أقول : في الحديث بيان فضيلة أهل البيت عليهم السلام ، وأنّ بقاعهم أفضل البقاع ، لانتسابها إليهم ، ولولاهم لم يعرف لمكّة فضلها ، ولولاهم لم يعبد الله تعالى ، ولم يعرف لخلقه ، لأنهم من أشرفهم ، وأنهم أدلاّء على الله وأبوابه التي منها تؤتى ، كذلك شاء الله عزّ وجلّ لهم .

وداع قبر النبي صلّى الله عليه وآله :
في صحيح معاوية بن عمّار قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : « إذا أردت أن تخرج من المدينة فاغتسل ثم ائت قبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بعدما تفرغ من حوائجك ، فودّعه واصنع ما صنعت عند دخولك . . . » (1) .
قوله عليه السلام : « واصنع ما صنعت عند دخولك » : قد بيّنه في كلام آخر له وهو : « فاغتسل قبل أن تدخلها ، أو حين تريد أن تدخلها ، ثم تأتي قبر النبي ، صلّى الله عليه وآله فتسلّم . . . »(2) .
وصحيح يونس بن يعقوب قال : سألت أبا عبد الله عن وداع قبر رسول الله صلى عليه وآله ؟ فقال : « تقول : صلى الله عليك ، السلام عليك لا جعله الله آخر تسليمي عليك » (3) .
وداع قبر أمير المؤمنين عليه السلام بعد ما قضى الزائر من زيارته المأثورة وطره :
قال ابن قولويه : حدّثني محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ـ في كتاب الجامع ـ يروي عن أبي الحسن عليه السلام قال : إذا أردت أن تودّع قبر أمير المؤمنين عليه السلام فقل :
____________
1 ـ كامل الزيارات 26 ، الباب 7 .
2 ـ كامل الزيارات 15 ، الباب 3 .
3 ـ كامل الزيارات 26 ـ 27 ، الباب 7 الوسائل 10 | 281 .
أقول : من تسليم الوداع ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام عند دفن فاطمة عليها السلام في آخر ما قال : « والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم ، فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظن . . . » النهج 10 | 165 الخطبة 195 .

(181)

« السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، أستودعك الله وأسترعيك وأقرأ عليك السلام آمنّا [ إيماناً ] بالله وبالرسول وبما جاءت (1) به . . . » (2) .

سلام وداع قبر الحسين عليه السلام (3) :
ثم قالا ـ أي الشيخ المفيد والطوسي ـ : ثم أرجع إلى مشهد الحسين عليه السلام للوداع ، فإذا أردت أن تودّعه فقف عليه كوقوفك أول الزيارة واستقبله بوجهك وقل : « السلام عليك ياولي الله ، السلام عليك يا أبا عبد الله ، أنت لي جُنّة من العذاب ، وهذا أوان انصرافي غير راغب عنك ، ولا مستبدل بك سواك ، ولا مؤثر عليك غيرك ، ولا زاهد في قربك ، وقد جدت بنفسي للحدثان ، وتركت الأهل والأوطان » ، ـ إلى أن قال : ـ ثم أشر إلى القبر بمسبحتك اليمنى وقل : « سلام الله ، وسلام ملائكته المقربين ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، يا بن رسول الله ، عليك وعلى روحك وبدنك ، وعلى ذرّيّتك ، ومن حضرك من أوليائك ، أستودعك الله ، وأسترعيك ، وأقرأ عليك السلام . . . » (4) .
أقول : قد جاء في سلام وداع قبر أبي الفضل العباس بن علي عليهما السلام :
« السلام عليك يا مولاي ، سلام مودّع لا قال ولا سئم ، فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظنٍّ بما وعد الله الصابرين ؛ يا مولاي
____________
1 ـ الظاهر « جاء به » .
2 ـ كامل الزيارات 46 ، الباب 12 . هذا سلام الوداع بعد وفاته ، وإليك من سلام الوداع في حياته عليه السلام ففي صادقي : « جاء رجل إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو في مسجد الكوفة فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فردّ عليه فقال : جعلت فداك إني أردت المسجد الأقصى فأردت أن أسلّم عليك وأودّعك ، فقال له : وأي شيءٍ أردت بذلك ؟ فقال : الفضل جعلت فداك ، قال : فبع راحلتك وكل زادك وصلِّ في هذا المسجد . . . » فروع الكافي 3 | 491 . والشاهد هو « فأردت أن أسلّم عليك وأودّعك » وله نظائر في أحاديثهم عليهم السلام .
3 ـ لا يخفى أن سلام الوداع لقبر الحسين عليه السلام مذكور بتفصيل في كامل الزيارات 252 ـ 256 ، الباب 84 ، الخاصّ بوداع قبر الحسين عليه السلام .
4 ـ البحار 101 | 203 ، و257 ، الباب 21 ، الزيارات المختصة بالوداع 280 ـ 284 ، و363.

