الأمر الثاني :

سلام الولادة ، والموت ، والبعث وأيّامها

وقبل كلِّ شيءٍ نقدّم من القرآن الكريم ما جاء في يحيى وعيسى على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام قال تعالى منوّهاً بيحيى :
( والسَّلامُ عَلَيهِ يَومَ وُلِدَ وَيَومَ يَموتُ وَيَومَ يُبعَثُ حَيّاً ) (1) . وعن لسان عيسى : ( وَالسّلامُ عَلىَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أَمُوتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيّاً ) (2) .

بيـان :
في عيون الأخبار بإسناده إلى ياسر الخادم قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول : إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد ويخرج من بطن أمّه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا . وقد سلّم الله عزّ وجلّ على يحيى في هذه الثلاثة المواطن ، وآمن روعته ، فقال : ( وَسَلامٌ عَلَيهِ يَوْمَ وَلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ) وقد سلّم عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن : ( وَالسّلامُ عَلىَّ يَوْمَ وَلِدتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أَبعَثُ حَيّاً ) (3) .
____________
1 ـ مريم : 15 .
2 ـ مريم : 33 .
3 ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 | 201 ، تفسير الصافي 2 | 40 ، إحقاق الحق 19 | 581 .

(213)

أقول : دل السلام في الرضوي على الأمان من العذاب ، ومما يتبع الولادة ، والموت ، والبعث ، واحتمل بعض السلام في الآيتين بمعنى التحية ، أو الأمان ، أو هما جميعاً على الأشتراك أو غير ذلك . ( وسلام عليه يوم ولد ) أي أمان من الله تعالى عليه من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم ، ( ويوم يموت ) من وحشة فراق الدنيا ، وهول المطلع ، وعذاب القبر . وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت ، بناء على أنّه عليه السلام قتل لبغيّ من بغايا بني إسرائيل ( ويوم يبعث حيّاً ) من هول القيامة وعذاب النار .
وجيء بالحال للتأكيد ، وقيل : للإشارة ، إلى أن البعث جسمانيّ لا روحانيّ ، وقيل : ـ والقائل الآلوسي ـ للتنبيه على أنّه عليه السلام من الشهداء . . وقيل : إنّ المراد بالسلام التحية المتعارفة ، والتشريف بها لكونها من الله تعالى في المواطن التي فيها العبد في غاية الضعف ، والحاجة ، وقلّة الحيلة ، والفقر إلى الله عزّ وجلّ ، وفي خبر . . إن عيسى ويحيى عليهما السلام التقيا وهما ابنا الخالة ، فقال يحيى لعيسى : أدع الله تعالى لي فأنت خير مني ، فقال عيسى : بل أنت ادع لي فأنت خير منّي ، سلّم الله تعالى عليك وأنا سلّمت على نفسي (1) .
وقيل ـ والقائل القرطبي :ـ تفسير السلام هنا بالتحية المتعارفة أشرف ، وأنبه من الأمان ، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه (2) [ بالعصمة ] .
وقال السيد الطباطبائي : قوله تعالى : ( وسلامٌ عَليه يَومَ وُلد وَيَوم يَموت ويَوم يُبعثُ حيّاً ) السلام قريب المعنى من الأمن ، والذي يظهر من موارد استعمالها ، في الفرق بينهما ، أنّ الأمن خلّو المحلّ ممّا يكرهه الأنسان ، ويخاف منه ، والسلام كون المحلّ بحيث كلّ ما يلقاه الإنسان فيه فهو يلائمه من غير أن يكرهه ويخاف منه .
وقال طاب ثراه : وتنكير السلام لإفادة التفخيم ، أي سلام فخيم عليه
____________
1 ـ تفسير روح المعاني 16 | 68 ، وتفسير الجامع للقرطبي 6 | 88 .
2 ـ تفسير الجامع للقرطبي 6 | 88 .

(214)

ممّا يكرهه في هذا الأيام الثلاثة ، التي كل واحد منها مفتتح عالم من العوالم ، التي يدخلها الإنسان ، ويعيش فيها ، فـ ( سلام عليه يوم ولد ) فلا يمسه مكروه في الدنيا يزاحم سعادته . وسلام عليه ( يوم يموت ) فسيعيش في البرزخ عيشة نعيمة . وسلام عليه ( يوم يبعث حياّ ) ، فيحيى فيها بحقيقية الحياة ولا نصب ولا تعب .
وقيل : إنّ تقييد البعث بقوله : ( حيّاً ) للدلالة على أنّه سيقتل شهيداً ، لقوله تعالى في الشهداء : ( بل أحياء عند ربّهم يرزقون ) [ آل عمران : 169 ] . واختلاف التعبير في قوله : ( وُلِدَ ) ، ( يَموتُ ) ، ( يُبعثُ ) لتمثيل أنّ التسليم في حال حياته عليه السلام (1) .
وقال رحمه الله : قوله تعالى : ( والسلامُ عَلَىَّ يَوم وُلدتُ وَيَومَ أَموتُ وَيَومَ أُبعثُ حيّاً ) تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية ، التي تستقبله في كونه ، ووجوده ، وقد تقدم توضيحه في آخر قصّة يحيى المتقدّمة .
نعم بين التسليمتين فرق ، فالسلام في قصّة يحيى نكرة تدلّ على النوع ، وفي هذه القصّة محلّى بلام الجنس ، يقيد بإطلاقه الاستغراق ، وفرق آخر وهو أنّ المسلّم على يحيى هو الله سبحانه ، وعلى عيسى هو نفسه (2) .
وقال الآلوسي بعد الآية : تقدَّم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر :

* فتـذكر فما في العهد من قدم *

والأظهر بل الصحيح أن التعريف للجنس جيء به تعريضاً باللعنة على متّهمي مريم وأعدائها عليها السلام من اليهود ، فإنه إذا قال : جنس السلام عليّ خاصّة ، فقد عرّض بإنّ ضدّه عليكم ، ونظيره قوله تعالى : ( والسلامُ
____________
1 ـ تفسير الميزان 14 | 21 .
2 ـ تفسير الميزان 14 | 47 ـ 48 .

(215)

عَلى مَن اتّبع الهدى ) (1) يعني أنّ العذاب على مَن كذّب وتولّى ، وكان المقام مقام مناكرةٍ وعنادٍ ، فهو مئنة لنحو هذا من التعريض ، والقول بأنه لتعريف العهد خلاف الظاهر ، بل غير صحيح ، لا لأنّ المعهود سلام يحيى عليه الصلاة والسلام ، وعينه لا يكون سلاماً لعيسى عليه الصلاة والسلام ، لجواز أن يكون من قبيل ( هذا الذي رزقنا من قبل ) (2) ، بل لأن هذا الكلام منقطع عن ذلك وجوداً وسرداً ، فيكون معهوداً غير سابق لفظاً ومعنىً ، على أنّ المقام يقتضي التعريض ، ويفوت على ذلك التقدير ؛ لأنّ التقابل إنما ينشأ من اختصاص جميع السلام به عليه السلام ، كذا في الكشف ، والاكتفاء في العهدية لتصحيحه بذكره في الحكاية لا يخفى جلاله ، وسلام يحيى عليه السلام قيل : لكونه من قول الله تعالى أرجح من هذا السلام ؛ لكونه من قول عيسى عليه السلام . وقيل : هذا أرجح لما فيه من إقامة الله تعالى إياه في ذلك مقام نفسه ، مع إفادة أختصاص جميع السلام به عليه السلام فتأمل (3) .
قال صاحب الكشاف : ( والسلام على ) ، قيل : أدخل لام التعريف لتعرّفه بالذكر قبله ، كقولك : جاءنا رجل ، فكان من فعل الرجل كذا ، والمعنى ذلك السلام الموجّه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجّه إليّ . والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً باللعنة على متهمي مريم عليها السلام وأعدائها من اليهود ، وتحقيقه أنّ اللام للجنس ، فإذا قال : وجنس السلام عليّ خاصّة ، فقد عرّض بأنّ ضدّه عليكم (4) . . .
أقول : عبارة الآلوسي مع ما في الكشاف متقاربة في المعنى ، وهل أنّ السلام سواء قاله الله عزّ وجلّ كما في يحيى ، أو أن أحداً من الانبياء سلّم
____________
1 ـ طه : 47 .
2 ـ البقرة : 25 .
3 ـ تفسير روح المعاني 16 | 83 .
لعل وجه التأمل أن سلام عيسى عليه السلام على نفسه لا يقرن بسلام الله عزّ وجلّ على يحيى ولا يقاس ذلك به .
والجواب : أنهما سيان بعد إقرار الله تعالى لسلام عيسى على نفسه.
4 ـ تفسير الكشاف 3 | 16 .

(216)

على نفسه في هذه المواطن الثلاثة كعيسى ، خاصّ بهم عليهم السلام ، أو يعمّ الأوصياء ، والخلّص من المؤمنين ، وكلّ من ينبغي التسليم عليه ؟ .

الجـواب :
أنّه عامّ ، وإنما خص يحيى وعيسى بالذكر للملابسات التي كانت لهما ، يعرف ذلك من درس حياتهما عليهما السلام ، والدليل على عموم السلام قوله تعالى : ( قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أمم ممّن معك . . . ) (1) .
والسلام بأي معنى كان يعمّ الذين ممّن مع نوح من المؤمنين به ، وبنفس الدليل شامل لغيرهم ، ممّن يأتي من بعد نوح إلى يوم القيامة ، والعقل السليم يسوّغ التسليم المذكور أيضاً .
ثم إن في القرآن الكريم خمس آيات نوّهت باسم يحيى وهي :
( إنّ الله يبشّرك بيحيى مصدّقاً بكلمة من الله وسيّداً وحصوراً ) (2) .
( وزكريّا ويحيى وإلياس كلٌّ من الصالحين ) (3) .
( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً ) (4) .
( يايحيى خذ الكتاب بقوّة وءاتيناه الحكم صبيّاً ) (5) .
( فَاستَجَبنا لَه وَوَهَبْنا له يَحيى وَأَصلَحنا له زَوجَهُ ) (6) .
وهذه من فضائله الّتي صرّحت فيها ، وهي تستدعي السلام عليه من الله تعالى في الحالات كلّها ، ومنها المواطن الثلاثة ، ومعناه سلامته ،
____________
1 ـ هود : 48 .
2 ـ آل عمران : 39 .
3 ـ الأنعام : 85 .
4 ـ مريم : 7 .
5 ـ مريم : 12 .
6 ـ الأنبياء : 90 .

(217)

ومعافاته عن كلّ ما يلحقها من نقمات وعذاب .
وأمّا عيسى فقد تناوله القرآن الكريم في خمسة وعشرين موضعاً نذكر منها خمس آيات وهي :
( وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس ) (1) .
( إنّ الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ) (2) .
( إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ) (3) .
( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) (4) .
( وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتيناه الإنجيل ) (5) .
لهذه الخصائص وغيرها ، ممّا جاء فيه في بقيّة الآيات ، اقتضى تسليمه على نفسه ، ولعلّ الوجه في ذلك أنّه من الأنبياء الذين ليس كمثل يحيى في درجتهم ، وإن كان هو منهم ، كما صرّح في الآي المتقدّمة الذكر . وكيف كان فالسلام عليهما من الله ، أو من نفسهما من المكرمات التي خصّهما الله تعالى بها ، وليس معنى ذلك أنّ سواهما من نبيّ ، أو وصيّ ، أو مؤمن مرضيّ عند الله عزّ وجلّ ، ليس له من السلام في المواطن الثلاثة نصيب ، خاصّة السلام بمعنى الأمان من العذاب ، وقد قال تعالى : ( إنّ المتّقين في مقام أمين ) (6) .
والأمن والأمان لا ينفكّ عن كلّ متَّقٍ ، فضلاً عن الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ، ومنها زيارة الإمام الحسين عليه السلام في صحيح بيّاع السابري ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام وهو يقول : مَن أتى قبر الحسين عليه السلام كتب الله له حجّة ، وعمرة ، وعمرة ، وحجّة ، قال :
____________
1 ـ البقرة : 87 .
2 ـ آل عمران : 45 .
3 ـ النساء : 171 :
4 ـ مريم : 34 .
5 ـ الحديد : 27 .
6 ـ الدخان : 51 .

(218)

قلت : جعلت فداك فما أقول إذا أتيته ؟ قال : تقول :
« السلام عليك يا أبا عبد الله ، السلام عليك يا بن رسول الله ، السلام عليك يوم وُلدتَ ، ويوم تموتُ ، ويَوم تُبعث حيّاً ، أشهد أنّك حيّ ، شهيد ترزق عند ربّك ، وأتوالى وليّك ، وأبرأ من عدوّك ، وأشهد أنّ الذين قاتلوك وانتهكوا حرمتك ملعونون على لسان النبيّ الأميّ ، وأشهد أنّك قد أقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ، وجاهدت في سبيل ربّك بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، أسأل الله وليّك ووليّنا أن يجعل تحفتنا من زيارتك الصلاة على نبيّنا ، والمغفرة لذنوبنا ، اشفع لي يا بن رسول الله عند ربّك » (1) .
أقول : لعل قوله : « ويوم تموت » إشارة إلى رجعة الحسين عليه السلام وموته ، حيث إنّه قتل شهيداً سنة 61 في فاجعة كربلاء المؤلمة ، التي عمّ جمر مصابها العالمين ، من لدن آدم إلى انقراض العالم ، ولم يمت والأيّام الثلاثة مفروضة له ، ولجميع المعصومين من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم .
____________
1 ـ كامل الزيارات ، الباب 79 ص 220 ـ 221 .
(219)

الأمر الثالث :

في سـلام الكائـنات

التكلّم عن سلام الكائنات يقع في مقامين .
الأول : في صحّة سلامنا عليها .
الثاني : في إمكان سلامها علينا ووقوعه .
وقبل الشروع في ذلك يتّجه سؤال : وهو هل أن الكائنات ذات حياة وشعور ، لكي يتسنى لنا البحث عن السلام من الجانبين أم لا ؟ أو هل ما جاء من النوعين إنّما هو لأجل الأحياء ، وذوي الشعور من نبيّ أو وصيّ أو غيرهما ، من إنسان أو غير إنسان ؟ أو أنّ ذلك كان علي سبيل الإعجاز ، إذا قلنا إنّها فاقدة للشعور ؟ ؟ ويظهر جواب ذلك كله في غضون البحوث الآتية .

المقام الأوّل :
في السلام على الكائنات من أرض ،
وسماء ، وشجر ، ومدر ، وزمان ، ومكان ، وغيرها
إليك بعض الآيات أو الروايات التي تدلّ على إنّ الكائنات شاعرة ومدركة وناطقة ، قال تعالى في مواضع من القرآن الكريم منها آية : ( وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيءٍ ) (1) .
____________
1 ـ فصّلت : 21 .
(220)

بيـان :
دلت الآية على تكلم جلود البشر ونطقها بإنطاق الله لها ولكلّ شيءٍ . وآية ( وإن من شيءٍ إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً ) (1) . نصّت على أنّ الكائنات تسبّح الله تعالى ، وتسبيحها دالّ بوضوح على تمتعها بنعمة الإدراك والشعور ، وعلى نوع من التعقل ، بدليل إرجاع ضمير ذوي العقول إليهم ، بقوله تعالى : ( تسبيحهم ) ولم يقل عزّ من قائِل ( تسبيحها ) . وفي آخر الآية بشارة ونذارة : أما البشارة فهي إمكان تعقّل البشر تسبيح الكائنات وتفقهه (1) ويتجلى ذلك بما فيها من التنذير بأنّ ترك تفقّه تسبيحها من السفاهة والذنب ؛ إذ لا حلم إلاّ عن سفه ، ولا غفران إلا عن ذنب ، فلولا أن تفقّه التسبيح مستطاع للبشر وميسور له ، لما كان ترك ذلك معدوداً من الذنوب ، وأنه عمل سفهي يغفره الله عزّ وجلّ ويحلم عنه ، وفي إنذار ذلك دلالة على البشارة المذكورة ، على سبيل الإشارة التي تكفي الحرّ المتدبّر في الآية ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ) (2) .
صرّحت الآية على أنّ السماء والأرض تقول كما نقول ، ولهما كلام ككلامنا ؛ والتأويل بأنّه ليس قولهما كالقول قول بلا دليل ، ويأتي مزيد توضيح له في المقام الثاني ، وإذا ثبت لهما ثبت لغيرهما للمشابهة في الجميع .
ومن الرواية الدعاء الخامس والأربعون من الصحيفة السجادية :
____________
1 ـ الإسراء : 44 .
2 ـ ولعل المناسب لذكر المقام الأول ـ وهو سلامنا على الكائنات ـ بعض المذكورات فيه من آية أو رواية ، وقد دريت أننا أولاً بصدد إثبات الإدراك لهنّ ، حتى يتسنى لنا السلام عليهن ، ومن ثم جئنا بالآية أو الرواية ، ومما يدلنا على إدراكهنّ ، ما جاء من ترحيب الإمام الكاظم عليه السلام في دعاء يوم الاثنين أوّله :
« مرحباً بخلق الله الجديد . . . » رواه الشيخ الكفعمي طاب ثراه في البلد الأمين 117 . إذ لو لم يكن لخلق الله من سماء ، وأرض ، وشجر ، ومدر ، من شعور وإدراك لكان الترحيب لغواً محضاً ، وتعالى كلام المعصوم من اللغو. 3 ـ فصّلت : 11 .

