سورة التوبة
وهي مدنية كلها ، وقال بعضهم : غير آيتين ( لقد جاءكم رسول من
أنفسكم
) إلى آخر السورة ، وعدد آيها مأة وتسع وعشرون آية ، نزلت سنة تسع
من الهجرة ، وفتحت مكة سنة ثمان ، وحج رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم حجة الوداع سنة عشر .


في المجمع : عن أمير المؤمنين عليه السلام لم ينزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) على رأس سورة براءة لأن بسم الله للأمان والرحمة ، ونزلت براءة لدفع الأمان والسيف .
وفيه ، والعياشي : عن الصادق عليه السلام الأنفال وبراءة واحدة .
(1) براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين : أي هذه براءة والمعنى : أن الله ورسوله بريئان من العهد الذي عاهدتم به المشركين . إن قيل : كيف يجوز أن ينقض النبي العهد ؟ اجيب بوجهين .
أحدهما : أنه كان قد شرط عليهم بقاء العهد إلى أن يرفعه الله بوحي . والثاني : أنهم قد نقضوا أو هموا بذلك ، فأمر الله أن ينقض عهدهم .
وفي المجمع نسب الوجهين إلى الرواية .
(2) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر : خطاب للمشركين أمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤا لا يتعرض لهم ، ثم يقتلون حيث وجدوا .
القمي : عن الرضا عليه السلام فأجل الله المشركين الذين حجوا تلك السنة أربعة أشهر حتى يرجعوا إلى مأمنهم ، ثم يقتلون حيث وجدوا .


( 319 )

وعن الصادق عليه السلام : نزلت هذه الآية بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة ، وكان سنة من العرب في الحج أنه من دخل مكة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحل له إمساكها ، وكانوا يتصدقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف ، فكان من وافى مكة يستعير ثوبا ويطوف فيه ثم يرده ، ومن لم يجد عارية اكترى ثيابا ، ومن لم يجد عارية ولا كرى ولم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عريانا ، فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة ، فطلبت عارية أو كرى فلم تجده ، فقالوا لها : إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقي بها ، فقالت : وكيف أتصدق بها وليس لي غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة ، وأشرف لها الناس فوضعت إحدى يديها على قبلها وأخرى على دبرها ، وقالت : اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة ، فقالت : إن لي زوجا ، وكانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلا من قاتله ، ولا يحارب إلا من حاربه وأراده ، وقد كان نزل عليه في ذلك من الله عز وجل : ( فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاتل أحدا قد تنحى عنه ، واعتزله حتى نزلت عليه سورة براءة وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلا الذين قد كان عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة إلى مدة ، منهم : صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، فقال الله عز وجل : ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ثم يقتلون حيث ما وجدوا فهذه أشهر السياحة ، عشرين من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشرا من ربيع الآخر ، فلما نزلت الآيات من أول براءة دفعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر وأمره بأن يخرج إلى مكة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر فلما خرج أبو بكر ، نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه


( 320 )

السلام في طلبه فلحقه بالروحاء (1) فأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله أنزل في شيء قال : إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني .
والعياشي : عن الصادق عليه السلام كان الفتح في سنة ثمان ، وبراءة في سنة تسع ، وحجة الوداع في سنة عشر .
وعنه عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس ، فنزل جبرئيل فقال : لا يبلغ عنك إلا علي عليه السلام فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا فأمره أن يركب ناقته العضباء (2) وأمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه البراءة ويقرأها على الناس بمكة ، فقال أبو بكر : أسخطه فقال : لا إلا أنه انزل عليه : ( أنه لا يبلغ إلا رجل منك ) ، فلما قدم علي عليه السلام مكة وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحج الأكبر ، قام ثم قال : إني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليكم فقرأها عليهم ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) عشرين من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشرا من شهر ربيع الآخر ، قال : لا يطوف بالبيت عريان ، ولا عريانة ، ولا مشرك ، إلا من كان له عهد من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمدته إلى هذه الأربعة أشهر .
قال : وفي خبر محمد بن مسلم قال أبو بكر : يا علي هل نزل في شيء منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : لا ، ولكن أبى الله أن يبلغ عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا رجل منه ، فوافى الموسم فبلغ عن الله ، وعن رسوله بعرفة ، والمزدلفة ، ويوم النحر ، عند الجمار في أيام التشريق كلها ينادي ( براءة من الله ورسوله ) . الآية ، ويقول : ولا يطوفن بالبيت عريان .
____________
(1) الروحاء موضع بين الحرمين ثلاثين أو أربعين ميلا من المدينة .
(2) في الحديث لا تضح بالعضباء بالمد مكسورة القرن الداخل أو مشقوقة الاذن قاله في المغرب وغيره والعضباء اسم ناقة كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله قيل هو علم لها وقيل كانت مشقوقة الاذن وفي كلام الزمخشري وهو منقول من قولهم ناقة عضباء وهي القصيرة اليد .

