الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 1 ـ 10

الغدير
في الكتاب والسنة والأدب
كتاب ديني ، علمي ، فني ، تاريخي ، أدبي ، أخلاقي
مبتكر في موضوعه فريد في بابه يبحث فيه عن حديث الغدير
كتابا وسنة وأدباً ويتضمن تراجم أمة كبيرة من رجالات العلم
والدين والأدب من الذين نظموا هذه الأثارة من العلم
وغيرهم
تأليف
الحبر العلم الحجة المجاهد شيخنا الأكبر
الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي قدس سره
الجزء الثامن


(ب)
كتاب مقدس
    ألقي إلينا من شيخنا الأكبر آية الله سماحة الشيخ محمد الرضا آل ياسين الكاظمي النجفي دامت أيامه وإفاضاته وإنه :
بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الواحد الأحد ، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله ، صلاة لا يحصيها عدد.
    كنت أتجافى عن التقريظ لما قد يوافي المطري من المجازفة في الثناء فيتجاوز المدح حده ، ويوقع صاحبه في ورطة المحاباة ، لما تحدوه إليه عين الرضا ، وما يجري مجراها من عوامل المغالاة ، وربما قصر البيان عن القدر اللازم فيكون الانسان قد بخس حقا من حقوق أخيه المؤمن.
    لكني سبرت كتاب ( الغدير ) ذلك الكتاب المبين الذي لا ريب فيه هدى للمتقين ، فوجدت شأوا له بعيدا لا يلحقه البيان ، وللقوم فيه متسعا تنبو عنه جمل الإطراء ، فمهما تشدق القائل فيه وأطنب فهو دون حقيقته ، وإن في السكوت عن تقريظ كتاب مثله ـ يرشد الجاهل ، وينبه الغافل ، ويهدي الضال ، ويميط عن الحقائق الدينية أسدال الشبه ، ويوقف الباحث على جلية الحق الواضح ـ تثبطا عن نصرة الحق ، وقعودا عن الواجب ، فتصفحته وقرأته فامتلأت نفسي إعجابا وإكبارا له حين ألفيت فيه تلك الضالة المنشودة التي كان قد استأثر بها عالم الغيب طوال هذه الحقب المتمادية فلم يخرجها إلى عالم الشهادة حتى تبرز بها هذا الحبر الأمين ، المأمون على الدنيا و الدين ، الذي جمع الله له إلى قوة الإيمان قوة العلم وقوة البيان فكان له من تظافر هذه القوى الثلاث قوة لا تثبت أمامها قوة ، لشد ما شد بها على أباطيل فصرعها ، وعلى أضاليل فقمعها ، وعلى مخاريق فمزقها وصدعها.
    تلك لعمر الله موهبة عظمي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم ، ومن أجدر بهذه الموهبة من


(ج)
هذا المجاهد الأكبر الذي وقف نفسه لمناصرة الحق ومناجزة الباطل ؟ فما فتى دائبا ليله ونهاره ، مكدورا في سره وجهره حرصا على العمل بواجبه ، فبارك الله له وفيه كما بارك في جهوده ومساعيه ، وحسبه من الكرامة على الله جل شأنه أن ادخر له هذه المكرمة ليفيضها عليه ويجريها على يديه كما تجري المعاجز على أيدي الأنبياء. والسلام عليه أولا وأخيرا ورحمة الله وبركاته.
الراجي
محمد رضا آل ياسين
إنا لله وإنا إليه راجعون
    لقد فاجأنا بعد إثبات هذا التقريظ في الطبعة الأولى القضاء الحاتم بمصيبة الدنيا والدين ، والكارثة الملمة بجامعة المسلمين ، فقد هذا القائد الروحي العظيم من آل ياسين ، شيخ العلم والفقاهة ، ورجل التقوى والصلاح ، والزعيم الديني الأوحد تغمده الله برحمته ، وأسبل عليه شآبيب فضله ، لقد عاش رحمه الله محمود السيرة ، كريم النقيبة ، محفوفا بالفضائل والفواضل ، وخلف من بعده فخرا خالدا ، وذكرا حميدا ، وفضلا لا يخلقه مر الجديدين. قدس الله سره.


(د)
صحيفة بيضاء
    تفضل بها صاحب الفخامة ، علامة الوزراء ، ووزير الأعلام ، رئيس الوزراء الأسبق ، سيدنا المفخم سماحة السيد محمد الصدر دامت معاليه :
    سماحة العلامة الأوحد ، البحاثة الفذ المتتبع ، الشيخ الأميني ، أعز الله بك المسلمين ، وأدامك نصيرا للعلم والدين.
    تحية مقدر لا ينفك ذاكرا لجهودك العلمية ما دام حيا.
    وبعد فقد أدهشني سفرك ، وراقني سبرك وغورك ، فوجدتني مندفعا لتسجيل إعجابي وإكباري لمجهودك القيم الخالد ، الذي أينع وأزهر ، وأنتج وأثمر ، وآتى أكله شهيا جنيا ، ولعمري فهو نتاج عبقريتك الفذة ، وعصارة مواهبك الجبارة ، وخلاصة جهادك ونضالك في ميادين العلم والفضيلة ، ولئن حق للأمم أن تفخر بعظمائها ، وتعتز بتأريخها فما أجدرك ـ وأنت العالم النحرير والبحاثة المنقطع النظير ـ أن تشمخ بشخصية الإمام المرتضى أمير المؤمنين وسيد الوصيين ، تلك الشخصية المثالية الفذة التي أطلت على العالم بعظمتها ، فإذا العالم خاشع لجلالها ، ناطق بفضلها وإفضالها ، وهل مؤلفك المبارك الكريم ( الغدير ) إلا أثر من آثار تلك الشخصية الإلهية التي خصها الله دون سواها بالوصاية وحباها بالإمامة والولاية ، فما زالت ولم تزل نبراسا للأصلاب والأعقاب ، وهدى ونورا للأجيال والأحقاب.
    وإني إذا أتقدم لشخصك الكريم بتهاني القلبية الحارة على عظيم موفقيتك بمشروعك الجليل الحافل ، لا أشك أنها نفحة من نفحات أمير المؤمنين سلام الله عليه شاء الله أن يمنحك إياها هبة عظيمة ، إن دلت على شيئ فإنما تدل على وجاهتك لديه


