الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 16 ـ 30
(16)
النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنه قال : [ كل امر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو ابتر الحديث ]. والابتر هو المنقطع الآخر ، فالانسب ان متعلق الباء في البسملة ابتدئ بالمعنى الذي ذكرناه فقد ابتدء بها الكلام بما انه فعل من الافعال ، فلا محالة له وحدة ، ووحدة الكلام بوحدة مدلوله ومعناه ، فلا محالة له معنى ذا وحدة ، وهو المعنى المقصود افهامه من إلقاء الكلام ، والغرض المحصل منه.
    وقد ذكر الله سبحانه الغرض المحصل من كلامه الذي هو جملة القرآن إذ قال تعالى : « قد جائكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله الآية » المائدة ـ 16. إلى غير ذلك من الآيات التي أفاد فيها : ان الغاية من كتابه وكلام هداية العباد ، فالهداية جملة هي المبتدئة باسم الله الرحمن الرحيم ، فهو الله الذي إليه مرجع العباد ، وهو الرحمن يبين لعباده سبيل رحمته العامة للمؤمن والكافر ، مما فيه خيرهم في وجودهم وحياتهم ، وهو الرحيم يبين لهم سبيل رحمته الخاصة بالمؤمنين وهو سعادة آخرتهم ولقاء ربهم وقد قال تعالى : « ورحمتي وسعت كلشئ وفسأكتبها للذين يتقون ». الاعراف ـ 156. فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن.
    ثم إنه سبحانه كرر ذكر السورة في كلامه كثيرا كقوله تعالى : « فأتوا بسورة مثله » يونس ـ 38. وقوله : « فأتوا بعشر سور مثله مفتريات » هود ـ 13. وقوله تعالى : « إذا أنزلت سورة » التوبة ـ 86. وقوله : « سورة انزلناها وفرضناها » النور ـ 1. فبان لنا من ذلك : أن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه ( التي فصلها قطعا قطعا ، وسمى كل قطعة سورة ) نوعا من وحدة التأليف والتمام ، لا يوجد بين أبعاض من سورة ولا بين سورة وسورة ، ومن هنا نعلم : أن الاغراض والمقاصد المحصلة من السور مختلفة ، وأن كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص ولغرض محصل لا تتم السورة إلا بتمامه ، وعلي هذا فالبسملة في مبتدإ كل سورة راجعة إلى الغرض الخاص من تلك السورة.
    فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة و المعنى المحصل منه ، والغرض الذي يدل عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله باظهار العبودية له سبحانه بالافصاح


(17)
عن العبادة والاستعانة وسؤال الهداية ، فهو كلام يتكلم به الله سبحانه نيابة عن العبد ، ليكون متأدبا في مقام اظهار العبودية بما أدبه الله به.
    وإظهار العبودية من العبد هو العمل الذى يتلبس به العبد ، والامر ذو البال الذي يقدم عليه ، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه ، فالمعنى بإسمك أظهر لك العبودية.
    فمتعلق الباء في بسملة الحمد الابتداء ويراد به تتميم الاخلاص في مقام العبودية بالتخاطب. وربما يقال انه الاستعانة ولا بأس به ولكن الابتداء انسب لاشتمال السورة على الاستعانة صريحا في قوله تعالى : « واياك نستعين ».
    وأما الاسم ، فهو اللفظ الدال على المسمى مشتق من السمة بمعنى العلامة أو من السمو بمعنى الرفعة وكيف كان فالذي يعرفه منه اللغة والعرف هو اللفظ الدال ويستلزم ذلك ، أن يكون غير المسمى ، وأما الاسلام بمعنى الذات مأخوذا بوصف من أوصافه فهو من الاعيان لامن الالفاظ وهو مسمى الاسم بالمعنى الاول كما ان لفظ العالم ( من اسماء الله تعالى ) اسم يدل على مسماه وهو الذات ماخوذة بوصف العلم وهو بعينه إسم بالنسبة إلى الذات الذي لا خبر عنه الا بوصف من اوصافه ونعت من نعوته والسبب في ذلك أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعا للدال على المسمى من الالفاظ ، ثم وجدوا أن الاوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات وتدل عليه حالها حال اللفظ المسمى بالاسم في أنها تدل على ذوات خارجية ، فسموا هذه الاوصاف الدالة على الذوات أيضا أسماء فانتج ذلك ان الاسم كما يكون أمرا لفظيا كذلك يكون أمرا عينيا ، ثم وجدوا ان الدال على الذات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل ، وان الاسم بالمعنى الاول إنما يدل على الذات بواسطته ، ولذلك سموا الذي بالمعنى الثاني إسما ، والذي بالمعنى الاول اسم الاسم ، هذا ولكن هذا كله أمر أدى إليه التحليل النظري ولا ينبغي أن يحمل على اللغة ، فالاسم بحسب اللغة ما ذكرناه.
    وقد شاع النزاع بين المتكلمين في الصدر الاول من الاسلام في أن الاسم عين المسمى أو غيره وطالت المشاجرات فيه ، ولكن هذا النوع من المسائل قد اتضحت اليوم إتضاحا يبلغ إلى حد الضرورة ولا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل وما يقال فيها


