كتاب الغدير ـ الجزء الثالث ::: 411 ـ 416
(411)
    قال ابن خالويه : وقال يصف أيامه ومنازله بمنبج وكان ولايته وأقطاعه وداره بها ، ويعرض بقوم بلغه شماتتهم فيه وهو في أسر الروم :
قف في رسوم المستجاب فالجوسق الميمون أوطنتها زمن الصـبا حرم الوقوف بها علي حيث التفت وجدت ماء تزداد واد غير قاص وتحل بالجسر الجنان تجلو عرائسه لنا والماء يفصل بين زهر كبساط وشي جردت من كان سر بما عراني لم أخل فيما نابني مثلي إذا لقي الأسار رعت القلوب مهابة ما غص مني حادث أنى حللت فإنما فلئن خلصت فإنني ما كنت إلا السيف زاد ولئن قتلت فإنما لا يشمتن بموتنا يغتر بالدنيا الجهول وناد أكناف المصلا فالسقياء فالنهر المعلا وجعلت منبج لي محلا وكان قبل اليوم حلا سائحا وسكنت ظلا منزلا رحبا مطـلا وتسكن الحصن المعلى بالبشر جنب العيش سهلا الروض في الشطين فصلا أيدي القيون عليه نصلا فليمت ضرا وهـزلا من أن أعز وأن احلا فلن يضام ولن يذلا وملأتها نبلا وفضلا والقرم قرم حيث حلا يدعوني السيف المحلا غيظ العدى طفلا وكهلا على صروف الدهر صقلا موت الكرام الصيد قتلا إلا فتى يفنى ويبلى وليس في الدنيا مملا
    قال ابن خالويه : تأخرت كتب سيف الدولة عن أبي فراس في أيام أسره ، فذلك أنه بلغه أن بعض الأسراء قال : إن ثقل هذا المال على الأمير كاتبنا فيه صاحب


(412)
خراسان وغيره من الملوك وخففت علينا الأسر ، وذكر أنهم فرروا مع الروم إطلاق أسراء المسلمين بما يحملونه ، فاتهم سيف الدولة أبا فراس بهذا القول ، لضمانه المال للروم وقال : من أين تعرفه أهل خراسان ؟ فقال أبو فراس هذ القصيدة وأنفذها إلى سيف الدولة.
    قال الثعالبي : كتب أبو فراس إلى سيف الدولة : مفاداتي إن تعذرت عليك فأذن لي في مكاتبة أهل خراسان ومراسلتهم ليفادوني وينوبوا عنك في أمري فأجابه سيف الدولة : من يعرفك بخراسان ؟ فكتب إليه أبو فراس :
أسيف الهدى وقريع العرب وما بال كتبك قد أصبحت وأنت الكريم وأنت الحليم وما زلت تسبقني بالجميل وإنك للجبل المشمخر وتدفع عن حوزتي الخطوب علا يستفاد وعاف يعاد وما غض مني هذا الأسار ففيم يعرضني بالخمول وكان عتيدا لدي الجواب أتنكر أني شكوت الزمان وإلا رجعت فاعتبتني فلا تنسبن إلي الخمول وأصبحت منك فإن كان فضل وإن خراسان إن أنكرت ومن أين ينكرني الأبعدون ألست وإياك من أسرة إلام الجفاء وفيم الغضب ؟ تنكبني مع هذي النكب؟ وأنت العطوف وأنت الحدب (1) وتنزلني بالمكان الخصب إلي بل لقومك بل للعرب وتكشف عن ناظري الكرب وعز يشاد ونعمى ترب ولكن خلصت خلوص الذهب مولى به ن لت أعلى الرتب ولكن لهيبته لم أجب وأني عتبتك فيمن عتب ؟! وصيرت لي ولقومي الغلب أقمت عليك فلم اغترب وإن كان نقص فأنت السبب علاي فقد عرفتها حلب أمن نقص جد أمن نقص أب ؟! وبيني وبينك عرق النسب ؟!

1 ـ الحدب من حدب وتحدب عليه : تعطف.

(413)
ودار تناسب فيها الكرام ونفس تكبر إلا عليك فلا تعدلن فداك ابن عمك وأنصف فتاك فإنصافه أكنت الحبيب وكنت القريب فلما بعدت بدت جفوة فلو لم أكن بك ذا خبرة وتربية ومحل أشـب وترغب إلاك عمن رغب لا بل غلامك عما يجب من الفضل والشرف المكتسب ليالي أدعوك من عن كثب ؟! ولاح من الأمر ما لا أحب لقلت صديقك من لم يغب
    وكتب إليه أيضا :
زماني كله غضب وعتب وعيش العالمين لديك سهل وأنـت علي والأي ام إلب وعيشي وحده بفناك صعب
[ القصيدة 18 بيتا ]
    وبلغ إليه نعي أمه وهو في الحبس فقال يرثيها :
أيا أم الأسير بمن أنادي ؟ إذا ابنك سار في بر وبحر حرام أن يبيت قرير عين وقد ذقت المنايا والرزايا وغاب حبيب قلبك عن مكان ليبكك كل يوم صمت فيه ليبكك كل ليل قمت فيه ليبكك كل مضطهد مخوف ليبكك كل مسكـين فقير أيا أماه كم هول طويل أيا أماه كم سر مصون إلى من أشتكي وبمن أناجي وقدمت الأيادي والشعور فمن يدعو له أو يستجير ؟! ولوم أن يلم به السرور ولا ولد لديك ولا عشير ملائكة السماء به حضور مصابرة وقد حمي الهجير إلى أن يبتدي الفجر المنير أجرتيه وقد قل المجير أعنتيه وما في العظم رير (1) مضى بك لم يكن منه نصير بقلبك مات ليس له ظهور إذا ضاقت بما فيها الصدور ؟!

1 ـ مخ رار ورير. ذائب فاسد من الهزال.

(414)
بأي دعاء داعية أوقي يمن يستدفع القدر المرجى تسلي عنك إنا عن قليل بأي ضياء وجه أستنير ؟! بمن يستفتح الأمر العسير ؟! إلى ما صرت في الأخرى نصير
    ميلاده ومقتله
    ولد المترجم سنة 320 وقيل 321 ويعين الأول ما حكاه ابن خالويه عن أبي فراس أنه قال له : إن في سنة 339 كان سني 19 سنة ، وقتل يوم الأربعاء لثمان من ربيع الآخر (2) وعن الصابي في تاريخه (3) يوم السبت لليلتين خلتا من جمادي الأولى سنة 357 (4) وذلك أنه لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص وتطلع إليها وكان مقيما بها فاتصل خبره إلى ابن أخته أبي المعالي ابن سيف الدولة وغلام أبيه قرعويه (1) وجرت بذلك بين أبي فراس وبين أبي المعالي وحشة ، فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى [ صدد ] وهي قرية في طريق البرية عند حمص ، فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم وسيرهم في طلبه مع قرعويه ، فأدركه ب‍ [ صدد ] فكبسوه فاستأمن أصحابه واختلط هو بمن استأمن معهم ، فقال قرعويه لغلام له : اقتله. فقتله وأخذ رأسه وتركت جثته في البرية حتى دفنها بعض الأعراب.
    قال الثعالبي : دلت قصيدة قرأتها لأبي إسحاق الصابي في مرثية أبي فراس على أنه قتل في وقعة كانت بينه وبين موالي أسرته.
    وقال ابن خالويه : بلغني أن أبا فراس أصبح يوم مقتله حزينا كئيبا وكان قد قلق في تلك الليلة قلقا عظيما فرأته ابنته امرأة أبي العشائر كذلك فأحزنها حزنا شديدا ثم بكت وهو على تلك فأنشأ يقول كالذي ينعي نفسه وإن لم يقصد ، وهذا آخر ما قاله من الشعر :
1 ـ كامل ابن الأثير. تاريخ أبي الفدا.
2 ـ حكاه عنه ابن خلكان في تاريخه ، وصاحب شذرات الذهب.
3 ـ أرخه ابن عساكر في تاريخه بسنة خمسين وثلثمائة وهو ليس في محله.
4 ـ في كامل ابن الأثير : قرغويه. وفى الشذرات : فرغويه : وفي تاريخ ابن عساكر : ابن قرعونه.


(415)
أبنيتي لا تحزني أبنيتي صبرا جميلا نوحي علي بحسرة قولي إذا ناديتني زين الشباب أبو فراس كل الأنام إلى ذهاب للجليل من المصاب من خلف سترك والحجاب فعييت عن رد الجواب : ما تمتع بالشباب
    وفي غير واحد من المعاجم : إنه لما بلغ أخته أم أبي المعالي وفاته قلعت عينها ، وقيل : بل لطمت وجهها فقلعت عينها ، وقيل :
    قتله غلام سيف الدولة ولم يعلم أبو المعالي فلما بلغه الخبر شق عليه. ومن شعره في المذهب :
لست أرجو النجاة من كلما وببنت الرسول فاطمة الطهر والتقي النقي باقر علم الله وأبي جعفر وموسى ومولاي وابنه العسكري والقائم بهم أرتجي بلوغ الأماني أخشاه إلا بأحمد وعلي وسبـ طيه والإمام علي فينا محمد بن علي علي أكرم به من علي المظهر حقي محمد وعلي يوم عرضي على الإله العلي
    وله في المعنى :
شافعي أحمد النبي ومولاي وعلي وباقر العلم والصادق وعلي ومحمد بن علي والإمام المهدي في يوم لا علي والبنت والسبطان ثم الأمين بالتبيان وعلي والعسكري الداني ينفع إلا غفران ذي الغفران
    ومن شعره في الحكمة والموعظة :
غنى النفس لمن يعقل وفضل الناس في الأنفس خير من غنى المال ليس الفضل في الحال
    وقال :
المرء نصب مصائب لا تنقضي فمؤجل يلفي الردى في أهله حتى يواري جسمه في رمسه ومعجل يلقى الردى في نفسه


(416)
    وله :
أنفق من الصبر الجميل فإنه والمرء ليس ببالغ في أرضه لم يخش فقرا منفق من صبره كالصقر ليس بصائد في وكره
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
إنتهى الجزء الثالث من كتاب ( الغدير ) ويتلوه الرابع
ولله الحمد أولاً وآخراً
كتاب الغدير ـ الجزء الثالث ::: فهرس