الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: 301 ـ 315
(301)
     وحيث كان الاجتماع متكئا في وجوده على الطبيعة جرى فيه أيضا نظير القانونين : أعني : قانوني تنازع البقاء ، والانتخاب وبقاء الامثل.
    فالاجتماع الكامل وهو الاجتماع المبني على اساس الاتحاد الكامل المحكم المرعي فيه حقوق الافراد : الفردية والاجتماعية أحق بالبقاء ، وغيره أحق بالفناء والانقراض ، والتجارب قاض ببقاء الامم الحية المراقبة لوظائفها الاجتماعية المحافظة على سلوك صراطها الاجتماعي ، وانقراض الامم بتفرق القلوب ، وفشو النفاق وشيوع الظلم والفساد وإتراف الكبراء وانهدام بنيان الجد فيهم ، والاجتماع يحاكي في ذلك الطبيعة كما ذكر. فالبحث في الآثار الارضية يوصلنا إلى وجود أنواع من الحيوان في العهود الاولية الارضية هي اليوم من الحيوانات المنقرضة الانواع كالحيوان المسمى برونتوساروس أو التي لم يبق من أنواعها إلا انموذجات يسيرة كالتمساح والضفدع ولم يعمل في إفنائها وانقراضها الا تنازع البقاء ، والانتخاب الطبيعي وبقاء الامثل ، وكذلك الانواع الموجودة اليوم لا تزال تتغير تحت عوامل التنازع والانتخاب ، ولا يصلح منها للبقاء إلا الامثل والاقوى وجودا ، ثم يجره حكم الوراثة إلى استمرار الوجود وبقاء النوع ، وعلى هذه الوتيرة كانت الانواع والتراكيب الموجودة في أصل تكونها فإنما هي أجزاء المادة المنبثة في الجو حدثت بتراكمها وتجمعها الكرات والانواع الحادثة فيها ، فما كان منها صالحا للبقاء بقي ثم توارث الوجود ، وما كان منها غير صالح لذلك لمنازعة ما هو أقوى منه معه فسد وانقرض ، فهذا ما ذكره علماء الطبيعة والاجتماع.
    وقد ناقضه المتأخرون بكثير من الانواع الضعيفة الوجود الباقية بين الانواع حتى اليوم ، وبكثير من اصناف الانواع النباتية والحيوانية فإن وقوع التربية بتأهيل كثير من انواع النبات والحيوان واخراجها من البرية والوحشية ، وسيرها بالتربية إلى جودة الجنس وكمال النوع مع بقاء البري والوحشي منها على الردائة ، وسيرهما إلى الضعف يوما فيوما ، واستقرار التوارث فيها على تلك الصفة ، كل ذلك يقضي بعدم اطراد القاعدتين أعني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي.
    ولذلك علل بعضهم هذه الصفة الموجودة بين الطبيعيات بفرضية اخرى ، وهي تبعية المحيط فالمحيط الموجود وهو مجموع العوامل الطبيعية تحت شرائط خاصة زمانية


(302)
ومكانية يستدعي تبعية الموجود في جهات وجوده له ، وكذلك الطبيعة الموجودة في الفرد توجب تطبيق وجوده بالخصوصيات الموجودة في محيط حياته ، ولذلك كانت لكل نوع من الانواع التي تعيش في البر أو البحر أو في مختلف المناطق الارضية القطبية أو الاستوائية وغير ذلك ، من الاعضاء والادوات والقوى ما يناسب منطقة حياته وعيشته ، فمحيط الحياة هو الذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود بمقتضياته والزوال والفناء عند عدم انطباقه بمقتضياته ، فالقاعدتان ينبغي ان تنتزعا من هذا القانون أعنى : ان الاصل في قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي هو تبعية المحيط ، ففيما لا اطراد للقاعدتين لا ميحط مؤثر يوجب التأثير ، ولكن لقاعدة تبعية المحيط من النقض في اطرادها نظير ما للقاعدتين ، وقد فصلوها في مظانها.
    ولو كان تبعية المحيط تامة في تأثيرها ومطردة في حكمها كان من الواجب ان لا يوجد نوع أو فرد غير تابع ، ولا ان يتغير محيط في نفسه كما ان القاعدتين لو كانتا تامتين مطردتين في حكمهما وجب ان لا يبقى شيء من الموجودات الضعيفة الوجود مع القوية منها ولا ان يجري حكم التوارث في الاصناف الردية من النبات والحيوان.
    فالحق كما ربما اعترفت به الابحاث العلمية ان هذه القواعد على ما فيها من الصحة في الجملة غير مطردة.
    والنظر الفلسفي الكلي في هذا الباب : ان أمر حدوث الحوادث المادية سواء كان من حيث أصل وجودها أو التبدلات والتغيرات الحادثة في اطراف وجودها يدور مدار قانون العلية والمعلولية ، فكل موجود من الموجودات المادية بما لها من الصورة الفعالة لنفع وجوده يوجه أثره إلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه ، وهذه حقيقة لا محيص عن الاعتراف بها عند التأمل في حال الموجودات بعضها مع بعض ، ويستوجب ذلك ان ينقص كل من كل لنفع وجود نفسه فيضم ما نقصه إلى وجود نفسه بنحو ، ولازم ذلك ان يكون كل موجود فعالا لابقاء وجوده وحياته ، وعلى هذا صح ان يقال : إن بين الموجودات تنازعا في البقاء ، وكذلك لازم التأثير العلي ان يتصرف الاقوى في الاضعف بإفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه ، وبذلك يمكن ان يوجه القانونان أعني : الانتخاب الطبيعي وتبعية المحيط ، فإن النوع لما كان تحت


(303)
تأثير العوامل المضادة فإنما يمكنه ان يقاومها إذا كان قوي الوجود قادرا على الدفاع عن نفسه ، وكذلك الحال في افراد نوع واحد ، إنما يصلح للبقاء منها ما قوي وجوده قبال المنافيات والاضداد التي تتوجه إليه ، وهذا هو الانتخاب الطبيعي وبقاء الامثل ، وكذا إذا اجتمعت عدة كثيرة من العوامل ثم اتحدت اكثرها أو تقاربت من حيث العمل فلا بد ان يتأثر منها الموجود الذي توسط بينها الاثر الذي يناسب عملها ، وهذا هو تبعية المحيط.
    ومما يجب ان يعلم : ان أمثال هذه النواميس أعني : تبعية المحيط وغيرها إنما يؤثر فيما صح ان يؤثر ، في عوارض وجود الشئ ولواحقه ، واما نفس الذات بأن يصير نوعا آخر فلا ، لكن القوم حيث كانوا لا يقولون بوجود الذات الجوهري بل يبنون البحث على ان كل موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادة ، وبذلك يمتاز نوع من نوع ، وبالحقيقة لانوع جوهرة يباين نوعا جوهريا آخر ، بل جميع الانواع تتحلل إلى المادة الواحدة نوعا المختلفة بحسب التراكيب المتنوعة ، ومن هنا تراهم يحكمون بتبدل الانواع وبتبعية المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعية ولا يبالون بتبدل الذات فيها ، وللبحث ذيل ممتد سيمر بك انشاء الله تفصيل القول فيه.
    ونرجع إلى أول الكلام فنقول : ذكر بعض المفسرين : ان قوله تعالى ، « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين » الآية اشارة إلى قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي.
    قال : ويقرر ذلك قوله تعالى : « أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز الذين ان مكناهم في الارض أقاموا الصلاه وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور » الحج ـ 41 ، فهذا ارشاد إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحق ، وانه ينتهى ببقاء الامثل وحفظ الافضل.
    ومما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى : « انزل من السماء مائا فسالت أوديه بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية


(304)
أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفائا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الامثال » الرعد ـ 17 ، فهو يفيد ان سيول الحوادث وميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع وتدفعه وتبقى ابليز (1) الحق النافع الذي ينمو فيه العمران ، وابريز المصلحة التي يتحلى به الانسان ، انتهى.
    أقول : أما ان قاعدة تنازع البقاء وكذا قاعدة الانتخاب الطبيعي ( بالمعنى الذي مر بيانه ) حق في الجملة ، وان القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه ، لكن هذين الصنفين الذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شيء من القاعدتين ، فإن الصنف الاول من الآيات مسوق لبيان ان الله سبحانه غير مغلوب في أرادته ، وان الحق وهو الذي يرتضيه الله من المعارف الدينية غير مغلوب ، وان حامله إذا حمله على الحق والصدق لم يكن مغلوبا ألبتة ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى أولا : « بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير » ، وقوله تعالى ثانيا : « الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا ان يقولوا ربنا الله » ، فان الجملتين في مقام بيان ان المؤمنين سيغلبون اعدائهم لا لمكان التنازع وبقاء الامثل الاقوى ، فإن الامثل والاقوى عند الطبيعة هو الفرد القوي في تجهيزه الطبيعي دون القوي من حيث الحق والامثل بحسب المعنى ، بل سيغلبون لانهم مظلومون ظلموا على قول الحق والله سبحانه حق وينصر الحق في نفسه ، بمعنى ان الباطل لا يقدر على ان يدحض حجة الحق إذا تقابلا ، وينصر حامل الحق إذا كان صادقا في حمله كما ذكره الله بقوله : « ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة » الخ ، أي هم صادقون في قولهم الحق وحملهم إياه ثم ختم الكلام بقوله تعالى : « ولله عاقبه الامور » ، يشير به إلى عدة آيات تفيد ان الكون يسير في طريق كماله إلى الحق والصدق والسعادة الحقيقية ، ولاريب أيضا في دلالة القرآن على ان الغلبة لله ولجنده البتة كما يدل عليه قوله : « كتب الله لاغلبن أنا ورسلي » المجادلة ـ 21 ، وقوله تعالى : « ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم
1 ـ الابليز : الطين الذي يأتي به النيل في ايام الطغيان ، والابريز الذهب الخالص المصفى وهما كلمتان معربتان أصلهما آب أو ليز أو آب ليس د ، وآب ريز.

(305)
الغالبون » الصافات ـ 173 ، وقوله تعالى : « والله غالب على أمره » يوسف ـ 21.
    وكذا الآية الثانية التي أوردها أعني قوله تعالى : أنزل من السماء مائا فسالت أودية بقدرها « الخ » ، مسوقة لبيان بقاء الحق وزهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحق والباطل الذين هما معا من سنخ الماديات والبقاء بينهما بنحو التنازع ، أو لم يكن على نحو التنازع ، والمضادة كما في الحق والباطل الذين هما بين الماديات والمعنويات فإن المعنى ، ونعني به الموجود المجرد عن المادة ، مقدم على المادة غير مغلوب في حال اصلا ، فالتقدم والبقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع ، وكما في الحق والباطل الذين هما معا من سنخ المعنويات والمجردات ، وقد قال تعالى : « وعنت الوجوه للحي القيوم » طه ـ 111 ، وقال تعالى : « له ما في السماوات والارض كل له قانتون » البقرة ـ 116 ، وقال تعالى : « وان إلى ربك المنتهى » النجم ـ 42 ، فهو تعالى ، غالب على كل شيء ، وهو الواحد القهار.
    وأما الآية التي نحن فيها أعني قوله تعالى : « ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض » الآية ، فقد عرفت انها في مقام الاشارة إلى حقيقة يتكى عليه الاجتماع الانساني الذي به عمارة الارض ، وباختلاله يختل العمران وتفسد الارض ، وهي غريزة الاستخدام الذي جبل عليه الانسان ، وتأديتها إلى التصالح في المنافع أعني التمدن والاجتماع التعاوني ، وهذا المعنى وإن كان بعض أعراقه واصوله التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي ، لكنه مع ذلك هو السبب القريب الذي يقوم عليه عمارة الارض ومصونيتها عن الفساد ، « فينبغي ان تحمل » الآية التي تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الارض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين.
    وبعبارة أخرى واضحة : القاعدتان وهما التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الواحدة فإن كلا من المتناز عين يريد بالنزاع إفناء الآخر وضم ما له من الوجود ومزاياه إلى نفسه ، والطبيعة بالانتخاب تريد ان يكون الواحد الذي هو الباقي منهما أقويهما وأمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة وبطلانها وتبدلها إلى واحد أمثل ، وهذا أمر ينافي الاجتماع والتعاون والاشتراك في الحياة الذي يطلبه الانسان بفطرته ويهتدي إليه بغريزته وبه عمارة الارض بهذا النوع ، لا إفناء قوم منه قوما ، وأكل بعضهم بعضا ، والدفع الذي تعمر به الارض ويصان


(306)
عن الفساد هو الدفع الذي يدعو إلى الاجتماع والاتحاد المستقر على الكثرة والجماعة دون الدفع الذي يدعو إلى إبطال الاجتماع وإيجاد الوحدة المفنية للكثرة ، فالقتال سبب لعمارة الارض وعدم فسادها من حيث أنه يحيى به حقوق اجتماعية حيوية لقوم مستهلكين مستذلين لا من حيث يتشتت به الجمع ويهلك به العين ويمحى به الاثر فافهم.
( بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه )
    التاريخ النقلي ونعني به ضبط الحوادث الكلية والجزئية بالنقل والحديث مما لم يزل الانسان من أقدم عهود حياته وأزمان وجوده في الارض مهتما به ، ففي كل عصر من الاعصار على ما نعلمه عدة من حفظته أو كتابه والمؤلفين فيه ، وآخرون يعتورون ما ضبطه أولئك ويأخذون ما اتحفوهم به ، والانسان ينتفع به في جهات شتى من حياته كالاجتماع والاعتبار والقص والحديث والتفكه وامور اخرى سياسية أو اقتصادية أو صناعية وغير ذلك.
    وإنه على شرافته وكثرة منافعه لم يزل ولا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان انحرافه عن صحة الطبع وصدق البيان إلى الباطل والكذب :
    أحدهما : انه لا يزال في كل عصر محكوما للحكومة الحاضرة التي بيدها القوة والقدرة يميل إلى اظهار ما ينفعها ويغمض عما يضرها ويفسد الامر عليها ، وليس ذلك إلا ما لانشك فيه ان الحكومات المقتدرة في كل عصر تهتم بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق وستر ما تستضر به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل والكذب بصورة الحق والصدق ، فإن الفرد من الانسان والمجتمع منه مفطوران على جلب النفع ودفع الضرر بأي نحو أمكن ، وهذا أمر لا يشك فيه من له أدنى شعور يشعر به الاوضاع العامة الحاضرة في زمان حياته ويتأمل به في تاريخ الامم الماضية والبعيدة.
    وثانيهما : ان المتحملين للاخبار والناقلين لها والمؤلفين فيها جميعهم لا يخلون من اعمال الاحساسات الباطنية والعصبيات القومية فيما يتحملون منها أو يقضون فيها ، فإن حملة الاخبار في الماضين ، والحكومة في أعصارهم حكومة الدين ، كانوا منتحلين بنحلة ومتدينين كل بدين ، وكانت الاحساسات المذهبية فيهم قوية والعصبيات القومية


(307)
شديدة فلا محالة كانت تداخل الاخبار التاريخية من حيث اشتمالها على احكام وأقضية كما ان العصبية المادية والاحساسات القوية اليوم للحرية على الدين وللهوى على العقل يوجب مداخلات من اهل الاخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه ، ومن هنا انك لا ترى أهل دين ونحلة فيما ألف أو جمع من الاخبار أودع شيئا يخالف مذهبه فما ضبطه اهل كل مذهب موافق لاصول مذهبه ، وكذا الامر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخية عملته أيديهم الا وفيه بعض التأييد للمذهب المادي.
    على ان هيهنا عوامل اخرى تستدعي فساد التاريخ ، وهو فقدان وسائل الضبط والاخذ والتحمل والنقل والتأليف والحفظ عن التغير والفقدان سابقا وهذه النقيصة وان ارتفعت اليوم بتقارب البلاد وتراكم وسائل الاتصال وسهولة نقل الاخبار والانتقال والتحول لكن عمت البلية من جهة اخرى وهي : ان السياسة داخلت جميع شؤن الانسان في حياته ، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنية ، وبحسب تحولها تتحول الاخبار من حال إلى حال ، وهذا مما يوجب سوء الظن بالتاريخ حتى كاد ان يورده مورد السقوط ، ووجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقلي هو السبب أو عمدة السبب في اعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخية على اساس الآثار الارضية ، وهذا وان سلمت عن بعض الاشكالات المذكورة كالاول مثلا ، لكنها غير خالية عن الباقي ، وعمدته مداخلة المؤرخ بما عنده من الاحساس والعصبية في الاقضية ، وتصرف السياسة فيها افشائا وكتمانا وتغييرا وتبديلا ، فهذا حال التاريخ وما معه من جهات الفساد الذي لا يقبل الاصلاح أبدا.
    ومن هنا يظهر : ان القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه ، فإنه وحي الهي منزه عن الخطأ مبرئ عن الكذب ، فلا يعارضه من التاريخ مالا مؤمن له يؤمنه من الكذب والخطأ ، فاغلب القصص القرآنية ( كنفس هذه القصة قصة طالوت ) يخالف ما يوجد في كتب العهدين ، ولا ضير فيه فإن كتب العهدين لا تزيد على التواريخ المعمولة التي قد علمت كيفية تلاعب الايدي فيها وبها ، على ان مؤلف هذه القصة وهي قصة صموئيل وشارل بلسان العهدين ، غير معلوم الشخص أصلا ، وكيف كان فلا نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافيا له في التواريخ وخاصة في كتب العهدين ، فالقرآن هو الكلام الحق من الحق عز اسمه.


(308)
    على ان القرآن ليس بكتاب تاريخ ولا أنه يريد في قصصه بيان التاريخ على حدما يرومه كتاب ، التاريخ وإنما هو كلام إلهي مفرغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ولذلك لا تراه يقص قصة بتمام أطرافها وجهات وقوعها ، وإنما يأخذ من القصة نكات متفرقة يوجب الامعان والتأمل فيها حصول الغاية من عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها. كما هو مشهود في هذه القصة قصة طالوت وجالوت حيث يقول تعالى : ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل ، ثم يقول : وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا « الخ » ، ثم يقول : وقال لهم نبيهم : إن آية ملكه ، ثم يقول : فلما فصل طالوت « الخ » ، ثم يقول فلما برزوا لجالوت ، ومن المعلوم ان اتصال هذه الجمل بعضها إلى بعض في تمام الكلام يحتاج إلى قصة طويلة ، وقد نبهناك بمثله فيما مر من قصة البقرة وهو مطرد في جميع القصص المقتصة في القرآن ، لا يختص بالذكر منها إلا مواضع الحاجة فيها ، من عبرة وموعظة وحكمة أو سنة إلهية في الايام الخالية والامم الدارجة ، قال تعالى : « لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب » يوسف ـ 111 ، وقال تعالى : « يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم » النساء ـ 26 ، وقال تعالى : « قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين » آل عمران ـ 138 ، إلى غير ذلك من الآيات.
    تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جائتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ـ 253. يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن ياتي يوم لابيع فيه ولاخلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون ـ 254.


(309)
( بيان )
    سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الانفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون ، وقد ختمت القصة بقوله تعالى : وانك لمن المرسلين الآية ، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ، ثم ترجع إلى شأن قتال أمم الانبياء بعدهم ، وقد قال في القصة السابقة أعني : قصة طالوت : ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى ، فأتى بقوله : من بعد موسى ، قيدا ، ثم ترجع إلى الدعوة إلى الانفاق من قبل ان يأتي يوم ، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة ، والجميع نازلة معا.
    وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم : ان الرسالة وخاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي ان يختم بها بلية القتال : إما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والاخروية بارسال الرسل وإيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد ، ويجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الانبياء في أممهم وخاصة بعد انتشار دعوة الاسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه واصول قوانينه؟ وإما من جهة أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على ايمان القلوب ، والايمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة وقهرا فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة؟ وهذا هو الاشكال الذي تقدم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال.
    والذي يجيب تعالى به : أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الامم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال ، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء لله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأسا ، ولو شاء لاعقم هذا السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد ، وقد أراد جري الامور على سنة الاسباب ، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية.


(310)
     قوله تعالى : « تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض » ، إشارة إلى فخامة امر الرسل وعلو مقامهم ولذلك جئ في الاشارة بكلمة تلك الدالة على الاشارة إلى بعيد ، وفيه دلالة على التفضيل الالهي الواقع بين الانبياء ( عليهم السلام ) ففيهم من هو افضل وفيهم من هو مفضل عليه ، وللجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع ، ففيما بين الرسل أيضا اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم اختلافا على ما يدل عليه ذيل الآية إلا ان بين الاختلافين فرقا ، فإن الاختلاف بين الانبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة ، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد ، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين امم الانبياء بعدهم فإنه اختلاف بالايمان والكفر ، والنفى والاثبات ، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف ، ولذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للانبياء تفضيلا ونسبه إلى نفسه ، وسمى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم ، فقال في مورد الرسل فضلنا ، وفي مورد أممهم اختلفوا.
    ولما كان ذيل الآية متعرضا لمسألة القتال مرتبطا بها والآيات المتقدمة على الآية أيضا راجعة إلى القتال بالامر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى : « تلك الرسل فضلنا إلى قوله بروح القدس مقدمة لتبيين ما في ذيل » الآية من قوله : « ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم » إلى قوله تعالى : ولكن الله يفعل ما يريد.
    وعلى هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل ( عليهم السلام ) مقام تنمو فيه الخيرات والبركات ، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الالهي وإيتاء البينات والتأييد بروح القدس ، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.
    وبعبارة أخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلا جديدا ، وكلما ملت إلى نحو من انحائه ألفيت غضا طريا ، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والاتيان بالآيات البينات لايتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والايمان ، فإن هذا الاختلاف إنما يستند إلى انفسهم ، فهم انفسهم اوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع


(311)
آخر : « إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جائهم العلم
    بغيا بينهم
» آل عمران ـ 19 ، وقد مر بيانه في قوله تعالى : « كان الناس أمة واحدة » البقرة ـ 213. ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعا تكوينيا ، لكنهم اختلفوا فيما بينهم بغيا وقد اجرى الله في سنة الايجاد سببية ومسببية بين الاشياء والاختلاف من علل التنازع ، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعا تشريعيا أو لم يأمر به؟ ولكنه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن الكاذبين.
    وبالجملة القتال بين أمم الانبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي ، والرسالة وبيناتها إنما تدحض الباطل وتزيل الشبه. وأما البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الارض منها ، وإصلاح النوع فيها إلا القتال ، فإن التجارب يعطي ان الحجة لم تنجح وحدها قط إلا إذا شفع بالسيف ، ولذلك كان كلما اقتضت المصلحة امر الله سبحانه بالقيام للحق والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم وبني إسرائيل ، وبعد بعثة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد مر بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقا.
    قوله تعالى : « منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات » ، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة ، والوجه فيه ـ والله اعلم ـ ان الصفات الفاضلة على قسمين : منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات ، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسى ( عليه السلام ) فإن هذه الخصال بنفسها غالية سامية ، ومنها : ما ليس كذلك ، وإنما يدل على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الاضافة كالتكليم ، فإنه لا يعد في نفسه منقبة وفضيلة إلا أن يضاف إلى شيء فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته إلى الله عز اسمه ، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلا ان يقال : رفع الله الدرجات مثلا فينسب الرفع إلى الله ، إذا عرفت هذا علمت : أن هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى : فمنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات ، فحول وجه الكلام من التكلم إلى الغيبة في الجملتين الاوليين حتى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الاول وهو التكلم فقال تعالى : « وآتينا عيسى بن مريم ».


(312)
    وقد اختلف المفسرون في المراد من الجملتين من هو؟ فقيل المراد بمن كلم الله : موسى ( عليه السلام ) لقوله تعالى : « وكلم الله موسى تكليما » النساء ـ 164 ، وغيره من الآيات ، وقيل المراد به رسول الله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما كلمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قربه إليه تقريبا سقطت به الوسائط جملة فكلمة بالوحي من غير واسطة ، قال تعالى : « ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى » النجم ـ 10 ، وقيل المراد به الوحي مطلقا لان الوحي تكليم خفي ، وقد سماه الله تعالى تكليما حيث قال : « وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الآية » الشورى ـ 51 ، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضية التي في قوله تعالى : منهم من كلم الله.
    والاوفق بالمقام كون المراد به موسى ( عليه السلام ) لان تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى النازل قبل هذه السورة المدنية ، قال تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه إلى أن قال : قال يا موسى : « انى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي » الاعراف ـ 143 ، وهي آية مكية فقد كان كون موسى مكلما معهودا عند نزول هذه الآية.
    وكذا في قوله : ورفع بعضهم درجات ، قيل المراد به محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لان الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافه الخلق كما قال تعالى : « وما أرسلناك إلا كافه للناس » السباء ـ 28 ، وبجعله رحمة للعالمين كما قال تعالى : « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » الا نبياء ـ 107 ، وبجعله خاتما للنبوة كما قال تعالى : « ولكن رسول الله وخاتم النبيين » الاحزاب ـ 40 ، وبإيتائه قرآنا مهيمنا على جميع الكتب وتبيانا لكل شيء ومحفوظا من تحريف المبطلين ، ومعجزا باقيا ببقاء الدنيا كما قال تعالى : « وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه » المائدة ـ 48 ، وقال تعالى : « ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء » النحل ـ 89 ، وقال تعالى : « إنانحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » الحجر ـ 9 ، وقال تعالى : « قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا » الاسراء ـ 88 ، وباختصاصه بدين قيم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة ، قال تعالى : « فأقم وجهك للدين القيم » الروم ـ 43 ، وقيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الانبياء كما يدل عليه قوله تعالى في نوح : « سلام على نوح في العالمين » الصافات ـ 79 ، وقوله تعالى في ابراهيم ( عليه السلام ) : « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات


(313)
فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما » البقرة ـ 124 ، وقوله تعالى فيه « واجعل لي لسان صدق في الآخرين » الشعراء ـ 84 ، وقوله تعالى في إدريس ( عليه السلام ) « ورفعناه كانا عليا » مريم ـ 57 ، وقوله تعالى في يوسف : « نرفع درجات من نشاء » يوسف ـ 76 ، وقوله في داود ( عليه السلام ) : « وآتينا داود زبورا » النساء ـ 163 إلى غير ذلك من مختصات الانبياء.
    وكذا قيل : إن المراد بالرسل في الآية هم الذين اختصوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وشموئيل وداود ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد ذكر موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون ، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالنسبة إلى الباقين ، وقيل : « لما كان المراد بالرسل في » الآية هم الذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصة وهم موسى وداود وشموئيل ومحمد ، وقد ذكر ما اختص به موسى من التكليم ثم ذكر رفع الدرجات وليس له إلا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويمكن أن يوجه التصريح باسم عيسى على هذا القول : بأن يقال : أن الوجه فيه عدم سبق ذكره ( عليه السلام ) فيمن ذكر من الانبياء في هذه الايات.
    والذي ينبغى أن يقال : أنه لا شك أن ما رفع الله به درجة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مقصود في الآية غير أنه لا وجه لتخصيص الآية به ، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا وشموئيل وداود ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الانبياء فإن كل ذلك تحكم من غير وجه ظاهر ، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسل ( عليهم السلام ) وشمول البعض فيقوله تعالى : ورفع بعضهم درجات : لكل من انعم الله عليه منهم برفع الدرجة.
    وما قيل : أن الاسلوب يقتضي كون المراد به محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لان السياق في بيان العبرة للامم التي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم دينا واحدا ، والموجود منهم اليهود والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر ، وقد ذكر منهم موسى وعيسى بالتفصيل في الآية ، فتعين أن يكون البعض الباقي محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فيه : أن القرآن يقضي بكون جميع الرسل رسلا إلى جميع الناس ، قال تعالى : « لا نفرق بين احد منهم » البقرة ـ 136 ، فإتيان الرسل جميعا بالآيات البينات كان


(314)
ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الذين بعدهم لكن اختلفوا بغيا بينهم فكان ذلك اصلا يتفرع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر المبطلين ، فالعموم وجيه في الآية.

    ثم إن قوله تعالى : منهم من كلم الله ، يدل على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنه يدل على وقوع أمر حقيقي من غير مجاز وتمثيل وقد سماه الله في كتابه بالكلام ، سواء كان هذا الاطلاق اطلاقا حقيقيا أو اطلاقا مجازيا ، فالبحث في المقام من جهتين :
     الجهة الاولى : أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى به أنبيائه ورسله من النعم التي تخفى على ادراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الالهية الكبرى ، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفية على حواس الناس ، كل ذلك أمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسموا القوى العقلية الداعية إلى الخير ملائكة ، وما تلقيه هذه القوى إلى ادراك الانسان بالوحي ، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي التي تترشح منها الافكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الانساني بروح القدس والروح الامين ، والقوى الشهوية والغضبية النفسانية الداعية إلى الشر والفساد بالشياطين والجن ، والافكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيئ العمل بالوسوسة والنزعة ، وهكذا.
    فإن الآيات القرآنية وكذا ما نقل الينا من بيانات الانبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل ، بحيث لا يشك فيه الامكابر متعسف ولا كلام لنا معه ، ولو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الالهية من غير استثناء إلى المادية المحضد النافية لكل ما وراء المادة ، وقد مر بعض الكلام في المقام في بحث الاعجاز.
    ففي مورد التكليم الالهي لا محالة أمر حقيقي متحقق يترتب عليه من الآثار ما يترتب على التكلمات الموجودة فيما بيننا.
    توضيح ذلك : أنه سبحانه عبر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى :


(315)
« وكلم الله موسى تكليما » النساء ـ 163 ، وقوله تعالى : « منهم من كلم الله » الآية ، وقد فسر تعالى هذا الاطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى : « وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء » الشورى ـ 51 ، فإن الاستثناء في قوله تعالى : الاوحيا الخ ، لايتم الا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله : ان يكلمه الله ، تكليما حقيقة ، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاص ، فحد اصل التكليم حقيقة غير منفي عنه.
    والذي عندنا من حقيقة الكلام : هو أن الانسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع والمدنية يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاوني ، ومنها التكلم ، وقد ألجأت الفطرة الانسان أن يسلك إلى الدلالد على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم ، ويجعل الاصوات المؤلفة والمختلطة إمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلامن جهة العلائم الاعتبارية الوضعية ، فالانسان محتاج إلى التكلم من جهة انه لا طريق له إلى التفهيم والتفهم إلا جعل الالفاظ والاصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية ، ولذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة ، أعني : الاحتياجات التي تنبه لها الانسان في حياته الحاضرة ، ولذلك ايضا كانت اللغات لا تزال تزيد وتتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه ، وتكثر الحوائج الانسانية في حياته الاجتماعية.
    ومن هنا يظهر : أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالاصوات المؤتلفة الدالة عليه بالوضع والاعتبار إنما يتم في الانسان وهو واقع في ظرف الاجتماع ، وربما لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع وله شيء من جنس الصوت ، ( على ما نحسب ) واما الانسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه ، فلو كان ثم انسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة إلى التكلم قطعا لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم والتفهم ، وكذلك غير الانسان مما لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي والحياة المدنية كالملك والشيطان مثلا.
    فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه ، الدلالة الاعتبارية
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثاني ::: فهرس