الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: 361 ـ 375
(361)
والتشريفات فلا يهمنا التعرض له.

    كسوة الكعبة : قد تقدم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصة هاجر وإسماعيل ونزولهما أرض مكة أن هاجر علق كسائها على باب الكعبة بعد تمام بنائها.
    وأما كسوة البيت نفسه فيقال : إن أول من كساها تبع أبو بكر أسعد كساها بالبرود المطرزة بأسلاك الفضة ، وتبعه خلفائه ثم أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض ، وكلما بلى منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصى ، ووضع قصى على العرب رفادة لكسوتها سنوياً واستمر ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة ابن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش سنة.
    وقد كساها النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالثياب اليمانية ، وكان على ذلك حتى إذا حج الخليفة العباسي المهدي شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة ، وذكروا أنه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية ، وإبدالها بكسوة واحدة كل سنة ، وجرى العمل على ذلك حتى اليوم ، وللكعبة كسوة من داخل ، وأول من كساها من داخل ام العباس بن عبد المطلب لنذر نذرته في ابنها العباس.

    منزلة الكعبة : كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الامم المختلفة فكانت الهنود يعظمونها ؛ ويقولون : إن روح « سيفا » وهو الاقنوم الثالث عندهم حلت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.
    وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة (1) وربما قيل : إنه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه.
    وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أن روح هرمز حلت فيها ، وربما حجوا إليها زائرين.
    وكانت اليهود يعظمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم ، وكان بها صور
1 ـ البيوت المعظمة هي : 1 ـ الكعبة ، 2 ـ مارس على رأس جبل باصفهان ، 3 ـ مندوسان ببلاد الهند ، 4 ـ نوبهار بمدينة بلخ ، 5 ـ بيت غمدان بمدينة صنعاء ، 6 ـ كلوسان بمدينة فرغانة من خراسان ، 7 ـ بيت بأعالي بلاد الصين.

(362)
وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل ، وبأيديهما الأزلام ومنها صورتا العذراء والمسيح ، ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لامرها أيضاً كاليهود.
    وكانت العرب أيضاً تعظمها كل التعظيم ، وتعدها بيتاً لله تعالى ، وكانوا يحجون إليها من كل جهة وهم يعدون البيت بناء لإبرهيم ، والحج من دينه الباقي بينهم بالتوارث.

    ولاية الكعبة : كانت الولاية على الكعبة لاسماعيل ثم لولده من بعده حتى تغلبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثم ملكتها العماليق وهم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم ، وقد كانوا ينزلون أسفل مكة كما أن جرهم كانت تنزل أعلى مكة وفيهم ملوكهم.
    ثم كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولوها نحواً من ثلاثمأة سنة ، وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان في بناء إبراهيم.
    ثم لما نشأت ولد إسماعيل وكثروا وصاروا ذوي قوة ومنعة وضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم وأخرجوهم من مكة ، ومقدم الإسماعيليين يومئذ عمرو بن لحى ، وهو كبير خزاعة فاستولى على مكة وتولى أمر البيت ، وهو الذي وضع الأصنام على الكعبة ودعى الناس إلى عبادتها ، وأول صنم وضعه عليها هو « هبل » ، حمله معه من الشام إلى مكة ووضعه عليها ثم أتبعه بغيره حتى كثرت وشاعت عبادتها بين العرب ، وهجرت الحنيفية.
    وفي ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهمي يخاطب عمرو بن لحى.
يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة وكان للبيت رب واحد أبداً لتعرفن بأن الله في مهل شتى بمكة حول البيت أنصاباً فقد جعلت له في الناس أرباباً سيصطفي دونكم للبيت حجاباً
    وكانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعي فجعلها حليل من بعده لابنته وكانت تحت قصي بن كلاب ، وجعل فتح الباب وغلقها لرجل من خزاعة يسمى أبا غبشان الخزاعي فباعه أبو غبشان من قصي بن كلاب ببعير وزق خمر ، وفي ذلك يضرب المثل السائر « أخسر من صفقة أبي غبشان ».
    فانتقلت الولاية إلى قريش ، وجدد قصي بناء البيت كما قدمناه وكان الأمر على