( 321 )

وفي المجمع : روى أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولاّه أيضا الموسم وأنه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع أبو بكر .
وفيه ، والعياشي عن الباقر عليه السلام قال : خطب علي عليه السلام الناس واخترط سيفه ، فقال : لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يحجن البيت مشرك ، ومن كانت له مدة فهو إلى مدته ، ومن لم تكن له مدة فمدته أربعة أشهر ، وكان خطب يوم النحر فكانت عشرون من ذي الحجة ، ومحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشر من ربيع الآخر . واعلموا أنكم غير معجزي الله : لا تفوتونه وإن أمهلكم . وأن الله مخزي الكافرين : مذلهم بالقتل والأسراف بالدنيا والعذاب في الآخرة .
(3) وأذان من الله ورسوله إلى الناس إيذان وإعلام ، وهو كالأمان والعطاء بمعنى الأيمان والأعتداء يوم الحج الاكبر : قيل : يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، ولأن الأعلام كان فيه .
والقمي ، والعياشي : عن السجاد عليه السلام : الأذان : أمير المؤمنين عليه السلام .
القمي وفي حديث آخر : قال أمير المؤمنين عليه السلام : كنت أنا الأذان في الناس ، والأخير مروي في المعاني . والعلل : عن الصادق عليه السلام وزادا ، فقيل له : فما معنى هذه اللفظة ، الحج الأكبر ؟ فقال : إنما سمي الأكبر لأنها كانت سنة حج فيها المسلمون والمشركون ولم يحج المشركون بعد تلك السنة .
وفي الكافي ، والمعاني ، والعياشي : عنه عليه السلام في عدة أخبار يوم الحج الأكبر : هو يوم النحر ، الأصغر العمرة .
وفي بعض أخبار الكافي ، والعياشي : عنه عليه السلام الحج الأكبر : الوقوف بعرفة ، ورمي الجمار ، والحج الأصغر العمرة ، وزاد العياشي وجمع (1) بعد عرفة . أن الله : بأن الله . بريء
____________
(1) وجمع بالفتح فالسكون المشعر الحرام وهو اقرب الموقفين الى مكة المشرفة ومنه حديث ادم عليه السلام ثم انتهى الى جمع فجمع فيها بين المغرب والعشاء قيل سمي به لان الناس يجتمعون فيه ويزدلفون الى الله تعالى اي يتقربون إليه بالعبادة والخير والطاعة وقيل لان آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف ودنا منها وقيل لانه يجمع فيه المغرب والعشاء .
( 322 )

من المشركين ورسوله : عطف على الضمير في بريء ولا تكرير فيه ، لأن الأول كان إخبارا بثبوت البراءة ، وهذا إخبار بإعلامها الناس . فإن تبتم : من الكفر والغدر . فهو خير لكم وإن توليتم : عن التوبة . فاعلموا أنكم غير معجزي الله : غير سابقين الله ولا فائتين بأسه وعذابه . وبشر الذين كفروا بعذاب أليم : في الآخرة .
(4) إلا الذين عاهدتم من المشركين : استثناء من المشركين واستدراك ، وكأنه قيل لهم ـ بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين ـ : ولكن الذين عاهدوا منهم . ثم لم ينقصوكم شيئا : من شروط العهد ولم ينكثوا ولم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط ولم يظاهروا : ولم يعاونوا . عليكم أحدا : من أعدائكم . فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم : إلى تمام مدتهم ، ولا تجعلوا الوفي كالغادر . إن الله يحب المتقين : تعليل وتنبيه على أن تمام عهدهم من باب التقوى .
(5) فإذا انسلخ : انقضى . الأشهر الحرم : التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها .
العياشي : عن الباقر عليه السلام هي يوم النحر إلى عشر مضين من ربيع الآخر . فاقتلوا المشركين : الناكثين . حيث وجدتموهم : من حل وحرم . وخذوهم : وأسروهم ، والأخيذ : الأسير . واحصروهم : واحبسوهم وحيلوا بينهم وبين المسجد الحرام . واقعدوا لهم كل مرصد : كل ممر وطريق ترصدونهم به ، لئلا يبسطوا في البلاد . فإن تابوا : عن الشرك بالأيمان . وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة : تصديقا لتوبتهم . فخلوا سبيلهم : فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك . إن الله غفور رحيم : يغفر لهم ما قد سلف من كفرهم وغدرهم .
(6) وإن أحد من المشركين : المأمور بالتعرض لهم استجارك : استأمنك وطلب منك جوارك . فأجره : فآمنه . حتى يسمع كلام الله : ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر ، فإن معظم الأدلة فيه . ثم أبلغه مأمنه : موضع أمنه إن لم يسلم .
القمي : قال : اقرأ عليه وعرفه ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مأمنه . ذلك بأنهم قوم لا يعلمون : ما الأيمان ، وما حقيقة ما تدعوهم إليه فلابد من أمانهم حتى يسمعوا ويتدبروا .


( 323 )

(7) كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله كيف يكون للمشركين عهد صحيح ، ومحال أن يثبت لهم عهد مع إضمارهم الغدر والنكث ، فلا تطمعوا في ذلك . إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام : يعني ولكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام ولم يظهر منهم نكث . فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم : أي فتربصوا أمرهم ، فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء . إن الله يحب المتقين .
(8) كيف : تكرار لأستبعاد ثباتهم على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوما ، أي كيف يكون لهم عهد . وإن يظهروا عليكم: وحالهم أنهم إن يظفروا بكم . لا يرقبوا فيكم : لا يراعوا فيكم . إلا : قرابة أو حلفا . ولا ذمة : عهدا أو حقا . يرضونكم بأفواههم : بوعد الأيمان ، والطاعة ، والوفا بالعهد . وتأبى قلوبهم : ما يتفوه به أفواههم ، استيناف لبيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد المؤدية إلى عدم مراقبتهم عند الظفر . وأكثرهم فاسقون : متمردون لا عقيدة تزعهم (1) ، ولا مروة تردعهم (2) ، وتخصيص الأكثر لما يوجد في بعض الكفار من التعفف عما يثلم العرض ، والتفادي (3) عن الغدر .
(9) اشتروا بآيات الله : استبدلوا بالقرآن وبيناته . ثمنا قليلا : عرضا يسيرا ، وهو اتباع الأهواء والشهوات . فصدوا عن سبيله : فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم . إنهم ساء ما كانوا يعملون .
(10) لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة وأولئك (4) هم المعتدون : المتجاوزون الغاية في الظلم والكفر .
(11) فإن تابوا : عن الكفر ، ونقض العهد . وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم : فهم إخوانكم . في الدين : لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم . ونُفَصّل الآيات
____________
(1) تزعمهم أي تكفهم وتمنعهم ( منه رحمه الله ) .
(2) ردعه عنه كمنعه كفه ورده فارتدع .
(3) تفادى منه تحاماه الناس توقوه واجتنبوا .
(4) والفائدة في الاعادة ان الاول في صفة الناقضين للعهد والثاني في صفة الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا وقيل إنما كرر تأكيدا .

( 324 )

ونبينها لقوم يعلمون : اعتراض للحث على تأمل ما فصل .
(12) وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم وعابوه فقاتلوا أئمة الكفر أي فقاتلوهم ، وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأنهم صاروا بذلك ذوي الرياسة ، والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل . إنهم لا أيمان لهم : على الحقيقة ، وإلا لما طعنوا ولم ينكثوا ، وقريء بكسر الهمزة .
ورواها في المجمع : عن الصادق عليه السلام يعني لا عبرة بما أظهروه من الأيمان . لعلهم ينتهون : متعلق ب‍ ( قاتلوا ) ، أي ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه ، لا إيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين ، وهذا من غاية كرمه سبحانه وفضله .
القمي : نزلت هذه الآية في أصحاب الجمل ، وقال أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل : ما قاتلت هذه الفئة الناكثة إلا بآية من كتاب الله ، يقول الله : ( وإن نكثوا ايمانهم ) الآية .
وفي قرب الأسناد والعياشي : عن الصادق عليه السلام قال : دخل علي أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة والزبير ، فقلت لهم : كانا من أئمة الكفر ، أن عليا يوم البصرة لما صف الخيول قال لأصحابه : لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني وبين الله تعالى وبينهم ، فقام إليهم فقال : يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم ؟ قالوا : لا ، قال : فحيفا في قسمة ؟ قالوا : لا ، قال : فرغبة في دنيا أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم فنقمتم علي فنكثتم بيعتي ؟ قالوا : لا ، قال : فأقمت فيكم الحدود وعطلتها عن غيركم ؟ قالوا : لا ، قال : فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لا تنكث ؟ إني ضربت الأمر أنفه وعينه فلم أجد إلا الكفر ، أو السيف ثم ثنى إلى أصحابه فقال : إن الله تعالى يقول في كتابه : ( وإن نكثوا إيمانهم ) الآية .
ثم قال علي عليه السلام : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، واصطفى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة أنهم لأصحاب هذه الآية وما قوتلوا منذ نزلت .
والعياشي عنه عليه السلام من طعن في دينكم هذا فقد كفر ، قال الله : ( وطعنوا في


( 325 )

دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام عذرني الله من طلحة والزبير ، بايعاني طائعين غير مكرهين ، ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ، والله ما قوتل أهل هذه الآية منذ نزلت حتى قاتلتهم ( وإن نكثوا أيمانهم ) ، الآية وفي معناه أخبار كثيرة .
(13) ألا تقاتلون قوما : تحريض على القتال . نكثوا أيمانهم : التي حلفوها مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم فعاونوا . وهموا بإخراج الرسول : حين تشاوروا في أمره بدار الندوة حتى أذن الله له في الهجرة فخرج بنفسه على ما سبق ذكره في قوله : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ) . وهم بدأوكم أول مرة بالمعاداة والمقاتلة ، والبادي أظلم ، فما يمنعكم أن تقاتلوهم بمثله . أتخشونهم (1) : أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم ؟ . فالله أحق أن تخشوه : فقاتلوا أعداءه ، ولا تتركوا أمره . إن كنتم مؤمنين : فإن المؤمن لا يخشى إلا ربه .
(14) قاتلوهم : أمر بالقتال بعد بيان موجبه والتوبيخ على تركه . يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم : وعد لهم إن قاتلوهم بالنصر عليهم ، والتمكن من قتلهم وإذلالهم . ويشف صدور قوم مؤمنين .
(15) ويذهب غيظ قلوبهم : لما لقوا منهم من المكروه ، وقد أنجز الله هذه المواعيد كلها ، والآية من دلائل النبوة .
والعياشي : عن أبي الأعز التيمي قال : كنت واقفا يوم صفين إذ نظرت إلى العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب وهو شاك في السلاح إذ هتف به هاتف من أهل الشام يقال له عرار بن أدهم : يا عباس هلم إلى البراز ثم تكافحا (2) بسيفهما مليا (3) لا
____________
(1) لفظة استفهام والمراد به تشجيع المؤمنين وفي ذلك غاية الفصاحة لانه جمع بين التقريع والتشجيع .
(2) في حديث حسان لا تزال مؤيدا بروح القدس ما كافحت عن رسول الله ( ص ) أي دافعت عنه من المكافحة وهي المدافعة تلقاء الوجه .
(3) قوله تعالى واهجرني مليا أي حينا طويلا .

( 226 )

يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لامته إلى أن حط العباس درع الشامي فأهوى إليه بالسيف انتظم به جوانح الشامي فخر الشامي صريعا وكبر الناس تكبيرة ارتجت لها الأرض ، فسمعت قائلا يقول : ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ) الآية ، فالتفت فإذا هو أمير المؤمنين ويتوب الله على من يشآء : استئناف أخبار بأن بعضهم يتوب عن كفره ، وقد كان ذلك أيضا . والله عليم : بما كان وما سيكون . حكيم : لا يفعل إلا ما فيه الحكمة .
(16) أم حسبتم أن تتركوا : أم منقطعة ، وفي الهمزة معنى التوبيخ ، يعني إنكم لا تتركون على ما أنتم عليه . ولّما يعلم الله الذين جاهدوا منكم : ولم يتبين المخلصون منكم ، وهم المجاهدون في سبيل الله لوجه الله . ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة : يعني المخلصين غير المتخذين من دونهم بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم ، ولما دلت على أنه متوقع قيل : أراد بنفي العلم : نفي العلوم .
والقمي : أي لما يرى فأقام العلم مقام الرؤية ، لأنه قد علم قبل أن يعلموا .
وعن الباقر عليه السلام يعني بالمؤمنين آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوليجة : البطانة .
وفي الكافي : عنه عليه السلام يعني بالمؤمنين الأئمة عليهم السلام .
وعنه عليه السلام : لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين ، فإن كل سبب ونسب وقرابة ووليجة وبدعة وشبهة منقطع إلا ما أثبته القرآن .
وعن أبي محمد الزكي عليه السلام الوليجة : الذي يقام دون ولي الأمر ، والمؤمنون في هذا الموضع : هم الأئمة عليهم السلام الذين يؤمنون على الله فيجيز أمانهم . والله خبير بما تعملون : يعلم غرضكم منه .
(17) ما كان للمشركين : ما صح لهم ولا استقام . أن يعمروا مساجد الله : شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام ، وقريء بالتوحيد . شاهدين على أنفسهم بالكفر : بإظهار الشرك ، ونصب الأصنام حول البيت .


( 327 )

وفي الجوامع : روي أن المسلمين عيروا أسارى بدر ، ووبخ على العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقطيعة الرحم ، فقال العباس : تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا ؟ فقالوا : أو لكم محاسن ؟ قال : نعم ، إنا نعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني (1) فنزلت . أولئك حبطت أعمالهم: التي هي العمارة ، والسقاية ، والحجابة ، وفك العناة ، التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك . وفي النار هم خالدون لأجله .
(18) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة : إنما تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية ، والعمارة يتناول بناؤها ، ورمَ ما (2) استرم منها ، وكنسها ، وتنظيفها وتنويرها بالسرج ، وزيارتها للعبادة والذكر ، ودرس العلم وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا ، وفي الحديث القدسي إن بيوتي في الأرض : المساجد ، وإن زواري فيها : عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ، ثم زارني في بيتي . فحق على المزور أن يكرم زائره ، وفي الحديث النبوي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا ، لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة . ولم يخش إلا الله : يعني في أبواب الدين بأن لا يختار على رضاء الله رضاء غيره فإن الخشية على المحاذير جبلية لا يكاد العاقل يتمالك عنها . فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين : ذكره بصيغة التوقع قطعا لأطماع المشركين في الأهتداء ، والأنتفاع بأعمالهم .
(19) أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن : كإيمان من آمن . بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله : أو جعلتم أهل السقاية والعمارة كمن آمن .
وفي المجمع : عن الباقر عليه السلام أنه قرأ سقاة الحاج ، وعمرة المسجد الحرام .
____________
(1) العاني الاسير ومنه اطعموا الجايع وفكوا العاني وكل سن ذل واستكان وخضع فقد عنى وهو عان والمرأة عانية والجمع عوان ومنه الخبر اتقوا الله في النساء فانهن عوان عندكم أي اسراء كالاسراء .
(2) رممت الشيء ارمه وارمه رما ومرمة إذا أصلحته .

( 328 )

والقمي : عنه عليه السلام نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب عليه السلام قوله : ( كمن آمن بالله ) ، الآية .
وعنه عليه السلام : نزلت في علي عليه السلام ، والعباس ، وشيبة ، فقال العباس : أنا أفضل لأن سقاية الحاج بيدي ، وقال شيبة : أنا أفضل لأن حجابة البيت بيدي ، وقال علي أنا أفضل فإني آمنت قبلكما ، ثم هاجرت وجاهدت ، فرضوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله .
وفي المجمع : ما يقرب منه ، وزاد ضربت خرطومكما (1) بالسيف حتى آمنتما بالله .
والعياشي : عن الصادق عليه السلام ما في معناه ، وذكر عثمان بن أبي شيبة مكان شيبة .
وفي الكافي ، والعياشي : عن أحدهما عليهما السلام نزلت في حمزة ، وعلي ، وجعفر ، والعباس ، وشيبة إنهم فخروا بالسقاية ، والحجابة ، فأنزل الله ، وكان علي ، وحمزة وجعفر الذين آمنوا بالله ، واليوم الآخر ، وجاهدوا في سبيل (2) الله . لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين : بالشرك ، والمسوين بينهم وبين المؤمنين .
(20) الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله : أعظم درجة وأكثر كرامة ممن لم يستجمع هذه الصفات . وأولئك هم الفائزون : المختصون بالفوز ونيل الحسنى عند الله .
(21) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم : دائم ، والتنكير المبشر به اشعار بأنه وراء التوصيف والتعريف .
(22) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم : يستحقر دونه كل أجر .
____________
(1) قوله تعالى سسمه على الخرطوم هو بضم الخاء الانف وهو أكرم موضع في الوجه كما أن الوجه اكرم موضه في الجسد .
(2) وروي ان المشركين قالوا لليهود نحن سقات الحجيج وعمار المسجد الحرام فنحن أفضل أم محمد وأصحابه فقالت اليهود أنتم أفضل فنزلت .

( 329 )

(23) يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان اختاروه عليه ، قيل : لما أمروا بالهجرة فكان يمنعهم منها أقرباؤهم فمنهم من كان يتركها لأجلهم فنزلت .
وفي المجمع : عنهما عليهما السلام نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب إلى قريش يخبرهم بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد فتح مكة .
والعياشي عن الباقر عليه السلام الكفر في الباطن في هذه الآية : ولاية الأول والثاني ، والأيمان : ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام . ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون : بوضعهم الموالاة في غير موضعها .
(24) قل إن كان آبآؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم : أقرباؤكم ، وقريء عشيراتكم وأموال اقترفتموها : اكتسبتموها . وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا (1) حتى يأتي الله بأمره : وعيده ، والأمر عقوبة . والله لا يهدي القوم الفاسقين : لا يرشدهم .
القمي : لما أذن أمير المؤمنين عليه السلام بمكة أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك العام ، جزعت قريش جزعا شديدا ، وقالوا : ذهبت تجارتنا ، وضاع عيالنا ، وخربت دورنا ، فأنزل الله عز وجل في ذلك : ( قل ) يا محمد ( إن كان آباؤكم ) ، الآية .
أقول : في الآية تشديد عظيم ، وقل من يتخلص عنه .
وفي الحديث : لا يجد أحدكم طعم الأيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله .
(25) لقد نصركم الله في مواطن كثيرة (2) يعني مواطن الحرب وهي مواقعها ومواقفها .
____________
(1) تربصت الامر تربصا انتظرته وتربصت بفلان الامر توقعت نزوله به .
(2) في الكافي عن علي عن بعض أصحابه ذكره قال لما سم المتوكل نذران عوفي أن يتصدق بمال كثير فلما عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير فاختلفوا عليه فقال بعضهم مأة الف وقال بعضهم عشرة آلاف وقالوا فيه أقاويل مختلفة فاشتبه عليه الأمر فقال رجل من ندمائه يقال صفعان اتبعث الى هذا الأسود فتسأله عنه فقال له المتوكل من تعني ويحك فقال ابن