(221)

« السلام عليك ياشهر الله الأكبر . . . » من تسليمات الإمام السجاد عليه السلام عند وداع شهر رمضان المبارك (1) ، وهل يسلم ـ روحي فداه ـ على فاقد الشعور ، أو لابدّ من الأخذ فيه بظاهر الكلام المثبت لشعور المسلّم عليه وهو الزمان ؟ فإذا ثبت له ثبت لغيره من خلق الله ، غير الإنسان ، والملك ، وذوي العقول ، والشعور ، لأن ( حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز سواء ) (2) . وأن المواجهة لها كرامتها إطلاقاً ، وجدارتها للسلام عند المناسبات ، وإليك من النظم بهذا الصدد بالذات قال القائل ونعم ما قال :

ذنـوبـي وإن جـلّـت فـعـفـوك مـوئلـي * ومـا زال كـان العـفو لـلـذنـب ماحـيـا
أنـلـني مـنُـى قـلـبي رضـاك وبغـيـتي * لـقـاؤك فـيـه يـا مـنـاي شـفـائـيـا
لـعـلـك غـضـبـان ولـسـت بـعـالـم * سـلام عـلـى الـدارين إن كـنت راضيـا(3)

وآخر :

سـلام عـلـى أهـل الـقـبـور الـدوارس * كـأنـّهـم لـم يـجلـسـوا فـي المـجالـس
ولـم يـشـربـوا مـن بـارد الـمـاء شربةً * ومـل يـأكـلـوا مـن كـلّ رطـب ويـابس
سـلام عـلـى الـدنـيا وطـيب نعـيمـهـا * كـأن لـم يـكـن يـعقـوب فـيهـا بجـالس(4)

____________
1 ـ سبق البحث في غضون ( 10 ـ سلام الوداع ) .
2 ـ وهو مثل مشهور .
3 ـ شدّ الأزار في حطّ الأوزار عن زوّار المزار 73 ، لعبد الله بَدل المترجم فيه تحت رقم 20 قوله :

* سلام على الدارين *

الداران : الدنيا والآخرة وليست الدنيا إلا السماء والأرض وما بينهما وهي ليست إلا الكائنات فسلام الشاعر إنما هو عليها . وهكذا الآخرة وما خلق الله فيها من شيء .
4 ـ شد الأزار 286 ، للأمير يعقوب بن ليث ، رقم 207 . وشرحه : هزار مزار لولده عيسى بن جنيد من كتاب القرن الثامن والتاسع .

(222)


ولشمس الدين محمد بن إبراهيم :

أوقـفـوا الـركـب نـسـأل الأخبارا * ونـحـيـّي الـرسـوم والآثــارا
كـيـف لا نـسـأل الركـائب عمّن * كـان عـشرين حـِجـّة لي جـارا
يـا خـليلـيّ عـرِّجـا بـي حتـى * نـسأل الـحيّ والحـمى والـديـارا
وارحـما مدنـفـاً حليـف شجـون * لـم يـرد بـالـفـراق إلاّ ادكـارا
كـلّ خـِلٍّ حـسبـتـُه لـي وفيـّاً * خـان عـهـدي وحال عنـه ودارا
أُفٍّ لـلـدّهـر إنـّه غـيـر وافٍ * عـهـد كسـرى وكيـقـباذ ودارا (1)

ولآخـر :

يـا عـرصـة الـوادي عليك سـلام * ما نـاح من فوق الغـصون حَمام
أيـن الـذيـن عـهـدتهـُمُ في سادةٍ * غـُرَرٍ وأيـن أولـئـك الأقـوام
أخـنـى عـلـيهم صَرف دهرٍ جائرٍ * لـم يُبـق فيهـم بهـجة تُسـتامُ (2)
حـيـّاك يـا أثـر الديار سـحـائب * وسقـاكَ في إثر الغـَمام غـَمامُ (3)

____________
1 ـ شدّ الأزار 345 ـ 346 ، المترجم رقم 243 . « دارا » أحد السلاطين الداداريَّة .
2 ـ قيل نظيره لأبي نواس :

يـا دار مـا فـَعـَلـت بـكِ الأيـّامُ * لـم تـُبـق فـيـك بـشـاشـة تـسـتـام

هامش شدّ الأزار 390 .
3 ـ شدّ الأزار 390 ، المترجم رقم 265 .

