الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: 226 ـ 240
(226)
    قلت : لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الانموذج لكان من اللازم أن يحضر على الأقل رجلين ونسوة وأبناءاً ثلاثة فليس الإتيان بمن أتى به إلا للانحصار وهو المصحح لصدق الامتثال بمعنى أنه لم يجد من يمتثل في الإتيان به أمره تعالى إلا من أتى به وهو رجل وامرأة وابنان.
    وإنك لو تأملت القصة وجدت أن وفد نجران من النصارى إنما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ويحاجوه في أمر عيسى بن مريم فإن دعوى أنه عبد الله ورسوله إنما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدعيه لنفسه : « وأما الذين اتبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى » بهم شغل ، ولا لهم في لقائهم هوى كما يدل على ذلك قوله تعالى في صدر الآية : « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم » ، فقل وكذا قوله تعالى ـ : قبل عدة آيات : « فإن حاجوك فقل اسلمت وجهي لله ومن اتبعن ».
    ومن هنا يظهر : أن إتيان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتياناً بنحو الانموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم في هذه المحاجة والمباهلة حتى يعرضوا للَّعن والعذاب المتردد بينهم وبين خصمهم ، وإنما أتى ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بمن أتى به من جهة أنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان طرف المحاجة والمداعاة فكان من حقه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب فلو لا أن الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لإتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء والنساء والانفس بهم لا من جهة الإتيان بالانموذج فقد صح أن الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به.
    ثم إن النصارى إنما قصدوه صلّى الله عليه وآله لا لمجرد أنه كان يرى أن عيسى ابن مريم ( عليه السّلام ) عبد الله ورسوله ويعتقد ذلك بل لأنه كان يدعيه ويدعوهم إليه فالدعوة هي السبب العمدة التي بعثهم على الوفود والمحاجة فحضوره وحضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى والدعوة معاً فقد كانوا شركائه في الدعوة الدينية كما شاركوه في الدعوى كما ذكرناه.
    فان قلت : هب إن إتيانه بهم لكونهم منه ، وانحصار هذا الوصف بهم لكن الظاهر ـ كما تعطيه العادة الجارية ـ أن إحضار الإنسان أحبائه وأفلاذ كبده من النساء والصبيان في المخاطر والمهاول دليل على وثوقه بالسلامة والعافية والوقاية فلا يدل إتيانه


(227)
صلّى الله عليه وآله بهم على أزيد من ذلك ، وأما كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن أن يدل عليه فعله.
    قلت : نعم صدر الآية لا يدل على أزيد مما ذكر لكنك قد عرفت أن ذيلها أعني قوله : على الكاذبين ، يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجة والمباهلة البتة ، ولا يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة أو كاذبة فالذين أتى بهم النبي صلّى الله عليه وآله ، مشاركون معه في الدعوى وفي الدعوة كما تقدم فقد ثبت أن الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى ودعوة معه صلّى الله عليه وآله وشركاء في ذلك.
    فان قلت : لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوة.
    قلت : كلا فقد تبين (1) فيما أسلفناه من مباحث النبوة أن الدعوة والتبليغ ليسا بعين النبوة والبعثة وإن كانا من شؤونها ولوازمها ، ومن المناصب والمقامات الإلهية التي يتقلدها ، وكذا تبين مما تقدم (2) من مبحث الإمامة أيضاً أنهما ليسا بعين الإمامة وإن كانا من لوازمها بوجه.
    قوله تعالى : « إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله » ؛ هذا إشارة إلى ما تقدم من قصص عيسى ( عليه السّلام ) ؛ والكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو الحق دون ما تدعيه النصارى من أمر عيسى.
    وفي الإتيان بإن واللام وضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وتشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه وبصيرته ووثوقه بالوحي الذي أنزله الله سبحانه إليه ، ويتعقبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها وهو قوله : وما من إله إلا الله فإن هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقاً.
    قوله تعالى : « وإن الله لهو العزيز الحكيم » معطوف على أول الآية ؛ وهو بما فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر وتشجيع لنفس النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن الله لا يعجز عن نصرة
1 ـ في تفسير آية 213 من سورة البقرة من المجلد الثاني.
2 ـ في تفسير آية 124 من سورة البقرة من المجلد الأول.


