الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: 46 ـ 60
(46)
وأما حقيقة الأمر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه.
    فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل ، وهي أربعة.
    وهيهنا أقوال أُخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأول وإن تحاشى القائلون بها عن قبوله.
    فمن جملتها أن التفسير أعم من التأويل ، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل ، وأكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهية ، ويستعمل التفسير فيها وفي غيرها.
    ومن جملتها : أن التفسير بيان معنى اللفظ الذي لا يحتمل إلا وجهاً واحداً والتأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطاً.
    ومن جملتها : أن التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ والتأويل ترجيح أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها ، وهو قريب من سابقه.
    ومن جملتها : أن التفسير بيان دليل المراد والتأويل بيان حقيقه المراد ، مثاله : قوله تعالى : إن ربك لبالمرصاد فتفسيره : أن المرصاد مفعال من قولهم : رصد يرصد إذا راقب ، وتاويله التحذير عن التهاون بامر الله والغفلة عنه.
    ومن جملتها : أن التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ والتأويل بيان المعنى المشكل.
    ومن جملتها : أن التفسير يتعلق بالرواية والتأويل يتعلق بالدراية.
    ومن جملتها : أن التفسير يتعلق بالاتباع والسماع والتأويل يتعلق بالاستنباط والنظر فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأول الذي نقلناه ، يرد عليها ما يرد عليه وكيف كان فلا يصح الركون إلى شيء من هذه الأقوال الأربعة وما ينشعب منها.
    أما إجمالاً : فلأنك قد عرفت : أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوماً من المفاهيم تدل عليه الآية سواء كان مخالفاً لظاهرها أو موافقاً ، بل هو من قبيل الامور الخارجية ، ولا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تاويلا له ، بل أمر خارجي


(47)
مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل ( بفتحتين ) والباطن إلى الظاهر.
    وأما تفصيلاً فيرد على القول الأول : أن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الأفهام ، وليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بانه أنما أنزل قرآناً ليناله الأفهام ، ولا مناص لصاحب هذا القول إلا أن يختار أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور من الحروف المقطعة حيث لا ينال معانيها عامة الأفهام ، ويرد عليه : أنه لا دليل عليه ، ومجرد كون التاويل مشتملاً على معنى الرجوع وكون التفسير أيضاً غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التاويل هو التفسير كما أن الام مرجع لأولادها وليست بتأويل لهم ، والرئيس مرجع للمرؤوس وليس بتأويل له.
    على أن ابتغاء الفتنة عد في الآية خاصة مستقلة للتشابه وهو يوجد في غير فواتح السور فإن أكثر الفتن المحدثة في الإسلام إنما حدثت باتباع علل الأحكام وآيات الصفات وغيرها.
    وأما القول الثاني فيرد عليه : أن لازمه وجود آيات في القرآن اريد بها معان يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات ، ومرجعه إلى أن في القرآن اختلافاً بين الآيات لا يرتفع إلا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الأفهام ، وهذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى : « أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً » النساء ـ 82 ، إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بان يقال : إنه اريد بإحديهما أو بهما معاً غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تاويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلا الله سبحانه مثلاًً لم تنجح حجة الآية ، فان انتفاء الاختلاف بالتاويل باصطلاحهم في كل مجموع من الكلام ولو كان لغير الله أمر ممكن ولا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر إذ من الواضح أن كل كلام حتى القطعي الكذب واللغو يمكن إِرجاعه إلى الصدق والحق بالتأويل والصرف عن ظاهره ، فلا يدل ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الأحوال وتناقض الآراء ، والسهو والنسيان والخطاء والتكامل بمرور الزمان كما هو المعني بالاحتجاج في الآية ، فالآية بلسان احتجاجها صريح في أن القرآن معرض لعامة الأفهام ، ومسرح للبحث والتامل والتدبر ، وليس فيه آية اريد


(48)
بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي ولا أن فيه احجية وتعمية.
    وأما القول الثالث فيرد عليه : أن اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة بعضها فوق بعض وبعضها تحت بعض مما لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر ، إلا أنها جميعاً ـ وخاصة لو قلنا أنها لوازم المعنى مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام وذكاء السامع المتدبر وبلادته ، وهذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التاويل : وما يعلم تاويله إلا الله ، فان المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث التقوى وطهارة النفس بل من حيث الحدة وعدمها ، وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران والعلية كما هو ظاهر قوله : وما يعلم تاويله إلا الله.
    وأما القول الرابع فيرد عليه : أنه وإِن أصاب في بعض كلامه لكنه أخطأ في بعضه الآخر فإنه وإن أصاب في القول بأن التأويل لا يختص بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن ، وأن التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه الكلام لكنه أخطأ في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة تاويلاً للكلام ، وفي حصر المتشابه الذي لا يعلم تاويله في آيات الصفات وآيات القيامة.
    توضيحه أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى : « وابتغاء تاويله » « إلخ » إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله : ولا يعلم تاويله إلا الله « إلخ » فإن كثيراً من تأويل القرآن وهو تاويلات القصص بل الأحكام أيضاًً وآيات الأخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى وغير الراسخين في العلم من الناس حتى الزائغون قلباً على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم ، وكذا الحقائق الخلقية والمصالح التي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات والمعاملات وسائر الامور المشرعة.
    وإن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله : « وما يعلم تاويله إلا الله » إلخ ، وأفاد أن غيره تعالى وغير الراسخين في العلم مثلاًً لا ينبغي لهم ابتغاء تاويل المتشابه ، وهو يؤدي الى الفتنة وإِضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تاويله في آيات الصفات والقيامة فإن الفتنة والضلال كما يوجد في تاويلها


(49)
يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام والقصص وغيرهما كأن يقول القائل ( وقد قيل ) إن المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنسانيّ بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح ، فلو فرض أنَّ صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع ، أو أنه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتباعه وإلغاء الحكم الديني المشرع. وكأن يقول القائل ( وقد قيل ) إن المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن امور عادية ، وإنما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم وخضوع قلوبهم لما يتخيلونه خارقاً للعادة قاهراً لقوانين الطبيعة. ويوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شيء كثير من هذه الأقاويل وجميعها من التأويل في القرآن ابتغاءاً للفتنة بلا شك ، فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات وآيات القيامة.
    إذا عرفت ما مر علمت : أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند اليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة ، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها ، وأنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الامور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ ، وإنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهى كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى : « والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في ام الكتاب لدينا لعلى حكيم » الزخرف ـ 4 وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى.
    على أنك قد عرفت فيما مر من البيان : أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي استعملها ـ وهي ستة عشر مورداً على ما عدت ـ إلا في المعنى الذي ذكرناه.

    هذه المسألة أيضاً من موارد الخلاف الشديد بين المفسرين ، ومنشأه الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية ، وأن الواو هل هو للعطف أو للاستيناف ، فذهب بعض القدماء والشافعية ومعظم المفسرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف وأن الراسخين في العلم يعلمون
( 3 ـ الميزان ـ 4)


(50)
تاويل المتشابه من القرآن ، وذهب معظم القدماء والحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستيناف وأنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله وهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه ، وقد استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة ، وببعض الروايات. والطائفة الثانية بوجوه اخر وعدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه وتمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها.
    والذي ينبغي أن يتنبه له الباحث في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أول ما دارت بينهم ووقعت مورداً للبحث والتنقير ، فاختلط رجوع المتشابه الى المحكم. وبعبارة اخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ به ما عنونا به المسألة وقررنا عليه الخلاف وقول كل من الطرفين آنفاً.
    ولذلك تركنا التعرض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط. وأما الروايات فإنها مخالفة لظاهر الكتاب فإن الروايات المثبتة ، أعنى الدالة على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنها أخذت التأويل مرادفاً للمعنى المراد من لفظ المتشابه ولا تأويل في القرآن بهذا المعنى. كما روي من طرق أهل السنة : أن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) دعا لابن عباس فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ، وما روي من قول ابن عباس : أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تاويله ، ومن قوله : إن المحكمات هي الآيات الناسخة والمتشابهات هي المنسوخة فإن لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تاويلاً للآية المتشابهة وهو الذي أشرنا إليه أن التأويل بهذا المعنى ليس مورداً لنظر الآية.
    وأما الروايات النافية أعني الدالة على أن غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روى أن ابن عباس كان يقرأ : « وما يعلم تاويله إلا الله » ويقول الراسخون في العلم آمنا به وكذلك كان يقرأ أُبي بن كعب. وما روي أن ابن مسعود كان يقرأ : وإن تاويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، فهذه لا تصلح لاثبات شيء أما أولاً : فلأن هذه القراءاتْ لا حجية فيها وأما ثانياً : فلأن غاية دلالتها أن الآية لا تدل على علم الراسخين في العلم بالتأويل وعدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدعى فمن الممكن أن يدل عليه دليل آخر.
    ومثل ما في الدر المنثور عن الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول


(51)
الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يقول : لا أخاف على امتي إلا ثلاث خصال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تاويله وما يعلم تاويله إلا الله : « والراسخون في العلم يقولون آمنا به » كل من عند ربنا وما يذكر إلا اولوا الألباب ، وأن يكثر علمهم فيضيعونه ولا يبالون به. وهذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدل إلا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم. ولا ينفع المستدل إلا الثاني.
    ومثل الروايات الدالة على وجوب اتباع المحكم والإيمان بالمتشابه. وعدم دلالتها على النفي مما لا يرتاب فيه.
    ومثل ما في تفسير الآلوسي عن ابن جرير عن ابن عباس مرفوعاً : أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ، ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب. والحديث مع كونه مرفوعاً ومعارضاً بما نقل عنه من دعوة الرسول له وادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن : أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مر.
    والذي ينبغي أن يقال : أن القرآن يدل على جواز العلم بتاويله لغيره تعالى ، وأما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.
    أما الجهة الثانية فلما مر في البيان السابق : أن الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم والمتشابه وتفرق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل الى اتباع المتشابه لريغ في قلبه وثابت على اتباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه ، فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمهم ، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتاويل مع ذلك إلا وجوه غير تامة تقدمت الإشارة اِليها ، فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى : « وما يعلم تاويله إلا الله » من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به.
    لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره


(52)
مثل العلم بالغيب قال تعالى : « قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله » النمل ـ 65 ، وقال تعالى : « إنما الغيب لله » يونس ـ 20 ، وقال تعالى : « وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو » الأنعام ـ 59 ، فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى : « عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول » الجن ـ 27. فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول ، ولذلك نظائر في القرآن.
    وأما الجهة الأولى ـ وهي أن القرآن يدل على جواز العلم بتاويله لغيره تعالى في الجملة ـ فبيانه : أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته الى مدلول الآية نسبة الممثل الى المثل ، فهو وإن لم يكن مدلولاً للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعاً من الحكاية والحفظ ، نظير قولك : « في الصيف ضيعت اللبن » لمن أراد أمراً قد فوت أسبابه من قبل ، فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل وهو تضييع المرئة اللبن في الصيف لا ينطبق شيء منه على المورد ، وهو مع ذلك ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله.
    كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية وإن لم تكن أمراً يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر والنهي أو البيان أو الواقعة الكذائية إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشي منها ويظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والإشارة كما أن قول السيد لخادمه ، اسقني ينتشي عن اقتضاء الطبيعة الإنسانية لكمالها ، فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود والبقاء ، وهو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن ، وهو يقتضي الغذاء اللازم ، وهو يقتضي الري ، وهو يقتضي الأمر بالسقي مثلاًً ؛ فتاويل قوله : اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجية الإنسانية من اقتضاء الكمال في وجوده وبقائه ، ولو تبدلت هذه الحقيقة الخارجية إلى شيء آخر يباين الأول مثلاً لتبدل الحكم الذي هو الأمر بالسقي الى حكم آخر وكذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الإنسانية على اختلافها الفاحش في الآداب والرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن والقبح الذي عندهم وهو يستند الى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية ومكانية وسوابق عادات ورسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه ، وتكرر المشاهدة ممن شاهده