(18)
والعناية بابطال ما هو الباطل وإحقاق ما هو الحق فيها ، فالصفح عن ذلك اولى.
    وأما لفظ الجلالة فالله أصله الاله ، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال ، وإله من أله الرجل يأله بمعني عبد ، أو من اله الرجل أو وله الرجل أي تحير ، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمي إلها لانه معبود أو لانه مما تحيرت في ذاته العقول ، والظاهر انه علم بالغلبة ، وقد كان مستعملا دائرا في الالسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهلي كما يشعر به قوله تعالى : « ولئن سئلتهم من خلقهم ليقولن الله » الزخرف ـ 87 ، وقوله تعالى : « فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا » الانعام ـ 136.
    ومما يدل على كونه علما انه يوصف بجميع الاسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الاسماء من غير عكس ، فيقال : ألله لرحمن الرحيم ويقال : رحم الله وعلم الله ، ورزق الله ، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشئ منها ولا يؤخذ منه ما يوصف به شئ منها.
    ولما كان وجوده سبحانه ، وهو آله كل شئ يهدي إلى إتصافه بجميع الصفات الكمالية كانت الجميع مدلولا عليها به بالالتزام ، وصح ما قيل إن لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال وإلا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدل عليه مادة إله.
    واما الوصفان : الرحمن الرحيم ، فهما من الرحمة ، وهي وصف انفعالي وتأثر خاص يلم بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره فيبعث الانسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته ، إلا ان هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الاعطاء والافاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتصف سبحانه بالرحمة.
    والرحمن ، فعلان صيغة مبالغة تدل على الكثرة ، والرحيم فعيل صفة مشبهة تدل على الثبات والبقاء ولذلك ناسب الرحمن ان يدل علي الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر وهو الرحمة العامة ، وعلى هذا المعنى يستعمل كثيرا في القرآن ، قال تعالى : « الرحمن على العرش استوى » طه ـ 5. وقال « قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا » مريم ـ 75. إلى غير ذلك ، ولذلك أيضا ناسب الرحيم ان يدل على النعمة الدائمة والرحمة الثابتة الباقية التي تقاض على المؤمن كما قال تعالى : « وكان