(182)

لا جعله الله آخر العهد منّي لزيارتك ، ورزقني العود إليك ، والمقام في حرمك ، والكون في مشهدك ، آمين ربّ العالمين » (1) .
وجاء لجميع الأئمّة وأولادهم عليهم السلام تسليمات الوداع ، لكلّ واحد واحد منهم فليراجع بحار الشيخ المجلسي (2) .
ومن الجدير للمودّع أن ينوي العود ، كما جاء التصريح في الوداع الأخير (3) .

يبقى سؤال :
يختلج بالبال هنا سؤال وقد صرّح به بعض زملائنا لا بأس بإيراده والجواب عنه . وهو : إنّا نجد في جميع الزيارات ـ حتى الوداعيّة منها ـ قد كرّر فيها السلام كثيراً ، لماذا هذا التكرار ؟ أوَليس من ورد على آخر وكان بمشهد ومرأَىً منه يسلّم في مجلس واحد مرّة واحدة ، ولو كرّر السلام بأن قال : السلام عليكم ، السلام عليكم ، عدّه العقلاء مستهزئاً . ومشاهد قبور
____________
1 ـ البحار 101 | 362 .
2 ـ البحار 102 | 13 ـ 324 .
3 ـ أي قبر أبي الفضل العباس عليه السلام ، ولا تخصّ نيّة العود به ، بل هي مطلوبة في الجميع ، حتى في سلام الوداع المتداول بين الناس ؛ لما جاء في المثل قولهم : ( العود أحمد ) أي أكثر حمداً ، قال الشاعر :

فـلـم تـجر إلاّ جـئـت فـي الـخيـر سابقـاً * ولا عـدت إلاّ أنـت فـي الـعـود أحـمـد

لسان العرب 3 | 158 ـ حمد ـ .
قال الزمخشري بعد المثل : لأنك لا تعود إلى شيء في الغالب إلاّ بعد خبرته . . . قال الأخطل : ( الطويل ) . .

فـقـلت لسـاقـيـنـا عـليـك فـعُـد بـنـا * إلـى مـثـلهـا بـالأمـس فـالعـود أحـمـد

. . . المستقصى 1 | 335 .
وقال الميداني بعد المثل : . . . يعني الابتداء محمود والعود أحقّ بأن يحمد منه . . . مجمع الأمثال 2 | 34 ـ 35 .

لـعـادة الـمـحـمـود عـد يا أحـمـد * فـالـعـود لا شـك إلـيـه يـحـمـد

فرائد اللآل في مجمع الأمثال 2 | 29 .

(183)

المعصومين عليهم السلام كمشاهد حضورهم ، لأنّ موتهم وحياتهم سواء ، يرون الزائر ، ويسمعون كلامه ، وسلامه ، ويردّون جوابه ، كما جاء ذلك في استئذان الدخول إلى الروضات المنورة أوّله :
« اللّهمّ إني وقفت على باب من أبواب بيوت نبيك ، وقد منعت الناس أن يدخلوا إلاّ بإذنه ـ إلى قوله : ـ وأعلم أنّ رسولك وخلفاءك عليهم السلام أحياء عندك يرزقون ، يرون مقامي ، ويسمعون كلامي ، ويردّون سلامي ، وإنّك حجبت عن سمعي كلامهم ، وفتحت باب فهمي بلذيذ مناجتهم » (1) ...
وعليه فإن أراد المكرّر للسلام سماع سلامه ، فيسمعون ذلك من دون افتقار إلى التكرار ، وإن كانت الأخرى فلا غاية متصورة إلا الاستهزاء ، أو على الأقل يكون من الاستعمال المستهجن الساقط عن الأقطار .