(228)
الحق وتاييده ، ولا أنه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنه هو العزيز ( فلا يعجز عما أراده ) الحكيم ( فلا يجهل ولا يهمل ) لا ما عملته أوهام خصماء الحق من إله غير الله سبحانه.
    ومن هنا يظهر وجه الإتيان بالاسمين : العزيز الحكيم ، وأن الكلام مسوق لنصر القلب أو الافراد.
    قوله تعالى : « فإن الله عليم بالمفسدين » ؛ لما كان الغرض من المحاجة وكذا المباهلة بحسب الحقيقة هو إظهار الحق لم يكن يعقل التولي عن الطريق لمريد الغرض والمقصد : « فلو كانوا أرادوا بذلك إظهار الحق وهم يعلمون » أن الله سبحانه ولى الحق لا يرضى بزهوقه ودحوضه لم يتولوا عنها : « فإن تولوا فإنما هو لكونهم لا يريدون » بالمحاجة ظهور الحق بل الغلبة الظاهرية والاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع ، والسنة التي استحكمت عليه عادتهم ، فهم إنما يريدون ما تزينه لهم أهوائهم وهوساتهم من شكل الحياة ، لا الحياة الصالحة التي تنطبق على الحق والسعادة فهم لا يريدون إصلاحاً بل إفساد الدنيا بإفساد الحياة السعيدة فإن تولوا فإنما هو لأنهم مفسدون.
    ومن هنا يظهر أن الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبب أعني الإفساد مكان عدم إرادة ظهور الحق.
    وقد ضمن الجزاء وصف العلم حيث قيل : فإن الله عليم ، ثم اكد بإن ليدل على أن هذه الصفة متحققة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنهم سيتولون عن المباهلة لا محالة ، وقد فعلوا وصدّقوا قول الله بفعلهم.

    في تفسير القمي عن الصادق ( عليه السّلام ) : أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وكان سيدهم الأهتم والعاقب والسيد ، وحضرت صلوتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلوا ، فقال أصحاب رسول الله : يا رسول الله هذا في مسجدك ? فقال : دعوهم فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا إلى ما تدعو ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث ، قالوا : فمن


(229)
أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : قل لهم : ما تقولون في آدم ، أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويحدث وينكح ؟ فسألهم النبي ، فقالوا نعم : قال فمن أبوه ؟ فبهتوا : « فأنزل الله : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب » الآية ، وقوله : « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم » إلى قوله : « فنجعل لعنه الله على الكاذبين » فقال رسول الله : فباهلوني فإن كنت صادقاً أُنزلت اللعنة عليكم ، وان كنت كاذباً أُنزلت علي فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤسائهم السيد والعاقب والأهتم ان باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبياً ، إن باهلنا باهل بيته خاصة لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا وهو صادق فلما اصبحوا جاؤوا إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) فقال النصارى : من هؤلاء ؟ فقيل لهم هذا ابن عمه ووصيه وختنه علي بن أبي طالب ، وهذا ابنته ، فاطمة وهذا ابناه الحسن والحسين ففرقوا فقالوا لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على الجزية وانصرفوا.
    وفي العيون بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا ( عليه السّلام ) في حديثه مع المأمون والعلماء في الفرق بين العترة والامة ، وفضل العترة على الامة ، وفيه قالت العلماء : هل فسر الله الاصطفاء في كتابه ؟ فقال الرضا ( عليه السّلام ) : فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعاً وذكر المواضع من القرآن ، وقال فيها : وأما الثالثة حين ميز الله الطاهرين من خلقه ، وأمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عز وجل : « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم » فقل تعالوا : « ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم » قالت العلماء : عنى به نفسه ، قال أبو الحسن : غلطتم إنما عنى به علي بن أبي طالب ؛ ومما يدل على ذلك قول النبي : لينتهين بنوا وليعة أو لأبعثن إليهم رجلاً كنفسي يعني علي بن أبي طالب ، وعني بالأبناء الحسن والحسين ، وعني بالنساء فاطمة فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد ، وفضل لا يلحقهم فيه بشر ، وشرف لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي كنفسه ؛ الحديث.
    وعنه بإسناده إلى موسى بن جعفر ( عليها السّلام ) في حديث له مع الرشيد ، قال الرشيد له : كيف قلتم : إنا ذرية النبي ، والنبي لم يعقب ، وإنما العقب للذكر لا للانثى ، وأنتم ولد البنت ولا يكون له عقب. فقلت : أسأله بحق القرابة والقبر ومن فيه إلا


