الميزان في تفسير القران ـ المجلد الاول ::: 331 ـ 345
(331)
( بحث روائي )
    في المجمع عن القمي في تفسيره في قوله تعالى سيقول السفهاء الآية ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال تحولت القبلة إلى الكعبة ، بعد ما صلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمكة ثلث عشرة سنة إلى بيت المقدس ، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر ، قال ثم وجهه الله إلى مكة ، وذلك أن اليهود كانوا يعيرون على رسول الله يقولون أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا ، فاغتم رسول الله من ذلك غما شديدا ، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ، ينتظر من الله في ذلك أمرا ، فلما أصبح وحضر وقت صلوة الظهر كان في مسجد بنى سالم ، وقد صلى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه : « قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام » فكان قد صلى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ، فقالت اليهود والسفهاء ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟
    اقول : والروايات الواردة من طرق العامة والخاصة كثيرة مودعة في جوامع الحديث قريبة المضامين ، وقد اختلف في تاريخ الواقعة ، واكثرها ـ وهو الاصح ـ أنها كانت في رجب السنة الثانية من الهجرة الشهر السابع عشر منها وسيجئ بعض ما يتعلق بالمقام في بحث على حده إنشاالله.
    وعن طرق أهل السنة والجماعة في شهادة هذه الامة على الناس ، وشهادة النبي عليهم أن الامم يوم القيمة يجحدون تبليغ الانبياء فيطالب الله الانبياء بالبينة على انهم قد بلغوا ـ وهو أعلم ـ فيؤتي بأمة محمد ، فيشهدون ، فتقول الامم من أين عرفتم ؟ فيقولون عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد ، ويسئل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد.
     اقول : ما يشتمل عليه هذا الخبر ـ وهو مؤيد بأخبار أخر نقلها السيوطي في الدر المنثور وغيره ـ من تزكية رسول الله لامته ، وتعديله إياهم ، لعله يراد به تعديله لبعضهم دون جميعهم ، وإلافهو مدفوع بالضرورة الثابتة من الكتاب والسنة ، وكيف


(332)
تصحح أو تصوب هذه الفجائع التي لا تكاد توجد ، ولا أنموذجة منها في واحدة من الامم الماضية ؟ وكيف يزكى ويعدل فراعنة هذه الامة وطواغيتها ؟ فهل ذلك إلا طعن في الدين الحنيف ولعب بحقائق هذه الملة البيضاء ، على أن الحديث مشتمل على إمضاء الشهادة النظرية دون شهادة التحمل.
    وفي المناقب في هذا المعنى عن الباقر ( عليه السلام ) ولا يكون شهداء على الناس إلا الائمة والرسل ، وأما الامة فغير جايز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل.
    وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : « لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا » الآية ، فإن ظننت أن الله عنى بهذه الآية جميع اهل القبلة من الموحدين أفترى إن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ، ويقبلها منه بحضرة جميع الامم الماضية ؟ كلا ! لم يعن الله مثل هذا من خلقة ، يعني الامة التي وجبت لها دعوة إبراهيم كنتم خير أمة ، أخرجت للناس وهم الامة الوسطى وهخير امة أخرجت للناس ،
    اقول : وقد مر بيان ذلك في ذيل الآية بالاستفادة من الكتاب.
    وفي قرب الاسناد عن الصادق ( عليه السلام ) عن أبيه عن النبي قال مما أعطى الله أمتي وفضلهم على سائر الامم أعطاهم ثلث خصال لم يعطها إلا نبي ـ إلى أن قال ـ وكان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه ، وإن الله تبارك وتعالى جعل امتي شهيدا على الخلق ، حيث يقول ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس الحديث.
     اقول : والحديث لا ينافي ما مر ، فان المراد بالامة الامة المسلمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم.
    وفي تفسير العياشي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : في حديث يصف فيه يوم القيامة ، قال ( عليه السلام ) يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق ، فلا يتكلم أحد إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، فيقام الرسول فيسئل فذلك قوله لمحمد فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، وهو الشهيد على الشهداء ، والشهداء هم الرسل.


(333)
    وفي التهذيب عن أبي بصير عن أحدهما ( عليهما السلام ) ، قال قلت له أمره أن يصلي إلى بيت المقدس ؟ قال نعم ألا ترى أن الله تبارك وتعالى يقول وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ممن ينقلب على عقبيه الآية.
     أقول : مقتضى الحديث كون قوله تعالى التي كنت عليها وصفا للقبلة ، والمراد بها بيت المقدس ، وأنه القبلة التي كان رسول الله عليها ، وهو الذي يؤيده سياق الآيات كما تقدم.
    ومن هنا يتأيد ما في بعض الاخبار عن العسكري ( عليه السلام ) : أن هوى أهل مكة كان في الكعبة فأراد الله أن يبين متبع محمد من مخالفيه باتباع القبلة التي كرهها ، ومحمد يأمر بها ، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليبين من يتبع محمدا فيما يكرهه ـ فهو مصدقه وموافقه الحديث ، وبه يتضح أيضا فساد ما قيل : إن قوله تعالى التي كنت عليها مفعول ثان لجعلنا ، والمعنى : وما جعلنا القبلة ، هي الكعبة التي كنت عليها قبل بيت المقدس ، واستدل عليها بقوله تعالى إلا لنعلم من يتبع الرسول ، وهو فاسد ، ظهر فساده مما تقدم.
    وفي تفسير العياشي عن الزبيري عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قلت له ألا تخبرني عن الايمان ، أقول هو وعمل أم قول بلا عمل ؟ فقال الايمان عمل كله والقول بعض ذلك العمل ، مفروض من الله ، مبين في كتابه ، واضح نوره ثابت حجته ، يشهد له بها الكتاب ويدعو إليه ، ولما أن صرف الله نبيه إلى الكعبة عن بيت المقدس قال المسلمون : للنبي أرأيت صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس ، ما حالنا فيها وما حال من مضى من أمواتنا ، وهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ، فسمى الصلوة إيمانا ، فمن اتقى الله حافظا لجوارحه موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض الله عليه لقي الله مستكملا لايمانه من أهل الجنة ، ومن خان في شئ منها أو تعدى ما أمر الله فيها لقي الله ناقص الايمان.
     اقول : ورواه الكليني أيضا ، واشتماله على نزول قوله « وما كان الله ليضيع إيمانكم » الآية ، بعد تغيير القبلة لا ينافي ما تقدم من البيان.
    وفي الفقيه أن النبي صلى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة وتسعة عشر شهرا بالمدينة ، ثم عيرته اليهود فقالوا إنك تابع لقبلتنا ، فاغتم لذلك غما شديدا ،


(334)
فلما كان في بعض الليل خرج يقلب وجهه في آفاق السماء ، فلما أصبح صلى الغداة ، فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له « قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام » الآية ، ثم أخذ بيد النبي فحول وجهه إلى الكعبة ، وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال ، فكان أول صلوتة إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فبلغ الخبر مسجدا بالمدينة وقد صلى أهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبله ، فكان أول صلوتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.
     أقول : وروى القمي نحوا من ذلك ، وأن النبي كان في مسجد بني سالم.
    وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) في قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية ، قال استقبل القبلة ، ولا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلوتك ، فان الله يقول لنبيه في الفريضة فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره.
     اقول : والاخبار في نزول الآية في الفريضة واختصاصها بها كثيرة مستفيضة.
    وفي تفسير القمي عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه » الآية ، قال نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى ، يقول الله تبارك وتعالى : « والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه يعني يعرفون رسول الله كما يعرفون أبنائهم » لان الله عزوجل قد أنزل عليهم في التوراة والانجيل والزبور صفة محمد وصفة أصحابه ومهاجرته ، وهو قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا ـ يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل ، وهذه صفة رسول الله في التوراة وصفة أصحابه ، فلما بعثه الله عزوجل عرفه أهل الكتاب كما قال جل جلاله : فلما جائهم ما عرفوا كفروا به.
     اقول : وروى نحوا منه في الكافي عن علي ( عليه السلام )
    وفي أخبار كثيرة من طرق الشيعة أن قوله تعالى ، أينما تكونوا يأت بكم الله


(335)
جميعا الآية في أصحاب القائم ، وفي بعضها أنه من التطبيق والجرى.
    وفي الحديث من طرق العامة في قوله تعالى : ولاتم نعمتي عليكم ، عن علي تمام النعمة الموت على الاسلام.
    وفي الحديث من طرقهم أيضا تمام النعمة دخول الجنة.

    تشريع القبلة في الاسلام ، واعتبار الاستقبال في الصلوة ـ وهى عبادة عامة بين المسلمين ـ وكذا في الذبائح ، وغير ذلك مما يبتلى به عموم الناس أحوج الناس إلى البحث عن جهة القبلة وتعيينها وقد كان ذلك منهم في اول الامر بالظن والحسبان ونوع من التخمين ، ثم استنهض الحاجة العمومية الرياضيين من علمائهم أن يقربوه من التحقيق ، فاستفادوا من الجداول الموضوعة في الزيجات لبيان عرض البلاد وطولها ، واستخرجوا انحراف مكة عن نقطة الجنوب في البلد ، أي انحراف الخط الموصول بين البلد ومكة عن الخط الموصول بين البلد ونقطة الجنوب ( خط نصف النهار ) بحساب الجيوب والمثلثات ثم عينوا ذلك في كل بلدة من بلاد الاسلام ، بالدائرة الهندية المعروفة المعينة لخط نصف النهار ، ثم درجات الانحراف وخط القبلة.
    ثم استعملوا لتسريع العمل وسهولته الآلة المغناطيسية المعروفة بالحك ، فإنها بعقربتها تعين جهة الشمال والجنوب ، فتنوب عن الدائرة الهندية في تعيين نقطة الجنوب وبالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخص جهة القبلة.
    لكن هذا السعي منهم ـ شكر الله تعالى سعيهم ـ لم يخل من النقص والاشتباه من الجهتين جميعا. أما من جهة الاولى : فإن المتأخرين من الرياضيين عثروا على ان المتقدمين اشتبه عليهم الامر في تشخيص الطول ، واختل بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة ، وذلك ان طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد ـ وهو ضبط ارتفاع القطب الشمالي ـ كان اقرب إلى التحقيق ، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول ، وهو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثة سماوية مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشمس حسا عندهم ، وهو التقدير بالساعة ، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيرا


(336)
وعلى غير دقة لكن توفر الوسائل وقرب الروابط اليوم سهل الامر كل التسهيل ، فلم تزل الحاجة قائمة على ساق ، حتى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير ، بالسردار الكابلي ، ـ رحمة الله عليه ـ في هذه الاواخر بهذا الشأن فاستخرج الانحراف القبلي بالاصول الحديثة ، وعمل فيه رسالته المعروفة ، بتحفة الاجلة في معرفة القبلة ، وهي رسالة ظريفة بين فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضي ، ووضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد.
    ومن ألطف ما وفق له في سعيه ـ شكر الله سعيه ـ ما أظهر به كرامة باهرة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في محرابه المحفوظ في مسجد النبي بالمدينة 25. 75.20
    وذلك : أن المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض 25 درجة وطول 75 درجة 20 دقيقة ، وكانت لا توافقه قبلة محراب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مسجده ، لذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في امر قبله المحراب وربما ذكروا في انحرافه وجوها لا تصدقها حقيقة الامر لكنه ـ رحمه الله ـ اوضح ان المدينة على عرض 24 درجة 57 دقيقة وطول 39 درجة 59 دقيقة وانحراف. درجة 45 دقيقة تقريبا. وانطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق وبدت بذلك كرامة باهرة للنبي في قبلته التي وجه وجهه إليها وهو في الصلوة ، وذكران جبرئيل أخذ بيده وحول وجهه إلى الكعبة ، صدق الله ورسوله.
    ثم استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزاق البغائري رحمة الله عليه قبلة أكثر بقاع الارض ونشر فيها رسالة في معرفة القبلة ، وهي جداول يذكر فيها ألف وخمسمأه بقعة من بقاع الارض وبذلك تمت النعمة في تشخيص القبلة.
     وأما الجهة الثانية : وهي الجهة المغناطيسية ، فإنهم وجدوا أن القطبين المغناطيسيين في الكرة الارضية ، غير منطبقين على القطبين الجغرافيين منها ، فإن القطب المغناطيسي الشمالي مثلا على أنه متغير بمرور الزمان ، بينه وبين القطب الجغرافيائي الشمالي ما يقرب من ألف ميل ، وعلى هذا فالحك لا يشخص القطب الجنوبي الجغرافي بعينه ، بل ربما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه ، وقد أنهض هذا المهندس الرياضي الفاضل الزعيم حسين علي رزم آرا في هذه الايام وهي سنة 1332 هجرية شمسية على حل هذه المعضلة ، واستخراج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافي والمغناطيسي بحسب النقاط المختلفة ،


(337)
وتشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسي فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الارض ، واختراع حك يتضمن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة ، وها هو اليوم دائر معمول ـ شكر الله سعيه ـ.

    لمتأمل في شئون الاجتماع الانساني ، والناظر في الخواص والآثار التي يتعقبها هذا الامر المسمى بالاجتماع من جهة أنه اجتماع لا يشك في أن هذا الاجتماع إنما كونة ثم شعبته وبسطته إلى شعبه وأطرافه الطبيعة الانسانية ، لما استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء والاستكمال إلى أفعال اجتماعية فتلتجئ إلى الاجتماع وتلزمها لتوفق إلى أفعالها وحركاتها وسكناتها في مهد تربية الاجتماع وبمعونته. ثم استشعرت والهمت بعلوم ( صور ذهنية ) وإدراكات توقعها على المادة وعلى حوائجها فيها وعلى أفعالها ، وجهات أفعالها تكون هي الوصلة والرابطة بينها وبين أفعالها وحوائجها كاعتقاد الحسن والقبح ، وما يجب ، وما ينبغي ، وسائر الاصول الاجتماعية ، من الرئاسة والمرئوسية والملك والاختصاص ، والمعاملات المشتركة والمختصة ، وسائر القواعد والنواميس العمومية والآداب والرسوم القومية التي لا تخلو عن التحول والاختلاف باختلاف الاقوام والمناطق و الاعصار ، فجميع هذه المعاني والقواعد المستقرة عليها من صنع الطبيعة الانسانية بإلهام من الله سبحانه ، تلطفت بها طبيعة الانسان ، لتمثل بها ما تعتقدها وتريدها من المعاني في الخارج ، ثم تتحرك إليها بالعمل ، والفعل والترك ، والاستكمال.
     وتوجه العبادي إلى الله سبحانه ، وهو المنزه عن شئون المادة ، والمقدس عن تعلق الحس المادي إذا اريد أن يتجاوز حد القلب والضمير ، وتنزل على موطن الافعال ـ وهي لا تدور إلا بين الماديات ـ لم يكن في ذلك بد ومخلص من أن يكون على سبيل التمثيل بأن يلاحظ التوجهات القلبية على اختلاف خصوصياتها ، ثم تمثل في الفعل بما يناسبها من هيئات الافعال وأشكالها ، كالسجدة يراد بها التذلل ، والركوع يراد به


(338)
التعظيم ، والطواف يراد به تفدية النفس ، والقيام يراد به التكبير ، والوضوء والغسل يراد بهما الطهارة للحضور ونحو ذلك. ولا شك أن التوجه إلى المعبود ، واستقباله من العبد في عبوديته روح عبادته ، التي لولاها لم يكن لها حيوة ولا كينونة ، وإلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها وثباتها واستقرار تحققها.
    وقد كان الوثنيون ، وعبدة الكواكب وسائر الاجسام من الانسان وغيره ستقبلون معبوداتهم وآلهتهم ، ويتوجهون إليهم بالابدان في أمكنة متقاربة.
    لكن دين الانبياء ونخص بالذكر من بينها دين الاسلام الذي يصدقها جميعا وضع الكعبة قبلة ، وأمر باستقبالها في الصلوة ، التي لا يعذر فيها مسلم ، أينما كان من أقطار الارض وآفاقها ، ونهي عن استقبالها واستدبارها في حالات وندب إلى ذلك في أخرى فاحتفظ على قلب الانسان بالتوجه إلى بيت الله ، وأن لا ينسى ربه في خلوته وجلوته ، وقيامه وقعوده ، ومنامه ويقظته ، ونسكه وعبادته حتى في أخس حالاته وأرديها فهذا بالنظر إلى الفرد.
     وأما بالنظر إلى الاجتماع ، فالامر أعجب والاثر أجلى وأوقع فقد جمع الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم على التوجه إلى نقطة واحدة ، يمثل بذلك وحدتهم الفكرية وارتباط جامعتهم ، والتيام قلوبهم ، وهذا ألطف روح يمكن أن تنفذ في جميع شئون الافراد في حيويتها المادية والمعنوية تعطي من الاجتماع إرقاه ، ومن الوحدة أوفاها وأقويها ، خص الله تعالى بها عباده المسلمين ، وحفظ به وحدة دينهم ، وشوكة جمعهم ، حتى بعد أن تحزبوا أحزابا ، وافترقوا مذاهب وطرائق قددا ، لا يجتمع منهم اثنان على رأي ، نشكر الله تعالى على آلاله.


(339)
    فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ـ 152.
( بيان )
    لما امتن الله تعالى على النبي والمسلمين ، بإرسال النبي الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدر بقدر ومنحه على منحة ـ وهو ذكر منه لهم ـ إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط ، وسوقهم إلى أقصى الكمال ، وزيادة على ذلك ، وهو جعل القبلة ، الذي فيه كمال دينهم ، وتوحيد عبادتهم ، وتقويم فضيلتهم الدينية والاجتماعية فرع على ذلك دعوتهم إلى ذكره وشكره ، ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إياه بعبوديته وطاعته ، ويزيدهم على شكرهم لنعمته وعدم كفرانهم ، وقد قال تعالى : « واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا » الكهف ـ 24. وقال تعالى : « لان شكرتم لازيدنكم » إبراهيم ـ 7. والآيتان جميعا نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة.
    ثم إن الذكر ربما قابل الغفلة كقوله تعالى « وتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا » الكهف ـ 28 ، وهي انتفاء العلم بالعلم ، مع وجود أصل العلم ، فالذكر خلافه ، وهو العلم بالعلم ، وربما قابل النسيان وهو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن ، فالذكر خلافه ، ومنه قوله تعالى « واذكر ربك إذا نسيت » الاية. وهو حينئذ كالنسيان معنى ذو آثار وخواص تتفرع عليه ، ولذلك ربما أطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقق فيها آثارهما وإن لم تتحقق أنفسهما ، فإنك أذا لم تنصر صديقك ـ وأنت تعلم حاجته إلى نصرك فقد نسيته ، والحال أنك تذكره ، وكذلك الذكر.
     والظاهر أن إطلاق الذكر على الذكر اللفظي من هذا القبيل ، فإن التكلم عن الشئ من آثار ذكره قلبا ، قال تعالى « قل سأتلوا عليكم منه ذكرا » الكهف ـ 83. ونظائره كثيرة ، ولو كان الذكر اللفظي أيضا ذكرا حقيقة فهو من مراتب الذكر ، لانه مقصور عليه ومنحصر فيه ، وبالجملة : الذكر له مراتب كما قال تعالى : « ألا بذكر الله تطمئن القلوب » الرعد ـ 28 ، وقال « واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول » الاعراف ـ 205 ، وقال تعالى « فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد


(340)
ذكرا » البقرة ـ 200 ، فالشدة إنما يتصف به المعنى دون اللفظ ، وقال تعالى « واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا » الكهف ـ 24 ، وذيل هذه الآية تدل على الامر برجاء ما هو أعلى منزلة مما هو فيه ، فيؤل المعنى إلى أنك إذا تنزلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها ، وهو النسيان ، فاذكر ربك وارج بذلك ما هو أقرب طريقا وأعلى منزلة ، فينتج أن الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه ، وبذلك يتبين صحة قول القائل : أن الذكر حضور المعنى عند النفس ، فان الحضور ذو مراتب.
    ولو كان لقوله تعالى ، فاذكروني ـ وهو فعل متعلق بياء المتكلم حقيقة من دون تجوز أفاد ذلك ، أن للانسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الذي هو حصول صورة المعلوم ومفهومه عند العالم ، إذ كلما فرض من هذا القبيل فهو تحديد وتوصيف للمعلوم من العالم ، وقد تقدست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين ، قال تعالى « سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين » الصافات ـ 160 ، وقال : « ولا يحيطون به علما » طه ـ 110 ، وسيجئ بعض ما يتعلق بالمقام في الكلام على الآيتين إنشاء الله.
( بحث روائي )
    تكاثرت الاخبار في فضل الذكر من طرق العامة والخاصة ، فقد روي : بطرق مختلفة أن ذكر الله حسن على كل حال.
    وفي عدة الداعي قال : وروي : أن رسول الله قد خرج على أصحابه ، فقال : ارتعوا في رياض الجنة ، قالوا : يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال : مجالس الذكر اغدوا وروحوا واذكروا ، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه ، واعلموا : أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم ، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى ، فانه تعالى أخبر عن نفسه فقال : أنا جليس من ذكرني ، وقال تعالى : « فاذكروني أذكركم بنعمتي » ، اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والاحسان والراحة والرضوان.


(341)
    وفي المحاسن ودعوات الراوندي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : ان الله تبارك وتعالى يقول : من شغل بذكري عن مسئلتي ، اعطيه افضل ما اعطي من سئلني.
    وفي المعاني عن الحسين البزاز قال : قال : لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) ألا احدثك باشد ما فرض الله على خلقة ؟ قلت : بلى قال ، إنصاف الناس من نفسك ، ومواساتك لاخيك ، وذكر الله في كل موطن ، أما إني لا اقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر ، وان كان هذا من ذاك ، ولكن ذكر الله في كل موطن ، إذا هجمت على طاعته أو معصيته.
     اقول : وهذا المعنى مروي بطرق كثيرة عن النبي وأهل بيته ( عليه السلام ) وفي بعضها وهو قول الله : « الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون » الآية.
    وفي عدة الداعي عن النبي ، قال قال سبحانه : إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي ، نقلت شهوته في مسئلتي ومناجاتي ، فإذا كان عبدي كذلك وأراد ان يسهو حلت بينه وبين أن يسهو ، أولئك أوليائي ، حقا ، أولئك الابطال حقا ، أولئك الذين إذا اردت أن أهلك أهل الارض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الابطال. وفي المحاسن عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قال الله تعالى : ابن آدم اذكرني في نفسك اذكرك في نفسي ، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء ، اذكرني في ملا أذكرك في ملاء خير من ملائك ، وقال : ما من عبد يذكر الله في ملا من الناس الا ذكره الله في ملا من الملائكة.
     أقول : وقد روي هذا المعنى بطرق كثيرة في كتب الفريقين.
    وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن إبن مسعود قال : قال : رسول الله ، من أعطى أربعا أعطي أربعا ، وتفسير ذلك في في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله ، لان الله يقول : اذكروني اذكركم ، ومن اعطى الدعاء اعطي الاجابة ، لان الله يقول : ادعوني استجب لكم ، ومن اعطي الشكر أعطي الزيادة ، لان الله يقول : لئن شكرتم لازيدنكم ، ومن اعطي الاستغفار اعطي المغفرة لان الله يقول : استغفروا ربكم إنه كان غفارا.


(342)
    وفي الدر المنثور أيضا أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في شعب الايمان عن خالد بن ابي عمران ، قال : قال : رسول الله ، من أطاع الله فقد ذكر الله ، وان قلت صلوته وصيامه وتلاوته للقرآن ، ومن عصى الله فقد نسي الله ، وإن كثرت صلوته وصيامه وتلاوته للقرآن.
     اقول : في الحديث إشارة إلى ان المعصية لا تتحقق من العبد إلا بالغفلة والنسيان فإن الانسان لو ذكر ما حقيقة معصيته وما لها من الاثر لم يقدم على معصيته ، حتى ان من يعصي الله ولا يبالي إذا ذكر عند ذلك بالله ، ولا يعتني بمقام ربه هو طاغ جاهل بمقام ربه وعلو كبريائه وكيفية إحاطته ، وإلى ذلك تشير ايضا رواية اخرى ، رواها الدر المنثور ، عن أبي هند الداري ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال الله : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ومن ذكرني ـ وهو مطيع ـ فحق علي أن اذكره بمغفرتي ، ومن ذكرني ـ وهو عاص ـ فحق علي أن أذكره بمقت الحديث ، وما اشتمل عليه هذا الحديث من الذكر عند المعصية هو الذي تسميه الآية وسائر الاخبار بالنسيان لعدم ترتب آثار الذكر عليه ، وللكلام بقايا سيجئ شطر منها.
    يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين ـ 153. ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ـ 154. ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر لصابرين ـ 155. الذين إذا أصابتهم مصبية قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ـ 156. أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون ـ 157.


(343)
( بيان )
    خمس آيات متحدة السياق ، متسقة الجمل ، ملتئمة المعاني ، يسوق أولها إلى آخرها ويرجع آخرها إلى أولها ، وهذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة وسياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الامر بالقتال وتشريع حكم الجهاد ، ففيه ذكر من بلا سيقبل على المؤمنين ، ومصيبة ستصيبهم ، ولا كل بلاء ومصيب ، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث ، فإن نوع الانسان كسائر الانواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث ، جزئية يختل بها نظام الفرد في حيوته الشخصية : من موت ومرض وخوف وجوع وغم وحرمان ، سنة الله التي جرت في عباده وخلقه ، فالدار دار التزاحم ، والنشأة نشأة التبدل والتحول ، ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا.
     والبلاء الفردي وإن كان شاقا على الشخص المبتلى بذلك ، مكروها ، لكن ليس مهولا مهيبا تلك المهابة التى تترائى بها البلايا والمحن العامة ، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله وعزمه وثبات نفسه من قوى سائر الافراد ، وأما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي وجملة الرأي والحزم والتدبير من الهيئة ، المجتمعة ، ويختل به نظام الحيوة منهم ، فيتضاعف الخوف وتتراكم الوحشة ويضطرب عندها العقل والشعور وتبطل العزيمة والثبات ، فالبلاء العام والمحنة الشاملة أشق وأمر ، وهو الذي تلوح له الآيات.
    ولا كل بلاء عام كالوباء والقحط بل بلاء عام قربتهم منها أنفسهم ، فإنهم أخذوا دين التوحيد ، وأجابوا دعوة الحق ، وتخالفهم فيه الدنيا وخاصة قومهم ، وما لهؤلاء هم إلا إطفاء نور الله ، واستيصال كلمة العدل ، وإبطال دعوة الحق ، ولا وسيلة تحسم مادة النزاع وتقطع الخلاف غير القتال ، فسائر الوسائل كإقامة الحجة وبث الفتنة ، وإلقاء الوسوسة والريبة وغيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة ، فالحجة مع النبي والوسوسة والفتنة والدسيسة ما كانت تؤثر أثرا تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلا القتال والاستعانة به على سد سبيل الحق ، وإطفاء نور الدين اللامع المشرق. هذا من جانب الكفر ، والامر من جانب الدين أوضح ، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد ،


(344)
وبث دين الحق ، وحكم العدل ، وقطع دابر الباطل وسيلة إلا القتال ، فإن التجارب الممتد من لدن كان الانسان نازلا فيهذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أميط الباطل ، ولن يماط إلا بضرب من إعمال القدرة والقوة.
     وبالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله ، وتوصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهي مكروهة ، ولا صفة سوء ، وهو أنه ليس بموت بل حيوة ، وأي حيوة !
    فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال ، وتخبرهم أن أمامهم بلاء ومحنة لن تنالوا مدارج المعالي ، وصلوة ربهم ورحمته ، والاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها ، وتحمل مشاقها ، ويعلمهم ما يستعينون به عليها ، وهو الصبر والصلوة ، أما الصبر : فهو وحده الوقاية من الجزع واختلال أمر التدبير ، وأما الصلوة : فهي توجه إلى الرب ، وانقطاع إلى من بيده الامر ، وأن القوة لله جميعا.
     قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا إستعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين » الآية ، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر والصلوة في تفسير قوله : « واستعينوا بالصبر والصلوة وأنها لكبيرة إلا على الخاشعين » البقرة ـ 45 ، والصبر : من أعظم الملكات والاحوال التي يمدحها القرآن ، ويكرر الامر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه : « إن ذلك من عزم الامور » لقمان ـ 17 ، وقيل : « وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم » فصلت ـ 35 ، وقيل : « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » الزمر ـ 10.
     والصلوة : من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها : « إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر » العنكبوت ـ 45 ، وما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلوة رأسها وأولها.
    ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر ، وإنما لم يصف الصلوة ، كما في قوله تعالى : « وأستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة » الآية ، لان المقام في هذه الآيات ، مقام ملاقات الاهوال ومقارعة الابطال ، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الاية السابقة ، فلذلك قيل : إن الله مع الصابرين ، وهذه المعية غير المعية


(345)
التي يدل عليه قوله تعالى : « وهو معكم أينما كنتم » الحديد ـ 4 ، فإنها معية الاحاطة والقيمومة ، بخلاف المعية مع الصابرين ، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج.
     قوله تعالى : « ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون » الاية ، ربما يقال : إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الاخر وأذعنوا بالحيوة الاخرة ، ولا يتصور منهم القول ببطلان الانسان بالموت ، بعد ما أجابوا دعوة الحق وسمعوا شيئا كثيرا من الايات الناطقة بالمعاد ، مضافا إلى أن الاية إنما تثبت الحيوة بعد الموت في جماعة مخصوصين ، وهم الشهداء المقتولون في سبيل الله ، في مقابل غيرهم من المؤمنين ، وجميع الكفار ، مع أن حكم الحيوة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحيوة بقاء الاسم ، والذكر الجميل على مر الدهور ، وبذلك فسره جمع من المفسرين.
     ويرده أولا : أن كون هذه حيوة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج ، فهي حيوة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم ، ومثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه ، وهو تعالى يدعو إلى الحق ، ويقول : « فما ذا بعد الحق إلا الضلال » يونس ـ 32 ، وأما الذي سئله إبراهيم في قوله « واجعل لي لسان صدق في الاخرين » الشعراء ـ 84 ، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة ، ولسانه الصادق بعده ، لا حسن ثنائه وجميل ذكره بعده فحسب.
    نعم هذا القول الباطل ، والوهم الكاذب إنما يليق بحال المادين ، وأصحاب الطبيعة ، فإنهم اعتقدوا : مادية النفوس وبطلانها بالموت ونفوا الحيوة الآخرة ثم أحسوا بإحتياج الانسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس وتأثرها بالسعادة والشقاء ، بعد موتها في معالي أمور ، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية والتضحية ، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت ويقتل فيها أقوام ليحيي ويعيش آخرون ، ولو كان كل من مات فقد فات لم يكن داع للانسان ( وخاصة إذا اعتقد بالموت والفوت ) أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين ، ولا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل ، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا ويأخذ بدله وأما الاعطاء من غير بدل ، والترك من غير أخذ ، كالموت في سبيل حيوة الغير ، والحرمان في طريق
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الأول ::: فهرس