الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: 181 ـ 195
(181)
    وقد ذكر بعض المفسرين : أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلثة أيام ، والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه ، قال : الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه ويبشر أهله فسأل عن الكيفية ، ولما أُجيب بما اجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره ، ويكون اتمامه إياها آية وعلامة على حصول المقصود ، فأمره بأن لا يكلم الناس ثلثه أيام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مسائاً صباحاً مده ثلثه أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيمائاً ، على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال ، انتهى.
    وأنت خبير بأنه ليس لما ذكره ( من مسألته عبادة تكون شكراً للمنحة ، وانتهائها إلى حصول المقصود ، وكون انتهائها هو الآية وكون قوله : أن لا تكلم مسوقاً للنهي التشريعي وكذا إرادته بشارة أهله ) في الآية عين ولا أثر.
( كلام في الخواطر الملكية والشيطانية وما يلحق بها من التكليم )
    قد مر كراراً أن الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها وأن القول أو الكلام مثلاً إنما يسمى به الصوت لافادته معنى مقصودا يصح السكوت عليه ، فما يفاد به ذلك ، كلام وقول سواء كان مفيده صوتاً واحداً أو أصواتاً متعددة مؤلفة أو غير صوت كالايماء والرمز ، والناس لا يتوقفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامة كلاماً وإن لم يخرج عن شق فم ، وكذلك في تسمية الإيماء قولاً وكلاماً وإن لم يشتمل على صوت.
    والقرآن أيضاً يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاماً له وقولاً منه ؛ قال تعالى حكاية عن الشيطان : « ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام » النساء ـ 119 ، وقال : « كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر » الحشر ـ 16 ، وقال : « يوسوس في صدور الناس » الناس ـ 5 ، وقال : « يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول » الأنعام ـ 112 ، وقال أيضاً حكاية عن إبليس : « إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم » إبراهيم ـ 22 ، وقال : « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً


(182)
والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً » البقرة ـ 269 ، ومن الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب ، نسبت إلى الشيطان ، وسميت بالأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد ، وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شق فم ولا تحريك لسان.
    ومن هنا يعلم : أن ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان ، وقد سماه تعالى الحكمة ، ومثلها قوله تعالى : « ويجعل لكم نوراً تمشون به » الحديد ـ 28 ، وقوله : « هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض » الفتح ـ 4 ، وقد مر بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى : « فيه سكينة من ربكم » البقرة ـ 248 ؛ وكذا قوله : « فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون » الأنعام ـ 125 ، وقد سمى الوسوسة رجزاً فقال : « رجز الشيطان » الأنفال ـ 11 ، فمن جميع ذلك يظهر أن الشياطين والملائكة يكلمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.
    وهنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله : « وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب الآية » الشورى ـ 51 ، فسماه تكليماً وقسمه إلى الوحي ، وهو الذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلم ، وإلى التكليم من وراء حجاب هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين.
    أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته فإن الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان وبين ربه ، ومن المحال أن يقع هناك لبس ، وهو ظاهر ، وأما غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.
    وأما الكلام الملكي والشيطاني فالآيات المذكورة آنفاً تكفي في التمييز بينها فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر ، ويدعو إلى المغفرة والفضل وينتهي بالاخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه وسنة نبيه ، والخاطر الشيطاني يلازم