(363)
ذلك حتى فتح النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مكة ، ودخل الكعبة وأمر بالصور والتماثيل فمحيت ، وأمر بالأصنام فهدمت وكسرت ، وقد كان مقام إبراهيم وهو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم موضوعاً بمعجن في جوار الكعبة ثم دفن في محله الذي يعرف به الآن ، وهو قبة قائمة على أربعة أعمدة يقصدها الطائفون للصلاة.
    وأخبار الكعبة وما يتعلق بها من المعاهد الدينية كثيرة طويلة الذيل اقتصرنا منها على ما تمسه حاجة الباحث المتدبر في آيات الحج والكعبة.
    ومن خواص هذا البيت الذي بارك الله فيه وجعله هدى أنه لم يختلف في شأنه أحد من طوائف الاسلام.
* * *
    قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيدٌ على ما تعملون ـ 98. قل يا أهل الكتاب لم تصدُّون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافلِ عمَّا تعملون ـ 99. يا أيُّها الَّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الَّذين أوتوا الكتاب يردُّوكم بعد إيمانكم كافرين ـ 100. وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراطِ مستقيمِ ـ 101.
( بيان )
    الآيات كما ترى باتصال السياق تدل على أن أهل الكتاب ( فريق منهم وهم اليهود أو فريق من اليهود ) كانوا يكفرون بآيات الله ، ويصدون المؤمنين عن سبيل الله بارائته إياهم عوجاً غير مستقيم ، وتمثيل سبيل الضلال المعوج المنحرف سبيلاً لله


(364)
وذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحق باطلاً ، والباطل الذي يدعونهم إليه حقاً والآيات السابقة تدل على ما انحرفوا فيه من إنكار حلية كل الطعام قبل التوراة ، وإنكار نسخ استقبال بيت المقدس فهذه الآيات متممات للآيات السابقة المتعرضة لحل الطعام قبل التوراة ، وكون الكعبة أول بيت وضع للناس فهي تشتمل على الإنكار والتوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات وتفتينهم المؤمنين في دينهم ، وتحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين ، وترغيب وتحريص لهم أن يعتصموا بالله فيهتدوا إلى صراط الإيمان وتدوم هدايتهم.
    وقد ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطي في لباب النقول على ما قيل (1) : أن شاش بن قيس ـ وكان يهودياً ـ مر على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون فغاظه ما رأى من تألفهم بعد العداوة فأمر شاباً معه من اليهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل ، فتنازعوا وتفاخروا حتى وثب رجلان. أوس بن قرظي من الأوس ، وجبار بن صخر من الخزرج فتقاولا وغضب الفريقان ، وتواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فجاء حتى وعظهم وأصلح بينهم فسمعوا وأطاعوا فأنزل الله في أوس وجبار : « يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين اوتوا الكتاب » ، الآية وفي شاش بن قيس : « يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله » الآية.
    والرواية مختصرة مستخرجة مما رواه في الدر المنثور عن زيد بن أسلم مفصلاً وروي ما يقرب منها عن ابن عباس وغيره.
    وكيف كان ، الآيات أقرب انطباقاً على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر ، على أن الآيات يذكر الكفر والإيمان ، وشهادة اليهود ، وتلاوة آيات الله على المؤمنين ، ونحو ذلك ، وكل ذلك لما ذكرناه أنسب ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : « ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم الآية » البقرة ـ 109 ، فالحق كما ذكرنا أن الآيات متممة لسابقتها.
    قوله تعالى : « قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله » « إلخ » المراد بالآيات بقرينة وحدة السياق حلية الطعام قبل نزول التوراة ، وكون القبلة هي الكعبة في الاسلام.
1 ـ المجلد الرابع من تفسير المنار : سورة آل عمران ـ تفسير الآية.