(223)

ولأسعد بن نصر :
عليك سلام الله يا خير منــزل * رحلنا وخلفنـاك غيــر ذميـم
فلا زلت معموراً ولا زلـت آهلاً * ونزّلك الرحمن كـلّ كريـم (1)

وأسعد على ما ترجمه جُنيد الشيرازي (2) المتوفى 791 هـ ، هو عميد الملك أبو غانم أبو المظفّر أسعد بن نصر بن أبي غانم جهشيار بن أبي شجاع بن الحسين بن فرّخان الأنصاري الفالي ، وزير فارس ، وزّر لمظفّر الدين الأتابك (3) بشيراز ونواحيها ، ونكبه واعتقله بقلعة أشكنوان بفارس ، وهو صاحب القصيدة المعروفة الّتي أوّلها :

مـن يُبـلـغنّ حـمامـاتٍ ببـطحـاء * ممـتّعـات بسـلسـال وخضـراء

وكان في مبدأ تحصيله يسكن ( رباط دشت ) بفال ، فلمّا استدعي إلى الوزارة كتب على باب الرباط :

عـليـك سـلام الله يـا خيـر مـنـزل * رحـلـنا وخـلّفـناك غـير ذمـيم (4)

وللسيد قوام الدين محمد بن محمد مهدي النسفي قصيدة منها :

قـف بـالـسلام عـلى أرض الـغري وقـل * بـعـد الـسلام عـلى مـَن شرّف الحـرمـا
مـنّـي الـسلام عـلـى قـبر بحـضـرتـه * أهـمى عـليـه سحـاب الـرحـمة الديمـا (5)
____________
1 ـ شدّ الأزار 522 .
2 ـ مؤلفّ كتاب ( شدّ الأزار . . . ) .
3 ـ يعني سعد بن زنگي .
4 ـ شد الأزرار 521 ـ 522.
5 ـ الإجازة الكبيرة للسيد عبد الله التستري الجزائري . 17 ، في تعليقته للشيخ محمد السمامي الحائري ، والكنى والألقاب للمحدّث القمي 3 | 92 .

(224)

وهل السلام على الدنيا والآخرة ، أو الآثار والرسوم ، أو على عرصة الوادي أو خير المنازل ، أو أرض الغري أو غيرها ، لأجل أهلها الحالّين فيها ، ولو في حين من الأحيان ، فشرّفت لكرامتهم بالسلام ، وليست هي منها في شيءٍ ؟ .
أو يقال إنّ للكائنات كرامتها ؛ لأنّها من دلائل الصنع ، وآيات التوحيد ، فالسماء بسمكها وشمسها ، بضيائها وقمرها ، بنورها وكواكبها ، وأجوائها وأمطارها وطيورها ، وكلّ شيءٍ ممّا خلق الله فيه ، والأرض ورواسيها ، وبحارها ، وأشجاراها ، وترابها ، وما يدب عليها وبينها ، جديرة بالسلام . أو ما سمعت من الإمام السجاد عليه السلام سلامه على شهر رمضان (1) ؟ وهل سلامه عليه سلام على فاقد الشعور ؟ أو أنّه العالم به دوننا ؟ أو ليس يحسن السلام على ما يصح الخطاب معه ؟ وقد كان من دعائه عليه السلام إذا نظر إلى الهلال :
« أيّها الخلق المطيع الدائب السريع المتردد في منازل التقدير ، المتصرّف في فلك التدبير ، آمنت بمن نوّر بك الظُلَم ، وأوضح بك البُهَمَ وَجَعَلَكَ آية من آيات ملكه ، وعلامة من علامات سلطانه . . » (2) .
وفي صحيح سيف التمّار قال : « قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أتيت الحجر الأسود فوجدت عليه زحاماً ، فلم ألقَ إلاّ رجلاً من أصحابنا فسألته . فقال : لا بدّ من استلامه ، فقال : إن وجدته خالياً وإلاّ فسلّم من بعيد » (3) .

بيـان :
قال صاحب الجواهر عند تفسيرالاستلام : وعن الأزهري : أنه افتعال
____________
1 ـ في غضون سلام الوداع .
2 ـ الدعاء الثالث والأربعون من الصحيفة السجادية 222 . ومنه ما قال الشاعر متحسّراً :

ذهـب الـصبــا وتـولـت الأيــام * فعلى الـصبـا وعـلى الـزمان سـلام

جواهر البلاغة 332 .
3 ـ الوسائل 9 | 410 ، الباب 16 من الطواف ، الحديث 4 .

(225)

من السلام وهو التحيّة ، واستلامه لمسه باليد تحرياً لقبول السلام منه تبرّكاً به ـ قال : ـ وهذا كما قرأت منه السلام ـ قال : ـ وقد أملى عليّ أعرابيّ كتاباً إلى بعض أهاليه فقال في آخره : أفترى منّي السلام ـ قال : ـ وممّا يدلّك على صحّة هذا القول ، أن أهل اليمن يسمّون الركن الأسود ( المحيّى ) معناه : أنّ الناس يحيّونه بالسلام . وعن بعض أنّه مأخوذ من السلام بمعنى أنّه يحيّى نفسه عن الحجر ، إذ ليس الحجر ممّن يحيّيه كما يقال : اختدم : إذا لم يكن له خادم وإنما خدم نفسه (1) .
أقـول : على هذا التفسير يحمل قوله عليه السلام في الحديث : « فسلّم من بعيد » على التحية القوليّة ، ولا يتنافى مع معنى الأستلام للحجر الأسود .
وروى الشيخ الصدوق عن الصادق عليه السلام قال : « لمَّا انتهى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلى الركن الغربي فقال له الركن : يا رسول الله ألست قعيداً من قواعد بيت ربّك ، فما لي لا أستلم ؟ فدنا منه النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال له : اسكن عليك السلام غير مهجور » (2) .

بيـان :
لعلّ قوله : « عليك السلام » سلام التحية منه ، صلى الله عليه وآله ، ابتداءً ، أو كما هو الظاهر يكون السلام جواباً لشكوى الركن ، وتقديم
____________
1 ـ الجواهر 19 | 346 . بعد نقل القول عن أن الاستلام مأخوذ من السلام وهي الحجارة .
2 ـ علل الشرائع 429 ، الوسائل 9 | 421 ، وقد تقدم في غضون ( 10 ـ سلام الوداع ) تفسير الركن الغربي الذي هو قبل اليماني وبعد الشامي .
ومن الأحاديث الناصّة على صحة السلام على الكائنات ، بل ومحبوبيته أيضاً ، ما رواه ابن طاوس بإسناده إلى محمد بن سنان قال : قال لي العالم ـ أي الكاظم ـ صلوات الله عليه : يا محمد بن سنان ، هل دعوت في هذا اليوم بالواجب من الدعاء ، وكان يوم الجمعة ؟ فقلت : وما هو يا مولاي ؟ قال : تقول : السلام عليك أيها اليوم الجديد المبارك ، الذي جعله الله عيداً لأوليائه المطهرين من الدنس ، الخارجين من البلوى ، المكروبين مع أوليائه المصفين من العَكر ، الباذلين أنفسهم في محبة أولياء الرحمن تسليماً ، السلام عليكم سلاماً دائماً أبداً ، وتلتفت إلى الشمس وتقول : السلام عليك أيتها الشمس الطالعة ، والنور الفاضل البهي ، أشهدك بتوحيدي لله لتكوني شاهدة . . . جمال الأسبوع 229 . وهو صريح بالمحبوبية السلام على الشمس ، وعلى غيرها بالملازمة العرفية .