والجواب عنه :
إنا نمنع أن يكون تكرار السلام من المستهجن ، إذا كان المسلّم ممتدحاً لصاحبه ، وذكر بين كلّ سلامين فضيلة من فضائله . نعم ، إذا لم يفصل بين السلامين كما سبق بأن قال : السلام عليكم ، السلام عليكم ، لعلّه يُعدّ عند العقلاء هازلاً أو لاغياً وإن كان في مقام المدح ، وأين هذا من قول : السلام عليك مكرّراً مع الفصل بذكر فضيلة من فضائله ، كما في جميع الزيارات ، منها زيارة أمير المؤمنين عليه السلام وفيها :
« السلام على المولود في الكعبة ، المزوّج في السماء ، السلام على أسد الله في الوغى ، السلام على من شُرّفت به مكّة ومنى ، السلام على صاحب الحوض وصاحب اللواء ، السلام على خامس أهل العباء . . . » (2) .
ولم أجد في الزيارات المأثورة ، ـ ولا واحدة منها ـ زيارة مشتملة على التسليمات المتكررة ، إلا وفيها بين كلّ تسليمة وتسليمة ذكر فضيلة من فضائل المزور ، أفهل ترى في هذا النوع من التكرار استهجاناً ؟ ، كلاّ ، ولعلّ
____________
1 ـ البحار 100 | 160 ـ 161 .
2 ـ البحار 100 | 302 .

(184)

وجه تعديد فضائل المزور ، والسلام المكرّر عليه ، رجاء أن يقع بعضها موقع القبول ، أو إظهار أنا لا نمتلك سوى أن نقف أمام ضريحك المنوّر ، ونسلّم عليك وعلى أهل بيتك ، والأرواح المنيخة بفنائك ، أو أنّ علينا الدخول إلى حرمك ، وذكر فضائلك والسلام الكثير ، وأنا نأمل بذلك الشفاعة والغفران . فتكرار السلام لإحدى هذه الغايات أو كلّها حسن ولا استهجان فيه .
ثم سلام الوداع لم يخصّ الإنسان ، وقد روى الصدوق عن الصادق عليه السلام قال : لما انتهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى الركن الغربي (1) فقال له الركن : يا رسول الله ألستُ قعيداً من قواعد بيت ربّك ؟ فما لي لا أُستَلَم ؟ فدنا منه النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال له : اسكن عليك السلام غير مهجور (2) .
بـيان :
يأتي الحديث نفسه في الأمر الثالث من الخاتمة ، في سلام الكائنات ، وفيه احتمال أن يكون السلام النبوي على الركن من سلام الوداع ، ومن ثم ذكرناه هنا . واحتمالان آخران فيه بأن يكون جواباً إما لشكوى الركن بشهادة كلمة « غير مهجور » ، أو الجواب عن سلام الركن قد سمعه وعلمه صلّى الله عليه وآله دوننا .
ومن سلام الوداع ما وعدناك من ذكر سلام الوداع لشهر الله ، وهو ما جاء من دعاء الإمام السجّاد عليه السلام في وداع شهر رمضان (3) : « . . . السلام عليك يا شهر الله الأكبر ، ويا عيد أوليائه ، السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات ، ويا خير شهر في الأيّام والساعات ، السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال ، ونشرت فيه الأعمال ، السلام عليك من قرينٍ جلّ قدره موجوداً ، وأفجع فقده مفقوداً ، ومرجوّ آلم فراقه ، السلام عليك من أليف آنس مقبلاً فَسَرَّ ، وأوحش منقضياً فَمَضَّ ، السلام عليك من
____________
1 ـ وهو بعد الشامي البادئ بالحجر الأسود في الطواف ثم الركن الشامي ، ثم الغربي ، ثم اليماني ، ويختم بالحجر الأسود ، وهو الركن العراقي فصارت الأركان أربعة .
2 ـ علل الشرائع 429 ، البحار 99 | 222 ـ 223 .
3 ـ الدعاء الخامس والأربعون من الصحيفة السجادية .