(183)
تضيق الصدر ، وشح النفس ويدعو إلى متابعة الهوى ، ويعد الفقر ، ويأمر بالفحشاء ؛ وبالاخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنة ، ويخالف الفطرة.
    ثم إن الأنبياء ومن يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز وأما مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين وينتهي بالاخرة إلى تمييز الوحي ؛ وهو ظاهر.
( بحث روائي )
    في تفسير القمي في قوله تعالى : « إذ قالت امرأة عمران » الآية عن الصادق ( عليه السّلام ) قال إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكراً سوياً مباركاً : « يبرئ الاكمه والابرص ويحيي الموتى بإذن الله » وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل فحدث عمران امرأته حنة بذلك وهي ام مريم فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلاماً فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها انثى ، وليس الذكر كالانثى لا تكون البنت رسولا ، يقول الله والله أعلم بما وضعت فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه فإذا قلنا في الرجل منا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.
    أقول : وروى قريباً منه في الكافي عنه ( عليه السّلام ) وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السّلام ).
    وفي تفسير العياشي في الآية عن الصادق ( عليه السّلام ) : أن المحرر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها انثى وليس الذكر كالانثى إن الانثى تحيض فتخرج من المسجد ، والمحرر لا يخرج من المسجد.
    وفيه عن أحدهما : نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد ، وليس الذكر كالانثى في الخدمة قال فشبت وكانت تخدمهم وتناولهم حتى بلغت فأمر زكريا أن تتخذ لها حجابا دون العباد.
    أقول : والروايات كما ترى تنطبق على ما قدمناه في البيان السابق إلا أن ظاهرها : أن قوله وليس الذكر كالانثى كلام لامرأة عمران لا له تعالى ، ويبقى عليه وجه


(184)
تقديم الذكر على الانثى في الجملة ، مع أن مقتضى القواعد العربية خلافه ، وكذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم ، وقد مر أنه في معنى التحرير إلا أن يفرق بين التحرير وجعلها خادمة فليتأمل.
    وفي الرواية الاولى دلالة على كون عمران نبياً يوحي إليه ، ويدل عليه ما في البحار عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر ( عليهما السلام ) عن عمران أكان نبياً ؟ فقال نعم كان نبياً مرسلاً إلى قومه ، الحديث.
    وتدل الرواية أيضاً على كون اسم امرأة عمران : حنة ، وهو المشهور ، وفي بعض الروايات : مرثار ، ولا يهمنا البحث عن ذلك.
    وفي تفسير القمي في ذيل الرواية السابقة : فلما بلغت مريم صارت في المحراب ، وأرخت على نفسها ستراً ، وكان لا يراها أحد ، وكان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول : أنى لك هذا فتقول هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
    وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) قال : ان زكريا لما دعا ربه أن يهب له ولداً فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثه أيام فلما أمسك لسانه ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله ، وذلك قول الله رب اجعل لي آية.
    اقول : وروى قريباً منه القمي في تفسيره ، وقد عرفت فيما تقدم أن سياق الآيات لا يأبى عن ذلك.
    وبعض المفسرين شدد النكير على ما تضمنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران ووجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها ، وكون سؤال زكريا للآية للتمييز فقال : إن هذه امور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها ، ولا رسوله قالها ، ولا هي مما يعرف بالرأي ولم يثبتها تاريخ يعتد به ، وليس هناك الا روايات إسرائيلية وغير إسرائيلية ، ولا موجب للتكلف في تحصيل معنى القرآن وحمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الأفهام.
    وهو منه كلام من غير حجة ، والروايات وإن كانت آحاداً غير خالية عن ضعف


(185)
الطريق لا يجب على الباحث الأخذ بها ، والاحتجاج بما فيها لكن التدبر في الآيات يقرب الذهن منها ، والذي نقل منها عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل.
    نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسرين امور غير معقولة كما نقل عن قتادة وعكرمة : أن الشيطان جاء إلى زكريا وشككه في كون البشارة من الله تعالى ، وقال : « لو كانت من الله لأخفى لك » في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان لا مجوز لتسليمها كما ورد في انجيل لوقا : أن جبرئيل قال لزكريا : « وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته » انجيل لوقا 1 ـ 20
( بحث روائي آخر )
    وفي الكافي عن الصادق ( عليه السّلام ) : ما من قلب إلا وله اذنان على إحديهما ملك مرشد ، وعلى الاخرى شيطان مفتن : هذا يأمره ، وهذا يزجره ؛ الشيطان يأمره بالمعاصى ، والملك يزجره عنها ، وذلك قول الله عز وجل : « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » عن اليمين وعن الشمال قعيد.
    أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها ، وتطبيقه ( عليه السّلام ) الآية على الملك والشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إياها على الملكين الكاتبين للحسنات والسيئات في رواية اخرى فإن الآية : « لا تدل على أزيد من وجود رقيب عتيد » عند الإنسان يرقبه في جميع ما يتكلم به ، وأنه متعدد عن يمين الإنسان وشماله ، وأما أنه من الملائكة محضاً أو ملك وشيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على كل من المحتملين.
    وفيه أيضاً عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السّلام ) عن الرسول وعن النبي وعن المحدث ، قال : الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول : يأمرك كذا وكذا ، والرسول يكون نبياً مع الرسالة ، والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء إِلنبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه ، قلت فما علمه أن الذي في منامه حق ؟ قال : يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق ، ولا يعاين الملك ، الحديث.