(19)
بالمؤمنين رحيم » الاحزاب ـ 43. وقال تعالى : « إنه بهم رؤف رحيم » التوبة ـ 117. إلى غير ذلك ، ولذلك قيل : ان الرحمن عام للمؤمن والكافر والرحيم خاص بالمؤمن.
    وقوله تعالى : الحمد لله ، الحمد على ما قيل : هو الثناء على الجميل الاختياري والمدح اعم منه ، يقال : حمدت فلانا أو مدحته لكرمه ، ويقال : مدحت اللؤلؤ علي صفائه ولا يقال : حمدته على صفائه ، واللام فيه للجنس أو الاستغراق والمال هيهنا واحد.
    وذلك ان الله سبحانه يقول : « ذلكم الله ربكم خالق كل شئ » غافر ـ 62. فأفاد أن كل ما هو شئ فهو مخلوق لله سبحانه ، وقال : « الذي أحسن كل شئ خلقه » السجدة ـ 7 فأثبت الحسن لكل شئ مخلوق من جهة أنه مخلوق له منسوب إليه ، فالحسن يدور مدار الخلق وبالعكس ، فلا خلق إلا وهو حسن جميل باحسانه ولا حسن إلا وهو مخلوق له منسوب إليه ، وقد قال تعالى : « هو الله الواحد القهار » الزمر ـ 4. وقال : « وعنت الوجوه للحي القيوم » طه ـ 111. فانباء انه لم يخلق ما خلق بقهر قاهر ولا يفعل ما فعل باجبار من مجبر بل خلقه عن علم واختيار فما من شئ إلا وهو فعل جميل اختياري له فهذا من جهة الفعل ، وأما من جهة الاسم فقد قال تعالى : « الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى » طه ـ 8. وقال تعالى : « ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه » الاعراف ـ 180. فهو تعالى جميل في اسمائه وجميل في أفعاله ، وكل جميل منه.
    فقد بان انه تعالى محمود على جميل اسمائه ومحمود على جميل أفعاله ، وأنه ما من حمد يحمده حامد لامر محمود إلا كان لله سبحانه حقيقه لان الجميل الذي يتعلق به الحمد منه سبحانه ، فلله سبحانه جنس الحمد وله سبحانه كل حمد.
    ثم ان الظاهر من السياق وبقرينة الالتفات الذي في قوله : « إياك نعبد » لآية إن السورة من كلام العبد ، وانه سبحانه في هذه السورة يلقن عبده حمد نفسه وما ينبغي ان يتأدب به العبد عند نصب نفسه في مقام العبودية ، وهو الذي يؤيده قوله : ( الحمد لله )


(20)
     وذلك إن الحمد توصيف ، وقد نزه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال : « سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين » الصافات ـ 160. والكلام مطلق غير مقيد ولم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلا ما حكاه عن عدة من أنبيائه المخلصين ، قال تعالى في خطابه لنوح ( عليه السلام ) « فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين » المؤمنون ـ 28. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم ( عليه السلام ) : « الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق » ابراهيم ـ 39. وقال تعالى لنبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بضعة مواضع من كلامه : « وقل الحمد لله » النمل ـ 93. وقال تعالى حكاية عن داود وسليمان ( عليه السلام ) « وقالا الحمد لله » النمل ـ 15. وإلا ما حكاه عن أهل الجنة وهم المطهرون من غل الصدور ولغو القول والتأثيم كقوله : « وآخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين » يونس ـ 10.
    وأما غير هذه الموارد فهو تعالى وان حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن جميعهم ، كقوله تعالى : « والملائكة يسبحون بحمد ربهم » الشورى ـ 5. وقوله « ويسبح الرعد بحمده » الرعد ـ 13. وقوله « وإن من شئ إلا يسبح بحمده » الاسراء ـ 44. إلا أنه سبحانه شفع الحمد في جميعها بالتسبيح بل جعل التسبيح هو الاصل في الحكاية وجعل الحمد معه ، وذلك أن غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله وكمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته وأسمائه التي منها جمال الافعال ، قال تعالى : « ولا يحيطون به علما » طه ـ 110 فما وصفوه به فقد أحاطوا به وصار محدودا بحدودهم مقدرا بقدر نيلهم منه ، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلا من بعد أن ينزهوه ويسبحوه عن ما حدوه وقدروه بافهامهم ، قال تعالى : « ان الله يعلم وانتم لا تعلمون » النحل ـ 74 ، وأما المخلصون من عباده تعالى فقد جعل حمدهم حمده ووصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له ، فقد بان ان الذي يقتضيه أدب العبودية ان يحمد العبد ربه بما حمد به نفسه ولا يتعدى عنه ، كما في الحديث الذي رواه الفريقان عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك الحديث ) فقوله في أول هذه السورة : الحمد لله ، تأديب بادب عبودي ، ما كان للعبد


(21)
ان يقوله لو لا ان الله تعالى قاله نيابة وتعليما لما ينبغي الثناء به.
    وقوله تعالى : رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين اه ( وقرا الاكثر ملك يوم الدين ) فالرب هو المالك الذي يدبر امر مملوكه ، ففيه معنى الملك ، ومعنى الملك ( الذي عندنا في ظرف الاجتماع ) هو نوع خاص من الاختصاص وهو نوع قيام شئ بشئ يوجب صحة التصرفات فيه ، فقولنا العين الفلانية ملكنا معناه : ان لها نوعا من القيام والاختصاص بنا يصح معه تصرفاتنا فيها ولو لا ذلك لم تصح تلك التصرفات وهذا في الاجتماع معنى وضعي اعتباري غير حقيقي وهو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسميه أيضا ملكا ، وهو نحو قيام اجزاء وجودنا وقوانا بنا فان لنا بصرا وسمعا ويدا ورجلا ، ومعنى هذا الملك انها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلة دوننا بل مستقلة باستقلالنا ولنا ان نتصرف فيها كيف شئنا وهذا هو الملك الحقيقي.
    والذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباري الذى يبطل ببطلان الاعتبار والوضع ، ومن المعلوم ان الملك الحقيقي لا ينفك عن التدبير فان الشئ إذا افتقر في وجوده إلى شئ فلم يستقل عنه في وجوده لم يستقل عنه في آثار وجوده ، فهو تعالى رب لما سواه لان الرب هو المالك المدبر وهو تعالى كذلك.
    واما العالمين : فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يعلم به كالقالب والخاتم والطابع بمعنى ما يقلب به وما يختم به ، وما يطبع به يطلق على جميع الموجودات وعلى كل نوع مؤلف الافراد والاجزاء منها كعالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الانسان وعلى كل صنف مجتمع الافراد ايضا كعالم العرب وعالم العجم وهذا المعنى هو الانسب لما يؤل إليه عد هذه الاسماء الحسنى حتى ينتهي إلى قوله مالك يوم الدين على ان يكون الدين وهو الجزاء يوم القيمة مختصا بالانسان أو الانس والجن فيكون المراد بالعالمين عوالم الانس والجن وجماعاتهم ويؤيده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى « واصطفاك على نساء العالمين » آل عمران ـ 42. وقوله تعالى : « ليكون للعالمين نذيرا » فرقان ـ 1 ، وقوله تعالى : « أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من