(185)

مجاور رقّت فيه القلوب وقلّت فيه الذنوب ، السلام عليك من ناصرٍ أَعانَ على الشيطان ، وصاحبٍ سَهَّلَ سُبُل الإحسان ، السلام عليك ما أكثر عتقاء الله فيك ، وما أسعد من رَعى حرمتك بك ، السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب ، وأسترك لأنواع العيوب ، السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين ، وأهيبك في صدور المؤمنين ، السلام عليك من شهر لا تنافسه الأيّام ، السلام عليك من شهر هو من كلّ أمر سلام ، السلام عليك غير كريه المصحابة ، ولا ذميم الملابسة ، السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات ، وغسلت عنّا دنس الخطيئات ، السلام عليك غير مودّعٍ بَرَماً ولا متروكٍ صيامه سَأَماً ، السلام عليك من مطلوب قبل وقته ، ومحزون عليه قبل فوته ، السلام عليك كم من سوءٍ صُرِف بك عنّا ، وكم من خير أفيض بك علينا ، السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك ، وأشدّ شوقنا غداً إليك ، السلام عليك وعلى فضلك الذي حُرمناه وعى ماضٍ من بركاتك سلبناه ، اللّهمّ . . . » (1) .
أقـول : ولهذا الدعاء شرح يطول به المقام .

الـوداع :
الوداع مصدر وَدَعَ ، قال الشيخ الطريحي : قوله تعالى : ( ما ودّعك ربّك ) [ 3 | 93 ] أي ما تركك . ومنه قولهم : « استودعك الله غير مودّع » أي غير متروك . ومنه سمّي الوداع بالفتح لأنه فراق ومتاركة . وفي الحديث عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى : ( ما ودّعك ربّك وما قلى ) قال : إن جبرئيل أبطأ على رسول الله ، صلى الله عليه وآله ، وإنّه كانت أوّل سورة نزلت ( اقرأ باسم ربّك ) ثم أبطأ عليه فقالت خديجة : لعلّ ربّك قد بركك ولا يرسل إليك ، فأنزل الله ( ما ودّعك ربّك وما قلى ) (2) .
قال ابن الأثير وفيه (3) « لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجُمُعات ، أو ليختمنَّ
____________
1 ـ كتاب إقبال السيد ابن طاوس 250 ، الصحيفة السجادية : 242 ـ 245 ، الدعاء 45 لم نكمل الدعاء فأخذنا منه قدر الحاجة .
2 ـ تفسير القمي 2 | 428 . مجمع البحرين ـ ودع ـ الضحى : 3 .
3 ـ أي الحديث النبوي على ما اصطلح فيه .

(186)

على قلوبهم » أي : عن تركهم إيّاها ، والتخلّف عنها . يقال : وَدَعَ الشيء ، يَدعُه وَدْعاً : إذا تركه . والنَّحاة يقولون : إن العرب أماتوا ماضي يَدَعُ ، ومصدَرَه ، واستغنوا عنه بتَرَكَ . والنبي صلّى الله عليه ـ وآله ـ وسلّم أفصح . وإنّما يحمل قولهم على قلّة استعماله ، فهو شاذّ في الاستعمال ، صحيح في القياس . وقد جاء في غير حديث ، حتى قرئ به قوله تعالى :( ما وَدَعَكَ ربّك وما قلى ) بالتخفيف (1) .
وقال ابن فارس : الواو والدال والعين : أصل واحد يدلّ على الترك والتخلية . وَدَعَه : تركه ، ومنه دَعْ . وينشد :