(هـ)
وقربك منه ، وحقا فقد برز كتابك الجليل إلى العالم ساطعا لامعا يحمل بين دفتيه من العلم والأدب ما لا تقوى عليهما المجامع العلمية والأدبية ، فكيف بك ؟ وقد صمدت له براسخ قدمك ، وأنجزته بروائع فكرك وقلمك ، فكان واضح النهج ، قوي الحجة ، متين العبارة ، لطيف الإشارة ، أقمت فيه الأدلة القاطعة التي أصغت إليها المسامع طائعة مختارة ، وتقبلتها القلوب والأفئدة مؤمنة مذعنة ، حتى لكأنك مزاج مائها ، وبلسم دوائها ، فجزاك الله عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه خير جزاء المحسنين ، ولا زلت مصدرا للعمل الصالح ، إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
محمد الصدر
11 رمضان سنة 1369
26 / 6 / 1950


(و)
خطاب مبين
    تكرم به صاحب المعالي ، الشريف الشهم البطل سيدنا المبجل السيد عبد المهدي المنتفكي المشغل منصة وزارة المعارف ، والاقتصاد والأشغال والمواصلات ، دورا بعد دور. دامت فواضله.
13 رمضان سنة 69 13
28 حزيران سنة 1950
بسم الله الرحمن الرحيم
ولله الحمد
    تخرج المطابع في كل يوم مئات من الكتب فلا يجد المطالع إلا في القليل النادر منها بغيته ، وما يطمن رغبته من كافة النواحي وجميع الجهات ، ولذلك فإن تقدير قيمة الكتاب لا تكون إلا بمقدار ما يتركه في نفس المطالع من الأثر الصالح النافع ، وإن خير ما جادت به علينا القرائح ، وما أتحفتنا به المطابع ، فكان له في النفوس الأثر الصالح البليغ ، هو كتاب ( الغدير ) الذي جاء سفرا جليلا جمع فأوعى ، فغدا نبرا سا منيرا ودليلا هاديا ، سمى أن يحدد بالقيم أو يقيد بالمقاييس ، إذ هو بطبيعته يعلو فوق كل نسبة ، وبجليل أثره وفائدته يتعدى كل قياس ، ولاغرو أن يكون ( الغدير ) كذلك فإنه من فيض ذلك البحر الزاخر بالمعقول والمنقول ، ومن نتاج تلك القريحة الوقادة التي حبي بها العلامة الجليل شيخنا الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني أمد الله في أيامه ، ومتعنا في حياته.
    فحسب ( الغدير ) من التقريظ والاطراء إنه من نتاج هذه الشخصية الفذة الجليلة وبهذه النسبة :
تجاوز حد المنح حتى كأنه بأحسن ما يثني عليه يعاب
عبد المهدي


(ز)
الغدير يوحد الصفوف
في الملأ الاسلامي
    قد يرى خدن الدجل ممن خالف الحق وخابط الغي بادهان وايهان وجه الحيلة في أن يرمي جهودنا الجبارة في إعلاء كلمة الحق وإصلاح المجتمع إلى تفريق الكلمة ، وفصم عرى التوحيد في الشعب الديني ، لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور ، لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ولعمر الحق نحن لا نبالي قط بالتصويب والتصعيد ولا نصيخ إلى تلكم الجلبة واللغط ، ولا نكترث لكل دمدمة وهمهمة من أي ابن قوال مذماذ تجاه نداء الحق الصراح ، نداء كتاب الله العزيز ، نداء الاسلام المقدس ، نداء المشرع الأعظم ، بعد ما تلقاه بالقبول ملوك الاسلام أصحاب الجلالة ، بعد ما لبى ندائنا زعماء الدين ، وأعلام الأمة ، وقادتها ، وساستها ، وأمرائها ، وأساتذتها ، في الحواضر الدينية ، واقتفت هذا الأثر الكريم من أولئك الأفذاذ وغيرهم زرافات و أمم ، وأتتنا من مختلف الطبقات صفوف موحدة تحت لواء ولاء العترة الطاهرة صلوات الله عليهم ، وهدوا إلى الطيب من القول ، وهدوا إلى صراط الحميد ، وقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.
     ( الغدير في مصر ) :
    هذه صحف الاسلام الغراء في أرجاء العالم من المجلات والجرائد وهي ألسنة الأمم الناطقة ، ومقياس شعورها الحي وحسها المشترك ، تجد في طياتها حول الكتاب عقودا منضدة ، وجملا ضافية في الاطراء والثناء عليه ، وتقدير ما فيه من الأبحاث القيمة و الدروس العالية ، وفي مقدم تلكم الصحف مجلة ( الكتاب ) البيضاء المصرية التي تمثل معارف عاصمة الشرق الأوسط ( القاهرة ) فمديرها الأستاذ ( العادل ) يسقي قراءها كأسا دهاقا من سلسل بيانه ، ويعرب عن كتابنا وعن مبلغه من العلم ، ومقداره من العظمة ،


