الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: 1 ـ 15

الميزان
في
تفسير القران
كتاب علمي فني ، فلسفي ، أدبي
تاريخي ، روائي ، اجتماعي ، حديث
يفسر القرآن بالقرآن
تأليف
العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
الطبعة الثالثة
منشورات
مؤسسة الأعلمي للمطبوعات


(4)

(5)
بسم الله الرحمن الرحيم
« سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية »
    بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيِم آلم ـ 1. أللهُ لا إله إلَّا هوَ الحيُّ القيُّومُ ـ 2. نزَّلَ عليكَ الكتابَ بالحقِّ مصدقاً لما بينَ يديهِ وأنزَلَ التَّوراةَ والإنجيلَ من قبلُ هدًى للنّاسِ وأنزلَ الفرقانَ ـ 3. إنّ الذينَ كفرُوا بآياتِ الله لهم عذابٌ شديدٌ واللهُ عزيزٌ ذو انتقامٍ ـ 4. إن اللهَ لا يخفى عليه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ ـ 5. هو الَّذي يصوِّركم في الارحامِ كيفَ يشاءُ لا إلهَ إلَّا هوَ العزيزُ الحكيمُ ـ 6.
بيان
    غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين ، والصبر والثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقة الموقف لمواجهتهم أعداءاً كاليهود والنصارى والمشركين وقد جمعوا جمعهم وعزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم وبأفواههم.
    ويشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإن آياتها ـ وهي مئتا آية ـ ظاهرة الاتساق والانتظام من أولها إلى آخرها متناسبة آياتها مرتبطة أغراضها.
    ولذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقد استقر له الأمر بعض الاستقرار ولما يتم استقراره فإن فيها ذكر غزوة أُحد ، وفيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران ، وذكراً من أمر اليهود ، وحثاً على


(6)
المشركين ، ودعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة ، وجميع ذلك يؤيد أن السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم وجميع أركانهم ، فمن جانب كانوا يقاومون الفشل والفتور الذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنه اليهود والنصارى ، ويحاجونهم ويجاوبونهم ، ومن جانب كانوا يقاتلون المشركين ، ويعيشون في حال الحرب وانسلاب الأمن ، فقد كان الاسلام في هذه الايام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود والنصارى ومشركي العرب ووراء ذلك الروم والعجم وغيرهم.
    والله سبحانه يذكر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الذي هداهم به ما يطيب به نفوسهم ، ويزول به رين الشبهات والوساوس الشيطانية وتسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم ، ويبين لهم أن الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه ولم يعجزه خلقه ، وإنما اختار دينه وهدى جمعا من عباده إليه على طريقه العادة الجارية ، والسنة الدائمة ، وهي سنة العلل والأسباب ، فالمؤمن والكافر جاريان على سنة الأسباب ، فيوم للكافر ويوم للمؤمن ، فالدار دار الامتحان واليوم يوم العمل ، والجزاء غداً.
    قوله تعالى : « الله لا إله إلا هو الحي القيوم » ، قد مرّ الكلام فيه في تفسير آية الكرسي ، وتحصل من هناك أن المراد به بيان قيامه تعالى أتم القيام على أمر الايجاد والتدبير ، فنظام الموجودات بأعيانها وآثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعية الفاقدة للشعور بل قيمومة حياة تستلزم العلم والقدرة ، فالعلم الإلهي نافذ فيها لا يخفى عليه شيء منها ، والقدرة مهيمنة عليها لا يقع منها إلا ما شاء وقوعه وأذن فيه ، ولذلك عقبه بقوله بعد آيتين : « إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء ».
    ولما كانت هذه الآيات الست في أول السورة على طريق براعة الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل ـ وقد مر ذكر غرض السورة ـ كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلي الذي يستنتج به الغرض كما أن الآيتين الأخيرتين أعنى قوله : « إن الله لا يخفى عليه » « الخ » بمنزلة التعليل بعد البيان ، وعليهذا فالكلام التى يتم به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسطتان أعني قوله نزل عليك الكتاب إلى قوله عزيز ذو انتقام وعليهذا فيعود المعنى إلى أنه يجب على المؤمنين أن يتذكروا أن الله الذي آمنوا به واحد في الوهيته قائم على الخلق والتدبير قيام حياة لا