(365)
    قوله تعالى : « قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله » إلى قوله : عوجاً ، الصد الصرف ، وقوله : تبغونها أي تطلبون السبيل ، وقوله : عوجاً : العوج المعطوف المحرف ، والمراد طلب سبيل الله معوجاً من غير استقامة.
    قوله تعالى : « وأنتم شهداء » ، أي تعلمون أن الطعام كان حلاً قبل نزول التوراة وأن من خصائص النبوة تحويل القبلة إلى الكعبة ، وقد حاذى في عدهم شهداء في هذه الآية ما في الآية السابقة من عد نفسه تعالى شهيداً على فعلهم وكفرهم ، وفيه من اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقية ما ينكرونه والله شهيد علي إنكارهم وكفرهم. ولما نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيل به الآية السابقة أعني قوله : « والله شهيد على ما تعملون » من قوله في ذيل هذه الآية : « وما الله بغافل عما تعملون » فأفاد ذلك أنهم شهداء على الحقية ، والله سبحانه شهيد على الجميع.
    قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا » ـ إلى قوله ـ : وفيكم رسوله ، المراد بالفريق كما تقدم هم اليهود أو فريق منهم ، وقوله تعالى : « وأنتم تتلى عليكم آيات الله » وفيكم رسوله أي يمكنكم أن تعتصموا بالحق الذي يظهر لكم بالإنصات إلى آيات الله والتدبر فيها ثم الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلة التدبر أو الرجوع ابتداء إلى رسوله الذي هو فيكم غير محتجب عنكم ولا بعيد منكم ، واستظهار الحق بالرجوع إليه ثم إبطال شبه القتها اليهود إليكم والتمسك بآيات الله وبرسوله والاعتصام بهما اعتصام بالله ؛ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
    فالمراد بالكفر في قوله : « وكيف تكفرون الكفر بعد الإيمان » ، وقوله وأنتم تتلى عليكم ، كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله وبرسوله ، وقوله : ويعتصم بالله ، بمنزلة الكبرى الكلية لذلك والمراد بالهداية إلى صراط مستقيم الاهتداء إلى إيمان ثابت وهو الصراط الذي لا يختلف ولا يتخلف أمره ، ويجمع سالكيه في مستواه ولا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلوا.
    وفي تحقيق الماضي في قوله : فقد هدى ، مع حذف الفاعل دلالة على تحقق الفعل من غير شعور بفاعله.
    ويتبين من الآية أن الكتاب والسنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه


(366)
    يا أيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون ـ 102. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النَّار فأنقذكم منها كذلك يبيِّن الله لكم آياته لعلَّكم تهتدون ـ 103. ولتكن منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ـ 104. ولا تكونوا كالَّذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيِّنات وأولئك لهم عذابٌ عظيمٌ ـ 105. يوم تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ فأمَّا الَّذين أسودَّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ـ 106. وأمَّا الَّذين ابيَّضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ـ 107. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقِّ وما الله يريد ظلماً للعالمين ـ 108. ولله ما في السَّموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الامور ـ 109. كنتم خير أمةٍ أخرجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لَّهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ـ 110.


(367)
( بيان )
    الآيات من تتمة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب وتفتينهم ، وأن عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلوا ولا يسقطوا في حفر المهالك ، وهي مع ذلك كلام اعتقبه كلام ، ولا تغير السياق السابق أعني أن التعرض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد ، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات : لن يضروكم إلا أذى « إلخ ».
    قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته » ، قد مر فيما مر أن التقوى وهو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنباً وتحرزاً من عذابه كما قال تعالى : « فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة » البقرة ـ 24 ، وذلك إنما يتحقق بالجري على ما يريده ويرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى ، والانتهاء عن نواهيه ، والشكر لنعمه ، والصبر عند بلائه ، ويرجع الاخيران جميعاً إلى الشكر بمعنى وضع الشيء موضعه وبالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع ولا يعصى ويخضع له فيما أعطى أو منع.
    لكنه إذا أخذ التقوى حق التقوى الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبودية التي لا تشوبها إنية وغفلة ، وهي الطاعة من غير معصية ، والشكر من غير كفر والذكر من غير نسيان ، وهو الاسلام الحق أعني الدرجة العليا من درجاته ؛ وعلى هذا يرجع معنى قوله : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون إلى نحو قولنا : ودوموا على هذه الحال ( حق التقوى ) حتى تموتوا.
    وهذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى : « فاتقوا الله ما استطعتم » التغابن ـ 16 ، فإن هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شيء مما تستطيعونه غير أن الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم ، ولا ريب أن حق التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس ، فإن في هذا المسير الباطني مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلا العالمون ، ودقائق ولطائف لا يتنبه لها إلا المخلصون ، فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه النفس الإنسانية فيجزم بكونها غير مستطاعة وإن كان أهل التقوى الحقة خلفوها وراء ظهورهم ، وأقبلوا بهممهم على ما هو أشق وأصعب.
    فقوله : « فاتقوا الله ما استطعتم » الآية كلام يتلقاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على


(368)
حسب ما يطبقه كل فهم على ما يستطيعه صاحبه ثم يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه الآية أعني قوله : « اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون » أن المراد أن يقعوا في صراط حق التقوى ، ويقصدوا نيل هذا المقام والشخوص والمثول فيه ، وذلك نظير الاهتداء إلى الصراط المستقيم الذي لا يتمكن منه إلا الأوحديون ، ومع ذلك يدعى إليه جميع الناس ، فيكون محصل الآيتين : ( اتقوا الله حق تقاته ـ فاتقوا الله ما استطعتم ) أن يندب جميع الناس ويدعوا إلى حق التقوى ثم يؤمروا بالسير إلى هذا المقصد ما قدروا واستطاعوا ، وينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلا أنهم في مراحل مختلفة ، وعلى درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الأفهام والهمم ، وعلى ما يفاض عليهم من توفيق الله وتأييده وتسديده ، فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين.
    ومنه يظهر : أن الآيتين غير مختلفتين بحسب المضمون ، ولا أن الآية الاولى أعني قوله : اتقوا الله حق تقاته الآية ، اريد بها عين ما اريد من قوله : « فاتقوا الله ما استطعتم » الآية ، بل الآية الاولى تدعو إلى المقصد والثانية تبين كيفية السلوك.
    قوله تعالى : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون الموت من الامور التكوينية التي هي خارجة عن حومة اختيارنا ، ولذلك يكون الأمر والنهي المتعلقان به وبأمثاله أمراً ونهياً تكوينيين كقوله : « فقال لهم الله موتوا » البقرة ـ 243 ، وقوله : « أن يقول له كن فيكون » يس ـ 82 ، إلا أنه ربما يجعل الأمر غير الاختياري مضافاً إلى أمر اختياري فيتركبان بنحو وينسب المركب إلى الاختيار فيتأتى الأمر والنهي الاعتباري حينئذ كقوله تعالى : « فلا تكونن من الممترين » البقرة ـ 147 ، وقوله : « ولا تكن مع الكافرين » هود ـ 42 ، وقوله : « وكونوا مع الصادقين » التوبة ـ 119 ، وغير ذلك ، فإن أصل الكون لازم تكويني للإنسان لا أثر لاختياره فيه لكنه بارتباطه بأمر اختياري كالامتراء والكفر والتزام الصدق مثلاًً يعد أمراً اختيارياً فيؤمر به وينهى عنه أمراً ونهياً مولويين.
    وبالجملة النهي عن الموت إلا مع الاسلام إنما هو لمكان عده اختيارياً ويرجع بالآخرة إلى الكناية عن لزوم التزام الاسلام في جميع الحالات ، حتى يقع الموت في واحدة من هذه الحالات فيكون الميت مات في حال الاسلام.
    قوله تعالى : « واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا » ، ذكر سبحانه فيما مر


(369)
من قوله : « وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله » الآية أن التمسك بآيات الله وبرسوله ( الكتاب والسنة ) اعتصام بالله مأمون معه المتمسك المعتصم ، مضمون له الهدى ، والتمسك بذيل الرسول تمسك بذيل الكتاب فإن الكتاب هو الذي يأمر بذلك في مثل قوله : « وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا » الحشر ـ 7.
    وقد بدل في هذه الآية الاعتصام المندوب إليه في تلك الآية بالاعتصام بحبل الله فأنتج ذلك أن حبل الله هو الكتاب المنزل من عند الله ، وهو الذي يصل ما بين العبد والرب ويربط السماء بالأرض ، وإن شئت قلت : إن حبل الله هو القرآن والنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقد عرفت أن مآل الجميع واحد.
    والقرآن وإن لم يدع إلا إلى حق التقوى والاسلام الثابت لكن غرض هذه الآية غير غرض الآية السابقة الآمرة بحق التقوى والموت على الاسلام فإن الآية السابقة تتعرض لحكم الفرد ، وهذه الآية تتعرض لحكم الجماعة المجتمعة والدليل عليه قوله : « جميعاً » وقوله : « ولا تتفرقوا » فالآيات تأمر المجتمع الاسلامي بالاعتصام بالكتاب والسنة كما تأمر الفرد بذلك.
    قوله تعالى : « واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً » جملة إذ كنتم ، بيان لما ذكر من ، النعمة وعليه يعطف قوله : « وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ».
    والأمر بذكر هذه النعمة مبني على ما عليه دأب القرآن أن يضع تعليمه على بيان العلل والأسباب ، ويدعو إلى الخير والهدى من وجهه من غير أن يأمر بالتقليد العامي المعمى ، وحاشا التعليم الإلهي أن يهدي الناس إلى السعادة وهي العلم النافع والعمل الصالح ثم يأمر بالوقوع في تيه التقليد وظلمة الجهل.
    لكن يجب أن لا يشتبه الأمر ولا يختلط الحال على المتدبر الباحث ، فالله سبحانه يعلم الناس حقيقة سعادتهم ، ويعلم الوجه فيها ليتبصروا بارتباط الحقائق بعضها ببعض ، وأن الجميع فائضة من منبع التوحيد مع وجوب إسلامهم لله لأنه الله رب العالمين
( 3 ـ المزان ـ 24)