(ح)
ومحله من التحقيق ، في عدد بعد عدد (1).
    وتتلوها رسالة تلك الأمة الإسلامية الراقية مجلة ( الرسالة ) الغراء (2) في سنتها الثامنة عشرة بنشر ما جادته قريحة شاعر الأهرام المفلق الأستاذ البحاثة محمد عبد الغني حسن (3) صاحب التآليف الممتعة ، من الإعراب عما في نفسه من تجليات الحق وأنوار الهداية المقتبسة من صفحات الغدير ، ونحن نشكر الجميع ونعيد إلى قصيدة الأستاذ العصماء جدتها ، وهي آية محكمة في الوحدة والوئام ، تعرب عن البخوع إلى الحقائق الراهنة ، وتدعو إلى توحيد الكلمة مهما اختلفت المذاهب ، وإلى الايتلاف تحت راية الاسلام وحب أهل البيت الطاهر ( هي المسك ما كررته يتضوع ) ألا وهي :
حيّ الأميني الجليل وقل له : أرهفت للدفع الكـريم مناصلا وجمعت من طول السنين وعرضها وأذبت من عينيك كـل شعاعة وطويت مـن ميمون عمرك حقبة ونزلت ميدان البيان مناضلا ما ضقت يوما بالدليل ولم تكن لله من قلم لديك موثق يجلو الحقيقة فـي ثياب بلاغة يشتد في سبب الخصومة لهجة وكذلك العلماء في أخلاقهم في الحق يختلفون إلا أنهم أحسنت عن آل النبي دفاعا وشهرت للحق الهضيم يراعا حججا كآيات الصباح نصـاعا كالنور ومضا والشموس شعاعا تسع الزمان رحـابة وذراعا وشأوت أبطال الكلام شجاعا بالحجة الغراء أقصر باعا كالسيل يجري صاخبا دفاعا ويزيح عن وجـه الكلام قناعا لكن يرق خليقة وطباعا يتباعدون ويلتقون سراعا لا يبتغون إلى الحقوق ضياعا

1 ـ من العدد الرابع من سنتها الأولى سنة 1364 ه‍ وهلم جرا وقد نشرنا من تلكم الكلم القيمة كلمة في الجزء الثالث ط 2.
2 ـ العدد ال‍ 882 الصادر يوم الاثنين 11 شعبان سنة 1369 ه‍.
3 ـ من شعراء الغدير يأتي شعره وترجمته في شعراء القرن الرابع عشر إن شاء الله تعالى.


(ط)
يا أيها الثقة الأمين تحيـة تطوي إليك من الكنانة أربعا إنا لتجمعنا العقيدة أمة ويؤلف الاسلام بين قلوبنا ونحب أهل البيت حبا خالصا يجزيك بالاحسان ربك مثلما تجتاز نحوك بالعـراق بقاعا ومن العروبة أدؤرا ورباعا ويضمنا دين الهدى أتباعا مهما ذهبنا في الهوى أشياعا تطوي القلوب عليه والأضلاعا أحسنت عن يوم ( الغدير ) دفاعا
    هذه القصيدة نشرتها مجلة البيان النجفية الغراء أيضا في عددها ال‍ 78 من سنتها الرابعة ص 174 ، وشطر ها النطاسي المحنك الأستاذ ميرزا محمد الخليلي النجفي صاحب كتاب ( معجم أدباء الأطباء ) نشر مع الأصل في مجلة ( البيان ) الغراء في عددها ال‍ 80 من سنتها الرابعة ص 223 ونحن نذكر التشطير في ترجمة الأستاذ الخليلي بإذن الله تعالى.
     ( الغدير في حلب ) :
    ومن نماذج ما أسلفناه من الدعوى كتاب كريم أرسله عاقد سمطه من حلب إلى العلامة الحجة الشيخ محمد الحسين المظفري النجفي ، وقد أهدى إليه مجلدات الغدير فمازجت روحيات الكتاب نفسه الكريمة ، وانكفأ مرتويا بزلاله العذب ، واثقا بحجته القويمة ، وهو إمام جمعة وجماعة في أريحا من نواحي حلب ، يتدفق فضلا ويكاد يسيل لطفا ، ويتقد ذكاءا ، وكانت أمانة شيخنا المظفري تصده عن أن يجيز لنا في نشر ذلك الخطاب على صفحات الغدير ، فراسله مستجيزا ، ولم يزل متريثا حتى وافاه الإذن الصريح ، فإليك صورتي الإذن والكتاب المبين من مفرغ سبائكه في بوتقة البيان ألا و هو الأستاذ الناقد البصير الشيخ محمد السعيد دحدوح ، ونتقدم إليه بالشكر أولا وأخيرا