(7)
يغلب في ملكه ولا يكون إلا ما شاء وأذن فيه. فإنهم إذا تذكروا ذلك علموا أنه هو المنزل للكتاب الهادي إلى الحق ، والفرقان المميز بين الحق والباطل ، وأنه إنما جرى في ذلك على ما أجرى عليه عالم الأسباب وظرف الاختيار ، فمن آمن فله أجره ، ومن كفر فإن الله سيجزيه لأنه عزيز ذو انتقام ، وذلك أنه : « الله الذي لا إله غيره حتى يحكم في هذه الجهات ، ولا يخفى عليه أمرهم » ، ولا يخرج عن إرادته ومشيئه فعالهم وكفرهم.
    قوله تعالى : « نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه » قد مر أن التنزيل يدل على التدريج كما أن الإنزال يدل على الدفعة.
    وربما ينقض ذلك بقوله : « لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة » الفرقان ـ 32 ، وبقوله تعالى : « أن ينزل علينا مائدة » المائدة ـ 112 وقوله تعالى : « لولا نزل عليه آية » الأنعام ـ 37 وقوله تعالى : « قل إن الله قادر على أن ينزل آية » الأنعام ـ 37 ولذلك ذكر بعض المفسرين أن الأولى أن يقال : إن معنى نزل عليك الكتاب أنزله إنزالاً بعد إنزال دفعاً للنقض.
    والجواب : أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلل زمان معتد به بين نزول كل جزء من اجزاء الشيء وبين جزئه الآخر بل الأشياء المركبة التي توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الاجزاء وبذلك يصير الشيء أمراً واحداً غير منقسم ، والتعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى : « انزل من السماء مائاً » الرعد ـ 17 وهو الغيث ونسبتة من حيث وجوده بوجود أجزائه واحداً بعد واحد سواء تخلل بينهما زمان معتد به أو لم يتخلل وهو التدريج ، والتعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى : « وهو الذي ينزل الغيث » الشورى ـ 28.
    ومن هنا يظهر أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة فإن المراد بقوله لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة الآية أن ينزل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد من غير تخلل زمان معتد به كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشؤون والحوادث والأوقات المختلفة وبذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة.
    وأما ما ذكره البعض المزبور فهو على أنه استحسان غير جائز في اللغة البتة


(8)
لا يدفع شيئاًً من النقض بالآيات المذكورة بل هي بحالها وهو ظاهر.
    قد جرى كلامه تعالى ان يعبر عن إفاضة الكتاب على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتنزيل والنزول ، والنزول يستلزم مقاماً أو مكاناً عالياً رفيعاً يخرج منه الشيء نوعاً من الخروج ويقصد مقاماً أو مكاناً آخر أسفل فيستقر فيه ، وقد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلو ورفعة الدرجات وقد وصف كتابه أنه من عنده ، قال تعالى : « إنه على حكيم » الشورى ـ 51 وقال تعالى : « ولما جائهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم » البقرة ـ 89 فصح بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحي في قلب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد ذكروا أن الحق هو الخبر من حيث إن بحذائه خارجاً ثابتاً كما ان الصدق هو الخبر من حيث إنه مطابق للخارج ، وعلى هذا فإطلاق الحق على الأعيان الخارجية والامور الواقعية كما يطلق على الله سبحانه : أنه حق ، وعلى الحقائق الخارجية أنها حقه إنما هو من جهة أن كلاً منها حق من جهة الخبر عنها ، وكيف كان فالمراد بالحق في الآية : الأمر الثابت الذي لا يقبل البطلان.
    والظاهر أن الباء في قوله : بالحق للمصاحبة والمعنى نزل عليك الكتاب تنزيلاً يصاحب الحق ولا يفارقه ، فيوجب مصاحبة الحق ان لا يطرء عليه ولا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه ، ففى قوله : نزل عليك الكتاب بالحق استعارة بالكناية وقد قيل في معنى الباء وجوه اخر لا يخلو عن سقم.
    والتصديق من الصدق يقال صدقت مقالا كذا أي قررته على الصدق واعترفت بكونه صدقاً وصدقت فلاناً أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به.
    والمراد مما بين يديه التوراة والانجيل كما قال تعالى : « إنا أنزلنا التوراة فيها ». هدى إلى ان قال وآتيناه الانجيل فيه هدى إلى ان قال : « وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب الآية » المائدة ـ 48 ، والكلام لا يخلو عن دلالة على أن ما بأيدى اليهود والنصارى من التوراة والانجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى وعيسى ( عليهما السلام ) وإن كانا لا يخلوان عن السقط والتحريف ، فان الدائر بينهم في عصر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هو التوراة الموجودة اليوم والاناجيل الأربعة المشهورة فالقرآن يصدق التوراة والانجيل الموجودين ، لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات


(9)
الناطقة بالتحريف والسقط فيهما قال تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل إلى ان قال : وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به إلى ان قال : « ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به الآية » المائدة ـ 14.
    قوله تعالى : وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس ، التوراة كلمة عبرانية بمعنى الشريعة ، والانجيل لفظ يونانى ، وقيل فارسي الاصل معناه البشارة ، وسيجيء استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى : « إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور الآيات » المائدة ـ 44.
    ومما أصر عليه القرآن تسميه كتاب عيسى ( عليه السّلام ) بالإنجيل بصيغة الافراد والقول بأنه نازل من عند الله سبحانه ، مع أن الاناجيل كثيرة ، والمعروفة منها أعني الأناجيل الأربعة كانت موجوده قبل نزول القرآن وفي عهده وهى التى ينسب تأليفها إلى لوقا ومرقس ومتى ويوحنا ، ولا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم والتوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف والاسقاط ، وكيف كان لا يخلو ذكر التوراة والانجيل في هذه الآية وفي أول السورة من التعريض لليهود والنصارى على ما سيذكره من أمرهم وقصص تولد عيسى ونبوته ورفعه.
    قوله تعالى : وأنزل الفرقان ، الفرقان ما يفرق به بين الحق والباطل على ما في الصحاح ، واللفظ بمادته يدل على الأعم من ذلك ، وهو كل ما يفرق به بين شيء وشيء. قال تعالى : « يوم الفرقان يوم التقى الجمعان » الأنفال ـ 41 ، وقال تعالى : « يجعل لكم فرقاناً » الانفال ـ 29. وإذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحق والباطل في العقائد والمعارف وبين وظيفة العبد وما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الأصلية والفرعية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحي ، أعم من الكتاب وغيره. قال تعالى : « ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان » الأنبياء ـ 48 وقال تعالى : « واذ آتينا موسى الكتاب والفرقان » البقرة ـ 53 ، وقال تعالى : « تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً » الفرقان ـ 1.
    وقد عبر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله : « لقد أرسلنا رسلنا بالبينات


(10)
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط » الحديد ـ 25. وهو في وزان قوله : « كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه » البقره ـ 213 فالميزان كالفرقان هو الدين الذى يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف ووظائف العبودية ، والله أعلم.
    وقيل المراد بالفرقان القرآن. وقيل : الدلالة الفاصلة بين الحق والباطل. وقيل : الحجة القاطعة لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على من حاجه في أمر عيسى وقيل النصر وقيل العقل والوجه ما قدمناه.
    قوله تعالى : « إن الذين كفروا بآيات الله » إلى قوله ذو انتقام ، الانتقام ، ما قيل مجازاة المسيء على إساءته ، وليس من لازم المعنى أن يكون للتشفى ، فإن ذلك من لوازم الانتقامات التى بيننا حيث إن إساءة المسيء يوجب منقصة وضرراً في جانبنا فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي توجب تشفى قلوبنا ، وأما هو تعالى فأعز ساحة من أن ينتفع أو يتضرر بشيء من أعمال عباده ، لكنه وعد ـ وله الوعد الحق ـ أن سيقضى بين عباده بالحق إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً. قال تعالى : « والله يقضى بالحق » المؤمن ـ 20 ، وقال تعالى : « ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى » النجم ـ 31. كيف وهو عزيز على الإطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه وقد قيل إن الأصل في معنى العزة الامتناع.
    وقوله تعالى : « إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد » ، من حيث إطلاق العذاب وعدم تقييده بالآخرة أو يوم القيمة ربما تضمن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة وهذا من الحقائق القرآنية التي ربما قصر الباحثون في استيفاء البحث عنه وليس ذلك إلا لكوننا لا نعد شيئاًً عذاباً إلا إذا اشتمل على شيء من الآلام الجسمانية ، أو نقص أو فساد في النعم المادية كذهاب الأموال وموت الأعزة ونقاهة الأبدان مع أن الذي يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك

    القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكاً وإن اتسعت في أعيننا كل الاتساع


(11)
قال تعالى : « ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً » طه ـ 124 ، ويعد الأموال والأولاد عذاباً وإن كنا نعدها نعمة هنيئة. قال تعالى : « ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله ان ليعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون » التوبة ـ 85.
    وحقيقة الأمر كما مر إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى : « وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنه » البقرة ـ 35 ، أن سرور الإنسان وغمه وفرحه وحزنه ورغبته ورهبته وتعذبه وتنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة ، هذا أولاً. وأن النعمة والعذاب وما يقاربهما من الامور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة وشقاوة وللجسم سعادة وشقاوة ، وكذا للحيوان منهما شيء وللإنسان منهما شيء وهكذا ، وهذا ثانياً. والإنسان المادى الدنيوي الذي لم يتخلق بأخلاق الله تعالى ، ولم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة ولا يعبأ بسعادة الروح وهي السعادة المعنوية ، فيتولع في اقتناء المال والبنين والجاه وبسط السلطة والقدرة. وهو وإن كان يريد من قبل نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم واللذه على ما صورته له خياله وإذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالالوف من الألم ، فما دام لم ينل ما يريده كان امنية وحسرة وإذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب التي ركن إليها ولم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كل فائتة ، فكان أيضاًً حسرة فلا يزال فيما وجده متألماً به معرضا عنه طالباً لما هو خير منه لعله يشفى غليل صدره وفيما لم يجده متقلباً بين الآلام والحسرات. فهذا حاله فيما وجده ، وذاك حاله فيما فقده.
    وأما القرآن فإنه يرى أن الإنسان أمر مؤلف من روح خالد وبدن مادى متحول متغير ، وهو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال ، فما كان فيه سعادة الروح محضاً كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته وما كان فيه سعادة ، جسمه وروحه معاً كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله ، وموجبة للاخلاد إلى الأرض فهو أيضاًً من سعادته ونعمت السعادة وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلق بالبدن وسعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله وذهاب المال واليسار لله تعالى فهو أيضاًً من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهراً.
    وأما ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للإنسان وعذاب له والقرآن


(12)
يسمى سعادة الجسم فقط متاعاً قليلاً لا ينبغي أن يعبأ به ، قال تعالى : « لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأويهم جهنم وبئس المهاد » آل عمران ـ 196 ، 197.
    وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معاً يعده القرآن عذاباً كما يعدونه عذابا لكن وجه النظر مختلف ، فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم ، وذلك كأنواع العذاب النازلة على الامم السالفة ، قال تعالى : « ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد » الفجر ـ 6 ، 14.
    والسعادة والشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور والادراك فإنا لا نعد الأمر اللذيذ الذي نلناه ولم نحس به سعادة لأنفسنا كما لا نعد الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء ، ومن هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادة ، والإنسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة والشقاوة الحقيقية شقاوة ، وهو كذلك ، فإنه يلقن على أهله : أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله ، ويروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شيء فلا يستقل شيء إلا به ، ولا يقصد شيء إلا له.
    وهذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلا السعادة : بين ما كان فيه سعادة روحه وجسمه ، وما كان فيه سعادة روحه محضاً ، وأما ما دون ذلك فإنه يراه عذاباً ونكالا ، وأما الإنسان المتعلق بهوى النفس ومادة الدنيا فإنه وإن كان ربما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه وخيراً ولذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه ، وانقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه ، قال تعالى : « فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون » المعارج ـ 42 ، وقال تعالى : « لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد » ق ـ 22 ، وقال تعالى : « فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيوة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم » النجم ـ 30 ، على أنهم لا يصفو لهم عيش إلا وهو منغص بما يربو عليه من الغم والهم.
    ومن هنا يظهر : أن الإدراك والفكر الموجود في أهل الله وخاصة القرآن


(13)
غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعاً من نوع واحد هو الإنسان ، وبين الفريقين وسائط من أهل الإيمان ممن لم يستكمل التعليم والتربية الإلهيين.
    فهذا ما يتحصل من كلامه تعالى في معنى العذاب وكلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسماني عذاباً لكن نهايته أنه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح ، قال تعالى حكاية عن أيوب ( عليه السّلام ) : « أنى مسني الشيطان بنصب وعذاب » ص ـ 41 ، وقال تعالى : « وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبنائكم ويستحيون نسائكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم » الأعراف ـ 141 ، فسمى ما يصنعون بهم بلاء وامتحاناً من الله وعذاباً في نفسه لا منه سبحانه.
    قوله تعالى : إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء إلخ قد علل تعالى عذاب الذين كفروا بآياته بأنه عزيز ذو انتقام لكن لما كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضم إليه ليتم المطلوب فإن العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفي عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب والانتقام ، فعقب لذلك الكلام بقوله : إن الله لا يخفى عليه فبين أنه عزيز لا يخفى عليه شيء ظاهر على الحواس ولا غائب عنها ، ومن الممكن أن يكون المراد مما في الأرض وما في السماء الأعمال الظاهره القائمة بالجوارح والخفية الكامنة في القلوب على حد ما نبهنا عليه في قوله تعالى : لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية البقرة ـ 284.
    قوله تعالى : هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء التصوير إلقاء الصورة على الشيء و الصورة تعم ما له ظل كالتمثال وما لا ظل له. والأرحام جمع رحم وهو مستقر الجنين من الإناث.
    وهذه الآية في معنى الترقي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين ، فإن محصل الآيتين : أن الله تعالى : « يعذب الذين كفروا بآياته » لانه العزيز المنتقم العالم بالسر والعلانية فلا يغلب في أمره بل هو الغالب ومحصل هذه الآية أن الأمر أعظم من ذلك ومن يكفر بآياته ويخالف عن أمره أذل وأوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه واعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك ، فيغلب هو على أمره تعالى ، ويبطل النظام الأحسن الذي نظم الله سبحانه عليه الخلقة ، فتظهر إرادته على إرادة ربه ، بل الله سبحانه هو أذن


