الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: 371 ـ 380
(371)
هؤلاء إلا ميت القلب (1).
    ولم تكن الغايات في حرب معاوية تخفى على أي أحد حتى على النساء في خدورهن فهي كما قالت أم الخير بنت الحريش : إنها إحن بدرية ، وأحقاد جاهلية ، و ضغائن أحدية ، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك ثارات بني عبد شمس ، قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون (2).
    وكيف يكون هذا الطلب مشروعا والذين وتروا عثمان هم الصحابة العدول كلهم حتى أن طلحة كان أشد الناس عليه ، وحسب مروان أنه أخذ منه ثاره برمية منه جرعته المنية.
    وقد تثبط معاوية عن نصرته حتى قتلوه ؟.
    وإن كانت النهضة بثارات عثمان غير مشروعة يمقتها الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما هو المتسالم عليه عند وجوه السلف ـ فكيف يدرأ بها العذاب عمن قام بها ؟ ولو صدقت الأحلام لوجب أن يكون أصحاب الجمل مكلوئين عن كل سوء لكن عوضا عن ذلك وافاهم العذاب من شتى النواحي وقتلوا تقتيلا ، وقطع الله أيدي الذين أخذوا بزمام الجمل حتى وردوا الهلكة صاغرين.
    وأما معاوية فسل عنه ليلة الهرير ويومه فقد قتل فيهما سبعون ألف قتيل 45 ألفا من أهل الشام و 25 ألفا من أهل العراق (3) وهل استمر على الطلب بالثار لما تمهد له عرش الملك ؟ أو أنه اقتنع بالحصول على سلطة غاشمة وملك عضوض ؟.
    نعم : حصر هو تعقيبه بالأبرياء شيعة أمير المؤمنين عليه السلام فقتلهم أينما ثقفهم تحت كل حجر وشجر ، وأما ثار عثمان فلم ينبس عنه بعد ببنت شفة فضلا عن أن يثأر له ولم يرم بالحجارة ، فدونك تاريخ معاوية ، فاقرأ واحكم.
    46 ـ أخرج الخطيب في تاريخه 12 : 364 من طريق أحمد بن محمد بن المغلس الحماني عن أبي سهل الفضل بن أبي طالب عن عبد الكريم بن روح البزاز عن أبيه روح
1 ـ كتاب صفين لابن مزاحم ص 268 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 484.
2 ـ بلاغات النساء ص 36 ، العقد الفريد 1 : 132 ، نهاية الأرب 7 : 241 ، صبح الأعشى 1 : 248.
3 ـ كتاب صفين لابن مزاحم ص 543 ، تاريخ ابن كثير 7 : 274 ، 312 ، فتح الباري 13 : 73.


(372)
ابن عنبسة بن سعيد بن أبي عياش الأموي مولاهم البصري عن أبيه عنبسة (1) عن جدته ( لأبيه ) أم عياش وكانت أمة لرقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما زوجت عثمان أم كلثوم إلا بوحي من السماء قال الأميني : لا تعجب من إخراج الخطيب هذا الحديث المرمع وسكوته عن علله فإنه أسير صبابته إلى هوى آل أمية ، وقد أعمته عن آراء رجال الجرح والتعديل في أحمد بن محمد ، وأنسته ما ذكره هو في ترجمة الرجل ، قال ابن عدي : ما رأيت في الكذابين أقل حياء منه.
    وقال ابن قانع : ليس بثقة.
    وقال ابن أبي الفوارس ، كان يضع الحديث وقال ابن حبان : راودني أصحابنا على أن أذهب إليه فأسمع منه ، فأخذت جزءا لأنتخب فيه فرأيته حدث عن يحيى .. إلخ.
    وعن هناد. إلخ فعلمت أنه يضع الحديث.
    وقال الدارقطني : كان يضع الحديث.
    وقال الحاكم : روى عن القعنبي ومسدد وابن أبي أويس وبشر بن الوليد أحاديث وضعها.
    وقد وضع أيضا المتون مع كذبه في لقى هؤلاء.
    وقال الخطيب نفسه : حدث عن أبي نعيم وغيره بأحاديث أكثرها باطلة هو وضعها.
    وحكى عن بشر بن الحارث ويحيى بن معين وعلي بن معين وعلي ابن المديني أخبارا جمعها بعد أن وضعها في مناقب أبي حنيفة.