لـيـت شـعـري عـن خـليـلي مـا الـذي * غـالـه فـي الـحـبّ حـتـّى وَدَعـَه (2)

ومنه ودَّعتُه توديعاً . ومنه الدَّعَة : الخفض ، كأنّه أمر يترك معه ما يُنصِب (3) .
أقول : في الباقري : « كان علي بن الحسين عليهما السلام يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة كما كان يفعل أمير المؤمنين عليه السلام ، كان له خمس مائة نخلة ، وكان يصلّي عند كلّ نخلة ركعتين ، وكان إذا قام في صلاته غشى لونه لون آخر ، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي المَلِكِ الجليل ، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله ، وكان يصلّي صلاة مودّع ، يرى أن لا يصلّي بعدها أبداً . . . » (4) .
والصادقي قال : أتى النبي صلّى الله عليه وآله رجلان ، رجل من الأنصار ، ورجل من ثقيف ، فقال له الثقفي : « يا رسول الله ، صلّى الله عليه وآله ، حاجتي فقال : سَبَقَكَ أخوك الأنصاري ، فقال : يا رسول الله إنّي على سفر وإني عجلان ، وقال الأنصاري : إنّي قد أذنت له ، فقال : إن شئت
____________
1 ـ النهاية 5 | 165 ـ 166 ـ ودع ـ .
2 ـ البيت لأبي الأسود الدؤلي في اللسان ـ ودع ـ .
3 ـ معجم مقاييس اللغة 6 | 96 ـ ودع ـ .
4 ـ الوسائل 3 | 73 .

(187)

سألتني وإن شئت أنبأتك ، قال : أنبئني يارسول الله ، فقال : جئت تسألني عن الصلاة ، وعن الوضوء ، وعن السجود ، فقال الرجل : أي والذي بعثك بالحق ، فقال : أصبغ الوضوء ، واملأ يديك من ركبتيك ، وعفّر جبينك في التراب ، وصلّ صلاة مودع » الحديث (1) .
والنبوي : « عليك باليأس ممّا في أيدي الناس ؛ فإنّه الغنى الحاضر ، وإياك والطمع ، فإنه الفقر الحاضر ، وصلّ صلاة مودّع . . . » (2) .

بيـان :
كان الغرض من ذكر هذه الأحاديث الإصابة لموضع الوداع المطلوب والنافع ، وقد عرفت معنى « صلاة مودّع » أن يرى أنّه لا يوفق لغيرها من صلاة ، أي لم يبق حيّاً حتى يصلّي ، فما حال من يؤمن أن يموت بعد صلاته هذه مباشرة ، على النقل المتقدم من أهل اللغة لتفسير سلام الوداع مع الحبيب ، ومن يهمك لقاؤه ؛ وعند الفراق وغيبته ما موقفه ؟ .
خاصة الافتراق الذي لا لقاء بعده إلا القيامة ؛ وهو هنا يتجسد لدى الموالي لأهل البيت عليهم السلام ، فرقتهم الحازة للقلوب ، وليتصور ساعة وداع الإمام الحسين عليه السلام ، مع حرمه ، وأطفاله ، وولده السجاد ، وأخته زينب بنت أمير المؤمنين عليهم سلام الله ، وقد جاء في الأثر : « إنّ الحسين لمّا نظر إلى اثنين وسبعين رجلاً من أهل بيته صرعى ، التفت إلى الخيمة ونادى : ياسكينة ! يا فطمة ! يازينب ! يا أمّ كلثوم ! عليكنّ منّي السلام . . . » (3) .
وسلام الوداع مؤخّر عن كلمة « عليك ، أو عليكم ، أو عليكنّ » كما سمعت من الخبر ، وقد يقال جرياً على التحاور المألوف من باب التفاؤل بالعود ، كما جاء ذلك في الحديث العلوي : « تفاءل بالخير تنجح » (4) .
____________
1 ـ الوسائل 4 | 678 .
2 ـ الوسائل 11 | 322 .
3 ـ البحار 45 | 47 .
4 ـ غرر الحكم 153 .