(226)

« عليك » نظير تقديم « عليك » عن سلام الوداع ، وكلمة « غير مهجور » شاهدة على الجواب ، ويحتمل أن يكون جواباً لسلام الركن الغربي على النبي ، قد سمعه دوننا ، فأجاب عن ذلك ، ويشهد التقديم المذكور له ؛ لأنه أبلغ في الجواب ، وكان الانسب ذكر الحديث عند البحث عن سلام الكائنات المقام الثاني ، إلا أن الذي حدانا إلى ذكره هنا هو احتمال أن يكون من مواطن السلام عليها ، والأشياء كلها جديرة بالسلام عليها ، لأنها آيات الله الدالة على توحيده ، فلها كرامتها التي يحسن الاتجاه إليها ، والسلام عليها ، لما لها من الدلالة على جمال الصنع ، فيقال : سلام عليك يا سماء الله الذي رفع سمكك وسوّاك ، وأغطش (1) ليلك ، وأخرج ضحاك ، وسلام عليك يا ارض الله التي جعلك الله لنا مهاداً، ولك الجبال أوتاداً ، وأخرج ماءك ومرعاك . . . وقس عليهما الأشياء كلها بما لها من نظام الكون ، وخصصها بالسلام ، بما خصها الله عزّ وجلّ من خاصة ، وهي من آيات الله ، ودلائل الصنع ، لمن أراد عرفان الله وشكره ، كما قال تعالى :
( وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً ) (2) عقيب قوله عز من قائل : ( تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً ) (3) .
كلها آيات دالة على أنه تعالى جاعل الكائنات بهذا النظم العجيب ، الجدير بالسلام عليها ليلاً ونهاراً وفي كل وقت ، وإليه تعالى يعود السلام ، كما بدأ منه السلام .

يبقى سؤال : وهو أنه ماذا يقصد المسلّم عليها بسلامه ، وهل ينوي بالسلام الدعاء لها بأن تسلم دوماً من الآفات ؟ أو من وصول الشرّ إليها ، بأن تأمن من ؟ أو يروم بتحيته تبادل المحبة معها ؟ أو يكون سلامه عليها للتعاهد على استمرار ذكر اسم الله السلام ، وعلى الطاعة له تعالى ؟ وهكذا بقية
____________
1 ـ أغطشه الله أظلمه ، وفي الحديث : « أطفأ بشعاعه ظلمة الغطش » أي ظلمة الظلام مجمع البحرين ـ غطش ـ .
2 ـ الفرقان : 62 .
3 ـ الفرقان : 61 .

(227)

معاني السلام وآثاره الطيبة المباركة المحصاة إلى المئة التي سبق ذكرها (1) ؟ .

الجـواب :
كل معاني السلام جائزة القصد ، وهل تأمن الكائنات من شرور معاصي بني آدم وذنوبهم ، هي التي تكدر البحار ، والأشجار ، وتفسد كلّ شيء ، وقد جاء في الحديث الذي رواه الشيخ الصدوق طاب ثراه قال : « قال رسول الله ، صلّى الله عليه وآله ، لامرآة سألته : إن لي زوجاً وبه غلظة عليّ وإني صنعت شيئاً لأعطفه عليّ . قال : أفّ لك كدرّت البحار ، وكدّرت الطين ، ولعنتك الملائكة الأخيار ، وملائكة السموات والأرض . . . » (2) .
ومن أعظمها الشرك بالله عزّ وجلّ الذي تتقطّر السموات منه وتهدّ الجبال كما قال تعالى : ( تكادُ السمواتُ يَتَفطَّرنَ مِنهُ وَتَنشَقّ الأرض وتخرّ الجبال هدًّا أَن دَعَوا لِلرحمن وَلداً ) (3) .
وإن من الذنوب ما يظلم الهواء ، ويمنع قطر السماء ، كما جاء ذلك في الدعاء الحسني : « . . . واغفر لي الذوب التي تمسك غيث السماء واغفر لي الذنوب التي تظلم الهواء . . . » (4) .
والزنا واليمين الكاذبة تدعان الديار بلاقع ، وتستدعيان الدمار ، في نبويّ : « الزنا يورث الفقر ويدع الديار بلاقع » (5) . وعلويّ : « إنّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم تذران الديار بلاقع من أهلها . . » (6) . ونبويّ : « إيّاكم واليمين الفاجرة ؛ فإنها تدع الديار من أهلها بلاقع » (7) .
____________
1 ـ المذكورة قبل الفصول العشرة .
2 ـ من لا يحضره الفقيه 3 | 282 ، مطبعة النجف 1387 .
3 ـ مريم : 90 ـ 91 .
4 ـ كتاب المجتبى من الدعاء المجتبى 8 .
5 ـ الوسائل 14 | 233 .
6 ـ الوسائل 16 | 144 .
7 ـ الوسائل 16 | 145 .