(ي)
    صورة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الذي وفقنا لحب أهل وده ، وغرس في قلوبنا احترام وتفضيل العترة الطاهرة والشجرة الباسقة التي أصلها وفرعها في السماء ، والتي من أخذ بأفنانها ووصل حبله بأسبابها ارتقى من الدنيا والآخرة على غيره ، وصلاة الله وسلامه على سيد الوجود محمد صلى الله عليه وآله وصحبه الطيبين ، وكل مولود يتصل فرعه بأصله ، ويدل فعله على قوله ، لم يخالف أمرا ، ولم يجترح منكرا وكان مؤيدا لوحيه عليه السلام وآخذا بنصحه.
    سيدي المفضال ! أرسلت تخبرني بأنك رأيت أن ترسل لي الغدير الكبير بدلا من الجدول لصغير ، وأعلمتني أن قيمته وإن غلت وعلت فإنني عندك أغلى وأعلى ، والحقيقة هو أن ذاتك الصافية وشخصيتك المثلى تجلى نورها على مرآة نفسك الطاهرة ، فانعكس ضياؤها على لوح وجودك ، وتراءى لك من شعاعها ونورها ما حدثتني به وأنت الصادق ، ولكن ينبوعه أنت وليس له نبراس سواك ، أدامك الله لي وللناس سراجا وهاجا ، وجعلني عند حسن ظنك ووفقني وحببني إلى من يحبه ويرضاه ورضي عنه.
    سيدي أخذت ( الغدير ) وقرأته وقبل أن أصل عبابه عمت فيه ، وغرفت منه ، وذقت طعمه ، فإذا هو الغدير الأول بماء غير آسن ، يفيض عذوبة أصفى من قطرات المزن ، ومدامة أعبق وأطيب من شذا المسك ، وألذ من كل شراب.
    ولولا من وضع حوله السدود ، وأقام أمامه الحواجز من العصور الأولى لكان مضيا على وجه البسيطة وينتفع به خلق الله أجمعين.
    وما أعظمه من غدير وقف فيه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يوصي أصحابه وأمته بابن عمه ويحضهم على التمسك بهديه والسير وراء زوج ابنته الزهراء ووالد السبطين عليهم الصلاة والسلام.


(ي أ)
    ولكن : كان أمر الله قدرا مقدورا ، وتلك أمة قد خلت ، ونحن الناشئة إن عتبنا على الأولين ، فإن عتبنا على الخلف أشد وأعظم ، وعلى المؤرخين الجدد من أبناء عصرنا هذا أهل السنة أوسع وأكبر.
    كنا نسمع من أساتذتنا أساتذة الأخذ والتأليف عفى الله عنهم إن كانوا لا يعلمون : إن قصة الغدير أسطورة صنعها الشيعة ، وأيدها ملوكهم لحوائج سياسية.
    وهذا مبلغنا أو مبلغهم من العلم إذ ذاك ، أما في زمننا هذا وبعد ما قرأت بعض فصول وأبواب وأجزاء الغدير ، أراني أمام بحر زاخر لا غدير سائل فيه اللؤلؤ والمرجان والدر الوضاء.
    نعم : فيه الحجة البالغة ، وفيه البرهان الصريح ، وفيه العلم الوافر ، وفيه وفيه ما ليس في وسعي أن أحصيه وأعدده ، كلها تنطق : إن الناس مهما أرادوا أن يحجبوا ضوء البدر ، ومهما أتوا بسحب وعوارض تمنع إضاءته فليس في مقدورهم طالما خلف ( المرتضى ) عليه السلام أمثالكم شيعة باعت لذائذ الحياة ترف الزمان ، وعكفت على تأيد الحق ، وإظهار الصواب ، وهدي التائه ، وإرشاد الضال ، بكل ما أتيت من قوة.
    فنعم السلف والخلف ، أنتم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه مرضيا عنه ، ومنهم من يعمل خدمة للاسلام حتى يرى ربه بوجه طلق سجيح ويلقى هناك النبي والصديقين والشهداء والمجاهدين وحسن أولئك رفيقا.
    نعم وقفت أمام ثبج ( الغدير ) وخضت غماره ، وسبجت فيه ، فإذا أمامي مشاهد التاريخ ، وأفلام الزمان ، وأقلام المؤلفين ، وفصول الكتب ، ونشيد الشعر ، وأريج الحديث ، كلها تدلني على أن الغدير حق ليس بمختلق ، وأن الناس يقولون ما لا يعلمون ، إما ابتغاء للفتنة ، أو تقربا للملوك الظالمين ، أوجبنا عن النطق بالصواب والواقع ، فجزى الله مؤلفه ( عبد الحسين ) وحفظه وأبقاه سيفا صارما مسلولا ومنارا للحق ، وجزاك أنت يا سيدي المظفري ! على معروفك الذي لا يتناهى والذي ورثته عن آبائك الطهر الميامين.
    سيدي المظفري ! أرجوك إرسال بقية الأجزاء ، وأخبرني عن ثمنها ، وإن من يطلب الحسناء لم يغله المهر.
    وكان بوسعي ومن واجبي أن أرسل لكم الثمن قبل هذا التحرير ، ولكن رأيت إن ذلك ليس بصحيح ، فإن من الأشياء أنواعا لا تقدر بثمن ،


(ي ب)
ولا تدخل تحت تقويم أهل العرف ، فكيف بغدير ؟ تغني بمدحه الشعراء ، وألف المؤلفون ، وأنزل فيه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس.
    أرجوك تبليغ الأخوين الجليلين والشبلين الكريمين سلامنا وسلام الوالد والأهل والأحباب وكل من يود أن يرانا ونراه خصوصا صاحب ( الغدير ) ومؤلفه ، وخبره إننا نحترم جهوده ، أبقاه الله وأبقاكم للحق أنصارا ، وللعلم منارا ، ولآل النبوة شيعة تذبون عنهم إفك المفترين ، وتظهرون فضلهم الواضح الوضاء الذي لعبت ببعضه إن لم أقل أكثره أيدي العابثين ، والسلام في البدء والختام من المعترف بمعروفكم ومن هو بمحمد وآله عليه وعليهم الصلاة والسلام ( سعيد ) في الحياتين وخادمكم.
محمد سعيد دحدوح
5 ربيع الأنور سنة 1370 وفق
14 / 12 / 1950