(186)
    اقول : قوله : والرسول يكون نبياً إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين وقد تقدم الكلام في معنى الرسالة والنبوة في تفسير قوله تعالى : « كان الناس امة واحدة فبعث الله الآية » البقرة ـ 213.
    وقوله : فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام ، وأن معناه الغيبة عن الحس دون المنام المعروف ، وقوله : « يبينه الله » « الخ » إشارة إلى التمييز بين الإلقاء الملكى والشيطانى بما بينه الله من الحق.
    وفي البصائر عن بريد عن الباقر والصادق ( عليهما السلام ) في حديث قال بريد : فما الرسول والنبى والمحدث ؟ قال الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه ، والنبي يرى في المنام ، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد ، والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة ، قال : قلت : أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك ؟ قال : يوفق لذلك حتى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الأنبياء ؛ الحديث.
    اقول : وهو في مساق الحديث السابق ، وبيانه ( عليه السّلام ) واف بتمييز المحدث ما يسمعه من صوت الهاتف ؛ وفي قوله : لقد ختم الله « الخ » إشارة إلى ذلك ، وسيأتي الكلام في المحدث في ذيل الآيات التالية.
* * *
    وإذ قالت الملائكة يا مريم إنَّ الله اصطفاك وطهرّك واصطفاك على نساء العالمين ـ 42. يا مريم اقنتي لربِّك واسجدي واركعي مع الراكعين ـ 43. ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيُّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ـ 44. إذ قالت الملائكة يا مريم إنَّ الله يبشِّرك بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدُّنيا


(187)
والآخرة ومن المقرَّبين ـ 45. ويكلِّم النَّاس في المهد وكهلاً ومن الصَّالحين ـ 46. قالت ربِّ أنِّي يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنَّما يقول له كن فيكون ـ 47. ويعلِّمه الكتاب والحكمة والتَّوراة والانجيل ـ 48. ورسولاً إلى بني اسرائيل أنِّي قد جئتكم بآية من ربِّكم أنِّي أخلق لكم من الطِّين كهيئة الطَّير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبِّئكم بما تأكلون وما تدَّخرون في بيوتكم إنَّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين ـ 49. ومصدِّقاً لما بين يديَّ من التَّوراة ولاحلَّ لكم بعض الَّذي حرِّم عليكم وجئتكم بآيةٍ من ربِّكم فاتَّقوا الله وأطيعون ـ 50. إنَّ الله ربِّي وربُّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيمٌ ـ 51. فلمَّا أحسَّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريُّون نحن أنصار الله آمنَّا بالله واشهد بأنَّا مسلمون ـ 52. ربَّنا آمنَّا بما أنزلت واتَّبعنا الرُّسول فاكتبنا مع الشَّاهدين ـ 53. ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ـ 54. إذ قال الله يا عيسى إنّي متوفّيك ورافعك إليَّ ومطهِّرك من الَّذين كفروا وجاعل الذين اتَّبعوك فوق الَّذين كفروا إلى يوم القيمة ثمَّ إليَّ مرجعكم


(188)
فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ـ 55. فأمَّا الَّذين كفروا فأعذِّبهم عذاباً شديداً في الدُّنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ـ 56. وأمَّا الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحات فيوفّيهم أجورهم والله لا يحبُّ الظَّالمين ـ 57. ذلك نتلوه عليك من الآيات والذِّكر الحكيم ـ 58. إنَّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمَّ قال له كن فيكون ـ 59. الحقُّ من ربِّك فلا تكن من الممترين ـ 60.
( بيان )
    قوله تعالى : « وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله أصطفيك وطهرك » ؛ الجملة معطوفة على قوله : إذ قالت امرأة عمران ، فتكون شرحاً مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى : « إن الله اصطفى » ، الآية.
    وفي الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدل عليه أيضاً قوله في سورة مريم : فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً إلى آخر الآيات ؛ وسيأتي الكلام في المحدث.
    وقد تقدم في قوله تعالى : فتقبلها ربها بقبول حسن ؛ الآية : أن ذلك بيان لاستجابة دعوة ام مريم : وإني سميتها مريم : وإني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ؛ الآية وأن قول الملائكة لمريم : « إن الله اصطفيك وطهرك » إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة والمنزلة فارجع إلى هناك.
    فاصطفائها تقبلها لعبادة الله ، وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة ؛ وربما قيل ؛ إن المراد من تطهيرها جعلها بتولاً لا تحيض فيتهيأ لها بذلك أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة ، ولا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الأوفق بسياق الآيات.


(189)
    قوله تعالى : « واصطفاك على نساء العالمين » قد تقدم في قوله تعالى : إن الله اصطفى إلى قوله : على العالمين أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم ، وأنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم ؛ وعلى هذا فاصطفائها على نساء العالمين تقديم لها عليهن.
    وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها ؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية : « إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك » ، الآية ، وقوله تعالى : « والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين » الأنبياء ـ 91 ، وقوله تعالى : « ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين » التحريم ـ 12 ؛ حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح ( عليه السّلام ) أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين.
    وأما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه ، والقنوت وكونها محدثة فهي امور لا تختص بها بل يوجد في غيرها ، وأما ما قيل : إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.
    قوله تعالى : « يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين » ؛ القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل ، والسجدة معروفة والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلل.
    ولما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى ( اسم مفعول ) وتوجيه فهمه نحو المنادي ( اسم فاعل ) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها : إن لك عندنا نبأ بعد نبأ فاستمعي لهما وأصغي اليهما : أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو مالك عند الله ، والثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة ، وهو ما لله سبحانه عندك ، فيكون هذا إيفائاً للعبودية وشكراً للمنزلة فيؤول معنى الكلام إلى كون قوله : يا مريم اقنتي « الخ » بمنزلة التفريع لقوله : يا مريم إن الله اصطفيك « الخ » أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين ، ولا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعاً لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة ، وإن لم يخل عن خفاء فليتأمل.


(190)
    قوله تعالى : « ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك » ؛ عده من أنباء الغيب نظير ما عدت قصة يوسف ( عليه السّلام ) من أنباء الغيب التي توحي إلى رسول الله ؛ قال تعالى : « ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون » يوسف ـ 102 ، وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيراً من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.
    ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية : وما كنت لديهم إذ يلقون « الخ ».
    على أن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقومه كانوا اميين غير عالمين بهذه القصص ولا أنهم قرئوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح : « تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا » هود ـ 49 ، والوجه الأول أوفق بسياق الآية.
    قوله تعالى : « وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم » « الخ » ؛ القلم بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة ، ويسمى سهماً أيضاً ، وجمعه أقلام ، فقوله : يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم.
    وفي هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله : « وما كنت لديهم إذ يختصمون » إنما هو اختصامهم وتشاحهم في كفالة مريم ، وأنهم لم يتناهوا حتى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله : وكفلها زكريا ، الآية.
    وربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريا عن كفالتها ، وكأن منشائه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريا في أثنائها ، فيكونان واقعتين اثنتين.
    وفيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة ـ : « ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون » يوسف ـ 102 ، يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة : « إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى


(191)
أبينا منا ونحن عصبة ـ إلى أن قال ـ : لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين » ـ يوسف ـ 10.
    قوله تعالى : « إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك » « الخ » ، الظاهر أن هذه البشارة هي التى يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر : « فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً الآيات » مريم ـ 19 ، فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هيهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.
    وقد قيل في وجهه أن المراد بالملائكة هو جبرئيل ، عبر بالجمع عن الواحد تعظيماً لأمره كما يقال : سافر فلان فركب الدواب وركب السفن ، وإنما ركب دابة واحدة وسفينة واحدة ، ويقال : قال له الناس كذا ، وإنما قاله واحد وهكذا ، ونظير الآية قوله في قصة زكريا السابقة ، فنادته الملائكة ثم قوله : قال : « كذلك الله يفعل ما يشاء » الآية.
    وربما قيل : إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.
    والذي يعطيه التدبر في الآيات التي تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدماً وتأخراً من حيث مقام القرب ، وأن للمتأخر التبعية المحضة لأوامر المتقدم بحيث يكون فعل المتأخر رتبة ، عين فعل المتقدم ، وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول : رأته عيناي وسمعته اذناي ، ورأيته وسمعته ، ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدي ورسمته أناملي وفعلته. أنا وكتبته ، أنا وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لامره بعينه ، وقوله قولهم من غير اختلاف ، وبالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم قوله ، كما قال تعالى : « الله يتوفي الأنفس حين موتها » الزمر ـ 42 ، فنسب التوفي إلى نفسه ، وقال : « قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم » السجدة ـ 11 ، فنسبه إلى ملك الموت وقال : « حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا » الأنعام ـ 61 ، فنسبه إلى جمع من الملائكة.
    ونظيره قوله تعالى : « إنا أوحينا اليك » النساء ـ 163 ، وقوله : « نزل به الروح الامين على قلبك » الشعراء ـ 194 ، وقوله : « من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على


(192)
قلبك » البقرة ـ 97 ، وقوله : « كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة » عبس ـ 16.
    فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة وهو من سادات الملائكة ومقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى : « إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين » التكوير ـ 21 ، وسيأتي زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر انشاء الله تعالى.
    ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية : قال كذلك الله يفعل ما يشاء ، فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة إلى الروح ، قال تعالى : « قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً قال كذلك قال ربك هو عليّ هين الآيات » مريم ـ 21.
    وفي تكلم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها : « فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً » مريم ـ 17 ، يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته ، وسيجيء تمام الكلام في المعنى في البحث الروائي الآتي إنشاء الله.
    قوله تعالى : « بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم » ؛ قد مر البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله : « تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض » البقرة ـ 253.
    والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدال على المعنى ، وعلى الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل إن كان زيد قائماً ، هذا بحسب اللغة ، وأما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد وهو قوله تعالى لشيء أراده : كن ، أو كلمة الوحي والإلهام ونحو ذلك.
    وأما المراد بالكلمة فقد قيل : إن المراد به المسيح ( عليه السّلام ) من جهة أن من سبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل ؛ بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى


(193)
عليه السلام : « وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا » الأعراف ـ 137 ، وفيه أن ذلك وإن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشراً لا مبشراً به ، على أن سياق قوله : اسمه المسيح لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلاً لا نفس عيسى ، وظاهر قوله : اسمه المسيح ، أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة.
    وربما قيل إن المراد به عيسى ( عليه السّلام ) لايضاحه مراده تعالى بالتوراة ، وبيانه تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من امور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل : « ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه » الزخرف ـ 63 ، وفيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن.
    وربما قيل : إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها ، وهي الإخبار بحملها بعيسى وولادته فمعنى قوله : « يبشرك بكلمة منه » يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير مس بشر ، وفيه أن سياق الذيل أعني قوله : اسمه المسيح ، لا يلائمه وهو ظاهر.
    وربما قيل : إن المراد به عيسى ( عليه السّلام ) من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله : كن وإنما اختص عيسى ( عليه السّلام ) بذلك مع كون كل إنسان بل كل شيء موجوداً بكلمة كن التكوينية لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث ، وعمل العوامل المقارنة في ذلك ، ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها ، ولما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الأسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الأسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى : « وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه » النساء ـ 171 ، وقوله تعالى في آخر هذه الآيات : « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الآية » ، وهذا أحسن الوجوه.
    والمسيح هو الممسوح سمي به عيسى ( عليه السّلام ) لأنه كان مسيحاً باليمن والبركه أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب ، أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء يمسحون