    وقال الدارقطني أيضا : مناقب أبي حنيفة موضوعة كلها وضعها أحمد بن المغلس الحماني قرأته غير مرة.
    إلى كلمات آخرين (2).
    وفي الاسناد : عبد الكريم بن روح أبو سعيد البصري ، قال أبو حاتم : مجهول.
    وقال عمرو بن رافع : دخلت عليه ولم أسمع منه ويقال : إنه متروك الحديث.
    وقال ابن حبان : يخطئ ويخالف.
    وضعفه ابن أبي عاصم والدار قطني (3) أضف إليه في الجهالة أباه وجده وجدته ، راجع ميزان الاعتدال للذهبي والخلاصة لابن الجزري.
    أخرجه ابن عدي من طريق عمير بن عمران الحنفي وعده من بواطيله وأقره الذهبي وابن حجر ، وقال ابن عدي : والضعف على روايته بين ، وقال العقيلي : في حديثه وهم غلط. ( لسان الميزان 4 : 380 ).
1 ـ في النسخة : عن أبيه عن عنبسة. والصحيح ما ذكرناه.
2 ـ راجع المصادر المذكورة في الجزء الخامس ص 216 ط 2.
3 ـ تهذيب التهذيب 6 : 372.


(373)
    نعم : أنا لا أشك في أن كل ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لهج به إنما هو عن وحي منزل من السماء فإنه لا ينطق على الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، غير أن المصلحة في الإيحاء تخلف باختلاف الموارد ، فليس كل صلة منه صلى الله عليه وآله وسلم أو بر تدل على فضيلة في المبرور فإنها قد تكون لإتمام الحجة عليه ، كما أنها في المقام لإيقاف الملأ الديني على أن العداء المحتدم في صدور العبشميين على بني هاشم لا يزيحه أي عطف وصلة فإنه لا بر أوصل من المصاهرة ولا سيما ببضعة النبوة ، لكن : هل قدر ذلك زوج أم كلثوم ؟ أو إنه اقترف ليلة وفاتها (1) ولم يكترث للانقطاع عن شرف النبوة ، حتى أهانه رسول العظمة بملأ من الأشهاد ، وحرم عليه الدخول في قبرها وهو في الظاهر أولى الناس بها بعد أبيها ؟ ولعل كل صهر أو مواصلة وقع بين بني هاشم والأمويين كان من هذا الباب ، حاول الهاشميون وفي مقدمهم مشرفهم صلى الله عليه وآله وسلم تخفيض نائرة الإحن وتصفية القلوب من الضغائن ، لكن هل حصلوا على الغاية المتوخاة ؟ أو انكفؤا على حد قول القائل :
لقد نفخت في جذى مشبوبة وقد ضربت في حديد بارد ؟
    ولولا هذه المصاهرة وأمثالها لطالت الألسنة على الهاشميين لسبق ، المهاجرة والقطيعة بين الفريقين ، وحملوا كل ما وقع بينهما على تلكم السوابق ، لكن الفئة الصالحة رواد إصلاح درأوا عن أنفسهم هاتيك الشبه بضرائب هذه المواصلات ، وعرفوا الناس إن العقارب لسب من ذاتها ، فلا يجدي معها أي لين وزلفة.
    ولعلك هاهنا تجد الميزة بين الصهرين مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وصاحب سيدتنا أم كلثوم ، وتعليم سيرة الإمام مع الصديقة الطاهرة حتى قضت نحبها وهي عنه راضية ، كما أنه فارقها وهو عنها راض ، وغادر رسول الله صلى الله عليه وآله الدنيا وسلم وهو راض عنهما.
    وانظر إلى آخر يوميهما هذا يقترف ليلة وفاة أم كلثوم ما لا يرضي الله ورسوله ولا يهمه فراقها ولا يشغله الهم بالمصيبة وانقطاع صهره من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المقارفة ، وذلك يندب الصديقة الطاهرة ويطيل بكاءه عليها وهو يقول : السلام عليك يا رسول الله ! عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك ، قل يا رسول الله ! عن
1 ـ مر حديثه في الجزء الثامن ص 213 ـ 234 ط 2

(374)
    صفيتك صبري ، ورق عنها تجلدي ، إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز ، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، أما حزني فسرمد ، وأما ليلي فمسهد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك إبنتك بتضافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال هذا ، ولم يطل العهد ، ولم يخلق منك الذكر ، والسلام عليكما ، سلام مودع لا قال ولا سئم ، فإن أنصرف فلا عن ملامة وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين.