(188)



(189)

الخـاتـمة

فـيهـا أمـور ثـلاثـة



(190)



(191)

الخاتمـة فيهـا أمـور ثـلاثـة
بعد الفراغ من الفصول العشرة الكاملة ، نبحث عن خاتمة لها تحتوي على صلاة المعراج وأسرار سلامها ، وسلام الولادة والموت والبعث وأيّامها ، وسلام الكائنات . فهنا أمور ثلاثة :

الأمر الأوّل :

قبل التكلّم عن صلاة المعراج وأسرار سلامها نقدّم شيئاً من روايات التسليم في الصلاة ؛ فإنها صورة مصغّرة عن موضوعها وموضعها .
1 ـ روى الشيخ الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن علي بن أسباط ، عنهم عليهم السلام ، قال : « فيما وعظ الله به عيسى عليه السلام : ياعيسى أنا ربّك وربّ آبائك (1) ، ـ وذكر الحديث بطوله إلى أن قال ـ : ثم أوصيك يا بن مريم البكر البتول بسيِّد المرسلين ، وحبيبي فهو أحمد ـ إلى أن قال : ـ يسمّي عند الطعام ، ويفشي السلام ، ويصلي والناس نيام ، له كلّ يوم خمس
____________
1 ـ ليس لعيسى آباء إلا من طريق مريم قال تعالى : ( ونوحاً هدينا من قبل ومن ذرّيّته داود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزى المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى . . . ) الأنعام : 84 ـ 85 . فنوح ومن بعده من الأنبياء المذكورين في الآية آباء عيسى لا من طريق أبيه إذ ليس لعيسى أب ، بل هم آباؤه من طريق أمه مريم ، والآية من البراهين الدالة على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله وهو أبوهما .
(192)

صلوات متواليات ، ينادي إلى الصلاة كنداء الجيش بالشعار ، ويفتح بالتكبير ، ويختم بالتسليم » (1) .

بيـان :
بعض الحديث المذكور له علاقة : بالفصل الرابع ـ أي إفشاء السلام في العالم ـ . وقوله : « كنداء الجيش بالشعار » من أروع تمثيل يضرب في هذا المقام عند إقامة الجمعة والجماعة ، نظير التمثيل في آية ( إنّ الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ) (2) .
2 ـ صحيح عمّار قال : « سألت أبا عبد الله عليه السلام عن التسليم ما هو ؟ قال : هو إذن » (3) .
3 ـ العلوي : « افتتاح الصلاة الوضوء ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم » (4) .
4 ـ قال الصدوق : « قال رجل لأمير المؤمنين عليه السلام : ما معنى قول الإمام : « السلام عليكم ؟ » فقال : إنّ الإمام يترجم عن الله عزّ وجلّ ويقول في ترجمته لأهل الجماعة : أمان لكم من عذاب الله يوم القيامة » (5) .
5 ـ الرضوي قال : « إنما جعل التسليم تحليل الصلاة ، ولم يجعل بدلها تكبيراً ، أو تسبيحاً ، أو ضرباً آخر ، لأنه لمّا كان الدخول في الصلاة تحريم الكلام للمخلوقين ، والتوجه إلى الخالق ، كان تحليلها كلام المخلوقين والانتقال عنها ، وابتداء المخلوقين في الكلام أوّلاً بالتسليم » (6) .

بيـان :
الحديث الرابع تفسير السلام بالأمان من العذاب ، كما أنّ الخامس
____________
1 ـ الوسائل 4 | 1003 ـ 1004 ، إثبات الهداة 1 | 159 .
2 ـ الصف : 4 .
3 ـ الوسائل 4 | 1004 .
4 ـ الوسائل 4 | 1005 .
5 ـ الوسائل 4 | 1005 .
6 ـ الوسائل 4 | 1005 ، الحديث 10 الباب 1 من أبواب التسليم .

(193)

دال على أنّ السلام أوّل الكلام ، وقد تقدّم الأمران ، أوّلهما : في غضون العنوان الأوّل ، وثانيهما : في ( 5 ـ السلام قبل الكلام ) .
6 ـ روى الصدوق بسنده إلى المفضّل بن عمر قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العلّة التي من أجلها وجب التسليم في الصلاة ؟ .
قال : لأنّه تحليل الصلاة .
قلت : فلأيّ علّة يسلّم على اليمين ولا يسلّم على اليسار ؟ .
قال : لأنّ الملك الموكّل الذي يكتب الحسنات على اليمين ، والذي يكتب السيئات على اليسار ، والصلاة حسنات ليس فيها سيّئات ، فلهذا يسلّم على اليمين دون اليسار .
قلت : فلِمَ لا يقال : السلام عليك والملك على اليمين واحد ولكن يقال : السلام عليكم ؟ .
قال : ليكون قد سلّم عليه وعلى من على اليسار ، وفضل صاحب اليمين عليه بالإيماء إليه .
قلت : فلِمَ لا يكون الإيماء في التسليم بالوجه كلّه ؟ ولكن كان بالأنف لمن يصلّي وحده وبالعين لم يصلّي بقوم .
قال : لأنّ مقعد الملكين من ابن آدم الشدقين (1) ، فصاحب اليمين على الشدق الأيمن ، وتسليم المصلّي عليه ليثبت له صلاته في صحيفته .
قلت : فلِمَ يسلّم المأموم ثلاثاً .
قال : تكون واحدة ردّاً على الإمام ، وتكون عليه وعلى مَلَكَيْه ، وتكون (2) . الثانية على من على يمينه والملكين به ، وتكون الثالثة على من على يساره والملكين الموكلين به ، ومن لم يكن على يساره أحد ،
____________
1 ـ الصحيح « الشدقان » بالرفع خبر « لأنّ » .
2 ـ التأنيث باعتبار التسليمة .

(194)

لم يسلّم على يساره ، إلا أن يكون يمينه إلى الحائط ، ويساره إلى مصلٍّى معه خلف الإمام فيسلم على يساره .
قلت : فتسليم الإمام على من يقع ؟ .
قال : على مَلَكَيْه والمأمومين ، يقول لملائكته : اكتبا سلامة صلاتي لما يفسدها ، ويقول لمن خلفه : سلمتم وأمنتم من عذاب الله عزّ وجلّ .
قلت : فلِمَ صار تحليل الصلاة التسليم ؟ .
قال : لأنه تحية الملكين ، وفي إقامة الصلاة بحدودها ، وركوعها ، وسجودها ، وتسليمها سلامة للعبد من النار ، وفي قبول صلاة العبد يوم القيامة قبول سائر أعماله ، فإذا سلمت له صلاته سلمت جميع أعماله ، وإن لم تسلم صلاته وردّت عليه ، ردّ ما سواها من الأعمال الصالحة (1) .
أقول : جئنا على هذا الحديث الشريف عن آخره لاشتماله على علل سلام الصلاة ، وتفسيره المستوفى ، فليعلم المصلّي ماذا يصنع ، وما يقول ، هذه معاني سلام صلاته علم بها أو جهلها .
إذا دريت ما رويناه فإليك صلاة النبيّ ، صلى الله عليه وآله ، في السماء في ليلة المعراج :
روى الشيخ الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة ، والفضل ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : لمّا أسري برسول الله ، صلى الله عليه وآله ، إلى السماء فبلغ البيت المعمور وحضرت الصلاة ، فأذّن جبرئيل وأقام ، فتقدّم رسول الله ، صلّى الله عليه وآله ، وصفّ الملائكة ، والنبيّون خلف محمد صلى الله عليه وآله » (2) .
____________
1 ـ علل الشرائع 359 ـ 360 ، الباب 77 . الوسائل 4 | 1005 مختصراً ونقلاً عنه ، وفي 1009 ـ 1010 تفصيلاً .
2 ـ الكافي 3 | 302 . باب بدء الأذان والإقامة . . . ، الوسائل 4 | 612 .