(194)
به أو لأن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان ، أو لأنه كان يمسح رؤوس اليتامى ، أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر ، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهه بيده إلا برء ، فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.
    لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعاً في ضمن البشارة التي بشر بها جبرائيل مريم ( عليها السّلام ) على ما يحكيه تعالى بقوله إن : « الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم » ، وهذا اللفظ بعينه معرب « مشيحا » الواقع في كتب العهدين.
    والذي يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدّس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحاً فمعناه : إما الملك وإما المبارك.
    وقد يظهر من كتبهم أنه ( عليهم السلام ) إنما سمي مشيحاً من جهة كون بشارته متضمناً لملكه ، وأنه سيظهر في بني إسرائيل ملكاً عليهم منجياً لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم ، قال : فلما دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء ، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما هذا السلام ، فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله ، وأنت تحبلين وتلدين ابناً وتدعين اسمه يسوع ، هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ويعطيه الرب له كرسي داود أبيه ، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء لوقا 1 ـ 34.
    ولذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى ( عليه السّلام ) لأنه لم ينل الملك أيام دعوته وفي حيوته ، ولذلك أيضاً ربما وجهته النصارى وتبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري.
    أقول : وليس من البعيد أن يقال : إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركاً فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك ، ويؤيده قوله تعالى : « قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت » مريم ـ 31.
    وعيسى أصله يشوع ، فسروه بالمخلص وهو المنجي ، وفي بعض الأخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين


(195)
هذين النبيين.
    وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب ، ويكون معروفاً بهذا النعت ، وأن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى : « وجعلناها وابنها آية للعالمين » الأنبياء ـ 91.
    قوله تعالى : « وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين » ، الوجاهة هي المقبولية ، وكونه ( عليه السّلام ) مقبولاً في الدنيا مما لاخفاء فيه ، وكذا في الآخرة بنص القرآن.
    ومعنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء والمقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله : « لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون » النساء ـ 172 ، وقد عرف تعالى معنى التقريب بقوله : « إذا وقعت الواقعة ـ إلى أن قال ـ : وكنتم أزواجاً ثلثة ـ إلى أن قال ـ : والسابقون السابقون اولئك المقربون » الواقعة ـ 11 ، والآية كما ترى تدل على أن هذا التقرب وهو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شيء قال تعالى : « يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه » الانشقاق ـ 6 ، وقال تعالى : « ألا إلى الله تصير الامور » الشورى ـ 53.
    وأنت إذا تأملت كون المقربين صفة الأفراد من الإنسان وصفة الأفراد من الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاماً اكتسابياً فإن الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة إلهيه والمقربون من الإنسان بالعمل.
    وقوله وجيهاً في الدنيا والآخرة ، حال وكذا ما عطف عليه من قوله : ومن المقربين ، ويكلم اه ، ومن الصالحين ، ويكلمه اه ، رسولاً اه.
    قوله تعالى : « ويكلم الناس في المهد وكهلاً » ، المهد ما يهياً للصبي من الفراش ، والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة ، وهو ما يكون الإنسان فيه رجلاً تاماً قوياً ، ولذا قيل : الكهل من وخطه الشيب أي خالطه ، وربما قيل : إن الكهل من بلغ أربعاً وثلاثين.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: فهرس