    ثم تمثل عند قبرها فقال :
لكل اجتماع من خليلين فرقة وإن افتقادي واحدا بعد واحد (1) وكل الذي دون الممات قليل دليل على أن لا يدوم خليل (2)
    47 ـ أخرج الأزدي عن عبد الواحد بن عثمان بن دينار الموصلي عن المعافي بن عمران الثوري عن ابن نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعثمان : أنت من أصهاري وأنصاري ، وعهد عهده إلي ربي إنك معي في الجنة قال الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الواحد 2 : 158 : خبر باطل ذكره الأزدي.
    48 ـ أخرج الطبراني قال : حدثنا بكر بن سهل قال : ثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الخراساني عن عبد الله بن يحيى الاسكندراني ثنا ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : لما طعن عمر وأمر بالشورى دخلت عليه حفصة ابنته فقالت : يا أبت ! إن الناس يقولون : إن هؤلاء القوم الذين جعلتهم في الشورى ليسوا برضي. فقال : أسندوني. فأسندوه فقال : عسى أن تقولوا في عثمان سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يموت عثمان يصلي عليه ملائكة السماء. قلت : لعثمان خاصة أو للناس عامة ؟ قال : بل لعثمان خاصة.
    الحديث بطوله لكل واحد من الستة أصحاب الشورى منقبة (3).
    قال الذهبي في الميزان : حديث موضوع. وقال ابن حجر في اللسان : الوضع عليه ظاهر.
1 ـ وفي لفظ : وإن افتقادي فاطما بعد أحمد.
2 ـ راجع أعلام النساء 3 : 1222.
3 ـ لسان الميزان 5 ، 226.


(375)
    قال الأميني : بكر بن سهل الدمياطي ضعفه النسائي ، كما ذكره الذهبي ، و في لسان الميزان : ومن وضعه قوله : بكرت يوم الجمعة فقرأت إلى العصر ثمان ختمات.
    ثم قال : فاسمع إلى هذا وتعجب.
    وقال مسلمة بن قاسم : تكلم الناس فيه ووضعوه من أجل الحديث الذي حدث به عن سعيد بن كثير (1) وفي الاسناد محمد بن عبد الله مجهول لا يعرف.
    49 ـ أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه 11 : 169 من طريق عيسى بن محمد بن منصور الاسكافي عن شعيب بن حرب المدائني عن محمد الهمداني قال حدثنا شيخ في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ عن النعمان بن بشير قال : كنا عند علي بن أبي طالب فذكروا عثمان فقال على : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون.
    هم عثمان وأصحاب عثمان ، وأنا من أصحاب عثمان.
    قال الأميني : لنا أن نسائل الخطيب عن عيسى بن محمد بن منصور الاسكافي من هو ؟ وما محله من الإعراب ؟ وهو الذي ترجمه هو ولا يعرف منه إلا إسمه ، ونسائله عن محمد الهمداني وعن شيخه الذي لم يسمه هو ولا غيره كأنه لم يكن ولم يولد ، وعن النعمان بن بشير ، من هو ؟ وما خطره ؟ وما قيمة روايته ؟ وهو الخارج على إمامه يوم صفين ومحاربه في صف الطغام الطغاة ، وهو الذي عرفه قيس بن سعد الأنصاري يوم ذاك بقوله له : وأنت والله الغاش الضال المضل ، وهو القائل لقيس : لو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا لكانت واحدة بواحدة ، لكنكم خذلتم حقا ونصرتم باطلا.
    وهلا علي هذا هو الذي سأله عثمان أيام حوصر أن يخرج إلى ينبع حتى لا يغتم به ولا يغتم به علي ؟ وهلا هو ذلك القائل : والله الذي لا إله إلا هو ما قتلته ، ولا مالأت على قتله ولا ساءني ؟ والقائل : ما أحببت قتله ولا كرهته ، ولا أمرت به ولا نهيت عنه ، ولا سرني ولا ساءني ؟.
    والقائل لأصحابه يوم صفين : انفروا إلى من يقاتل على دم حمال الخطايا ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص أوزارهم شيئا ؟.