(370)
واعتصامهم بحبله لأنه حبل الله رب العالمين كما يومي إليه ما في آخر الآيات من قوله : تلك آيات الله نتلوها عليك ، الآيتان.
    وبالجملة هو أمرهم أن لا يقبلوا قولاً ، ولا يطيعوا أمراً إلا عن علم بوجهه ، ثم أمرهم بالتسليم المطلق لنفسه وبين وجهه أنه هو الله الذي يملكهم على الإطلاق فليس لهم إلا ما أراده فيهم وتصرف فيه منهم ، وأمرهم بالطاعة المطلقة لما يبلغه رسوله وبين وجهه بأنه رسول لا شأن له إلا البلاغ ، ثم يكلمهم بحقائق المعارف ، وبيان طرق السعادة ، وبيّن الوجه العام في جميع ذلك ليهتدوا إلى روابط المعارف ، وطرق السعادة فيتحققوا أصل التوحيد ، وليتأدبوا بهذا الأدب الإلهي فيتسلطوا على سبيل التفكر الصحيح ، ويعرفوا طريق التكلم الحق فيكونوا أحياء بالعلم أحراراً من التقليد ، ونتيجة ذلك أنهم لو عرفوا وجه الأمر في شيء من المعارف الثابتة الدينية أو ما يلحق بها أخذوا به ، ولو لم يعرفوا وقفوا عن الرد ورجعوا نيله بالبحث والتدبر من غير رد أو اعتراض بعد ثبوته.
    وهذا غير أن يقال إن الدين موضوع على أن لا يقبل شيء حتى من الله ورسوله إلا عن دليل فإن ذلك من أسفه الرأي وأردأ القول ، ومرجعه إلى أن الله يريد من عباده أن يطالبوا الدليل بعد وجوده فإن ربوبيته وملكه أصل كل دليل على وجوب التسليم ونفوذ الحكم. ورسالة رسوله هو الدليل على أن ما يؤديه عن الله سبحانه فافهم ذلك ، أو مرجعه إلى إلغاء ربوبيته فيما يتصرف فيه بربوبيته وليس إلا التناقض ، والحاصل أن المسلك الاسلامي والطريق النبوي ليس إلا الدعوة إلى العلم دون التقليد على ما يزعمه هؤلاء المقلدة المتسمون بالناقدين.
    ولعل الوجه في ذكر أن هذا المذكور نعمة ( نعمة الله عليكم ) هو الاشارة إلى ما ذكرناه أي إن الدليل على ما ندبناكم إليه من الاتحاد والاجتماع هو ما شاهدتموه من مرارة العداوة وحلاوة المحبة والالفة والاخوة والإشراف على حفرة النار والتخلص منها ، وإنما نذكركم بهذا الدليل لا لأن علينا أن نؤيد قولنا بما لولاه لم يكن حقاً فإنما قولنا حق سواء دللنا عليه أو لا ، بل لأن تعلموا أن ذلك نعمة منا عليكم فتعرفوا أن في هذا الاجتماع كسائر ما نندبكم إليه سعادتكم وراحتكم ومفازتكم.
    وما ذكره تعالى من الدليلين أحدهما وهو قوله إذ كنتم أعداء مبتن على أصل