(53)
من أهل منطقته ، فهذه العلة المؤتلفة الأجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنها محكيّة مضمنة محفوظة بالفعل أو الترك ؛ ولو فرض تبدل المحيط الاجتماعي لتبدل ما أتى به من الفعل أو الترك.
    فالأمر الذي له التأويل سواء كان حكماً أو قصة أو حادثة يتغير بتغير التأويل لا محالة ، ولذلك ترى أنه تعالى في قوله : « فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله وما يعلم تاويله إلا الله » الآية ، لما ذكر اتباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاءاً للفتنة ذكر أنهم بذلك يبتغون تاويله الذي ليس بتأويل له وليس إلا لأن التأويل الذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقي لكان اتباعهم للمتشابه اتباعاً حقاً غير مذموم وتبدل الأمر الذي يدل عليه المحكم وهو المراد من المتشابه الى المعنى غير المراد الذي فهموه من المتشابه واتبعوه.
    فقد تبين : أن تأويل القرآن حقائق خارجية تستند اليه آيات القرآن في معارفها وشرائعها وسائر ما بينته بحيث لو فرض تغير شيء من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين.
    وإذا أجدت التدبر وجدت أن هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى : « والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون وإنه في ام الكتاب لدينا لعليّ حكيم » الزخرف ـ 4 ، فإنه يدل على أن القرآن النازل كان عند الله أمراً أعلى وأحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطع والتفصل لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتاباً مقرراً وألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله ومعرفته ما دام في ام الكتاب ، وام الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله : « يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب » الرعد ـ 39 ، وبقوله : « بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ » البروج ـ 22.
    ويدل على إجمال مضمون الآية أيضاًً قوله تعالى : « كتاب أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير » هود ـ 1 ، فالإحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه ولا فصل ، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وآية آية وتنزيله على النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
    ويدل على هذه المرتبة الثانية التي تستند إلى الأولى قوله تعالى : « وقرآناً فرقناه


(54)
فتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً » أسرى ـ 106 ، فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثم فرق ونزل تنزيلاً واوحي نجوماً.
    وليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على الحال الذي هو عليه الآن عندنا كتاباً مؤلفاً مجموعاً بين الدفتين مثلاًً ثم فرق وانزل على النبي نجوماً ليقرأه على الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقري منا قطعات ثم يعلمه ويقريه متعلمه كل يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه.
    وذلك أن بين إنزال القرآن نجوماً على النبي وبين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم فرقاً بيناً وهو دخالة أسباب النزول في نزول الآية على النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولا شيء من ذلك ولا ما يشبهه في تعلم المتعلم ، فالقطعات المختلفة الملقاة الى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن أن تجمع وينضم بعضها الى بعض في زمان واحد ، ولا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى : « فاعف عنهم واصفح » المائدة ـ 13 ، وقوله تعالى : « قاتلوا الذين يلونكم من الكفار » التوبة ـ 123 ، وقوله تعالى : « قد سمع الله قول : التي تجادلك في زوجها » المجادلة ـ 1 ، وقوله تعالى : « خذ من أموالهم صدقة » التوبة ـ 103 ، ونحو ذلك فيلغى سبب النزول وزمانها ثم يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حيوة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ؛ فالمراد بالقرآن في قوله : وقرآناً فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة.
    وبالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح. من الجسد والمتمثل من المثال ـ وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم ـ وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه ، وليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة ولا المعاني المدلول عليها بها ، وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه. وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل ، ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الأفهام العادية والنفوس غير المطهرة.
    ثم إنه تعالى قال : « إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون » الواقعة ـ 79 ، ولا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله هم يمسون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغير ، ومن التغير تصرف الاذهان


(55)
بالورود عليه والصدور منه وليس هذا المس إلا نيل الفهم والعلم ومن المعلوم أيضاًً : أن الكتاب المكنون هذا هو ام الكتاب المدلول عليه بقوله يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ، وهو المذكور في قوله : وإنه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم.
    وهؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم ، وليس ينزلها إلا الله سبحانه ، فإنه تعالى لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة الى نفسه كقوله تعالى : « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً » الاحزاب ـ 33 ، وقوله تعالى : « ولكن يريد ليطهركم » المائدة ـ 6 ، وما في القرآن شيء من الطهارة المعنوية إلا منسوبة الى الله أو بإذنه ، وليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب ، وليس القلب من الإنسان إلا ما يدرك به ويريد به ، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين ، ويرجع الى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان الى الشك ونوسان بين الحق والباطل ، وثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمائل الى اتباع الهوى ونقض ميثاق العلم ، وهذا هو الرسوخ في العلم فإن الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم الى ابتغاء الفتنة ، فقد ظهر أن هؤلاء المطهرين راسخون في العلم هذا.
    ولكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان ، فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهرين يعلمون التأويل ، ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم ، لما أن تطهير قلوبهم منسوب الى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب ، لا أن الراسخين في العلم يعلمونه بما أنهم راسخون في العلم أي إن الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل ، فإن الآية لا تثبت ذلك ، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى : يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية وقد وصف الله تعالى رجالاً من أهل الكتاب برسوخ العلم ومدحهم بذلك ، وشكرهم على الإيمان والعمل الصالح في قوله : « لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك الآية » النساء ـ 162 ، ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب.
    وكذلك إن الآية أعني قوله تعالى : لا يمسه إلا المطهرون لم تثبت للمطهرين إلا مس الكتاب في الجملة ، وأما أنهم يعلمون كل التأويل ولا يجهلون شيئاًً منه ولا في وقت فهي ساكتة عن ذلك ، ولو ثبت لثبت بدليل منفصل.


(56)
    ومن الاعتراضات التي اوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات وهو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة ، فيه وأنه قول فصل يميز بين الحق والباطل ، ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه ، وليس ذلك إلا لوقوع التشابه في آياته ؛ أفليس أنه لو جعله جلياً نقياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب ، وأقطع لمادة الخلاف والزيغ.
    وأُجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق ومشقة البحث وذلك موجب لمزيد الأجر والثواب ! وكالجواب بأنه لو لم يشتمل إلا على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه ، لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه وكان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به ! وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل ، وفي ذلك خروج عن ظلمة التقليد ودخول في ضوء النظر والاجتهاد ! وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة ، وفي ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة والصرف والنحو واصول الفقه !
    فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر ؛ والذي يستحق الايراد والبحث من الأجوبة وجوه ثلثة :
    الأول : أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق ، به فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولاًً واضحاً لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى والتسليم لرسله.
    وفيه أن الخضوع هو نوع انفعال وتأثر من الضعيف في مقابل القوي ، والإنسان إنما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته وبهوره الادراك كقدرة الله غير المتناهية وعظمته غير المتناهية وسائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها ، وأما الامور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر ويغادر باعتقاد


(57)
أنه يدركها فما معنى خضوعه لها ؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها وهو لا يعقل.
    الثاني : أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث والتنقير ، لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر ، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان.
    وفيه : أن الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل والفكر في الآيات الآفاقية والأنفسية إجمالاً في موارد من كلامه ، وتفصيلاً في موارد اخرى كخلق السموات والأرض والجبال والشجر والدواب والإنسان واختلاف ألسنته وألوانه ، وندب إلى التعقل والتفكر والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين ، وحرض على العقل والفكر ، ومدح العلم بأبلغ المدح وفي ذلك غنى عن البحث في امور ليس إلا مزالق للأقدام ومصارع للأفهام.
    الثالث : أن الأنبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامة والخاصة ، والذكي والبليد والعالم والجاهل ؛ وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء ، فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة فيها بالتسليم وتفويض الأمر إلى الله تعالى.
    وفيه : أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها ، ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما يكشف عنها المحكمات ، وعند ذلك يبقى السؤال ( وهو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ولا حاجة إليها مع وجود المحكمات ؟ ) على حاله ، ومنشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متبائنين معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات ، ومعان سنخها بحيث لا يتلقاها الا الخاصة من المعارف العالية والحكم الدقيقة ، فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات ، وقد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضاً وغير ذلك.
    والذي ينبغي أن يقال : أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناش عن وجود


(58)
التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضاً بالمعنى الذي أوضحناه للتاويل فيما مر.
    ويتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني والتعليم الإلهي والامور التي بنيت عليها معارفه والغرض الأقصى من ذلك وهي امور :
    منها : أن الله سبحانه ذكر أن لكتابه تاويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية والأحكام والقوانين وسائر ما يتضمنه التعليم الإلهي ، وأن هذا التأويل الذي تستقبله وتتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول إلا نفوس طهرهم الله وأزال عنهم الرجس ، فإن لهم خاصة أن يمسوه. وهذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شيء ، ومفتاحه التطهير الإلهي ، وقد قال تعالى : « ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم » المائدة ـ 7 ، فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي.
    وهذا الكمال الإنساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلا أفراد خاصة ، وإن كانت الدعوة متعلقة بالجميع متوجهة إلى الكل ، فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة وبعض التطهير في آخرين ، ويختلف ذلك باختلاف درجات الناس ، كما أن الاسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل. قال تعالى : « اتقوا الله حق تقاته » آل عمران ـ 102 ، ولكن لا يحصل كماله إلا في أفراد وفيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل ، كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم وأفهامهم ، وهكذا جميع الكمالات الاجتماعية من حيث التربية والدعوة ، يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم والصنعة والثروة والراحة وغيرها لكن لا ينالها إلا البعض ، ومن دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.
    وبالحقيقه امثال هذه الغابات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه.
    ومنها : أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم والعمل : أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدء والمعاد وما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبط به من الواقعيات معرفة حقيقية. وأما في ناحية العمل فبتحميل قوانين