(ي ج)
    صورة الإذن
بسم الله الرحمن الرحيم
    والحمد لله رب العالمين ، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلي وعلى إخوانه والأنبياء وآله الأصفياء وصحابته الأتقياء وكافة المؤمنين.
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    وبعد : لقد وصلني كتابك الكريم المؤرخ 20 ربيع الأول سنة 1370 وجزئا الغدير : الثالث والرابع.
    والغدير في الاسلام (1) فجزاكم الله عني وعمن سيستفيد منها خير ما جزى العالمين العاملين.
    سيدي المظفري ! أرسلت تخبرني إن كتيبي الذي ذكرت به ( الغدير ) ببعض مزاياه راق عندك وحسن لديك ـ وهذا من فضل ربي ومن حبك في ـ حتى جعلك تذهب به إلى العلامة مؤلفه أبقاه وأبقاكم الله للحق أنصارا ولآله حصنا.
    وهو حفظه الله كرما منه وتشجيعا ومكافأة فوق إحسانه ( والبحر يمطره السماء وماؤه من مائه ) طلب منك أن تسمح له بنشره ، ولكنك تخبرني تواضعا منك ـ وخير ما أدبكم الآل عليهم السلام هذا الأدب : التواضع من غير زلفى ـ إن كنت أحب نشره ولا يضرني أمره وكلمه ومتنه فإنك تقدمه له وهو سينشره في الجزء الثامن بنصه وفصه.
    وما أحلاها ذكرى ؟ وما أجملها بشرى أخبرتني بها أيها السيد ؟ وكيف لا أريد أن يسجل إسمي السعيد بحبكم وحب آلي وآلكم آل العترة عليهم السلام ؟ ويبقى كلامي الداثر في غدير عذب زاجر ، كلما شرب منه مؤمن وعاقل إرتوى إيمانا وامتلاء يقينا وعلما وصدقا ، تذكر مؤلفه ومقرظه ومادحه بالخير والدعاء.
    وهل كان الزمان يجود لي مثل هذه المكرمة ؟ لولا استادي صاحب الفضل أولا
1 ـ تأليف العلامة الفذ الشيخ محمد رضا فرج الله ، مر الايعاز إليه ج 1 : 157 ط 2.

(ي د)
وآخراً علي وعلى أولادي ومن سيخرج من أصلابنا وأهل بلدي العقلاء.
    ولقد ورثكم الآل عليهم السلام أخلاقا ما رأينا مثلها على سواكم ، اللهم إلا النذر القليل من الخلص الأتقياء ، ويا سيدي ! قديما كنا نسمع : أن الرجل الصادق هو الذي يدلك على الله حاله لا مقاله ، ولم نكن نفهم معناها ، أو لم نكن نرى صدق مبناها إلا حينما أشرقت الشهباء بطلعتكم ، وعندما أرسلتم تخبرني وتستشيرني بأمر أنت المنعم به علي.
    وفي الختام تقبل سلام من لا يزال على العهد مقيما.
تلميذك ومحبك
محمد سعيد دحدوح
ربيع الأول 1370 وفق
7 / 1 / 1951
الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله
وأولئك هم أولوا الألباب يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم
كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان ولا تتبعوا أهواء قوم
قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وإذا قيل لهم : إتبعوا
ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه
آباؤنا إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ،
ولقد جاءهم من ربهم الهدى


(1)
الجزء الثامن
فيه أبحاث قيِّمة ودروسُ دينيّة
راقية لامنتدح لأيِّ دينيّ ارتاد مهيع الحقِّ ،
وابتغى لاحب الحقيقة عن عرفانها والخوض فيها ،
والبحث عنها بضمير حُرّ غير جانحِ إلى
العصبيَّة العمياء والعاطفة الحمقاء ..
وَاللهُ وَليُّ التوفيق


(2)
بسم الله الرحمن الرحيم
    سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ، الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ، وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، ما فرطنا في الكتاب من شيئ ، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ، يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما إنكم تنطقون ، قل : أي وربي إنه لحق وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به ، ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه ، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وقل : الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
الأميني


(3)
    يتبع الجزء السابع
أبو طالب في الذكر الحكيم
    لقد أغرق القوم نزعا في الوقيعة والتحامل على بطل الاسلام والمسلم الأول بعد ولده البار ، وناصر دين الله الوحيد ، فلم يقنعهم ما اختلقوها من الأقاصيص حتى عمدوا إلى كتاب الله فحرفوا الكلم عن مواضعه ، فافتعلوا في آيات ثلاث أقاويل نأت عن الصدق ، وبعدت عن الحقيقة بعد المشرقين ، وهي عمدة ما استند إليه القوم في عدم تسليم إيمان أبي طالب ، فإليك البيان :

( الآية الأولى )
    قوله تعالى : وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون. ( سورة الأنعام آية 26 ) أخرج الطبري وغيره من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عمن سمع ابن عباس أنه قال : إنها نزلت في أبي طالب ، ينهى عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤذى ، وينأى أن يدخل في الاسلام (1).
    وقال القرطبي : هو عام في جميع الكفار أي ينهون عن إتباع محمد عليه السلام وينأون عنه ، عن ابن عباس والحسن.
    وقيل هو خاص بأبي طالب ينهى الكفار عن أذاية محمد عليه السلام ويتباعد من الإيمان به ، عن ابن عبا س أيضا.
    روى أهل السير قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي ، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل ـ لعنه الله ـ : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته ؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم فانفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته ، ثم أتى أبا طالب عمه فقال : يا عم ألا ترى إلى ما فعل بي ؟ فقال أبو طالب : من فعل هذا بك ؟ فقال
1 ـ طبقات ابن سعد 1 ص 105 ، تاريخ الطبري 7 : 110 ، تفسير ابن كثير 2 : 127 ، الكشاف 1 : 448 ، تفسير ابن جزي 2 : 6 ، تفسير الخازن 2 : 11.

