المقدمة الاولى
في نبذ مما جاء في الوصية بالتمسك بالقرآن وفي فضله

روى محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه في الكافي باسناده ، ومحمد بن مسعود العياشي في تفسيره باسناده عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إنكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد ويأتيان بكل موعود فأعدوا الجهاز لبعد المجاز . قال : فقام المقداد بن الأسود فقال يا رسول الله : وما دار الهدنة فقال (ص) . دار بلاغ وانقطاع فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع ، وما حل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل وليس بالهزل وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ظاهره أنيق وباطنه عميق له تخوم وعلى تخومه تخوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة .
وزاد في الكافي : فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره ينج من عطب ويخلص من نشب فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص .
أقول : ما حل أي يمحل بصاحبه إذا لم يتبع ما فيه ، أعني سعى به إلى

( 16 )

الله تعالى . وقيل معناه خصم مجادل .
والأنيق الحسن المعجب .
والتخوم بالمثناة الفوقانية والمعجمة : جمع تخم بالفتح وهو منتهى الشئ.
لمن عرف الصفة : أي صفة التعرف وكيفية الاستنباط .
والعطب : الهلاك . والنشف : الوقوع فيما لا مخلص منه .
وروى العياشي بإسناده عن الحارث الأعور قال : دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام فقلت : يا أمير المؤمنين انا إذا كنا عندك سمعنا الذي نشد به ديننا وإذا خرجنا من عندك سمعنا أشياء مختلفة مغموسة ولا ندري ما هي . قال : أو قد فعلوها قال : قلت : نعم . قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أتاني جبرئيل فقال : يا محمد ستكون في أمتك فتنة . قلت : فما المخرج منها ؟ فقال : كتاب الله فيه بيان ما قبلكم من خبر ، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من وليه من جبار فعمل بغيره قصمه الله ، ومن التمس الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم لا تزيغه الأهوية ولا تلبسه الألسنة ولا يخلق على الرد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء هو الذي لم تلبث الجن إذ سمعته أن قالوا : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ) من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم وهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
وبإسنادهما عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن : هدى من الضلالة وتبيان من العمى واستقالة من العثرة ونور من الظلمة وضياء من الأجداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم وما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار .

( 17 )

وروى العياشي بإسناده عنه عليه السلام قال : عليكم بالقرآن فما وجدتم آية نجى بها من كان قبلكم فاعملوا به وما وجدتموه مما هلك بها من كان قبلكم فاجتنبوه .
وفي تفسير الامام ابي محمد الزكي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن هذا القرآن هو النور المبين والحبل المتين والعروة الوثقى والدرجة العليا والشفاء الأشفى والفضيلة الكبرى والسعادة العظمى من استضاء به نوره الله ومن عقد به أموره عصمه الله ومن تمسك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ومن استشفى به شفاه الله ومن أثر على ما سواه هداه الله ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ومن جعله شعاره ودثاره أسعده الله ومن جعله إمامه الذي يقتدي به ومعوله الذي ينتهي إليه أداه الله إلى جنات النعيم والعيش السليم .
وفي الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا معاشر قراء القرآن اتقوا الله فيما حملكم من كتابه فإني مسؤول وإنكم مسؤولون ، إني مسؤول عن تبليغ الرسالة وأما أنتم فتسألون عما حملتم من كتاب الله وسنتي .
وبإسناده عنه عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم امتي ثم أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وأهل بيتي .
وبإسناده عن سعد الأسكاف (1) عنه عليه السلام قال : قال صلى الله عليه وآله وسلم اعطيت السور الطول مكان التوراة واعطيت المئين مكان الانجيل واعطيت المثاني مكان الزبور وفضلت بالمفصل ثمان وستون سورة وهو مهيمن على سائر الكتب ، فالتوراة لموسى والانجيل لعيسى والزبور لداود .
أقول : اختلف الأقوال في تفسير هذه الألفاظ أقربها إلى الصواب وأحوطها
____________
(1) روى هذا الحديث العياشي أيضا إلى قوله عليه السلام : وستون سورة وأورد مكان ثمان سبع .