1 ـ ميزان الاعتدال 3 ، 84 ، لسان الميزان 2 ، 52 ، و ج 5 : 226

(376)
    وهلا هو الكاتب إلى أهل مصر بقوله : إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصي في أرضه ، وذهب بحقه ، فضرب الجور سرادقه على البر والفاجر .. الخ ؟.
    وهلا هو ذلك الذي لم يشهد لعثمان أنه قتل مظلوما ؟ كما مر حديثه (1).
    وهلا هو ذلك الخطيب القائل في خطبته الشقشقية : إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه ؟ إلى آخر ما مر ج 7 : 81.
    وما شأن أصحاب عثمان وفيهم مثل علي ـ أخذا بهذه الرواية ـ لا يوجد له منهم ناصر ؟ ولا يسمع من أحدهم فأمره ركز ؟ ولا ينبس أي منهم في الدفاع عنه ببنت شفة ؟ والرجل قتل بين ظهرانيهم جهرا ، وألقيت جثته في المزبلة ثلاثة أيام تجري عليه العواصف ، ثم دفن بأثوابه في مقابر اليهود ، ينادى عليه بذل الاستخفاف ، وقد أخذت الحجارة مجهزيه ، وطموا جثمانه خائفين مترقبين ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ، والله يعلم أنهم لكاذبون.
    50 ـ إن عثمان بن عفان رأى درع علي رضي الله عنه يباع بأربع مائة درهم ليلة عرسه على فاطمة رضي الله عنها فقال عثمان : هذا درع علي فارس الاسلام لا يباع أبدا فدفع لغلام علي أربعمائة درهم وأقسم أن لا يخبره بذلك ورد الدرع معه ، فلما أصبح عثمان وجد في داره أربعمائة كيس في كل كيس أربعمائة درهم مكتوب على كل درهم : هذا درهم ضرب الرحمن لعثمان بن عفان.
    فأخبر جبريل النبي صلى الله وعليه وسلم بذلك فقال : هنيئا لك يا عثمان !.
    قال الأميني : ذكر الحلبي في سيرته 2 : 228 عن فتاوى جلال الدين السيوطي أنه سئل عن صحة هذه الرواية فأجاب بأنها لم تصح.
    فقال أي وهي تصدق بأن ذلك لم يرد فهو من الكذب الموضوع. ه‍.
    ومر في الجزء الخامس في سلسلة الموضوعات ص 322 ط 2 قول ابن درويش الحوت : إنه كذب شنيع.
    ( ختام المناقب ) :
    قال الجرداني في مصباح الظلام 2 : 29 : فائدة : من كتب هذه الأسماء وغسل بها وجهه فإنه لا يعمى : ومن كتبها وشربها على الريق لا ينسى ، ومن كتبها وشربها لا يعجز عن النساء وهم عثمان بن عفان.
    معاذ بن جبل. عبد
1 ـ تجد هذه الأحاديث في خذا الجزء 69 ـ 77.

(377)
الرحمن بن عوف. زيد بن ثابت. أبي بن كعب. طلحة بن عبد الرحمن. تميم الداري رضي الله عنهم. قال الأميني : فليمتحن من لا يخاف عن العمى والنسيان والعنن.
    أضف إلى هذه الأساطير أو المخازي ما مر في الجزء الخامس من المناقب الموضوعة لعثمان خاصة ص 313 ، 324 ، 329 ط 2.
منتهى القول
    إلى هنا ننهي القول عن فضائل عثمان التي اختلقتها وثابة الشره ومهملجة المطامع والشهوات في العصور الأموية طمعا في رضائخ أولئك المقعين على أنقاض عرش الخلافة وأكثر هؤلاء شاميون أو بصريون الذين جبلوا بحب العبشميين ، ومناوءة سروات المجد من العترة الطاهرة صلوات الله عليهم ، فليس وضع تلكم الروايات عنهم ببعيد ، ولعل هناك من ضرائب ما ذكرناه أشياء لكن سبيلها سبيل هذه الطامات في الأسانيد والمتون ومنشأ الكل هو المغالاة في الفضائل من غير تفهم ولا روية.
    ولعل القوم في عذر مما هم عليه من عدم الأخذ بآراء الحفاظ وأئمة الفن الواردة في باب الجرح والتعديل ، وعدم إجرائها في رجال تلكم المسانيد سلسلة البلايا والطامات التي اتخذوها حجة في الفضائل ، وعلوا عليها الدعوة إلى أناس والتخذيل عن آخرين ، ولا مندوحة لأولئك من رواية مرمعات الحديث ، الأخذ بالموضوع المختلق ، لأنهم إن جنحوا في باب الفضائل إلى الصحيح الثابت في التاريخ والحديث فحسب ، واقتصروا على ما صح منها ، وصفحوا عن الباطل المزيف ، وتركوا كل تلكم التلفيقات المخزية ، لتبقى تلكم الصحائف السوادء بيضاء خالية فارغة عن كل مأثرة و فضيلة وهذا عزيز عليهم جدا لا يحبذه الحب الدفين ، ولا تسوغه العصبية ، وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم فقد جاءوا ظلما وزورا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، ويحسون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ، انظر كيف نبين لهم الآيات أنى يؤفكون.


(378)
المغالاة في فضائل الخلفاء الثلاثة
أبي بكر. عمر. عثمان
    لقد أوقفناك على شيء من الغلو الفاحش في كل فرد من هؤلاء ، وعرفناك أن كل ما لفقه القوم ورمقه من الفضائل إنما هي من مرمعات الحديث لا يساعدها المعروف من نفسياتهم وملكاتهم ولا يتفق معها ما سجل لهم التاريخ من أفعال وتروك ، وهلم الآن إلى لون آخر مما تمنته يد الافتعال يشملهم كلهم ، ولا نكترث من ذلك إلا لما جاء بصورة الرواية دون الأقوال والكلمات ، فإن رمي القول على عواهنه مما لا نهاية له ، وما حدت إليه الأهواء والشهوات لا تقف على حد ، فنمر بما جاء به أمثال أبناء حزم وتيمية والجوزي والجوزية وكثير وحجر ومن لف لفهم من السلف والخلف كراما ، فأنى يسع لنا التبسط تجاه مزعمة نظراء التفتازاني وأمثاله قال في شرح المقاصد 2 : 279 : احتج أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالاجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم مع الإجماع على أنهم لم تجب عصمتهم وإن كانوا معصومين بمعنى أنهم منذ آمنوا كان لهم ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها.
    وقال أبو الثناء شمس الدين محمود الاصبهاني المتكلم الشهير في ( مطالع الأنظار ) 470 : ولا يشترط فيه العصمة خلافا للإسماعيلية والاثنا عشرية.
    لنا : إمامة أبي بكر والأمة اجتمعت على كونه غير واجب العصمة لا أقول إنه غير معصوم. هـ.
    وأقر عصمة عثمان الحافظ نور محمد الأفغاني في كتابه ( تاريخ مزار شريف ) ص 4.
    ونحن وضعنا أمامك صحائف من كتب أعمال هؤلاء المعصومين التي قضوا أكثرها على العادات الجاهلية ، وأوقفناك على أن ما طابق منها عهد الاسلام مما لا يمكن أن يكون صاحبه عادلا فضلا عن أن يعد معصوما ، وهاهنا لا نحاول أكثر من لفت نظر القارئ إلى تلكم الصحائف من غير توسع نكرره ، ففيما سبق في الجزء السادس والسابع والثامن من الطامات والجنايات والأحداث والشنايع والفظايع ومما لا تقرره طقوس الاسلام ويشذ عن سنن الكتاب والسنة غنى وكفاية. وأما ما استنتجه التفتازاني من الإجماعين فمن أفحش أغلاطه. أما أولا فلمنع


(379)
الإجماع في كل من الثلاثة فإن خلافة أبي بكر إنما تمت بعد وصمات سودت صحيفة تاريخه ، وأبقت على الأمة عارا إلى منصرم الدنيا ، لا تنسى قط بمر الجديدين وكر الملوين ، إنما تمت ببيعة رجل أو رجلين أو خمسة ، ومن هنا حسبوا أن الخلافة تنعقد برجل أو رجلين أو خمسة (1) مع تقاعد جمع كثير عنها من عمد الصحابة وأعيانهم كما فصلناه في الجزء السابع ص 93 ثم لم يجمعهم مع القوم إلا الترعيد والترعيب ومحاشد الرجال وبروق الصوارم وكان من حشدهم اللهام رجال من الجن رموا سعد بن عبادة أمير الخزرج.
    وأما خلافة عمر فكانت بالنص من أبي بكر مع إنكار الصحابة عليه ونقدهم إياه بذلك.
    وكم أناس كانوا يشاركون طلحة في قوله لأبي بكر : ما تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا (2).
    وأما عثمان فنصبته الشورى على هنات بين رجال الشورى عقد له عبد الرحمن بن عوف ولم يشترطوا كما قال الأيجي (3) إجماع من في المدينة فضلا عن إجماع الأمة نعم : عقد عبد الرحمن البيعة لصاحبه وسيفه مسلول على رأس الإمام علي بن أبي طالب قائلا له : بايع وإلا ضربت عنقك. ولحقه أصحاب الشورى قائلين بايع وإلا جاهدناك. أنساب البلاذري 5 : 22.
    والتمحل بحصول الإجماع بعد ذلك تدريجا لا يجديهم نفعا ، فإن الخلافة قد ثبتت عندهم بالبيعة الأولى فجاء متمموا الإجماع بعد ذلك على أساس موطد.
    وأما ثانيا فإن من الممكن على فرض التنازل مع التفتازاني أن يكون إجماعهم على خلافة الثلاثة لكونهم معصومين كما ينص به هو ، وأما الإجماع المنقول عنهم بعدم وجوب العصمة فمما لا طريق إلى تحصيله من آراء الصحابة ، فمتى سبر التفتازاني نظريات السلف وهم معدودون بمئات الألوف فعلم من نفسياتهم أنهم لا يرون وجوب العصمة في خلفائهم وهم رهائل أطباق الثرى ؟ ومن ذا الذي كان يسعه أن يعلمها فينهيها إلى التفتازاني وهلم جرا إلى دور الصحابة ؟ ومتى كانوا يتعاطون المسائل الكلامية ويتفاوضون
1 ـ راجع ما مر في الجزء السابع ص 141 ـ 143 ط 2.
2 ـ مرت كلمته في ج 7 : 152. وراجع الرياض النضرة 1 : 181 كنز العمال 6 : 324.
3 ـ مرت كلمته في الجزء السابع ص 141 ط 2.


(380)
عليها فيحفي هذا خبر ذاك ثم ينقله إلى ثالث إلى أن يتسلسل النقل فيشيع ؟ والسابر لصحائف دور الخلافة الأولى منذ يوم السقيفة إلى يوم الشورى لا يجد لأمر العصمة في منتديات القوم ذكرا ولا يسمع منه ركزا ، وإنما اتخذوا أمر الخلافة كملوكية يتسنى لهم بها الحصول على أمن البلاد وحفظ الثغور وقطع السارق والاقتصاص من القاتل وما إلى هذه من لداتها كما فصلنا القول فيه تفصيلا ج 7 ص 136 وعلى ذلك جرى العلماء والمتكلمون فليس لهم في الشروط النفسانية من العلم والتقوى والقداسة أخذ ولا رد إلا كلمات سلبية حول اشتراطها ، ومتى كانت الخلافة عند السلف إمرة دينية حتى يبحثوا عن حدودها ؟ ولم تكن إلا سياسة وقتية مدبرة بليل.
    وأما ثالثا : فإنا لا نحتج بالاجماع إلا بعد ثبوت حجيته ، فإذا ثبتت فإنها لا تختص بمورد دون آخر فيجب أن يكون حجة في الخلافتين معا من أبي بكر وعثمان ذلك على نصبه ، وهذا على استباحة قتله ، والنقض بخروج ثلاثة أو أربعة من ساقة الأمويين أو ممن يمت بهم ويحمل بين جنبيه نزعتهم في الإجماع على عثمان مقابل بخروج أمة صالحة عن الإجماع الأول من أعيان الصحابة وفي طليعتهم سيد العترة وإمام الأمة أمير المؤمنين علي عليه السلام والإمامان الحسنان والصديقة الطاهرة أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، إلى غيرهم من بني هاشم والعمد والدعائم من المهاجرين والأنصار ، ووفاقهم الأخير مشفوعا بالترهيب لا يعد وفاقا ولا يكون متمما للاجماع ، فإنهم كانوا مستمرين على آرائهم وإن ألجأتهم الظروف وحذار وقوع الفرقة إن شهروا سيفا وباشروا نضالا إلى المغاضاة عن حقهم الواضح والمماشاة مع القوم كيفما حلوا وربطوا ، فهذا مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يقول بعد منصرم أيام الثلاثة في رحبة الكوفة : أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة ، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلى الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى : أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده. ثم تمثل
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء التاسع ::: فهرس