(4)
النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن الزبعري ، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون ، فقال أبو طالب : والله لئن قام رجل لجللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم ، فقال : يا بني من الفاعل بك هذا ؟ فقال : عبد الله بن الزبعرى.
    فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول فنزلت هذه الآية : وهم ينهون عنه وينأون عنه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عم ! نزلت فيك آية. قال : وما هي ؟ قال تمنع قريشا أن تؤذيني ، وتأبى أن تؤمن بي. فقال أبو طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
    إلى آخر الأبيات التي أسلفناها ج 7 ص 334 ، 352. فقالوا : يا رسول الله ! هل تنفع نصرة أبي طالب ؟ قال : نعم دفع عنه بذاك الغل ، ولم يقرن مع الشياطين ، ولم يدخل في جب الحيات والعقارب ، إنما عذابه في نعلين من نار يغلي منهما دماغه في رأسه ، وذلك أهون أهل النار عذابا (1).
    قال الأميني : نزول هذه الآية في أبي طالب باطل لا يصح من شتى النواحي :
    1 ـ إرسال حديثه بمن بين حبيب بن أبي ثابت وابن عباس ، وكم وكم غير ثقة في أناس رووا عن ابن عباس ولعل هذا المجهول أحدهم.
    2 ـ إن حبيب بن أبي ثابت إنفرد به ولم يروه أحد غيره ولا يمكن المتابعة على ما يرويه ولو فرضناه ثقة في نفسه بعد قول ابن حبان : إنه كان مدلسا. وقول العقيلي غمزه ابن عون وله عن عطاء أحاديث لا يتابع عليها. وقول القطان : له غير حديث عن عطاء لا يتابع عليه وليست بمحفوظة. وقول الآجري عن أبي داود : ليس لحبيب عن عاصم بن ضمرة شيء يصح ، وقول ابن خزيمة : كان مدلساً (2).
    ونحن لا نناقش في السند بمكان سفيان الثوري ، ولا نؤاخذه بقول من قال : إنه يدلس ويكتب عن الكذابين (3).
1 ـ تفسير القرطبي 6 : 406.
2 ـ تهذيب التهذيب 2 : 179.
3 ـ ميزان الاعتدال 1 : 396.


(5)
    3 ـ إن الثابت عن ابن عباس بعدة طرق مسندة يضاد هذه المزعمة ، ففيما رواه الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة وطريق العوفي عنه إنها في المشركين الذين كانوا ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به ، وينأون عنه يتباعدون عنه (1) وقد تأكد ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد بن حميد من طريق وكيع عن سالم عن ابن الحنفية ، ومن طريق الحسين بن الفرج عن أبي معاذ ، ومن طريق بشر عن قتادة.
    وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة والسدي والضحاك ، ومن طريق أبي نجيح عن مجاهد ، ومن طريق يونس عن ابن زيد قالوا : ينهون عن القرآن وعن النبي ، وينأون عنه يتباعدون عنه (2) وليس في هذه الروايات أي ذكر لأبي طالب ، وإنما المراد فيها الكفار الذين كانوا ينهون عن إتباع رسول الله أو القرآن ، وينأون عنه بالتباعد والمناكرة ، وأنت جد عليم بأن ذلك كله خلاف ما ثبت من سيرة شيخ الأبطح الذي آواه ونصره و ذب عنه ودعى إليه إلى آخر نفس لفظه.
    4 ـ إن المستفاد من سياق الآية الكريمة أنه تعالى يريد ذم أناس أحياء ينهون عن اتباع نبيه ويتباعدون عنه ، وإن ذلك سيرتهم السيئة التي كاشفوا بها رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهم متلبسون بها عند نزول الآية كما هو صريح ما أسلفناه من رواية القرطبي وإن النبي صلى الله عليه وآله أخبر أبا طالب بنزول الآية.
    لكن نظرا إلى ما يأتي عن الصحيحين فيما زعموه من أن قوله تعالى في سورة القصص : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. نزلت في أبي طالب بعد وفاته.
    لا يتم نزول آية ينهون عنه وينأون النازلة في أناس أحياء في أبي طالب ، فإن سورة الأنعام التي فيها الآية المبحوثة عنها نزلت جملة واحدة (3) بعد سورة القصص
1 ـ تفسير الطبري 7 : 109 : ، الدر المنثور 3 : 8.
2 ـ تفسير الطبري 7 : 109 ، الدر المنثور 3 : 8 ، 9 ، تفسير الآلوسي 7 : ، 126.
3 ـ أخرجه أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والنحاس من طريق ابن عباس والطبراني وابن مردويه من طريق عبد الله بن عمر ، راجع تفسير القرطبي 6 : 382 ، 383 ، تفسير ابن كثير 2 : 122 ، الدر المنثور 3 : 2 ، تفسير الشوكاني 3 : 91 ، 92.


(6)
بخمس سور كما في الاتقان 1 ص 17 فكيف يمكن تطبيقها على أبي طالب وهو رهن أطباق الثرى ، وقد توفي قبل نزول الآية ببرهة طويلة.
    5 ـ إن سياق الآيات الكريمة هكذا : ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، حتى إذا جاءوك يجاد لونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ، وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون.
    وهو كما ترى صريح بأن المراد بالآيات كفار جاءوا النبي فجادلوه وقذفوا كتابه المبين بأنه من أساطير الأولين ، وهؤلاء الذين نهوا عنه صلى الله عليه وآله وعن كتابه الكريم ، وناءوا وباعدوا عنه ، فأين هذه كلها عن أبي طالب ؟ الذي لم يفعل كل ذلك طيلة حياته ، و كان إذا جاءه فلكلائته والذب عنه بمثل قوله :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
    وإن لهج بذكره نوه برسالته عنه بمثل قوله :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا رسولا كموسى خط في أول الكتب ؟
    وإن قال عن كتابه هتف بقوله :
أو يؤمنوا بكتاب منزل عجب على نبي كموسى أو كذي النون
    وقد عرف ذلك المفسرون فلم يقيموا للقول بنزولها في أبي طالب وزنا ، فمنهم من عزاه إلى القيل ، وجعل آخرون خلافه أظهر ، ورأى غير واحد خلافه أشبه ، وإليك جملة من نصوصهم : قال الطبري في تفسيره 7 : 109 : المراد المشركون المكذبون بآيات الله ينهون الناس عن إتباع محمد صلى الله عليه وسلم والقبول منه وينأون عنه ويتباعدون عنه.
    ثم رواه من الطرق التي أسلفناه عن ابن الحنفية وابن عباس والسدي وقتادة وأبي معاذ ، ثم ذكر قولا آخر بأن المراد ينهون عن القرآن أن يسمع له ويعمل بما فيه ، وعد ممن قال به قتادة ومجاهد وابن زيد ومرجع هذا إلى القول الأول ، ثم ذكر القول بنزولها في أبي طالب وروى حديث حبيب بن أبي ثابت عمن سمع ابن عباس وأردفه بقوله في ص 110 : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال تأويل وهم ينهون عنه عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم


(7)
من سواهم من الناس وينأون عن إتباعه ، وذلك إن الآيات قبلها جرت بذكر جماعة المشركين العادين به والخبر عن تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض عما جاءهم به من تنزيل الله ووحيه ، فالواجب أن يكون قوله ( وهم ينهون عنه ) خبرا عنهم ، إذ لم يأتنا ما يدل على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم ، بل ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على صحة ما قلنا من إن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون خبرا عن خاص منهم ، وإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية : وإن ير هؤلاء المشركون يا محمد ! كل آية لا يؤمنوا حتى إذا جاؤك يجادلونك يقولون إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأولين وأخبارهم ، وهم ينهون عن استماع التنزيل وينأون عنك ، فيبعدون منك ومن اتباعك ، وإن يهلكون إلا أنفسهم.
    وذكر الرازي في تفسيره 4 : 28 قولين : نزولها في المشركين الذين كانوا ينهون الناس عن إتباع النبي والاقرار برسالته.
    ونزولها في أبي طالب خاصة فقال : والقول الأول أشبه لوجهين : الأول : إن جميع الآيات المتقدمة على هذه الآية تقتضي ذم طريقتهم فكذلك قوله : وهم ينهون عنه.
    ينبغي أن يكون محمولا على أمر مذموم فلو حملناه على أن أبا طالب كان ينهى عن إيذائه لما حصل هذا النظم.
    والثاني : إنه تعالى قال بعد ذلك : وإن يهلكون إلا أنفسهم.
    يعني به ما تقدم ذكره ولا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله وهم ينهون عنه النهي عن أذيته ، لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك.
    فإن قيل : إن قوله ( وإن يهلكون إلا أنفسهم ) يرجع إلى قوله ( وينأون عنه ) لا إلى قوله ( ينهون عنه ) لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه بمفارقة دينه وترك الموافقة له وذلك ذم فلا يصح ما رجحتم به هذا لقول ؟ قلنا : إن ظاهر قوله : وإن يهلكون إلا أنفسهم.
    يرجع إلا كل ما تقدم ذكره لأنه بمنزلة أن يقال : إن فلانا يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه ولا يضر بذلك إلا نفسه ، فلا يكون هذا الضرر متعلقا بأحد الأمرين دون الآخر.
    وذكر ابن كثير في تفسيره 2 : 127 القول الأول نقلا عن ابن الحنيفة وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد فقال : وهذا القول أظهر والله أعلم وهو اختيار ابن جرير.


(8)
    وذكر النسفي في تفسيره بهامش تفسير الخازن 2 : 10 : القول الأول ثم قال : وقيل : عني به أبو طالب والأول أشبه.
    وذكر الزمخشري في الكشاف : 1 : 448 ، والشوكاني في تفسيره 2 : 103 وغيرهما القول الأول وعزوا القول الثاني إلى القيل ، وجاء الآلوسي وفصل في القول الأول ثم ذكر الثاني وأردفه بقوله : ورده الإمام.
    ثم ذكر محصل قول الرازي.
    وليت القرطبي لما جاء نا يخبط في عشواء وبين شفتيه رواية التقطها كحاطب ليل دلنا على مصدر هذا الذي نسجه ، ممن أخذه ؟ وإلى من ينتهي إسناده ؟ ومن ذا الذي صافقه على روايتها من الحفاظ وأي مؤلف دونه قبله ، ومن الذي يقول إن ما ذكره من الشعر قاله أبو طالب يوم ابن الزبعرى ؟ ومن الذي يروي نزول الآية يوم ذلك ؟ وأي ربط وتناسب بين الآية وإخطارها النبي صلى الله عليه وآله على أبي طالب وبين شعره ذاك ؟ وهل روى قوله في هذا النسيج : يا عم ! نزلت فيك آية.
    غيره من أئمة الحديث ممن هو قبله أو بعده ؟ وهل وجد القرطبي للجزء الأخير من روايته مصدرا غير تفسيره ؟ وهل اطل على جب الحيات والعقارب فوجده خاليا من أبي طالب ؟ وهل شد الأغلال و فكها هو ليعرف أن شيخ الأبطح لا يغل بها ؟ أم أن مدركه في ذلك الحديث النبوي ؟ حبذا لو صدقت الأحلام ، وعلى كل فهو محجوج بكل ما ذكرناه من الوجوه.
     ( الآية الثانية والثالثة )
    1 ـ قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. سورة البراءة : 113.
    2 ـ قوله تعالى : إنك لن تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين. سورة القصص : 56.
    أخرج البخاري في الصحيح في كتاب التفسير في القصص ج 7 : 184 ، قال : ثنا أبو اليمان : أخبرنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال : أي عم ! قل لا إله إلا الله.
    كلمة أحاج لك بها عند الله.
    فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها


(9)
عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما تكلم : على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول : لا إله إلا الله.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.
    فأنزل الله : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين.
    وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.
    وفي مرسلة الطبري : فنزلت : ما كان للنبي : الآية.
    ونزلت : إنك لا تهدي من أحببت وأخرجه مسلم في صحيحه من طريق سعيد بن المسيب ، وتبع الشيخين جل المفسرين لحسن ظنهم بهما وبالصحيحين.
     ( مواقع النظر في هذه الرواية ) :
    1 ـ إن سعيد الذي إنفرد بنقل هذه الرواية كان ممن ينصب العداء لأمير المؤمنين علي عليه السلام فلا يحتج بما يقوله أو يتقوله فيه وفي أبيه وفي آله وذويه ، فإن الوقيعة فيهم أشهى مأكلة له ، قال ابن أبي الحديد في الشرح 1 : 370 : وكان سعيد بن المسيب منحرفا عنه عليه السلام ، وجبهه عمر بن علي عليه السلام في وجهه بكلام شديد ، روى عبد الرحمن بن الأسود عن أبي داود الهمداني قال : شهدت سعيد بن المسيب وأقبل عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له سعيد : يا ابن أخي ! ما أراك تكثر غشيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ كما يفعل إخوتك وبنو أعمامك ، فقال عمر : يا ابن المسيب ! أكلما دخلت المسجد أجيئ فأشهدك ؟ فقال سعيد : ما أحب أن تغضب سمعت أباك يقول : إن لي من الله مقاما لهو خير لبني عبد المطلب مما على الأرض من شيء.
    فقال عمر : وأنا سمعت أبي يقول : ما كلمة حكمة في قلب منافق فيخرج من الدنيا إلا يتكلم بها.
    فقال سعيد : يا ابن أخي ! جعلتني منافقا ؟ قال : هو ما أقول لك. ثم انصرف.
    وأخرج الواقدي من أن سعيد بن المسيب مر بجنازة السجاد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ولم يصل عليها فقيل له : ألا تصل على هذا الرجل الصالح من أهل البيت الصالحين ؟ فقال : صلاة ركعتين أحب إلي من الصلاة على الرجل الصالح.
    ويعرفك سعيد بن المسيب ومبلغه من الحيطة في دين الله ما ذكره ابن حزم في المحلى 4 : 214 عن قتادة قال : قلت لسعد : أنصلي خلف الحجاج ؟ قال إنا لنصلي خلف من هو شر منه.


(10)
    2 ـ إن ظاهر رواية البخاري كغيرها. تعاقب نزول الآيتين عند وفاة أبي طالب عليه السلام كما أن صريح ما ورد في كل واحدة من الآيتين نزولها عند ذاك ولا يصح ذلك لأن الآية الثانية منهما مكية والأولى مدنية نزلت بعد الفتح بالاتفاق وهي في سورة البراءة المدنية التي هي آخر ما نزل من القرآن (1) فبين نزول الآيتين ما يقرب من عشر سنين أو يربو عليها.
    3 ـ إن آية الاستغفار نزلت بالمدينة بعد موت أبي طالب بعدة سنين تربو على ثمانية أعوام ، فهل كان النبي صلى الله عليه وآله خلال هذه المدة يستغفر لأبي طالب عليه السلام أخذا بقوله صلى الله عليه وآله : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ؟ وكيف كان يستغفر له ؟ وكان هو صلى الله عليه وآله والمؤمنون ممنوعين عن موادة المشركين والمنافقين وموالاتهم والاستغفار له[ الذي هو من أظهر مصاديق الموادة والتحابب ـ منذ دهر طويل بقوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخرة يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيديهم بروح منه. الآية.
    هذه آية 22 من سورة المجادلة المدنية النازلة قبل سورة البراءة التي فيها آية الاستغفار بسبع سور كما في الاتقان 1 : 17 ، وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وأبو نعيم والبيهقي وابن كثير كما في تفسيره 4 : 329 ، وتفسير الشوكاني 5 : 189 ، وتفسير الآلوسي 28 : 37 : إن هذه الآية نزلت يوم بدر وكانت في السنة الثانية من الهجرة الشريفة ، أو نزلت على ما في بعض التفاسير في أحد وكانت في السنة الثالثة باتفاق الجمهور كما قاله الحلبي في السيرة ، فعلى هذه كلها نزلت هذه الآية قبل آية الاستغفار بعدة سنين.
    وبقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا.
1 ـ صحيح البخاري 7 : 67 في آخر سورة النساء ، الكشاف 2 : 49 ، تفسير القرطبي 8 : 273 ، الاتقان 1 : 17 ، تفسير الشوكاني 3 : 316 نقلا عن ابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن الضريس وابن المنذر والنحاس وأبي الشيخ وابن مردويه عن طريق البراء بن عازب.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس