا على ما أخرجه أرباب ( الصحّاح الستّة ) وما أخرجه أحمد بن حنبل في ( المسند ) ... لكون ما جاء في هذه الكتب هو الأتمّ لفظاً والأقوى سنداً ، فإذا عرف حاله عرف حال غيره ، ولم تكن حاجة إلى التطويل بذكره ...

الموطّأ :
جاء في ( الموطّأ ) : « وحدّثني عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم خرج في مرضه فأتى فوجد أبابكر وهو قائم يصلّى بالناس ، فاستأخر أبوبكر فأشار إليه رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم أن كما أنت ؛ فجلس رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم إلى جنب أبي بكر ، فكان أبوبكر يصلّي بصلاة رسول الله عليه [ وآله ] وسلّم وهو جالس ، وكان الناس يصلّون بصلاة أبي بكر » (1) .

صحيح البخاري :
وأخرجه البخاري في مواضع كثيرة من ( صحيحة ) منها ما يلي :
1 ـ حدّثنا عمر بن حفص بن غياث ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، قال الأسود : قال : كنّا عند عائشة فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها : فقالت :
____________
(1) الموطّأ ـ بشرح السيوطي ـ 1 | 156 ، وفي طبعة محمّد فؤاد عبدالباقي 1 | 136 .
( 288 )

« لمّا مرض رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن، فقال : مروا أبابكر فليصلّ بالناس . فقيل له : إنّ أبابكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلّى بالناس ؛ وأعاد فأعادوا له ، فأعاد الثالثة ، فقال : إنّكنّ صواحب يوسف ! مروا أبابكر فليصلّ بالناس .
فخرج أبوبكر فصلّى ، فوجد النّبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم من نفسه خفّةً ، فخرج يهادي بين رجلين ، كأنّي أنظر رجليه تخطّان من الوجع ، فأراد أبوبكر أن يتأخر ، فأومأ إليه النّبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم أن مكانك .
ثم أتي به حتّى جلس إلى جنبه .
قيل للأعمش : وكان النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم يصلّي وأبوبكر يصلّي بصلاته والناس يصلّون بصلاة أبي بكر ؟ فقال برأسه : نعم .
قيل للأعمش : وكان النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم يصلّي وأبوبكر يصلّي بصلاته والناس يصلّون بصلاة أبي بكر ؟ فقال برأسه : نعم .
رواه أبو داود (1) عن شعبة عن الأعمش بعضه . وزاد أبو معاوية : جلس عن يسار أبي بكر ، فكان أبوبكر يصلّي قائماً » (2) .
2 ـ حدّثنا يحيى بن سليمان ، قال : حدّثنا ابن وهب ، قال : حدّثني يونس ، عن ابن شهاب ، عن حمزة بن عبدالله أنّه أخبره عن أبيه ، قال : « لمّا اشتدّ برسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وجعه قيل له في الصلاة! فقال : مروا أبابكر فليصلّ بالناس .
قالت عائشة : إنّ أبابكر رجل رقيق ، إذا قرأ غلبه البكاء .
قال مروه فيصلّي . فعاودته .
قال : مروه فيصلّي ، إنّكنّ صواحب يوسف» (3) .
3 ـ حدّثنا زكريّا بن يحيى ، قال : حدّثنا ابن نمير ، قال : أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : قالت : « أمر رسول الله صلّى الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم
____________
(1) هو أبو داود الطيالسي .
(2) صحيح البخاري ـ بشرح ابن حجر ـ 2 | 120 باب حدّ المريض أن يشهد الجماعة .
(3) صحيح البخاري ـ بشرح ابن حجر ـ 2 | 130 باب : أهل العلم والفضل أحقّ بالإمامة .

( 289 )

أن يصلّي بالناس في مرضه ، فكان يصلّي بهم .
قال عروة : فوجد رسول الله صلّى الله عليه و[ وآله ] وسلّم نفسه خفّةً ، فخرج فإذا أبوبكر يؤمّ الناس ، فلمّا رآه أبوبكر استأخر فأشار إليه أن كما أنت .
فجلس رسول الله حذاء أبي بكر إلى جنبه ، فكان أبوبكر يصلّي بصلاة رسول الله صلّى الله عليه و[ وآله ] وسلّم والناس يصلّون بصلاة أبي بكر » (1) .
4 ـ حدّثنا إسحاق بن نصر ، قال : حدّثنا حسين ، عن زائدة ، عن عبدالملك بن عمير ، قال : حدّثني أبو بردة ، عن أبي موسى ، قال : « مرض النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فاشتدّ مرضه فقال : مروا أبابكر فليصلّ بالناس .
قالت عائشة : إنّه رجل رقيق ، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلّى بالناس! .
قال : مروا أبابكر فليصلّ بالناس ، فعادت .
فقال : مري أبابكر فليصلّ بالناس فإنّكنّ صواحب يوسف .
فأتاه الرسول فصلّى بالناس في حياة النبّي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم » (2) .
5 ـ حدّثنا عبدالله بن يوسف ، قال : أخبرنا مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين أنّها قالت : « إنّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قال في مرضه : مروا أبابكر يصلّي بالناس .
قالت : عائشة : قلت : إنّ أبابكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ! فمر عمر فليصلّ للناس .
فقالت عائشة : فقلت : لحفصة قولي له : إن أبابكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصلّ للناس . ففعلت حفصة .
فقال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم : صه ، إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف ، مروا أبابكر فليصلّ للناس .
____________
(1) صحيح البخاري ـ بشرح ابن حجر ـ 2 | 132 باب من قام إلى جنب الإمام لعلّةٍ .
(2) صحيح البخاري ـ بشرح ابن حجر ـ 2 | 130 .

( 290 )

فقالت : حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك خيراً » (1) .
6 ـ حدّثنا أحمد بن يونس ، قال : حدّثنا زائدة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ، قال : « دخلت على عائشة فقلت : ألا تحدّثيني عن مرض رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ؟
قلت : بلى ، ثقل النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فقال : أصلّى الناس ؟ قلنا : لا ، هم ينتظرونك .
قال : ضعوا لي ماءً في المخضب ، قالت : ففعلنا فاغتسل ، فذهب لينوء فأغمي عليه .
ثمّ أفاق ، أصلّى الناس؟ قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله .
فقال : ضعوا لي ماءً في المخضب ، فقعد فاغتسل ، ثمّ ذهب لينوء فاغمي عليه .
ثمّ أفاق فقال : أصلّى الناس؟ فقلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم لصلاة العشاء الآخرة .
فأرسل النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم إلى أبي بكر بأن يصلّي بالناس ، فأتاه الرسول فقال : إنّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم يأمرك أن تصلّي بالناس . فقال أبوبكر ـ وكان رجلاً رقيقاً ـ : يا عمر ، صلّ بالناس . فقال له عمر : أنت أحقّ بذلك . فصلّى أبوبكر تلك الأيام .
ثمّ إنّ النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وجد من نفسه خفّةً ، فخرج بين
____________
(1) صحيح البخاري ـ بشرح ابن حجر ـ 2 | 130 .