(59)
اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حيوته الاجتماعية ، ولا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم والعرفان ، ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها والمزاولة عليها توجه نفسه ، وخلوص قلبه إلى المبدء والمعاد ، وإشرافه على عالم المعنى والطهارة ، والتجنب عن قذارة الماديات وثقلها.
    وأنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى : « إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه » الفاطر ـ 10 ، وضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى : « ولكن يريد ليطهركم » الآية ، وإلى قوله تعالى : « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » المائدة ـ 105 ، وقوله تعالى : « يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات » المجادلة ـ 11 ، وما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين وهداية الإنسان إليه ، والسبيل الذي سلكه لذلك فافهم.
    و يتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة : هي أن القوانين الاجتماعية في الإسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لأجلها ، والتكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله وبآياته ، فأدنى الإخلال أو التحريف أو التغيير في الأحكام الاجتماعية من الإسلام يوجب فساد العبودية وفساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة.
    وهذه النتيجة ـ على أنها واضحة التفرع على البيان ـ تؤيدها التجربة أيضاًً : فإنك إذا تأملت جريان الأمر في طروق الفساد في شئون الدين الإسلامي بين هذه الامة وأمعنت النظر فيه : من أين شرع وفي أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف ، وقد ذكرناك فيما مر : أن الفتنة شرعت باتباع المتشابهات وابتغاء تأويلها ، ولم يزل الأمر على ذلك حتى اليوم.
    ومنها : أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس وركوز العلم بينهم ما أستطيع ، فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة وكيف لا ؟ ولا يوجد بين كتب الوحي كتاب ، ولا بين الأديان دين يعظمان من أمر العلم ويحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن والاسلام !
    وهذا المعنى هو الموجب لان يبين الكتاب للإنسان حقائق المعارف أولاً ، وارتباط ما شرعه له من الأحكام العملية بتلك الحقائق ثانياً ، وبعبارة اخرى أن يفهمه :


(60)
أنه موجود مخلوق لله تعالى خلقه بيده ووسط في خلقه وبقائه ملائكته وسائر خلقه من سماء وأرض ونبات وحيوان ومكان وزمان وما عداها وأنه سائر إلى معاده وميعاده سيراً اضطرارياً ، وكادح إلى ربه كدحاً فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله ، أيما إلى جنة ، أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف.
    ثم يفهمه أن الأعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي ، وما تؤديه إلى شقوة النار ما هي ؟ أي يبين له الأحكام العبادية والقوانين الاجتماعية ، وهذه طائفة اخرى.
    ثم يبين له : أن هذه الأحكام والقوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه : أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الأولى ، وأن تشريعها وجعلها للإنسان إنما هو لمراعاة سعادته لاشتمالها على خير الإنسان في الدنيا والآخرة ، وهذه طائفة ثالثة.
    وظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة والطائفة الأولى بمنزلة النتيجة ، والطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالأولى ، ودلالة الآيات على كل واحدة من هذه الطوائف المذكورة واضحة ولا حاجة إلى إيرادها.
    ومنها : أنه لما كانت عامه الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس ولا يرقى عقلهم إلى ما فوق عالم المادة والطبيعة ، وكان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني وكليات القواعد والقوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسرت له الورود في عالم المعاني والكليات كان ذلك موجباً لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس والمحسوس اختلافاً شديداً ذا عرض عريض على مراتب مختلفة ، وهذا أمر لا ينكره أحد.
    ولا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلا من طريق معلوماته الذهنية التي تهيأت عنده في خلال حيوته وعيشته ، فإن كان مأنوساً بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء ، وإِن كان نائلاً للمعاني الكلية فبما نال وعلى قدر ما نال ، وهذا ينال المعاني من البيان الحسي والعقلي معاً بخلاف المأنوس بالحس.
    ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع الطوائف وتشمل عامة الطبقات ، وهو ظاهر
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: فهرس