(14)
له في ذلك ، بمعنى أنه نظم الامور نوع نظم يؤدي إلى وجود الاختيار في الإنسان ، وهو الوصف الذى يمكنه به ركوب صراط الإيمان والطاعة أو التزام طريق الكفر والمعصية ، ليتم بذلك أمر الفتنة والإمتحان ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وما يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين.
    فما من كفر ولا إيمان ولا غيرهما إلا عن تقدير ، وهو نظم الأشياء على نحو يتيسر لكل شيء ما يتوجه إليه من مقاصده التي سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصة التي تمهد له السلوك إلى ما يسلك إليه. فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه ، يظن الإنسان أنه يفعل ما يشاء ويتصرف فيما يريد ، ويقطعْ بذلك النظم المتصل الذى نظمه الله في الكون فيسبق التقدير ، وهذا بعينه من القدر.
    وهذا هو المراد بقوله : « يصوركم في الارحام كيف يشاء » ، أي ينظم أجزاء وجودكم في بدء الأمر على نحو يؤدي إلى ما يشاءه في ختمه مشية اذن لا مشية حتم.
    وإنما خص الكلام بالتقدير الجاري في الإنسان ولم يذكر التقدير العام الجاري في العالم كله لينطبق على المورد ، ولما مر أن في الآيات تعريضاً للنصارى في قولهم في المسيح ( عليه السّلام ) والآيات منتهية إلى ما هو الحق من أمره ، فإن النصارى لا ينكرون كينونته ( عليه السّلام ) في الرحم وأنه لم يكون نفسه.
    والتعميم بعد التخصيص في الخطاب أعني قوله : يصوركم بعد قوله نزَّل عليك ، للدلاله على أن إيمان المؤمنين أيضاًً ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر ، فتطيب نفوسهم بالرحمة والموهبة الإلهية في حق أنفسهم ، ويتسلوا بما سمعوه من أمر القدر ومن أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين.
    قوله تعالى : « لا إله إلا هو العزيز الحكيم » ، فيه عود الى ما بدء به الكلام في الآيات من التوحيد ، وهو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد.
    فإن هذه الامور المذكورة أعني : هداية الخلق بعد ايجادهم ، وإنزال الكتاب والفرقان ، وإتقان التدبير بتعذيب الكافرين امور لا بد أن تستند الى إله يدبرها واذ لا إله إلا الله تعالى شأنه فهو الذي يهدي الناس وهو الذي ينزل الكتاب والفرقان ،


(15)
وهو يعذب الكافرين بآياته وإنما يفعل ما يفعل من الهداية والإنزال والانتقام والتقدير بعزته وحكمته.
( بحث روائي )
    في المجمع عن الكلبي ومحمد بن إسحق والربيع بن أنس : نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران ، وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم : العاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ، واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة اسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم ، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم ، وكانت ملوك الروم قد شرَّفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده ، فقدموا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المدينة ودخلوا مسجده حين صلّى العصر ، عليهم ثياب الحبرات : جبب وأردية في جمال رجال بلحرث بن كعب ، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ما رأينا وفداً مثلهم ، وقد حانت صلاتهم ، فأقبلوا يضربون بالناقوس ، وقاموا فصلوا في مسجد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقالت الصحابة : يا رسول الله هذا في مسجدك ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق ، فكلم السيد والعاقب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال لهما رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أسلما ، قالا قد أسلمنا قبلك. قال : كذبتما يمنعكما من الاسلام دعائكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير ، قالا إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعاً في عيسى ، فقال لهما النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟ قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتيه الفناء ، قالوا بلى ، قال ألستم تعلمون ان ربنا قيم على كل شيء ويحفظه ويرزقه ؟ قالوا بلى ، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاًً ؟ قالوا لا ، قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا لا ، قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ، قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته امه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ، ثم غذي كما
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: فهرس