(22)
     العالمين » الاعراف ـ 80.
    واما مالك يوم الدين : فقد عرفت معنى المالك وهو المأخوذ من الملك بكسر الميم ، واما الملك وهو مأخوذ من الملك بضم الميم ، فهو الذي يملك النظام القومي وتدبيرهم دون العين ، وبعبارة اخرى يملك الامر والحكم فيهم.
    وقد ذكر لكل من القرائتين ، ملك ومالك ، وجوه من التأييد غير ان المعنيين من السلطنة ثابتان في حقه تعالى ، والذي تعرفه اللغة والعرف ان الملك بضم الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال : ملك العصر الفلاني ، ولا يقال مالك العصر الفلاني الا بعناية بعيدة ، وقد قال تعالى : ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم ، وقال ايضا : « لمن الملك اليوم لله الواحد القهار » غافر ـ 16.
( بحث روائي )
    في العيون والمعاني عن الرضا ( عليه السلام ) في معنى قوله : بسم الله قال ( عليه السلام ) : يعني أسم نفسي بسمة من سمات الله وهى العبادة ، قيل له : ما السمة ؟ قال العلامة.
    اقول وهذا المعنى كالمتولد من المعنى الذي اشرنا إليه في كون الباء للابتداء فان العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك ان يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته
     وفي التهذيب عن الصادق ( عليه السلام ) وفي العيون وتفسير العياشي عن الرضا ( عليه السلام ) : انها اقرب الى اسم الله الاعظم من ناظر العين إلى بياضها.
    اقول : وسيجئ معنى الرواية في الكلام على الاسم الاعظم.
    وفي العيون عن امير المؤمنين ( عليه السلام ) : انها من الفاتحة وان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يقرئها ويعدها آية منها ، ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني.
    اقول : وروي من طرق اهل السنة والجماعة نظير هذا المعنى فعن الدار قطني عن ابي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم ، فانها ام القرآن والسبع المثاني ، وبسم الله الرحمن الرحيم احدى آياتها.
    وفي الخصال عن الصادق ( عليه السلام ) قال : ما لهم ؟ قاتلهم الله عمدوا إلى اعظم آية في كتاب الله فزعموا انها بدعة إذا اظهروها.


(23)
    وعن الباقر ( عليه السلام ) : سرقوا اكرم آية في كتاب الله ، بسم الله الرحمن الرحيم ، وينبغي الاتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.
    اقول : والروايات عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيره ، وهي جميعا تدل على ان البسملة جزء من كل سورة إلا سورة البراءة ، وفي روايات اهل السنة والجماعة ما يدل على ذلك.
    ففي صحيح مسلم عن أنس قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : انزل علي آنفا سورة فقرا : بسم الله الرحمن الرحيم.
    وعن أبي داود عن ابن عباس ( وقد صححوا سندها ) قال : ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان لا يعرف فصل السورة ، ( وفي رواية انقضاء السورة ) حتى ينزل عليه ، بسم الله الرحمن الرحيم.
    اقول : وروي هذا المعنى من طرق الخاصة عن الباقر ( عليه السلام )
    وفي الكافي والتوحيد والمعاني وتفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) في حديث : والله إله كل شئ ، الرحمن بجميع خلقه ، الرحيم بالمؤمنين خاصة.
     وروي عن الصادق ( عليه السلام ) : الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة.
    اقول : قد ظهر مما مر وجه عموم الرحمن للمؤمن والكافر واختصاص الرحيم بالمؤمن ، وأما كون الرحمن اسما خاصا بصفة عامة والرحيم اسما عاما بصفة خاصة فكأنه يريد به أن الرحمن خاص بالدنيا ويعم الكافر والمؤمن والرحيم عام للدنيا والآخرة ويخص المؤمنين ، وبعبارة اخرى : الرحمن يختص بالافاضة التكوينية التي يعم المؤمن والكافر ، والرحيم يعم التكوين والتشريع الذي بابه باب الهداية والسعادة ، ويختص بالمؤمنين لان الثبات والبقاء يختص بالنعم التي تفاض عليهم والعاقبة للتقوي.
    وفي كشف الغمة عن الصادق ( عليه السلام ) قال : فقد لابي ( عليه السلام ) بغلة فقال لئن ردها الله علي لاحمدنه بمحامد يرضيها فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها ـ فلما استوى وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال الحمد لله ولم يزد ، ثم قال ما تركت ولا ابقيت


(24)
شيئا جعلت أنواع المحامد لله عزوجل ، فما من حمد الا وهو داخل فيها.
    قلت : وفي العيون عن علي ( عليه السلام ) : انه سئل عن تفسيرها فقال : هو ان الله عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لانها اكثر من ان تحصى أو تعرف ، فقال : قولوا الحمد لله على ما انعم به علينا.
    اقول : يشير ( عليه السلام ) إلى ما مر من أن الحمد ، من العبد وانما ذكره الله بالنيابة تأديبا وتعليما.