(371)
التجربة ، والثاني وهو قوله : وكنتم على شفا حفرة ، على طريقة البيان العقلي كما هو ظاهر.
    وفي قوله : فأصبحتم بنعمته إخواناً تكرار للامتنان الذي يدل عليه قوله : « واذكروا نعمة الله عليكم » ، والمراد بالنعمة هو التأليف ، فالمراد بالاخوّة التي توجده وتحققه هذه النعمة أيضاً تألف القلوب فالاخوة هاهنا حقيقة ادعائية.
    ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يشتمل عليه قوله : « إنما المؤمنون إخوة » الآية ـ الحجرات ـ 10 ، من تشريع الاخوة بينهم فإن بين المؤمنين أُخوّة مشرعة تتعلق بها حقوق هامة.
    قوله تعالى : « وكنتم على شفا حفرة من النار فأِِنقذكم منها » ، شفا الحفرة طرفها الذي يشرف على السقوط فيها من كان به.
    والمراد من النار إن كان نار الآخرة ، فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أنهم كانوا كافرين ليس بينهم وبين الوقوع فيها إلا الموت الذي هو أقرب إلى الإنسان من سواد العين إلى بياضها فأنقذهم الله منها بالإيمان.
    وإن كان المراد بيان حالهم في مجتمعهم الفاسد الذي كانوا فيه قبل إيمانهم وتألف قلوبهم ، وكان المراد بالنار هي الحروب والمنازعات ـ وهو من الاستعمالات الشائعة بطريق الاستعارة ـ فالمقصود أن المجتمع الذي بني على تشتت القلوب واختلاف المقاصد والأهواء ، ولا محالة لا يسير مثل هذا المجتمع بدليل واحد يهديهم إلى غاية واحدة بل بأدلة شتى تختلف باختلاف الميول الشخصية والتحكمات الفردية اللاغية التي تهديهم إلى أشد الخلاف والاختلاف ـ يشرفهم إلى أردأ التنازع ـ ويهددهم دائماً بالقتال والنزال ، ويعدهم الفناء والزوال ، وهي النار التي لا تبقى ولا تذر على حفرة الجهالة التي لا منجا ولا مخلص للساقط فيها.
    فهؤلاء وهم طائفة من المسلمين كانوا آمنوا قبل نزول الآية بعد كفرهم ، وهم المخاطبون الأقربون بهذه الآيات لم يكونوا يعيشون مدى حيوتهم قبل الاسلام إلا في حال تهددهم الحروب والمقاتلات آناً بعد آن ، فلا أمن ولا راحة ولا فراغ ، ولم يكونوا يفقهون ما حقيقة الأمن العام الذي يعم المجتمع بجميع جهاتها من جاه ومال وعرض ونفس وغير ذلك.


(372)
    ثم لما اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله ، ولاحت لهم آيات السعادة ، وذاقوا شيئاً من حلاوة النعم وجدوا صدق ما يذكّرهم به الله من هنيء النعمة ولذيذ السعادة فكان الخطاب أوقع في نفوسهم ونفوس غيرهم.
    ولذلك بني الكلام ووضعت الدعوة على أساس المشاهدة والوجدان دون مجرد التقدير والفرض فليس العيان كالبيان ، ولا التجارب كالفرض والتقدير ، ولذلك بعينه أشار في التحذير الآتي في قوله : « ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا » « إلخ » إلى حال من قبلهم فإن مآل حالهم بمرأى ومسمع من المؤمنين فعليهم أن يعتبروا بهم وبما آل إليه أمرهم فلا يجروا مجراهم ولا يسلكوا مسلكهم.
    ثم نبههم الله على خصوصية هذا البيان فقال : كذلك : « يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ».
    قوله تعالى : « ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر » « الخ » التجربة القطعية تدل على أن المعلومات التي يهيئها الإنسان لنفسه في حياته ـ ولا يهيء ولا يدخر لنفسه إلا ما ينتفع به ـ من أي طريق هيأها وبأي وجه ادخرها تزول عنه إذا لم يذكرها ولم يدم على تكرارها بالعمل ، ولا نشك أن العمل في جميع شؤونه يدور مدار العلم يقوي بقوته ، ويضعف بضعفه ويصلح بصلاحه ، ويفسد بفساده ، وقد مثل الله سبحانه حالهما في قوله : « البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً ، الآية » الأعراف ـ 58.
    ولا نشك أن العلم والعمل متعاكسان في التأثير فالعلم أقوى داع إلى العمل والعمل الواقع المشهود أقوى معلم يعلم الإنسان.
    وهذا الذي ذكر هو الذي يدعو المجتمع الصالح الذي عندهم العلم النافع والعمل الصالح أن يتحفظوا على معرفتهم وثقافتهم ، وأن يردوا المتخلف عن طريق الخير المعروف عندهم إليه ، وأن لا يدعوا المائل عن طريق الخير المعروف وهو الواقع في مهبط الشر المنكر عندهم أن يقع في مهلكة الشر وينهوه عنه.
    وهذه هي الدعوة بالتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي التي يذكرها الله في هذه الآية بقوله : « يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ».


(373)
    ومن هنا يظهر السر في تعبيره تعالى عن الخير والشر بالمعروف والمنكر فإن الكلام مبني على ما في الآية السابقة من قوله : « واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا » « إلخ ». ومن المعلوم أن المجتمع الذي هذا شأنه يكون المعروف فيه هو الخير ، والمنكر فيه هو الشر ، ولو لا العبرة بهذه النكتة لكان الوجه في تسمية الخير والشر بالمعروف والمنكر كون الخير والشر معروفاً ومنكراً بحسب نظر الدين لا بحسب العمل الخارجي.
    وأما قوله : « ولتكن منكم امة » فقد قيل : إن « من » للتبعيض بناء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذا الدعوة من الواجبات الكفائية.
    وربما قيل : إن « من » بيانية والمراد منه ولتكونوا بهذا الاجتماع الصالح امة يدعون إلى الخير فيجري الكلام على هذا مجرى قولنا ليكن لي منك صديق أي كن صديقاً لي. والظاهر أن المراد بكون « من » بيانية كونها نشوئية ابتدائية.
    والذي ينبغي أن يقال : أن البحث في كون من تبعيضية أو بيانية لا يرجع إلى ثمرة محصلة فإن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائية إذ لا معنى للدعوة والأمر والنهي المذكورات بعد حصول الغرض فلو فرضت الامة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أن فيهم من يقوم بهذه الوظائف فالأمر قائم بالبعض على أي حال ، والخطاب إن كان للبعض فهو ذاك ، وإن كان للكل كان أيضاً باعتبار البعض ، وبعبارة اخرى المسؤول بها الكل والمثاب بها البعض ، ولذلك عقبه بقوله : وأولئك هم المفلحون فالظاهر أن من تبعيضية ، وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا يصار إلى غيره إلا بدليل.
    واعلم أن هذه الموضوعات الثلاثة أعني الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذوات أبحاث تفسيرية طويلة عميقة سنتعرض لها في موضع آخر يناسبها إنشاء الله تعالى. وكذا ما يتعلق بها من الأبحاث العلمية والنفسية والاجتماعية.
    قوله تعالى : « ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جائهم البينات ». لا يبعد أن يكون قوله : من بعد ما جائهم البينات متعلقاً بقوله : واختلفوا فقط وحينئذ كان المراد بالاختلاف التفرق من حيث الاعتقاد ، بالتفرق الاختلاف والتشتت


(374)
من حيث الأبدان وقدم التفرق على الاختلاف لأنه كالمقدمة المؤدية إليه لأن القوم مهما كانوا مجتمعين متواصلين اتصلت عقائد بعضهم ببعض واتحدت بالتماس والتفاعل ، وحفظهم ذلك من الاختلاف فإذا تفرقوا وانقطع بعضهم عن بعض أداهم ذلك إلى اختلاف المشارب والمسالك ، ولم يلبثوا دون أن يستقل أفكارهم وآرائهم بعضها عن بعض ، وبرز فيهم الفرقة ، وانشق عصا الوحدة فكأنه تعالى يقول : « ولا تكونوا كالذين تفرقوا بالأبدان » أولاً ، وخرجوا من الجماعة ، وأفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد و الآراء أخيراً.
    وقد نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي. قال تعالى : « وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغياً بينهم » البقرة ـ 213 ، مع أن ظهور الاختلاف في العقائد والآراء ضروري بين الأفراد لاختلاف الأفهام لكن كما أن ظهور هذا الاختلاف ضروري كذلك دفع الاجتماع لذلك ، ورده المختلفين إلى ساحة الاتحاد أيضاً ضروري فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة ، وإعراض الامة عن ذلك بغي منهم ، وإلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف.
    وقد أكد القرآن الدعوة إلى الاتحاد ، وبالغ في النهي عن الاختلاف ؛ وليس ذلك إلا لما كان يتفرس من أمر هذه الأمة ، أنهم سيختلفون كالذين من قبلهم بل يزيدون عليهم في ذلك ، وقد تقدم مراراً أن من دأب القرآن أنه إذا بالغ في التحذير عن شيء والنهي عن اقترافه كان ذلك آية وقوعه وارتكابه ، وهذا أمر أخبر به النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أيضاً كما أخبر به القرآن وأن الاختلاف سيدب في أمته ثم يظهر في صورة الفرق المتنوعة ، وأن امته ستختلف كما اختلفت اليهود والنصارى من قبل وسيجيء الرواية في البحث الروائي.
    وقد صدق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنية فلم تلبث الامة بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) دون أن تفرقوا شذر مدر ، واختلفوا في مذاهب شتى بعضهم يكفر بعضاً من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا ، وكلما رام أحد أن يوفق بين مختلفين منها أولد ذلك مذهباً ثالثاً.
    والذي يهدينا إليه البحث بالتحليل والتجزية أن أصل هذا الاختلاف ينتهي إلى المنافقين الذين يغلظ القرآن القول فيهم وعليهم ويستعظم مكرهم وكيدهم فإنك لو


(375)
تدبرت ما يذكره الله تعالى في حقهم في سور البقرة والتوبة والأحزاب والمنافقين وغيرها لرأيت عجباً ، وكان هذا حالهم في عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ولما ينقطع الوحي ثم لما توفاه الله غاب ذكرهم وسكنت أجراسهم دفعة.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر.
    ولم يلبث الناس دؤن أن وجدوا أنفسهم وقد تفرقوا أيادي سبا ، وباعدت بينهم شتى المذاهب ، واستعبدتهم حكومات التحكم والاستبداد ، وأبدلوا سعادة الحيوة بشقاء الضلال والغي. والله المستعان ، والمرجو من فضل الله أن يوفقنا لاستيفاء هذا البحث في تفسير سورة البرائة إنشاء الله.
    قوله تعالى : « يوم تبيض وجوه وتسود وجوه » إلى آخر الآيتين ، لما كان المقام مقام الكفر بالنعمة وهو نظير الخيانة مما يوجب خسة الانفعال والخجل ذكر سبحانه من بين أنواع عذاب الآخرة ما يناسبها بحسب التمثيل وهو سواد الوجه الذي يكنى به في الدنيا عن الانفعال والخجل ونحوهما كما يشعر أو يدل على ذلك قوله تعالى : « فأما الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ».
    وكذا ذكر من ثواب الشاكرين لهذه النعمة ما يناسب الشكر وهو بياض الوجه المكنى به في الدنيا عن الارتضاء والرضا.
    قوله تعالى : « تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق » ، الظرف متعلق بقوله : نتلوها ، والمراد كون التلاوة تلاوة حق من غير أن يكون باطلاً شيطانياً ، أو متعلق بالآيات باستشمام معنى الوصف فيه أو مستقر متعلق بمقدر ، والمعنى أن هذه الآيات الكاشفة عن ما يصنع الله بالطائفتين : الكافرين والشاكرين مصاحبة للحق من غير أن تجري على نحو الباطل والظلم ، وهذا الوجه أوفق لما يتعقبه من قوله : « وما الله يريد ظلماً ».
    قوله تعالى : « وما الله يريد ظلما للعالمين » ، تنكير الظلم وهو في سياق النفي يفيد الاستغراق وظاهر قوله للعالمين وهو جمع محلى باللام أن يفيد الاستغراق ، والمعنى على هذا أن الله لا يريد ظلماً أي ظلم فرض لجميع العالمين ، وكافة الجماعات ، وهو كذلك فإنما التفرق بين الناس أمر يعود أثره المشؤوم إلى جميع العالمين وكافة الناس.
    قوله تعالى : « ولله ما في السموات والأرض وإلى الله ترجع الامور » ، لما ذكر أن
الميزان في تفسير القران ـ المجلد الثالث ::: فهرس