(230)
ما أعفاني عن هذه المسألة ، فقال تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي وأنت يا موسى يعسو بهم وإمام زمانهم ، كذا أُنهي إلي ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله ، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف ولا واو إلا تأويله عندكم ، واحتججتم بقوله عز وجل : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.
    فقلت : تأذن لي في الجواب ؟ فقال : هات ، قلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : « ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين » وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، من أبو عيسى يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ليس له أب فقلت : إنما ألحقه بذراري الأنبياء من طريق مريم ، وكذلك ألحقنا الله تعالى بذراري النبي من امنا فاطمة ، أزيدك يا أمير المؤمنين ؟ قال : هات ، قلت : قول الله عز وجل : « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين » ، ولم يدّع أحد أنه أدخل النبي تحت الكساء عند المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين فكان تأويل قوله : أبنائنا الحسن والحسين ، ونسائنا فاطمة ، وأنفسنا علي بن أبي طالب.
    وفي سؤالات المأمون عن الرضا ( عليه السّلام ) : قال المأمون : ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبي طالب ؟ قال : آية أنفسنا قال : لولا نسائنا قال لولا أبنائنا.
    أقول : قوله : آية أنفسنا يريد أن الله جعل نفس علي كنفس نبيه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقوله : لولا نسائنا معناه ، أن كلمة نسائنا في الآية دليل على أن المراد بالأنفس الرجال فلا فضيلة فيه حينئذ ، وقوله : لولا أبنائنا معناه أن وجود أبنائنا فيها يدل على خلافه فإن المراد بالأنفس لو كان هو الرجال لم يكن مورد لذكر الأبناء.
    وفي تفسير العياشي بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله ( عليه السّلام ) ، قال : إن أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) سئل عن فضائله فذكر بعضها ثم قالوا له زدنا فقال إن رسول الله صلّى الله عليه وآله أتاه حبران من أحبار النصارى من أهل نجران فتكلما في أمر عيسي فأنزل الله هذه الآية : « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم » إلى آخر الآية فدخل رسول الله


(231)
فأخذ بيد علي والحسن والحسين وفاطمة ثم خرج ورفع كفه إلى السماء ، وفرج بين أصابعه ، ودعاهم إلى المباهلة ، قال : وقال أبو جعفر ( عليهما السلام ) وكذلك المباهلة يشبك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه : والله لئن كان نبياً لنهلكن وإن كان غير نبي كفانا قومه فكفا وانصرفا.
    اقول : وهذا المعنى أو ما يقرب منه مروي في روايات أُخر من طرق الشيعة وفي جميعها أن الذين أتى بهم النبي صلّى الله عليه وآله للمباهلة هم علي وفاطمة والحسنان فقد رواه الشيخ في أماليه بإسناده عن عامر بن سعد عن أبيه ؛ ورواه أيضاً فيه بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق ( عليه السّلام ) ورواه فيه أيضاً بإسناده عن سالم ابن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر رضوان الله عليه ورواه أيضاً فيه بإسناده عن ربيعة ابن ناجد عن علي ( عليه السّلام ) ، ورواه المفيد في كتاب الاختصاص بإسناده عن محمد بن الزبرقان عن موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) ، ورواه أيضاً فيه عن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جده ، ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن سعيد الاردني عن موسى بن محمد بن الرضا عن أخيه ، ورواه أيضاً عن أبي جعفر الأحول عن الصادق ( عليه السّلام ) ، ورواه أيضاً فيه في رواية اخرى عن الأحول عنه ( عليه السّلام ) ، وعن المنذر عن علي ( عليه السّلام ) ، ورواه أيضاً فيه بإسناده عن عامر بن سعد ، ورواه الفرات في تفسيره معنعناً عن أبي جعفر وعن أبي رافع والشعبي وعلي ( عليه السّلام ) وشهر بن حوشب ، ورواه في روضة الواعظين وفي إعلام الورى ، وفي الخرائج وغيرها.
    وفي تفسير الثعلبي عن مجاهد والكلبي : أنه صلّى الله عليه وآله لما دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم ـ يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ؛ والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم ، والاقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
    فأتوا رسول الله وقد غدا محتضناً بالحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمّنوا ، فقال اسقف نجران ، يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ،


(232)
ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا ، قال فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا ، يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم فأبوا ، قال : فإني اناجزكم ، فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ، ولا تخيفنا ، ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي اليك كل عام ألفي حلة : ألف في صفر ، وألف في رجب ، وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك.
    وقال : والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.
    اقول : وروى القصة : قريباً منه في كتاب المغازي عن ابن إسحق ، ورواه أيضاً المالكي في الفصول المهمة عن المفسرين قريباً منه ، ورواه الحموي عن ابن جريح قريباً منه.
    وقوله : ألف في صفر المراد به المحرم وهو أول السنة عند العرب وقد كان يسمى صفراً في الجاهلية فيقال صفر الأول وصفر الثاني وقد كانت العرب تنسئ في الصفر الأول ثم أقر الإسلام الحرمة في الصفر الأول فسمي لذلك بشهر الله المحرم ثم اشتهر بالمحرم.
    وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما يمنعك أن تسب أبا تراب ، قال أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلن أسبه ، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول حين خلفه في بعض مغازيه فقال له علي : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم : ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟ وسمعته يقول يوم خيبر : لاعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، قال : فتطاولنا لها ، فقال : أُدعوا لي علياً فاتي به أرمد العين فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله على يده ولما نزلت هذه الآية : « قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل » ، دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي.


(233)
    اقول : ورواه الترمذي في صحيحه ، ورواه أبو المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل علي ، ورواه أيضاً أبو نعيم في الحلية عن عامر بن سعد عن أبيه ، ورواه الحمويني في كتاب فرائد السمطين.
    وفي حلية الأولياء لأبي نعيم بإسناده عن عامر بن أبي وقاص عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي.
    وفيه بإسناده عن الشعبي عن جابر قال : قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الإسلام فقالا : أسلمنا يا محمد فقال : كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام فقالا : فهات الينا ، قال : حب الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، قال جابر : فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه إلى أن يفداه بالغداة فغدا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأخذ بيد علي والحسن والحسين وفاطمة فأرسل اليهما فأبيا أن يجيباه وأقرّا له ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر عليهم الوادي ناراً قال جابر : فيهم نزلت : « ندع أبنائنا وأبنائكم » ، قال جابر : أنفسنا وأنفسكم رسول الله وعلي ، وأبنائنا الحسن والحسين ، ونسائنا فاطمة.
    أقول : ورواه ابن المغازلي في مناقبه بإسناده عن الشعبي عن جابر ، ورواه أيضاً الحمويني في فرائد السمطين بإسناده عنه ، ورواه المالكي في الفصول المهمة مرسلاً ، عنه ورواه أيضاً عن أبي داود الطيالسي عن شعبة الشعبي مرسلا ورواه في الدر المنثور عن الحاكم وصححه وعن ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل عن جابر.
    وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم منهم السيد وهو الكبير ، والعاقب وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم ثم ساق القصة نحواً مما مر.
    وفيه أيضاً أخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده : أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان : بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى اسقف نجران وأهل


(234)
نجران إن أسلمتم فإني أحمد اليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية من الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام ، فلما قرأ الاسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً ، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له : شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقرأه ، فقال له الاسقف : ما رأيك ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسمعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل ؟ ليس لي في النبوة رأي ، لو كان رأى من أمر الدنيا أشرت عليك فيه ، وجهدت لك ، فبعث الاسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قالوا مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة ، وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
    فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فسألهم وسألوه فلم نزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى بن مريم ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى اخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد ، فأنزل الله هذه الآية : « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب » إلى قوله : « فنجعل لعنة الله على الكاذبين » ، فأبوا أن يقروا بذلك ، فلما أصبح رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة ، فقال شرحبيل لصاحبيه : إني أرى أمراً مقبلاً إن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعنّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له : ما رأيك ؟ فقال : رأيي أن احكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً ، فقالا له : أنت وذلك ، فتلقى شرحبيل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك ، قال : وما هو ؟ قال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز ، فرجع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولم يلاعنهم ، وصالحهم على الجزية.
    وفيه أخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكري ، قال : لما نزلت هذه الآية : « قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم » الآية ، أرسل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ، ودعا اليهود ليلاعنهم ، فقال شاب من اليهود : ويحكم أليس عهدتم الأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ لا تلاعنوا فانتهوا.


(235)
    أقول : والرواية تؤيد أن يكون الضمير في قوله تعالى : « فمن حاجك » فيه ، راجعاً إلى الحق في قوله : الحق من ربك ، فيتم بذلك حكم المباهلة لغير خصوص عيسى بن مريم ( عليه السّلام ) ، وتكون حينئذ هذه قصة اخرى واقعة بعد قصة دعوة وفد نجران إلى المباهلة على ما تقصه الأخبار الكثيرة المتظافرة المنقولة أكثرها فيما تقدم.
    وقال ابن طاوس في كتاب سعد السعود رأيت في كتاب تفسير ما نزل من القرآن في النبي وأهل بيته تأليف محمد بن العباس بن مروان : أنه روى خبر المباهلة من أحد وخمسين طريقاً عمن سماه من الصحابة وغيرهم ، وعد منهم الحسن بن علي ( عليهما السلام ) وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وبكر بن سمال وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس وأبا رافع مولى النبي وجابر بن عبد الله والبراء بن عازب وانس بن مالك.
    وروى ذلك في المناقب عن عدة من الرواة والمفسرين وكذا السيوطي في الدر المنثور.
    ومن عجيب الكلام ما ذكره بعض المفسرين حيث قال : إن الروايات متفقة على أن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) اختار للمباهلة علياً وفاطمة وولديهما ، ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة ، وكلمة أنفسنا على علي فقط ، ومصادر هذه الروايات الشيعة ، ومقصدهم منها معروف ؛ وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة ، ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم. وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي ، ثم إن وفد نجران الذين قالوا : إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نسائهم واولادهم ، وكل ما يفهم من الآية امر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يدعوا المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالاً ونسائاً وأطفالاً ويجمع هو المؤمنين رجالاً ونسائاً وأطفالاً ، ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى.
    وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه ، وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومما راتهم فيما يقولون ، وزلزالهم فيما يعتقدون ، وكونهم على غير بينة ولا يقين ، وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في


(236)
صعيد واحد متوجهين إلى الله في طلب لعنه وإبعاده من رحمته ؟ وأي جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا ؟
    قال أما كون النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى ( عليه السّلام ) فحسبنا في بيانه قوله تعالى : « من بعد ما جاءك من العلم » ، فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين وفي قوله : « ندع أبنائنا وأبنائكم » « الخ » وجهان :
    أحدهما : أن كل فريق يدعو الآخر فأنتم تدعون أبنائنا ونحن ندعو أبنائكم ؛ وهكذا الباقي.
    وثانيهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمون ندعو أبنائنا ونسائنا وأنفسنا ؛ وأنتم كذلك.
    ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس ، وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ، ومن شايعهم على القول بالتخصيص ، انتهى.
    اقول : وهذا الكلام ـ وأحسب أن الناظر فيه يكاد يتهمنا في نسبته إلى مثله ، واللبيب لا يرضى بإيداعه وأمثاله في الزبر العلمية ـ إنما أوردناه على وهنه وسقوطه ليعلم أن النزعة والعصبية إلى أين يورد صاحبه من سقوط الفهم وردائة النظر فيهدم كل ما بنى عليه ويبني كل ما هدمه ولا يبالي ، ولأن الشر يجب أن يعلم ليجتنب عنه.
    والكلام في مقامين : أحدهما : دلالة الآية على أفضلية علي ( عليه السّلام ) وهو بحث كلامي خارج عن الغرض الموضوع له هذا الكتاب ؛ وهو النظر في معاني الآيات القرآنية.
    وثانيهما : البحث عما ذكره هذا القائل من حيث تعلقه بمدلول آية المباهلة ، والروايات الواردة في ما جرى بين النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وبين وفد نجران ؛ وهذا بحث تفسيري داخل في غرضنا.
    وقد عرفت ما تدل عليه الآية ، وأن الذي نقلناه من الأخبار المتكثرة المتظافرة هو الذي يطابق مدلول الآية ، وبالتأمل في ذلك يتضح وجوه الفساد في هذه الحجة المختلقة والنظر الواهي الذي لا يرجع إلى محصل ، وهاك تفصيلها :
    منها : أن قوله : ومصادر هذه الروايات الشيعة ـ إلى قوله : وقد اجتهدوا في


(237)
ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة ، بعد قوله : إن الروايات متفقة ، ليت شعري أي روايات يعنى بهذا القول ؟ أمراده هذه الروايات المتظافرة التي أجمعت على نقلها وعدم طرحها المحدثون ، وليست بالواحدة والاثنتين والثلاث أطبق على نقلها وتلقيها بالقبول أهل الحديث ، وأثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم ، ومنهم مسلم في صحيحه والترمذي في صحيحه وأيدها أهل التاريخ.
    ثم أطبق المفسرون على إيرادها وإيداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب ، وفيهم جمع من أهل الحديث والتاريخ كالطبري وأبي الفداء بن كثير والسيوطي وغيرهم.
    ثم من الذي يعنيه من الشيعة المصادر لهذه الروايات ؟ أيريد بهم الذين تنتهي إليهم سلاسل الأسناد في الروايات أعني سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عباس وغيرهم من الصحابة ؟ أو التابعين الذين نقلوا عنهم بالأخذ والرواية كأبي صالح والكلبي والسدي والشعبي وغيرهم ، وأنهم تشيعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه فهؤلاء وأمثالهم ونظرائهم هم الوسائط في نقل السنة ، ومع رفضهم لا تبقى سنة مذكورة ولا سيرة مأثورة ، وكيف يسع لمسلم أو باحث حتى ممن لا ينتحل بالإسلام أن يبطل السنة ثم يروم أن يطلع على تفاصيل ما جاء به النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من تعليم وتشريع والقرآن ناطق بحجية قول النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وسيرته ، وناطق ببقاء الدين على حيوته ، ولو جاز بطلان السنه من رأس لم يبق للقرآن أثر ولا لإنزاله ثمر.
    أو أنه يريد أن الشيعة دسوا هذه الأحاديث في جوامع الحديث وكتب التاريخ ، فيعود محذور سقوط السنة ، وبطلان الشريعة بل يكون البلوى أعم والفساد أتم.
    ومنها : قوله : ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة ، وكلمة أنفسنا على عليّ فقط ، مراده به أنهم يقولون بأن كلمة نسائنا أطلقت واريدت بها فاطمة وكذا المراد بكلمة أنفسنا عليّ فقط ، وكأنه فهمه مما يشتمل عليه بعض الروايات السابقة : قال جابر : نسائنا فاطمة وأنفسنا علي الخبر ، وقد أساء الفهم فليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة ، وبلفظ أنفسنا علي بل المراد أنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذ لم يأت في مقام الامتثال إلا بها وبه كشف ذلك أنها هي المصداق الفرد لنسائنا ، وأنه هو المصداق الوحيد لأنفسنا وأنهما مصداق أبنائنا ، وكان المراد بالأبناء والنساء والأنفس في الآية هو الأهل فهم


(238)
أهل بيت رسول الله وخاصته كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر إتيانه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بهم أنه قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فإن معنى الجملة : أني لم أجد من أدعوه غير هؤلاء.
    ويدل على ما ذكرناه من المراد ما وقع في بعض الروايات : أنفسنا وأنفسكم رسول الله وعلي ، فإن اللفظ صريح في أن المقصود بيان المصداق دون معنى اللفظ.
    ومنها : قوله : ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم ، وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي ، وهذا المعنى العجيب الذي توهمه هو الذي أوجب أن يطرح هذه الروايات على كثرتها ثم يطعن على رواتها وكل من تلقاها بالقبول ، ويرميهم بما ذكره وقد كان من الواجب عليه أن يتنبه لموقفه من تفسير الكتاب ، ويذكر هؤلاء الجم الغفير من أئمة البلاغة وأساتيذ البيان ، وقد أوردوها في تفسيرهم وسائر مؤلفاتهم من غير أي تردد أو اعتراض.
    فهذا صاحب الكشاف ـ وهو الذي ربما خطأ أئمة القراءة في قراءتهم ـ يقول في ذيل تفسير الآية : وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء ( عليهم السلام ) وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلّى الله عله وآله وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف : أنهم أجابوا إلى ذلك ، انتهى.
    فكيف خفي على هؤلاء العظماء أبطال البلاغة وفرسان الأدب أن هذه الأخبار على كثرتها وتكررها في جوامع الحديث تنسب إلى القرآن أنه يغلط في بيانه فيطلق النساء ( وهو جمع ) في مورد نفس واحدة ؟
    لا وعمري ، وإنما التبس الأمر على هذا القائل واشتبه عنده المفهوم بالمصداق فتوهم أن الله عز اسمه لو قال لنبيه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم » « إلخ » وصح أن المحاجين عند نزول الآية وفد نجران وهم أربعة عشر رجلاً على ما في بعض الروايات ليس عندهم نساء ولا أبناء ؛ وصح أيضاً أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خرج إلى مباهلتهم وليس معه إلا علي وفاطمة والحسنان كان لازم ذلك أن معنى من حاج وفد نجران ، ومعنى نسائنا المرأة الواحدة ومعنى أنفسنا النفس الواحدة ، وبقي نسائكم وأبنائكم لا معنى لهما إذ لم يكن مع


(239)
الوفد نساء ولا أبناء !
    وكان عليه أن يضيف إلى ذلك لزوم استعمال الأبناء وهو جمع في التثنية وهو أشنع من استعمال الجمع في المفرد فإن استعمال الجمع في المفرد ربما وجد في كلام المولدين وإن لم يوجد في العربية الأصيلة إلا في التكلم لغرض التعظيم لكن استعمال الجمع في المثنى مما لا مجوز له أصلاً.
    فهذا هو الذي دعاه إلى طرح الروايات ورميها بالوضع ، وليس الأمر كما توهمه.
    توضيح ذلك أن الكلام البليغ إنما يتبع فيه ما يقتضيه المقام من كشف ما يهم كشفه فربما كان المقام مقام التخاطب بين متخاطبين أو قبيلين ينكر أو يجهل كل منهما حال صاحبه فيوضع الكلام على ما يقتضيه الطبع والعادة فيؤتى في التعبير بما يناسب ذلك فأحد القبيلين المتخاصمين إذا أراد أن يخبر صاحبه أن الخصومة والدفاع قائمة بجميع أشخاص قبيله من ذكور واناث وصغير وكبير فإنما يقول : نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والظعائن والأولاد فيضع الكلام على ما تقتضيه الطبع والعادة فإن العادة تقتضي أن يكون للقبيل من الناس نساء وأولاد والغرض متعلق بأن يبين للخصم أنهم يد واحدة على من يخاصمهم ويخاصمونه ، ولو قيل : نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والنساء وابنين لنا كان إخباراً بأمر زائد على مقتضى المقام محتاجاً إلى عناية زائدة وتعرفاً إلى الخصم لنكتة زائدة.
    وأما عند المتعارفين والأصدقاء والأخلة فربما يوضع الكلام على مقتضى الطبع والعادة فيقال في الدعوة للضيافة والاحتفال : سنقرئكم بأنفسنا ونسائنا وأطفالنا ، وربما يسترسل في التعرف فيقال : سنخدمكم بالرجال والبنت والسبطين الصبيين ؛ ونحو ذلك.
    فللطبع والعادة وظاهر الحال حكم ، ولواقع الأمر وخارج العين حكم ، وربما يختلفان ، فمن بنى كلامه على حكاية ما يعلم من ظاهر حاله ، ويقضي به الطبع والعادة فيه ثم بدا حقيقة حاله وواقع أمره على خلاف ما حكاه من ظاهر حاله لم يكن غالطاً في كلامه ، ولا كاذباً في خبره ولا لاغياً هازلاً في قوله.
    والآية جارية على هذا المجرى فقوله : « فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا


(240)
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم » « الخ » اريد به على ما تقدم : أُدعهم إلى أن تحضر أنت وخاصتك من أهلك الذين يشاركونك في الدعوى والعلم ، ويحضروا بخاصتهم من أهليهم ، ثم وضع الكلام على ما يعطيه ظاهر الحال أن لرسول الله في أهله رجالاً ونساءاً وأبناءاً ولهم في أهليهم رجال ونساء وأبناء فهذا مقتضى ظاهر الحال ، وحكم الطبع والعادة فيه وفيهم ، أما واقع الأمر وحقيقته فهو أنه لم يكن له ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من الرجال والنساء والبنين إلا نفس وبنت وابنان ، ولم يكن لهم إلا رجال من غير نساء ولا أبناء ، ولذلك لما أتاهم برجل وامرأة وولدين لم يجبهوه بالتلحين والتكذيب ، ولا أنهم اعتذروا عن الحضور بأنك أمرت بإحضار النساء والأبناء وليس عندنا نساء ولا أبناء ، ولا أن من قصت عليه القصة رماها بالوضع والتمويه.
    ومن هنا يظهر فساد ما أورده بقوله : ثم وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساء ولا أبناء.
    ومنها : قوله : وكل ما يفهم من الآية أمر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالاً ونسائاً وأطفالاً ، ويجمع هو المؤمنين رجالا ونسائاً وأطفالاً ويبتهلون إلى الله بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى ـ إلى قوله ـ : وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى أن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته ؟ وأي جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا ؟
    وملخصه أن الآية تدعو الفريقين إلى الاجتماع بأنفسهم ونسائهم وذراريهم في صعيد واحد ثم الابتهال بالملاعنة ، وينبغي أن يستبان ما هذا الاجتماع المدعو إليه ؟
    أهو اجتماع الفريقين كافة أعني المؤمنين بأجمعهم وهم يومئذ (1) عرب ربيعة ومضر جلهم أو كلهم من اليمن والحجاز والعراق وغيرها ، والنصارى وهم أهل نجران من اليمن ونصارى الشام وسواحل البحر الابيض وأهل الروم والإفرنج والانجليز والنمسا وغيرهم.
1 ـ وهو سنة تسع على ما ذكره بعض المؤرخين أو عشر على ما ذكره آخرون وإن لم يخل جميعاً عن الاشكال على ما سيجيء في البحث الروائي عن الآيات التالية لهذه الآيات.
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: فهرس