    البراهين العقلية ناهضة على ان استقلال المعلول وكل شأن من شئونه انما هو بالعلة ، وان كل ما له من كمال فهو من اظلال وجود علته ، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله للواجب تعالى لانه العلة التي ينتهي إليه جميع العلل ، والثناء والحمد هو اظهار موجود ما بوجوده كمال موجود آخر وهو لا محالة علته ، وإذا كان كل كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كل ثناء وحمد تعود وتنتهى إليه تعالى ، فالحمد لله رب العالمين.
    قوله تعالى : إياك نعبد وإياك نستعين الآية ، العبد هو المملوك من الانسان أو من كل ذي شعور بتجريد المعنى كما يعطيه قوله تعالى : « إن كل من في السموات والارض إلا اتي الرحمن عبدا » مريم ـ 93. والعبادة مأخوذة منه وربما تفرقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد ، وما ذكره الجوهري في الصحاح أن أصل العبودية الخضوع فهو من باب الاخذ بلازم المعنى وإلا فالخضوع متعد باللام والعبادة متعدية بنفسها.
    وبالجملة فكأن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربه ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار وغير منافية للاشتراك فمن الجائزان يشترك ازيد من الواحد في ملك رقبة أو في عبادة عبد ، قال تعالى : « إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين » غافر ـ 60 وقال تعالى : « ولا يشرك بعبادة ربه أحدا »


(25)
الكهف ـ 110.فعد الاشراك ممكنا ولذلك نهى عنه ، والنهى لا يمكن الا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة فانه لا يجامعها.
    والعبودية انما يستقيم بين العبيد ومواليهم فيما يملكه الموالي منهم ، واما ما لا يتعلق به الملك من شئون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلق به عبادة ولا عبودية ، لكن الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممن سواه ولا ان العبد يتبعض في نسبته إليه تعالى فيكون شئ منه مملوكا وشئ ، آخر غير مملوك ، ولا تصرف من التصرفات فيه جائز وتصرف آخر غير جائز كما ان العبيد فيما بيننا شئ منهم مملوك وهو افعالهم الاختيارية وشئ غير مملوك وهو الاوصاف الاضطرارية ، وبعض التصرفات فيهم جائز كالاستفادة من فعلهم وبعضها غير جائز كقتلهم من غير جرم مثلا ، فهو تعالى مالك على الاطلاق من غير شرط ولا قيد وغيره مملوك على الاطلاق من غير شرط ولا قيد فهناك حصر من جهتين ، الرب مقصور في المالكية ، والعبد مقصور في العبودية ، وهذه هي التي يدل عليه قوله : اياك نعبد حيث قدم المفعول واطلقت العبادة.
    ثم ان الملك حيث كان مقتوم الوجود بمالكه كما عرفت مما مر ، فلا يكون حاجبا عن مالكه ولا يحجب عنه ، فانك إذا نظرت إلى دار زيد فان نظرت إليها من جهة انها دار امكنك ان تغفل عن زيد ، وان نظرت إليها بما انها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها وهو زيد.
    ولكنك عرفت ان ما سواه تعالى ليس له الا المملوكية فقط وهذه حقيقتة فشئ منه في الحقيقة لا يحجب عنه تعالى ، ولا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى ، فله تعالى الحضور المطلق ، قال سبحانه : « أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ألا انهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط » حم السجدة ـ 54 وإذا كان كذلك فحق عبادته تعالى ان يكون عن حضور من الجانبين.
    اما من جانب الرب عزوجل ، فان يعبد عبادة معبود حاضر وهو الموجب للالتفات ( المأخوذ في قوله تعالى اياك نعبد ) عن الغيبة إلى الحضور.


(26)
     واما من جانب العبد ، فان يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير ان يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى وجسدا من غير روح ، أو يتبعض فيشتغل بربه وبغيره ، اما ظاهرا وباطنا كالوثنيين في عبادتهم لله ولاصنامهم معا ، أو باطنا فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات والاغراض ، كأن يعبد الله وهمه في غيره ، أو يعبد الله طمعا في جنة أو خوفا من نار فان ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي ، قال تعالى : « فا عبد الله مخلصا له الدين » الزمر ـ 2 ، وقال تعالى : « ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون » الزمر ـ 3.
    فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة ، إذا كان على خلوص من العبد وهو الحضور الذي ذكرناه ، وقد ظهر انه انما يتم إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد اعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته ولم يتعلق قلبه في عبادته رجائا أو خوفا هو الغاية في عبادته كجنة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله ، ولم يشتغل بنفسه فيكون منافيا لمقام العبودية التي لا تلائم الانية والاستكبار ، وكأن الاتيان بلفظ المتكلم مع الغير للايماء إلى هذه النكتة فان فيه هضما للنفس بالغاء تعينها وشخوصها وحدها المستلزم لنحو من الانية والاستقلال بخلاف ادخالها في الجماعة وخلطها بسواد الناس فان فيه امحاء التعين واعفاء الاثر فيؤمن به ذلك.
    وقد ظهر من ذلك كله : ان اظهار العبودية بقوله : إياك نعبد ، لا يشتمل على نقص من حيث المعنى ومن حيث الاخلاص الا ما في قوله : اياك نعبد من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود والقدرة والارادة مع انه مملوك والمملوك لا يملك شيئا ، فكأنه تدورك ذلك بقوله تعالى واياك نستعين ، أي انما ننسب العبادة إلى انفسنا وندعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلين بذلك مدعين ذلك دونك ، فقوله : « إياك نعبد واياك نستعين » ، لابداء معنى واحد وهو العبادة عن اخلاص ، ويمكن ان يكون هذا هو الوجه في اتحاد الاستعانة والعبادة في السياق الخطابي حيث قيل اياك نعبد واياك نستعين من دون ان يقال : اياك نعبد اعنا واهدنا الصراط المستقيم


(27)
واما تغيير السياق في قوله : اهدنا الصراط الآية. فسيجئ الكلام فيه ان شاء الله تعالى.
    فقد بان بما مر من البيان في قوله ، اياك نعبد واياك نستعين الاية ، الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور ، والوجه في الحصر الذي يفيده تقديم المفعول ، والوجه في اطلاق قوله : نعبد ، والوجه في اختيار لفظ المتكلم مع الغير ، والوجه في تعقيب الجملة الاولى بالثانية ، والوجه في تشريك الجملتين في السياق ، وقد ذكر المفسرون نكات اخرى في اطراف ذلك من ارادها فليراجع كتبهم وهو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه.


(28)
اهدنا الصراط المستقيم ـ 6. صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ـ 7.
بيان
    قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم الخ ، اما الهداية فيظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط واما الصراط فهو والطريق والسبيل قريب المعنى ، وقد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثم بين انه الصراط الذي يسلكه الذين انعم الله تعالى عليهم ، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سئل الهداية إليه وهو بمعنى الغاية للعبادة اي : ان العبد يسئل ربه ان تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط.
    بيان ذلك : ان الله سبحانه قرر في كلامه لنوع الانسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى : « يا ايها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه » الانشقاق ـ 6 وقال تعالى : « واليه المصير » التغابن ـ 3 ، وقال : « الا إلى الله تصير الامور » الشورى ـ 53 ، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلاله على ان الجميع سالكوا سبيل ، وانهم سائرون إلى الله سبحانه.
    ثم بين : إن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين ، فقال : « الم اعهد اليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وان اعبدوني هذا صراط مستقيم » يس ـ 61.
    فهناك طريق مستقيم وطريق آخر ورائه ، وقال تعالى « فاني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون » البقرة ـ 186 ، وقال تعالى : « ادعوني استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين » غافر ـ 60 ، فبين تعالى : انه قريب من عباده وان الطريق الاقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه ، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون : « أولئك ينادون من مكان بعيد » السجدة ـ 44 فبين : ان غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة.
    فتبين : ان السبيل إلى الله سبيلان : سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين وسبيل


(29)
بعيد وهو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل وهناك نحو آخر من الاختلاف ، قال تعالى : « ان الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم ابواب السماء » الاعراف ـ 40 ولو لا طروق من متطرق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو ، وقال تعالى : « ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى » طه ـ 81. والهوي هو السقوط إلى أسفل ، فهناك طريق آخر آخذ في السفالة والانحدار ، وقال تعالى : « ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل » البقرة ـ 108 ، فعرف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله : فقد ضل ، وعند ذلك تقسم الناس في طرقهم ثلثه اقسام : من طريقه إلى فوق وهم الذين يؤمنون بآيات الله ولا يستكبرون عن عبادته ، ومن طريقه إلى ألسفل ، وهم المغضوب عليهم ، ومن ضل الطريق وهو حيران فيه وهم الضالون ، وربما اشعر بهذا التقسيم قوله تعالى : « صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ».
    والصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلث اعني : طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين فهو من الطريق الاول الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلا ان قوله تعالى : « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات » المجادلة ـ 11. يدل على ان نفس الطريق الاول ايضا يقع فيه انقسام.
    وبيانه : ان كل ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى : « ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل » البقرة ـ 108. وفي هذا المعنى قوله تعالى « أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا » يس ـ 62. والقرآن يعد الشرك ظلما وبالعكس ، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لما قضي الامر : « اني كفرت بما اشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم » ابراهيم ـ 22. كما يعد الظلم ضلالا في قوله تعالى « الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون » الانعام ـ 82 وهو ظاهر من ترتيب الاهتداء والامن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال ، على ارتفاع الظلم ولبس الايمان به ، وبالجملة الضلال والشرك والظلم امرها واحد وهي متلازمة مصداقا ، وهذا هو المراد من قولنا : ان كل واحد منها معرف بالآخر أو


(30)
هو الآخر ، فالمراد المصداق دون المفهوم.
    إذا عرفت هذا علمت ان الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضالين صراط لا يقع فيه شرك ولا ظلم البته كما لا يقع فيه ضلال البته ، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه ، ولا في ظاهر الجوارح والاركان من فعل معصية أو قصور في طاعة ، وهذا هو حق التوحيد علما وعملا إذ لا ثالث لهما وما ذا بعد الحق الا الضلال ؟ وينطبق على ذلك قوله تعالى : « الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون » الانعام ـ 82 ، وفيه تثبيت للامن في الطريق ووعد بالاهتداء التام بنائا على ما ذكروه : من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
    ثم انه تعالى عرف هؤلاء المنعم عليهم الذين نسب صراط المستقيم إليهم بقوله تعالى : « ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا » النساء ـ 68 ، وقد وصف هذا الايمان والاطاعة قبل هذه الآية بقوله « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ولو انا كتبنا عليهم ان اقتلوا انفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو انهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا » النساء ـ 66. فوصفهم بالثبات التام قولا وفعلا وظاهرا وباطنا على العبودية لا يشذ منهم شاذ من هذه الجهة ومع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعا لاولئك المنعم عليهم وفي صف دون صفهم لمكان مع ولمكان قوله : ( وحسن اولئك رفيقا ولم يقل : فاولئك من الذين.
    ونظير هذه الآية قوله تعالى : « والذين آمنو بالله ورسله اولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونور هم » الحديد ـ 19. وهذا هو الحاق المؤمنين بالشهداء والصديقين في الآخرة ، لمكان قوله : عند ربهم ، وقوله : لهم اجرهم.
    فاؤلئك ( وهم اصحاب الصراط المستقيم ) أعلى قدرا وأرفع درجة ومنزلة من هؤلاء وهم المؤمنون الذين اخلصوا قلوبهم واعمالهم من الضلال والشرك والظلم ، فالتدبر
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس