الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 256 ـ 270
(256)
قتادة قال : كانت الآية تنسخ الآية وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة وما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه فقال الله : يقص على نبيه ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ، يقول : فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهى.
     أقول : وروى فيه أيضا في معنى الانساء روايات عديدة وجميعها مطروحة بمخالفة الكتاب كما مر في بيان قوله : أو ننسها
    أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل ـ 108. ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير ـ 109. وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير ـ 110. وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ـ 111. بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ـ 112. وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم


(257)
يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ـ 113. ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أؤلئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ـ 114. ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ـ 115.
( بيان )
    قوله تعالى : أم تريدون أن تسألوا رسولكم ، سياق الآية يدل على أن بعض المسلمين ـ ممن آمن بالنبي ـ سئل النبي امورا على حد سؤال اليهود نبيهم موسى ( عليه السلام ) والله سبحانه وبخهم على ذلك في ضمن ما يوبخ اليهود بما فعلوا مع موسى والنبيين من بعده ، والنقل يدل على ذلك.
     قوله تعالى : سواء السبيل أي مستوى الطريق.
     قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب ، نقل أنه حي بن الاخطب وبعض من معه من متعصبي اليهود.
     قوله تعالى : فاعفوا واصفحوا ، قالوا : أنها آية منسوخة بآية القتال.
     قوله تعالى : حتى يأتي الله بأمره ، فيه كما مر إيماء إلى حكم سيشرعه الله تعالى في حقهم ، ونظيره قوله تعالى : في الآية الآتية « أؤلئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين » ، مع قوله تعالى : « إن المشركين نجس فلا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا » التوبة ـ 29 ، وسيأتي الكلام في معنى الامر في قوله تعالى : « يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي » أسرى ـ 85.


(258)
قوله تعالى : وقالوا : لن يدخل الجنة ، شروع في الحاق النصارى باليهود تصريحا وسوق الكلام في بيان جرائمهم معا.
     قوله تعالى : بلى من أسلم وجهه لله ، هذه كرة ثالثة عليهم في بيان أن السعادة لا تدور مدار الاسم ولا كرامة لاحد على الله إلا بحقيقة الايمان والعبودية. اوليها قوله : « إن الذين آمنوا والذين هادوا » البقرة ـ 62 ، وثانيتها ،
    قوله تعالى : « بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته » البقرة ـ 81 ، وثالثتها ، هذه الاية ويستفاد من تطبيق الآيات تفسير الايمان بإسلام الوجه إلى الله وتفسير الاحسان بالعمل الصالح.
     قوله تعالى : وهم يتلون الكتاب ، أي وهم يعملون بما أوتوا من كتاب الله لا ينبغي لهم أن يقولوا ذلك والكتاب يبين لهم الحق والدليل على ذلك قوله : « كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم » فالمراد بالذين لا يعلمون غير أهل الكتاب من الكفار ومشركي العرب قالوا : إن المسلمين ليسوا على شئ أو أن اهل الكتاب ليسوا على شئ.
     قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع ، ظاهر السياق أن هؤلاء كفار مكة قبل الهجرة فإن هذه الايات نزلت في اوائل ورود رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة.
     قوله تعالى : أؤلئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ، يدل على مضى الواقعة وإنقضائها لمكان قوله ، كان ، فينطبق على كفار قريش وفعالهم بمكة كما ورد به النقل أن المانعين كفار مكة ، كانوا يمنعون المسلمين عن الصلوة في المسجد الحرام والمساجد التي اتخذوها بفناء الكعبة.
     قوله تعالى : ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ، المشرق والمغرب وكل جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك التي لا تقبل التبدل والانتقال ، لا كالملك الذي بيننا معاشر أهل الاجتماع ، وحيث ان ملكه تعالى مستقر على ذات الشئ محيط بنفسه وأثره ، لا كملكنا المستقر على أثر الاشياء ومنافعها ، لا على ذاتها ، والملك لا يقوم من جهة انه ملك إلا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط


(259)
بها وهو معها ، فالمتوجه إلى شئ من الجهات متوجه إليه تعالى.
     ولما كان المشرق والمغرب جهتين إضافيتين شملتا ساير الجهات تقريبا إذ لا يبقى خارجا منهما إلا نقطتا الجنوب والشمال الحقيقتان ولذلك لم يقيد إطلاق قوله فأينما ، بهما بأن يقال : أينما تولوا منهما فكأن الانسان أينما ولى وجهه فهناك إما مشرق أو مغرب ، فقوله : ولله المشرق والمغرب بمنزلة قولنا : ولله الجهات جميعا وإنما اخذ بهما لان الجهات التي يقصدها الانسان بوجهه إنما تتعين بشروق الشمس وغروبها وسائر الاجرام العلوية المنيرة.
     قوله تعالى : فثم وجه الله ، فيه وضع علة الحكم في الجزاء موضع الجزاء ، والتقدير ـ والله أعلم ـ فأينما تولوا جاز لكم ذلك فإن وجه الله هناك ويدل على هذا التقدير تعليل الحكم بقوله تعالى : إن الله واسع عليم ، أي إن الله واسع الملك والاحاطة عليم بقصودكم أينما توجهت ، لا كالواحد من الانسان أو سائر الخلق الجسماني لا يتوجه إليه إلا إذا كان في جهة خاصة ، ولا أنه يعلم توجه القاصد إليه إلا من جهة خاصة كقدامه فقط ، فالتوجه إلى كل جهة توجه إلى الله ، معلوم له سبحانه.
     واعلم أن هذا توسعة في القبلة من حيث الجهة لا من حيث المكان ، والدليل عليه قوله : ولله المشرق والمغرب.
( بحث روائي )
    في التهذيب عن محمد بن الحصين قال : كتب إلى عبد صالح الرجل يصلي في يوم غيم في فلات من الارض ولا يعرف القبلة فيصلى حتى فرغ من صلوته بدت له الشمس فإذا هو صلى لغير القبلة يعتد بصلوته أم يعيدها ؟ فكتب يعيد ما لم يفت الوقت ، أو لم يعلم أن الله يقول : ـ وقوله الحق ـ فأينما تولوا فثم وجه الله.
    وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : ولله المشرق والمغرب إلخ ، قال ( عليه السلام ) : أنزل الله هذه الآية في التطوع خاصة فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ، وصلى رسول الله إيمائا على راحلته أينما توجهت به حين خرج إلى خيبر ،


(260)
وحين رجع من مكة ، وجعل الكعبة خلف ظهره.
     اقول : وروى العياشي أيضا قريبا من ذلك عن زرارة عن الصادق ( عليه السلام ) ، وكذا القمى والشيخ عن أبي الحسن ( عليه السلام ) ، وكذا الصدوق عن الصادق ( عليه السلام )
     وأعلم إنك إذا تصفحت أخبار أئمة أهل البيت حق التصفح ، في موارد العام والخاص والمطلق والمقيد من القرآن وجدتها كثيرا ما تستفيد من العام حكما ، ومن الخاص أعني العام مع المخصص حكما آخر ، فمن العام مثلا الاستحباب كما هو الغالب ومن الخاص الوجوب ، وكذلك الحال في الكراهة والحرمة ، وعلى هذا القياس. وهذا أحد اصول مفاتيح التفسير في الاخبار المنقولة عنهم ، وعليه مدار جم غفير من أحاديثهم. ومن هنا يمكنك أن تستخرج منها في المعارف القرآنية قاعدتين :
    احديهما : أن كل جملة وحدها ، وهي مع كل قيد من قيودها تحكي عن حقيقة ثابتة من الحقائق أو حكم ثابت من الاحكام كقوله تعالى : « قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون » الانعام ـ 91 ، ففيه معان أربع : الاول : قل الله ، والثاني : قل الله ثم ذرهم ، والثالث : قل الله ثم ذرهم في خوضهم ، والرابع : قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. واعتبر نظير ذلك في كل ما يمكن.
     والثانية : ان القصتين أو المعنيين إذا اشتركا في جملة أو نحوها ، فهما راجعان إلى مرجع واحد. وهذان سران تحتهما أسرار والله الهادي.
     وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والارض كل له قانتون ـ 116. بديع السموات والارض وإذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون ـ 117.


(261)
( بيان )
    قوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا يعطي السياق ، أن المراد بالقائلين بهذه المقالة هم اليهود والنصارى : اقالت اليهود : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، فإن وجه الكلام مع أهل الكتاب ، وإنما قال أهل الكتاب هذه الكلمة أعني قولهم : اتخذ الله ولدا أول ما قالوها تشريفا لانبيائهم كما قالوا : نحن أبناء الله وأحبائه ثم تلبست بلباس الجد والحقيقة فرد الله سبحانه عليهم في هاتين الآيتين فأضرب عن قولهم بقوله : بل له ما في السموات إلخ ، ويشتمل على برهانين ينفي كل منهما الولادة وتحقق الولد منه سبحانه ، فإن اتخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي بعض أجزاء وجوده ، ويفصله عن نفسه فيصيره بتربية تدريجية فردا من نوعه مماثلا لنفسه ، وهو سبحانه منزه عن المثل ، بل كل شئ مما في السموات والارض مملوك له ، قائم الذات به ، قانت ذليل عند ذلة وجودية ، فكيف يكون شئ من الاشياء ولدا له مماثلا نوعيا بالنسبه إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والارض ، إنما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق ، فلا يشبه شئ من خلقه خلقا سابقا ، ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج ، والتوصل بالاسباب إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج ، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتخاذ الولد ؟ وتحققه يحتاج إلى تربية وتدريج ، فقوله : له ما في السموات والارض كل له قانتون برهان تام ، وقوله : بديع السموات والارض إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون برهان آخر تام ، هذا. ويستفاد من الآيتين :
    اولا : شمول حكم ا لعبادة لجميع المخلوقات مما في السموات والارض.
     وثانيا : ان فعله تعالى غير تدريجي ، ويستدرج من هنا ، ان كل موجود تدريجي فله وجه غير تدريجي ، به يصدر عنه تعالى كما قال تعالى : « إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون » يس ـ 82 ، وقال تعالى : « وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر » القمر ـ 50 ، وتفصيل القول في هذه الحقيقة القرآنية ، سيأتي إنشاء الله في ذيل قوله : « إنما أمره إذا أراد شيئا » يس ـ 82 ، فانتظر.


(262)
    قوله تعالى : سبحانه مصدر بمعنى التسبيح وهو لا يستعمل إلا مضافا وهو مفعول مطلق لفعل محذوف أي سبحته تسبيحا ، فحذف الفعل وأضيف المصدر إلى الضمير المفعول وأقيم مقامه ، وفي الكلمة تأديب إلهي بالتنزيه فيما يذكر فيه ما لا يليق بساحة قدسة تعالى و تقدس.
     قوله تعالى : كل له قانتون ، القنوت العبادة والتذلل.
     قوله تعالى : بديع السموات ، بداعة الشئ كونه لا يماثل غيره مما يعرف ويؤنس به.
     قوله تعالى : فيكون ، تفريع على قول كن وليس في مورد الجزاء حتى يجزم.
( بحث روائي )
     في الكافي والبصائر ، عن سدير الصيرفي ، قال : سمعت عمران بن أعين يسأل أبا جعفر ( عليه السلام ) عن قول الله تعالى : بديع السموات والارض ، فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ان الله عزوجل ابتدع الاشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله ، فابتدع السموات والارضين ولم يكن قبلهن سموات ولا أرضون أما تسمع لقوله : وكان عرشه على الماء ؟.
     اقول : وفي الرواية إستفادة اخرى لطيفة ، وهي ان المراد ان لا مراد بالماء في قوله تعالى : وكان عرشه على الماء غير المصداق الذي عندنا من الماء بدليل ان الخلقة مستوية على البداعة وكانت السلطنة الالهية قبل خلق هذه السموات والارض مستقرة مستوية على الماء فهو غير الماء وسيجئ تتمة الكلام في قوله تعالى : « وكان عرشه على الماء » هود ـ 7.

     دل التجارب على افتراق كل موجودين في الشخصيات وان كانت متحدة في


(263)
الكليات حتى الموجودان اللذان لا يميز الحس جهة الفرقة بينهما فالحس المسلح يدرك ذلك منهما ، والبرهان الفلسفي أيضا يوجب ذلك ، فإن المفروضين من الموجودين لو لم يتميز أحدهما عن الآخر بشئ خارج عن ذاته ، كان سبب الكثرة المفروضة غير خارج من ذاتهما فيكون الذات صرفة غير مخلوطة ، وصرف الشئ لا يتثنى ولا يتكرر ، فكان ما هو المفروض كثيرا واحدا غير كثير هف. موجود مغاير الذات لموجود آخر ، فكل موجود فهو بديع الوجود على غير مثال سابق ولا معهود ، والله سبحانه هو المبتدع بديع السموات والارض.
     وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون ـ 118. إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم ـ 119.
( بيان )
     قوله تعالى : وقال الذين لا يعلمون هم المشركون غير أهل الكتاب ويدل عليه المقابلة السابقة في قوله تعالى : وقالت اليهود ليست النصارى على شئ ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ ، وهم يتلون الكتاب كذلك ، قال الذين لا يعلمون مثل قولهم الآية ، ففي تلك الآية ألحق أهل الكتاب في قولهم بالمشركين والكفار من العرب ، وفي هذه الآية ألحق المشركين والكفار بهم ، فقال : وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية ، كذلك قال الذين من قبلهم ـ وهم أهل الكتاب واليهود من بينهم ـ حيث اقترحوا بمثل هذه الاقاويل على نبي الله موسى ( عليه السلام ) ، فهم والكفار متشابهون في أفكارهم وآرائهم ، يقول هؤلاء ما قاله أولئك وبالعكس ،


(264)
تشابهت قلوبهم.
     قوله تعالى : قد بينا الايات لقوم يوقنون جواب عن قول الذين لا يعلمون إلخ ، والمراد ان الايات التي يطالبون بها مأتية مبينة ، ولكن لا ينتفع بها إلا قوم يوقنون بآيات الله ، وأما هؤلاء الذين لا يعلمون ، فقلوبهم محجوبة بحجاب الجهل ، مؤفة بآفات العصبية والعناد ، وما تغني الايات عن قوم لا يعلمون. ومن هنا يظهر وجه توصيفهم بعدم العلم ، ثم أيد ذلك بتوجيه الخطاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاشعار بأنه مرسل من عند الله بالحق بشيرا ونذيرا ، فلتطب به نفسه ، وليعلم ان هؤلاء أصحاب الجحيم ، مكتوب عليهم ذلك ، لا مطمع في هدايتهم ونجاتهم.
     قوله تعالى : ولا تسئل عن أصحاب الجحيم ، يجري مجرى قوله : « ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون » البقرة ـ 6.
    ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن إتبعت أهوائهم بعد الذي جائك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ـ 120. الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أؤلئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ـ 121. يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ـ 122. واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ـ 123.


(265)
( بيان )
    قوله تعالى : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصاري ، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم ، وهو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرقها وتشتتها ، فكأنه بعد هذه الخطابات والتوبيخات هم يرجع إلى رسوله ويقول له : هؤلاء ليسوا براضين عنك ، حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بأرائهم ، ثم أمره بالرد عليهم بقوله : قل ان هدى الله هو الهدى أي ان الاتباع إنما هو لغرض الهدى ولا هدى إلا هدى الله والحق الذي يجب أن يتبع وغيره ـ وهو ملتكم ـ ليس بالهدى ، فهي أهوائكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها بإسم الملة ، ففي قوله : قل ان هدى الله إلخ ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل ، ثم اضيف إلى الله فأفاد صحة الحصر في قوله : ان هدى الله هو الهدى على طريق قصرالقلب ، وأفاد ذلك خلو ملتهم عن الهدى ، وأفاد ذلك كونها أهوائا لهم ، واستلزم ذلك كون ما عند النبي علما ، وكون ما عندهم جهلا ، واتسع المكان لتعقيب الكلام بقوله : ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جائك من العلم ، ما لك من الله من ولي ولا نصير ، فانظر إلى ما في هذا الكلام من اصول البرهان العريقة ، ووجوه البلاغة على إيجازه ، وسلاسة البيان وصفائه.
     قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يمكن أن تكون الجملة بقرينة الحصر المفهوم من قوله : أولئك يؤمنون به جوابا للسؤال المقدر الذي يسوق الذهن إليه قوله تعالى : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى إلخ ، وهو انهم إذا لم يكن مطمع في إيمانهم ، فمن ذا الذي يؤمن منهم ؟ وهل توجيه الدعوة إليهم باطل لغو ؟ فأجيب بأن الذين آتيناهم الكتاب والحال أنهم يتلونه حق تلاوته ، أؤلئك يؤمنون بكتابهم فيؤمنون بك ، أو ان أؤلئك يؤمنون بالكتاب ، كتاب الله المنزل أيا ما كان ، أو ان أؤلئك يؤمنون بالكتاب الذي هو القرآن. عليهذا : فالقصر في قوله : أؤلئك يؤمنون به قصر افراد والضمير في قوله : به على بعض التقادير لا يخلو عن استخدام. والمراد بالذين اوتوا الكتاب قوم من اليهود والنصارى ليسوا متبعين للهوى من أهل


(266)
الحق منهم ، وبالكتاب التوراة والانجيل ، وان كان المراد بهم المؤمنين برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبالكتاب القرآن ، فالمعنى : ان الذين آتيناهم القرآن ، وهم يتلونه حق تلاوته أؤلئك يؤمنون بالقرآن ، لا هؤلاء المتبعون لاهوائهم ، فالقصر حينئذ قصر قلب.
     قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا ، إلى آخر الآيتين ارجاع ختم الكلام إلى بدئه ، وآخره إلى اوله ، وعنده يختتم شطر من خطابات بني اسرائيل.
( بحث روائي )
    في إرشاد الديلمي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ، قال : يرتلون آياته ويتفقهون به ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، وينتهون بنواهيه ، ما هو والله حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سورة ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه ، قال الله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته.
    وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قول الله عزوجل : يتلونه حق تلاوته قال ( عليه السلام ) الوقوف عند الجنة والنار.
     اقول : والمراد به التدبر.
    وفي الكافي عنه ( عليه السلام ) : في الآية قال ( عليه السلام ) هم الائمة.
     أقول : وهو من باب الجرى والانطباق على المصداق الكامل.
     وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك


(267)
للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ـ 124.
( بيان )
     شروع بجمل من قصص إبراهيم ( عليه السلام ) وهو كالمقدمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحج ، وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الاسلامي بمراتبها : من اصول المعارف ، والاخلاق ، والاحكام الفرعية الفقهية جملا ، والآيات مشتملة على قصة اختصاصه تعالى أياه بالامامة وبنائه الكعبة ودعوته بالبعثة.
     فقوله تعالى : وإذ إبتلى ابراهيم ربه إلخ ، اشارة إلى قصة اعطائه الامامة وحبائه بها ، والقصة إنما وقعت في أواخر عهد إبراهيم ( عليه السلام ) بعد كبره وتولد إسماعيل ، وإسحق له وإسكانه إسماعيل وأمه بمكة ، كما تنبه به بعضهم أيضا ، والدليل على ذلك قوله ( عليه السلام ) على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له : إني جاعلك للناس إماما ، قال ومن ذريتي ، فإنه ( عليه السلام ) قبل مجئ الملائكة ببشارة إسماعيل وإسحق ، ما كان يعلم ولا يظن أن سيكون له ذرية من بعده حتى أنه بعد ما بشرته الملائكة بالاولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط كما قال تعالى : « ونبئهم عن ضيف إبراهيم ، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال : إنا منكم وجلون ، قالوا : لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ، قال أبشر تموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ؟ قالوا ، بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين » ، الحجر ـ 55 ، وكذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصة بشارته أيضا إذ قال تعالى : « وامرأته قائمة فضحكت ، فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب ، قالت ، يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب ، قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد » هود ـ 73 ، وكلامهما كما ترى يلوح منه آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما فما كان هو ولا أهله يعلم أن سيرزق ذرية ، وقوله ( عليه السلام ) : ومن ذريتي ، بعد


(268)
قوله تعالى : إني جاعلك للناس إماما ، قول من يعتقد لنفسه ذرية ، وكيف يسع من له ادنى دربة بأدب الكلام وخاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربه الجليل أن يتفوه بما لا علم له به ؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول : ومن ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدى هذا المعنى فالقصة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة.
    على أن قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : إني جاعلك للناس إماما ، يدل على أن هذه الامامة الموهوبة إنما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه الا أنواع البلاء التي ابتلى عليه السلابها في حيوته ، وقد نص القرآن على أن من أوضحها بلاء قضية ذبح إسماعيل قال تعالى : « قال يا بني اني أرى في المنام أني اذبحك ، إلى ان قال : ان هذا لهو البلاء المبين » الصافات ـ 106.
     والقضية انما وقعت في كبر إبراهيم ، كما حكى الله تعالى عنه من قوله : « الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل ، واسحق ، ان ربي لسميع الدعاء » ابراهيم ـ 41.
     ولنرجع إلى الفاظ الآية فقوله : واذ ابتلى ابراهيم ربه ، الابتلاء والبلاء بمعنى واحد تقول : ابتليته وبلوته بكذا أي امتحنته واختبرته ، إذا قدمت إليه أمرا أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك واستظهرت ما عنده من الصفات النفسانية الكامنة عنده كالاطاعة والشجاعة والسخاء والعفة والعلم والوفاء أو مقابلاتها ، ولذلك لا يكون الابتلاء إلا بعمل فإن الفعل هو الذى يظهر به الصفات الكامنة من الانسان دون القول الذي يحتمل الصدق والكذب قال تعالى : « إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة » ن ـ 17 ، وقال تعالى : « ان الله مبتليكم بنهر » البقرة ـ 249.
     فتعلق الابتلاء ، في الاية بالكلمات ان كان المراد بها الاقوال إنما هو من جهة تعلقها با لعمل وحكايتها عن العهود والاوامر المتعلقة بالفعل كقوله تعالى « وقولوا للناس حسنا » البقرة ـ 83 ، أي عاشروهم معاشرة جميلة وقوله :