( 18 )

لسور الكتاب إن الطول كصرد هي السبع الأول بعد الفاتحة على أن يعد الأنفال والبراءة واحدة نزولها جميعا في المغازي وتسميتهما بالقرينتين .
والمئين من بني إسرائيل إلى سبع سور سميت بها لأن كلا منها على نحو مائة آية ، والمفصل من سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر القرآن سميت به لكثرة الفواصل بينها والمثاني بقية السور وهي التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصل كأن الطول جعلت مبادي تارة والتي تلتها مثاني لها لأنها ثنت الطول أي تلتها ، والمئين جعلت مبادي اخرى والتي تلتها مثاني لها .

( 19 )

المقدمة الثانية

في نبذ مما جاء في أن علم القرآن كله إنما هو
عند أهل البيت عليهم السلام

روي في الكافي بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي قال سمعت أمير المؤمنين يقول وساق الحديث إلى أن قال : ما نزلت آية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الا اقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي بما دعا وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته فلم أنس منه حرفا واحدا ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علما وفهما وحكمة ونورا . فقلت : يا رسول الله بأبي انت وأمي مذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه أو تتخوف عليّ النسيان فيما بعد . فقال : لست أتخوف عليك نسيانا ولا جهلا .
ورواه العياشي في تفسيره والصدوق في إكمال الدين بتفاوت يسير في ألفاظه .
وزيد في آخره :
وقد أخبرني ربي أنه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك فقلت : يا رسول الله ومن شركائي من بعدي ؟ قال : الذين قرنهم الله بنفسه وبي . فقال : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فقلت ومن

( 20 )

هم ؟ قال : الأوصياء مني . إلى أن يردوا عليّ الحوض كلهم هادين مهديين لا يضرهم من خذلهم ، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه بهم ينصر امتي وبهم تمطر وبهم يدفع عنهم البلاء وبهم يستجاب دعاؤهم فقلت : يا رسول الله سمهم لي . فقال : إبني هذا ووضع يده على رأس الحسن ثم إبني هذا ووضع يده على رأس الحسين ثم ابن له يقال له علي وسيولد في حياتك فاقرأه مني السلام ثم تكملة إثني عشر من ولد محمد صلى الله عليه وآله فقلت له بأبي انت وامي فسمهم لي فسماهم رجلا رجلا فقال : فيهم والله يا أخا بني هلال مهدي أمة محمد الذي يملأ الأرض قسطا وعدلأ كما ملئت ظلما وجورا والله إني لأعرف من يبايعه بين الركن والمقام وأعرف اسماء آبائهم وقبائلهم .
وفي الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما انزل الا كذاب وما جمعه وحفظه كما أنزل الله ، الا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السلام . وبإسناده عن أبي جعفر عليه السلام إنه قال : ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء .
وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) قال : هم الأئمة .
وبإسناده عنه عليه السلام قال : قد ولدني رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أعلم كتاب الله تعالى وفيه بدؤ الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنة والنار وخبر ما كان وما هو كائن أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي إن الله تعالى يقول : ( فيه تبيان كل شيء ) .
أقول : الولادة المشار إليها تشمل الولادة الجسمانية والروحانية فإن علمه يرجع إليه كما أن نسبه يرجع إليه فهو وارث علمه كما هو وارث ماله ، ولهذا قال : وأنا أعلم كتاب الله تعالى وفيه كذا وكذا يعني وأنا عالم بذلك كله
وبإسناده عنه عليه السلام قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم

( 21 )

وفصل ما بينكم ونحن نعلمه .
وبإسناده عنه عليه السلام قال : نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله .
وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : انا أهل بيت لم يزل الله يبعث فينا من يعلم كتابه من أوله إلى آخره وإن عندنا من حلال الله وحرامه ما يسعنا كتمانه ما نستطيع أن نحدث به احدا .
وفي رواية : إن من علم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه لو وجدنا أوعية أو مستراحا لقلنا والله المستعان .
وفيه عنه عليه السلام قال : ان الله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن وقطب جميع الكتب عليها يستدير محكم القرآن وبها نوهت الكتب ويستبين الإيمان ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تقتدي بالقرآن وآل محمد عليهم السلام .
وذلك حيث قال : في آخر خطبة خطبها إني تارك فيكم الثقلين الثقل الأكبر والثقل الأصغر فأما الأكبر فكتاب ربي وأما الأصغر فعترتي أهل بيتي فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما .
وفي الكافي بإسناده عن زيد الشحام قال : دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليه السلام فقال : يا قتادة انت فقيه أهل البصرة ؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر عليه السلام : بلغني أنك تفسر القرآن ؟ قال له قتادة : نعم فقال أبو جعفر عليه السلام : بعلم تفسره ، أم بجهل ؟ قال : لا بل بعلم . فقال له أبو جعفر عليه السلام : فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت وأنا أسألك ؟ قال قتادة : سل . قال : أخبرني عن قول الله تعالى في سبأ ( وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما امنين ) . فقال قتادة : ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكرى حلال يريد هذا البيت كان آمنا حتى يرجع إلى أهله ، فقال أبو جعفر عليه

( 22 )

السلام : نشدتك بالله يا قتادة هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد وراحلة وكرى حلال يريد هذا البيت فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه ؟ قال قتادة : اللهم نعم . فقال أبو جعفر عليه السلام ويحك يا قتادة إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ويحك يا قتادة ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكرى حلال يؤم هذا البيت عارفا بحقنا يهوانا قلبه كما قال الله تعالى : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) ولم يعن البيت (1) فيقول إليه فنحن والله دعوة إبراهيم « ع » التي من هوانا قلبه قبلت حجته وإلا فلا ، يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنم يوم القيامة ، قال : قتادة لا جرم والله لا فسرتها إلا هكذا . فقال أبو جعفر عليه السلام : ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به .
أقول : هكذا وجدنا هذا الحديث في نسخ الكافي ويشبه أن يكون قد سقط منه شيء وذلك لأن ما ذكره قتادة لا تعلق له بقوله تعالى : ( سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ) لأنه ما ذكر فيه اين هي من الأرض وإنما يتعلق بقوله : ( ومن دَخَله كان آمنا ) . وكذلك ما قاله الإمام علي ، وفيما ورد عن الصادق عليه السلام من سؤال تفسير الآيتين عن أبي حنيفة دلالة ايضا على ما ذكرناه من السقوط وهو ما رواه في علل الشرائع بإسناده عنه عليه السلام أنه قال لأبي حنيفة : انت فقيه أهل العراق ؟ فقال : نعم . قال : فبم تفتيهم ؟ قال : بكتاب الله تعالى وسنة نبيه . قال : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ فقال : نعم . فقال : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ويلك ما جعل الله ذلك الا عند أهل الكتاب الذي أنزله عليهم ، ويلك وما هو الا عند الخاص من ذرية نبينا وما أراك تعرف من كتابه حرفا فإن كنت كما تقول ولست كما تقول فأخبرني عن قول الله تعالى : ( سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ) أين
____________
(1) أي لم يعن البيت فيقول مكان تهوى إليهم تهوى إليه بل عني إياهم . فقال : تهوى إليهم أي أهل البيت عليهم السلام ( منه قده ) .

( 23 )

ذلك من الأرض . قال احسبه ما بين مكة والمدينة فالتفت أبو عبد الله عليه السلام إلى أصحابه فقال : تعلمون أن الناس يقطع عليهم ما بين المدينة ومكة فتؤخذ أموالهم ولا يؤمنون على أنفسهم ويقتلون . قالوا : نعم . فسكت أبو حنيفة ؟ فقال يا أبا حنيفة أخبرني عن قول الله عز وجل : ( ومن دخله كان آمنا ) اين ذلك من الأرض ؟ قال : الكعبة . قال : أفتعلم أن الحجاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزبير في الكعبة فقتله كان آمنا فيها فسكت . ويأتي تفسير الآيتين في محلهما إنشاء الله .

( 24 )

المقدمة الثالثة

في نبذ مما جاء في أن جل القرآن إنما نزل فيهم وفي أوليائهم وأعدائهم وبيان
سر ذلك

في الكافي وتفسير العياشي بإسنادهما عن أبي جعفر عليه السلام قال : نزل القرآن على أربعة أرباع ربع فينا وربع في عدونا وربع سنن وأمثال وربع فرائض وأحكام ، وزاد العياشي : ولنا كرائم القرآن ، وبإسنادهما عن الأصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول نزل القرآن أثلاثا : ثلث فينا وفي عدونا وثلث سنن وأمثال وثلث فرائض وأحكام .
وروى العياشي بإسناده عن خيثمة عن أبي جعفر عليه السلام قال : القرآن نزل أثلاثا : ثلث فينا وفي أحبائنا وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا ، وثلث سنة ومثل ، ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السموات والأرض ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر .
أقول : لا تنافي بين هذه الأخبار لأن بناء هذا التقسيم ليس على التسوية الحقيقية ولا على التفريق من جميع الوجوه فلا بأس باختلافها بالتثليث والتربيع ولا بزيادة بعض الأقسام على الثلث أو الربع أو نقصه عنهما ولا دخول بعضها في بعض .
وبإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال : لنا حق في كتاب الله تعالى المحكم لو محوه فقالوا ليس من عند الله أو لم يعلموا لكان سواء .
أقول : إنه قد وردت أخبار جمة عن أهل البيت عليهم السلام في تأويل

( 25 )

كثير من آيات القرآن بهم وبأوليائهم وبأعدائهم حتى أن جماعة من أصحابنا صنفوا كتبا في تأويل القرآن على هذا النحو جمعوا فيها ما ورد عنهم عليهم السلام في تأويل آية آية اما بهم أو بشيعتهم أو بعدوهم على ترتيب القرآن وقد رأيت منها كتابا كاد يقرب من عشرين الف بيت .
وقد روي في الكافي وفي تفسيري العياشي وعلي بن إبراهيم القمي والتفسير المسموع من الإمام أبي محمد الزكي أخبار كثيرة من هذا القبيل وذلك مثل ما رواه في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) . قال : هي الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام .
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال : يا أبا محمد إذا سمعت الله ذكر قوما من هذه الأمة بخير فنحن هم وإذا سمعت الله ذكر قوما بسؤ ممن مضى فهم عدونا .
وفيه عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام سأله عن قول الله تعالى ( قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم ومن عنده علم الكتب ) قال : فلما رآني أتتبع هذا وأشباهه من الكتاب . قال : حسبك كل شيء في الكتاب من فاتحته إلى خاتمته مثل هذا فهو في الأئمة عنوا به .
أقول : والسر فيه إنما ينكشف ويتبين ببسط من الكلام وتحقيق للمقام فنقول وبالله التوفيق : إنه لما أراد الله أن يعرف نفسه لخلقه ليعبدوه وكان لم يتيسر معرفته كما أراد على سنة الأسباب إلا بوجود الأنبياء والاوصياء إذ بهم تحصل المعرفة التامة والعبادة الكاملة دون غيرهم وكان لم يتيسر وجود الأنبياء والأوصياء إلا بخلق سائر الخلق ليكون انسا لهم وسببا لمعاشهم فلذلك خلق سائر الخلق ثم أمرهم بمعرفة أنبيائه وأوليائه وولايتهم والتبري من أعدائهم ومما يصدهم عن ذلك ليكونوا ذوي حظوظ من نعيمهم ووهب الكل معرفة نفسه على قدر معرفتهم بالأنبياء والأوصياء إذ بمعرفتهم إياهم يعرفون الله وبولايتهم إياهم

( 26 )

يتولون الله فكل ما ورد من البشارة والإنذار والأوامر والنواهي والنصائح والمواعظ من الله سبحانه فإنما هو لذلك ولما كان نبينا سيد الأنبياء ووصيه سيد الأوصياء ، لجمعهما كمالات سائر الأنبياء والإوصياء ومقاماتهم مع ما لهما من الفضل عليهم وكان كل منهما نفس الآخر صح أن ينسب إلى أحدهما من الفضل ما ينسب إليهم لاشتماله على الكل وجمعه لفضائل الكل وحيث كان الأكمل يكون الكامل لا محالة ولذلك خص تأويل الآيات بهما وبسائر أهل البيت عليهم السلام الذين هم منهما ذرية بعضها من بعض وجيء بالكلمة الجامعة التي هي الولاية فإنها مشتملة على المعرفة والمحبة والمتابعة وسائر ما لا بد منه في ذلك ، وأيضا فإن أحكام الله سبحانه إنما تجري على الحقائق الكلية والمقامات النوعية دون خصائص الأفراد والآحاد كما أشرنا إليه سابقا فحيثما خوطب قوم بخطاب أو نسب إليهم فعل دخل في ذلك الخطاب وذلك الفعل عند العلماء وأولي الألباب كل من كان من سنخ أولئك القوم وطينتهم فصفوة الله حيثما خوطبوا بمكرمة أو نسبوا إلى أنفسهم مكرمة يشمل ذلك كل من كان من سنخهم وطينتهم من الأنبياء والأولياء وكل من كان من المقربين الا مكرمة خصوا بها دون غيرهم وكذلك إذا خوطبت شيعتهم بخير أو نسب إليهم خير أو خوطب أعداؤهم بسوء ونسب إليهم سوء يدخل في الأول كل من كان من سنخ شيعتهم وطينة محبيهم وفي الثاني كل من كان من سنخ أعدائهم وطينة مبغضيهم من الأولين والآخرين ، وذلك لأن كل من أحبه الله ورسوله أحبه كل مؤمن من ابتداء الخلق إلى إنتهائه وكل من أبغضه الله ورسوله أبغضه كل مؤمن كذلك وهو يبغض كل من أحبه الله تعالى ورسوله وكل مؤمن في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من شيعتهم ومحبيهم وكل جاحد في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من مخالفيهم ومبغضيهم .
وقد وردت الإشارة إلى ذلك في كلام الصادق عليه السلام في حديث المفضل بن عمر وهو الذي رواه الصدوق طاب ثراه في كتاب علل الشرائع بإسناده عن المفضل بن عمر قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام بما صار علي

( 27 )

ابن أبي طالب عليه السلام قسيم الجنة والنار ؟ قال : لأن حبه إيمان وبغضه كفر وإنما خلقت الجنة لأهل الإيمان وخلقت النار لأهل الكفر فهو عليه السلام قسيم الجنة والنار لهذه العلة والجنة لا يدخلها إلا أهل محبته والنار لا يدخلها إلا أهل بغضه ، قال المفضل : يابن رسول الله فالأنبياء والأوصياء هل كانوا يحبونه وأعداؤهم يبغضونه ؟ فقال : نعم . قلت : فكيف ذلك قال : أما علمت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله تعالى ورسوله ويحبه الله ورسوله ما يرجع حتى يفتح الله على يده ، قلت : بلى . قال : أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أوتي بالطائر المشوي قال اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير وعني به عليا ، قلت بلى قال : يجوز أن لا يحب أنبياء الله ورسله وأوصيائهم عليهم السلام رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله . فقلت : لا . قال فهل يجوز أن يكون المؤمنون من أممهم لا يحبون حبيب الله وحبيب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأنبياءه . قلت : لا ، قال : فقد ثبت أن جميع أنبياء الله ورسله وجميع المؤمنين كانوا لعلي بن أبي طالب عليه السلام محبين وثبت أن المخالفين لهم كانوا له ولجميع محبيه مبغضين . قلت : نعم . قال : فلا يدخل الجنة إلا من احبه من الأولين والآخرين فهو إذن قسيم الجنة والنار . قال : المفضل بن عمر . فقلت : له يا ابن رسول الله فرجت عني فرج الله عنك فزدني مما علمك الله تعالى ؟ فقال : سل يا مفضل . فقلت : أسأل يابن رسول الله فعلي بن أبي طالب عليه السلام يدخل محبه الجنة ومبغضه النار أو رضوان ومالك فقال : يا مفضل أما علمت أن الله تبارك وتعالى بعث رسوله وهو روح إلى الأنبياء وهم أرواح قبل خلق الخلق بألفي عام . قلت : بلى . قال : أما علمت أنه دعاهم إلى توحيد الله وطاعته واتباع أمره ووعدهم الجنة على ذلك وأوعد من خالف ما أجابوا إليه وأنكره النار فقلت : بلى . قال : أفليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضامنا لما وعد وأوعد عن ربه عز وجل ؟ قلت : بلى . قال : أو ليس علي بن أبي طالب عليه السلام خليفته وإمام امته ؟ قال : بلى . قال : أو ليس

( 28 )

رضوان ومالك من جملة الملائكة والمستغفرين لشيعته الناجين بمحبته . قلت : بلى . قال : فعلي بن أبي طالب عليه السلام إذن قسيم الجنة والنار عن رسول الله صلى الله عليه وآله ورضوان ومالك صادران عن أمره بأمر الله تبارك وتعالى ، يا مفضل خذ هذا فإنه من مخزون العلم ومكنونه لا تخرجه إلا إلى أهله .
أقول : وقد فتح هذا الحديث بابا من العلم انفتح منه ألف باب وسيأتي له مزيد انكشاف في المقدمة الرابعة عند تحقيق القول في المتشابه وتأويله ان شاء الله .
ومن هذا القبيل خطاب الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل بأسلافهم أو فعلت أسلافهم كانجائهم من الغرق وسقيهم من الحجر وتكذيبهم الآيات إلى غير ذلك وذلك لأن هؤلاء كانوا من سنخ أولئك راضين بما رضوا به ساخطين بما سخطوا به ، وأيضا فإن القرآن إنما نزل بلغة العرب ومن عادة العرب أن تنسب إلى الرجل ما فعلته القبيلة التي هو منهم وان لم يفعل هو بعينه ذلك الفعل معهم .
وقد ورد ذلك بعينه في كلام السجاد عليه السلام حيث سئل عن ذلك ، فقال : إن القرآن بلغة العرب فيخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم أما تقول للرجل التميمي الذي قد أغار قومه على بلد وقتلوا من فيه أغرتم على بلد كذا وفعلتم كذا الحديث . وسر هذه العادة في لغتهم ما قلناه . وبهذا التحقيق انحل كثير من المشكلات والشبهات في تأويل الآيات الواردة عنهم عليهم السلام بل كفينا مؤنة ذكر التأويلات في ذيل تلك الآيات إذ لا يخفى بعد معرفة هذا الأصل إجراء تلك التأويلات في آية على أولي الألباب ، إلا إنا سنأتي بنبذ منها في محالها إنشاء الله تعالى والحمد لله على ما أفهمنا ذلك وألهمناه .

( 29 )

المقدمة الرابعة

في نبذ مما جاء في معاني وجوه الآيات وتحقيق
القول في المتشابه وتأويله

روى العياشي بإسناده عن جابر قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني . ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر فقلت جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسألة بجواب آخر غير هذا قبل اليوم فقال لي يا جابر ان للقرآن بطنا وللبطن بطنا وظهرا وللظهر ظهرا يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن إن الآية ليكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه .
وبإسناده عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال ظهر القرآن : الذين نزل فيهم ، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم . وبإسناده عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع ما يعني بقوله لها ظهر وبطن ، قال : ظهره تنزيله وبطنه تأويله منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد يجري كما يجري الشمس والقمر كلما جاء منه شيء وقع ، قال الله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله والرا سخون في العلم ) نحن نعلمه .
أقول : المطلع بتشديد الطاء وفتح اللام مكان الاطلاع من موضع عال ويجوز أن يكون بوزن مصعد بفتح الميم ومعناه أي مصعد يصعد إليه من معرفة علمه ، ومحصل معناه قريب من معنى التأويل والبطن كما أن معنى الحد قريب من معنى التنزيل والظهر .
وبإسناده عن مسعدة بن صدقة قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن

( 30 )

الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، قال : الناسخ الثابت المعمول به والمنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه ، والمتشابه ما اشتبه على جاهله .
وفي رواية الناسخ : الثابت ، والمنسوخ ما مضى ، والمحكم ما يعمل به ، والمتشابه الذي يشبه بعضه بعضا .
وبإسناده عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن القرآن والفرقان قال : القرآن جملة الكتاب وأخبار ما يكون والفرقان المحكم الذي يعمل به وكل محكم فهو فرقان .
وبإسناده عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول إن القرآن فيه محكم ومتشابه فأما المحكم فنؤمن به ونعمل به وندين به . وأما المتشابه فنؤمن به ولا نعمل به .
وبإسناده عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام قال : نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة .
أقول : هذا مثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به غير المخاطب وهذا الحديث مما يؤيد ما حققناه في المقدمة السابقة ، وبإسناده عن ابن ابي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما عاتب الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فهو يعني به من قد مضى في القرآن مثل قوله تعالى ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) عني بذلك غيره .
أقول : لعل المراد بمن قد مضى في القرآن من مضى ذكره فيه من الذين أسقط أسماءهم الملحدون في آيات الله كما يظهر مما يأتي ذكره في المقدمة السادسة وهذان الحديثان مرويان في الكافي أيضا .
ومن طريق العامة عن النبي صلى الله عليه وآله إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا .

( 31 )

وعنه عليه السلام إن القرآن انزل على سبعة أحرف (1) لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع .
وفي رواية ولكل حرف حد ومطلع .
وعنه عليه السلام إن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال : ما من آية الا ولها أربعة معان ظاهر وباطن وحد ومطلع فالظاهر التلاوة والباطن الفهم والحد هو أحكام الحلال والحرام والمطلع هو مراد الله من العبد بها .
ورووا أنه عليه السلام سئل هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وآله شيء من الوحي سوى القرآن قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي عبدا فهما في كتابه .
ورووا عن الصادق عليه السلام إنه قال : كتاب الله على أربعة أشياء العبارة والإشارة واللطائف والحقائق فالعبارة للعوام والإشارة للخواص واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء .
أقول : وتحقيق القول في المتشابه وتأويله يقتضي الإتيان بكلام مبسوط من جنس اللباب وفتح باب من العلم ينفتح منه لأهله الف باب . فنقول وبالله التوفيق : إن لكل معنى من المعاني حقيقة وروحا وله صورة وقالب وقد يتعدد الصور والقوالب لحقيقة واحدة وإنما وضعت الألفاظ للحقائق والأرواح ولوجودهما في القوالب تستعمل الألفاظ فيهما على الحقيقة لاتحاد ما بينهما ، مثلا لفظ القلم إنما وضع لآلة نقش الصور في الألواح من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب أو حديد أو غير ذلك بل ولا أن يكون جسما ولا كون النقش محسوسا أو معقولا ولا كون اللوح من قرطاس أو خشب بل مجرد كونه منقوشا
____________
(1) قال بعض أهل المعرفة : الوجه في انحصار الأحرف في السبعة أن لكل من الظهر والبطن طرفين فذاك حدود أربعة وليس لحد الظهر الذي من تحت مطلع لأن المطلع لا يكون الا من فوق فالحد أربعة والمطلع ثلاثة والمجموع سبعة ، منه قدس سره .

( 32 )

فيه وهذا حقيقة اللوح وحده وروحه فإن كان في الوجود شيء يستطر بواسطتة نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم فان الله تعالى قال ( علم بالقلم علم الا نسان ما لم يعلم ) بل هو القلم الحقيقي حيث وجد فيه روح القلم وحقيقته وحده من دون أن يكون معه ما هو خارج عنه وكذلك الميزان مثلا فإنه موضوع لمعيار يعرف به المقادير وهذا معنى واحد هو حقيقته وروحه وله قوالب مختلفة وصور شتى بعضها جسماني وبعضها روحاني كما يوزن به الأجرام والأثقال مثل ذي الكفتين والقبان وما يجري مجراهما وما يوزن به المواقيت والارتفاعات كالأسطرلاب وما يوزن به الدواير والقسي كالفرجار وما يوزن به الأعمدة كالشاقول وما يوزن به الخطوط كالمسطر وما يوزن به الشعر كالعروض وما يوزن به الفلسفة كالمنطق وما يوزن به بعض المدركات كالحس والخيال وما يوزن به العلوم والأعمال كما يوضع ليوم القيامة وما يوزن به الكل كالعقل الكامل إلى غير ذلك من الموازين .
وبالجملة : ميزان كل شيء يكون من جنسه ولفظة الميزان حقيقة في كل منها باعتبار حده وحقيقته الموجودة فيه وعلى هذا القياس كل لفظ ومعنى .
وأنت إذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانيا وفتحت لك أبواب الملكوت وأهلت لمرافقة الملأ الأعلى وحسن أولئك رفيقا فما من شيء في عالم الحس والشهادة إلا وهو مثال وصورة لأمر روحاني في عالم الملكوت وهو روحه المجرد وحقيقته الصرفة وعقول جمهور الناس في الحقيقة أمثلة لعقول الأنبياء والأولياء فليس للأنبياء والأولياء أن يتكلموا معهم إلا بضرب الأمثال لأنهم امروا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم وقدر عقولهم انهم في النوم بالنسبة إلى تلك النشأة والنائم لا ينكشف له شيء في الأغلب إلا بمثل ، ولهذا من كان يعلم الحكمة غير أهلها رأى في المنام أنه يعلق الدر في أعناق الخنازير ، ومن كان يؤذن في شهر رمضان قبل الفجر رأى أنه يختم على أفواه الناس وفروجهم . وعلى هذا القياس وذلك لعلاقة خفية بين النشئات فالناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وعلموا حقائق ما سمعوه بالمثال وعرفوا أرواح ذلك وعقلوا أن تلك الأمثلة كانت قشورا ،

( 33 )

قال الله سبحانه : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ) فمثل العلم بالماء والقلوب بالأودية والضلال بالزبد ثم نبه في آخرها فقال : ( كذلك يضرب الله الأمثال ) فكل ما لا يحتمل فهمك فإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي كنت في النوم مطالعا بروحك للوح المحفوظ ليتمثل لك بمثال مناسب ذلك يحتاج إلى التعبير فالتأويل يجري مجرى التعبير فالمفسر يدور على القشر ولما كان الناس إنما يتكلمون على قدر عقولهم ومقاماتهم فما يخاطب به الكل يجب أن يكون للكل فيه نصيب فالقشرية من الظاهريين لا يدركون إلا المعاني القشرية كما أن القشر من الانسان وهو ما في الاهاب والبشرة ومن البدن لا ينال الا قشر تلك المعاني وهو ما في الجلد والغلاف من السواد والصور وأما روحها وسرها وحقيقتها فلا يدرك الا أولوا الألباب وهم الراسخون في العلم وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه لبعض أصحابه حيث قال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ولكل منهم حظ قل أم كثر وذوق نقص أو كمل ولهم درجات في الترقي إلى أطوارها وأغوارها وأسرارها وأنوارها وأما البلوغ للاستيفاء والوصول إلى الأقصى فلا مطمع لأحد فيه ولو كان البحر مدادا لشرحه والأشجار اقلاما ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) .
ومما ذكر يظهر سبب اختلاف ظواهر الآيات والأخبار الواردة في أصول الدين وذلك لأنها مما خوطب به طوائف شتى وعقول مختلفة فيجب أن يكلم كل على قدر فهمه ومقامه ومع هذا فالكل صحيح غير مختلف من حيث الحقيقة ولا مجاز فيه أصلا .
واعتبر ذلك بمثال العميان والفيل وهو مشهور وعلى هذا فكل من لم يفهم شيئا من المتشابهات من جهة أن حمله على الظاهر كان مناقضا بحسب الظاهر لأصول صحيحة دينية وعقائد حقة يقينية عنده فينبغي أن يقتصر على صورة اللفظ لا يبدلها ويحيل العلم به إلى الله سبحانه والراسخين في العلم ثم يرصد لهبوب رياح الرحمة من عند الله تعالى ويتعرض لنفحات أيام دهره الآتية من قبل الله

( 34 )

تعالى لعل الله يأتي له بالفتح أو أمر من عنده ويقضي الله امرا كان مفعولا فان الله سبحانه ذم قوما على تأويلهم المتشابهات بغير علم فقال سبحانه : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) .