(269)
بكلمات فأتمهن ، الكلمات وهي جمع كلمة وإن أطلقت في القرآن على العين الخارجي دون اللفظ والقول ، كقوله تعالى : « وكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم » آل عمران ـ 45 ، إلا أن ذلك بعناية إطلاق القول كما قال تعالى : « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون » آل عمران ـ 59.
     وجميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن اريد بها القول كقوله تعالى « ولا مبدل لكلمات الله » الانعام ـ 34 ، وقوله : « لا تبديل لكلمات الله » يونس ـ 64 ، وقوله : « يحق الحق بكلماته » الانفال ـ 7 ، وقوله : « إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون » يونس ـ 96 ، وقوله : « ولكن حقت كلمة العذاب » الزمر ـ 71 ، وقوله : « وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا إنهم أصحاب النار » المؤمن ـ 6 ، وقوله : « ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم » الشورى ـ 14 ، وقوله : « وكلمة الله هي العليا » التوبة ـ 41 ، وقوله : « قال فالحق ، والحق اقول » ص ـ 84 ، وقوله : « إنما قولنا لشئ إذا اردناه أن نقول له كن فيكون » النحل ـ 40 ، فهذه ونظائرها أريد بها القول بعناية أن القول توجيه ما يريد المتكلم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الاخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الانشاء ولذلك ربما تتصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى : « وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته » الانعام ـ 115 ، وقوله تعالى : « وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل » الاعراف ـ 136 كأن الكلمة إذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد ، لم تتم ، حتى تلبس لباس العمل وتعود صدقا.
     وهذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله ، فإن الحقائق الواقعية لها حكم ، وللعنايات الكلامية اللفظية حكم آخر ، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه ، أو غيرهم بعد خفائه ، أو يريد تحميله على أحد قول وكلام له لاشتماله على غرض القول والكلام وتضمنه غاية الخبر والنبأ ، والامر والنهي ، وإطلاق القول والكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال إذا اشتمل على ما يؤديه القول والكلمة ، تقول : لافعلن كذا وكذا ، لقول قلته وكلمة قدمتها ، ولم


(270)
تقل قولا ، ولا قدمت كلمة ، وإنما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أو وهن إرادة ، ومنه قول عنترة :
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدى أو تستريحي
    يريد بالقول توطين نفسه على الثبات والعزم ، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل ، وبالاستراحة إغلب.
    إذا عرفت ذلك ظهر لك أن المراد بقوله تعالى. بكلمات ، قضايا ابتلى بها وعهود إلهية اريدت منه ، كابتلائه بالكواكب والاصنام ، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبين في الكلام ما هي الكلمات لان الغرض غير متعلق بذلك ، نعم قوله : قال إني جاعلك للناس إماما ، من حيث ترتبه على الكلمات تدل على انها كانت أمورا تثبت بها لياقته ، ( عليه السلام ) لمقام الامامة.
     فهذه هي الكلمات وأما إتمامهن فإن كان الضمير في قوله تعالى : أتمهن راجعا إلى إبراهيم كان معنى إتمامهن إتيانه ( عليه السلام ) ما أريد منه ، وامتثاله لما أمر به ، وإن كان الضمير راجعا إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما اريد منه ، ومساعدته على ذلك ، وأما ما ذكره بعضهم : أن المراد بالكلمات قوله تعالى : قال إني جاعلك للناس إماما ، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام.
     قوله تعالى : إني جاعلك للناس اماما ، أي مقتدى يقتدى بك الناس ، وتبعونك في أقوالك وأفعالك ، فالامام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس ، ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة ، لان النبي يقتدي به امته في دينهم ، قال تعالى : « وما ارسلنا من رسول ، الا ليطاع بإذن الله » النساء ـ 63 ، لكنه في غاية السقوط.
    اما اولا : فلان قوله : إماما ، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله : جاعلك واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي ، وانما يعمل إذا كان
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس