الفصل الاول

مَوقِف النَّبي تجَاه الخلاَفَة



( 32 )

1 ـ هل كان يعلم بأمر الخلافة ؟
هل تجد من نفسك الميل إلى الاعتقاد بأن النبي صلى الله عليه وآله كان لا يعلم بما سيجري بعده : من خلافات وحوادث من اجل الخلافة ؟ وهل تراه كان غافلا عما يجب في هذا السبيل ؟ .
إذا كان لك هذا الميل فلا كلام لي معك ، وارجو منك ـ يا قارئي العزيز علي ـ أن تلقي الكتاب عندئذ عنك ولا تتعب نفسك بالاستمرار معي إلى اخر الحديث ، لاني افرض قارئي مسلما يؤمن بالنبي ورسالته ، ويعرف من تأريخه ما يكفيه في طرد هذا الوهم .
فان من يمت إلى الاسلام بصلة العقيدة لابد ان يثبت عنده على الاقل ان صاحبه صرح في مقامات كثيرة بما ستحدثه امته من بعده فقد قال غير مرة : ( ستفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار ) . واكثر من ذلك انه لم يستثن من اصحابه إلا مثل همل النعم ، ثم هم يدخلون النار بارتدادهم بعده على ادبارهم القهقرى ، أو يردون عليه الحوض فيختلجون بما احدثوا


( 33 )

بعده . وفي بعض الاحاديث : ( فيقال لي : إنهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم ) (1)
واخبرهم انهم يتبعون سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعوهم .
و( الخلافة ) امر كانت تحدثه به نفسه الشريفة ، ويشير إليها انها ستكون ملكا عضوضا بعد الثلاثين سنة . وثبت انه قال : ( هذا الامر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ) . وقال : ( من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ) . وقال . . . وقال . . . إلى ما لا يحصى .
وسيرته والاحاديث عنه ـ وما اكثرها ـ تشهد شهادة قطعية على ما كان من اختلاف امته ، وعلى أن الخلافة والامامة من اولى القضايا التي كانت نصب عينيه .

2 ـ هل وضع حلا للخلاف ؟
إذن كان صلى الله عليه وآله عالما بأن الدهر سيقلب لامته صفحة مملؤة بالحوادث والفتن ، والخلافات والمحن ، وان لابد لهم من خلافة وإمارة .
____________
(1) صحيح مسلم 8 : 107 وغيره .
( 34 )

فلا بد ان نفرض انه قد وضع حلا مرضيا لهذا الامر يكون حدا للمنازعات وقاعدة يرجع إليها الناس ، لتكون حجة على المنافقين والمعاندين ، وسلاحا للمؤمنين ، ما دمنا نعتقد انه نبي مرسل جاء بشيرا ونذيرا للعالمين إلى يوم يبعثون ، فلم يكن دينه خاصا بعصره ، ليترك امته من بعده سدى من غير راع أو طريقة يتبعونها ، مع علمه بافتراق امته في ذلك .
ولا يصح من حاكم عادل ان يحكم بنجاة فرقة واحدة على الصدفة من دون بيان وحجة تكون سببا لنجاتهم باتباعها ، وسببا لهلاك باقي الفرق بتركها .
لنفرض ان الحديث والتأريخ لم يسجلا لنا الحل الذي نطمئن إليه ، فهل يصح ان نصدقهما بهذا الاهمال ، ونوافقهما على ان النبي ترك امته سدى ، وفي فوضوية لاحد لها يختلفون ويتضاربون ، ثم يتقاتلون ، وتراق آلاف آلاف الدماء السلمة ، ساكتا عن اعظم امر مني به الاسلام والمسلمون ، مع انه كان على علم به ؟ .
ولو كنا نصدقها مستسلمين لكذبنا عقولنا وتفكيرنا ، فان الاسلام جاء رحمة لينقذ العالم الاسلامي من الهمجية والجاهلية الاولى ، فكيف يقر تلك المجازر البشرية في اقصى حدودها ، تلك المجازر التي لم يحدث التأريخ عن مثلها ولا عن بعض منها في عصر الجاهليين .


( 35 )

فما علينا إلا ان نتهم التأريخ والحديث بالكتمان وتشويه الحقيقة بقصد أو بغير قصد . ولئن لم يكن محمد نبيا مرسلا يعلم عن وحي ويحكم بوحي فليكن ـ على الاقل ـ اعظم سياسي في العالم كله لا اعظم منه ، فكيف يخفى عليه مثل هذا الامر العظيم لصلاح الامة بل العالم بأسره مدى الدهر ، أو يعلم به ولا يضع له حدا فاصلا ؟ .
وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شئون بلده فضلا عن امة ، ان يتركها تحت رحمة الاهواء واختلاف الآراء ولو لامد محدود ، وهو قادر على اصلاحها أو التنويه عن اصلاحها ، إلا ان يكون مسلوبا من كل رحمة وانسانية ؟ حاشا نبينا الاكرم من جاء رحمة للعالمين ومتمما لمكارم الاخلاق وخاتما للنبين ! وقد قال الله تعالى على لسانه بعد حجة الوداع : ( اليوم اكملت لكم دينكم ) .
وقد وجدناه نفسه لا يترك حتى المدينة المنورة ، إذا خرج لحرب أو غزاة ، من غير امير يخلفه عليها ، فكيف نصدق عنه انه اهمل امر هذه الامة العظيمة بعده إلى اخر الدهر ، من دون وضع قاعدة يرجعون إليها أو تعيين خلف بعده .

3 ـ ايكال الامر إلى اختيار الامة

لنختار الان لحل هذه المشكلة انه صلى الله عليه واله


( 36 )

وسلم أو كل امته إلى اختيارهم ، أو إلى اختيار اهل الحل والعقد منهم خاصة في تقرير شئون الخلافة . فهل يصح هذا الفرض للحل ؟ .
اما انا ـ ايها القارئ ـ لا استطيع ان اقتنع بأن هذا الفرض يكون حلا مرضيا لهذه المشكلة ، ولعلك انت ترى مع من يرى ان تعيين الرئيس بالانتخاب من ارقى التشريعات الحديثة وقد سبق إليه الاسلام ، فهذا من مفاخره .
فوجب علينا ان نبحث هذه الناحية العلمية بدقة ، واملي ـ كما هو مفروض ـ انك تعطيني من نفسك النصف وتفكر معي تفكيرا حرا ، بعيدا عن تأثير العاطفة التي تقضي علينا ان نتمسك بهذه المفخرة للاسلام .
ولا ينبغي لنا ان نحاول هذه المحاولة ، فربما نلصق به ما ليس له ، ولعلها لا تثبت للبحث مفخرة يمتدح بها ، فنكون قد نقضنا غرضنا الذي نريده من إثبات الفضيلة للاسلام بالسبق إلى هذا التشريع .
والذي ادعيه الآن ان إرجاع الامة مدى الدهر إلى اختيارها في تعيين الرئيس لها هو عين الفوضوية التي اردنا التخلص منها في البحث السابق ، وليس معناه إلا إلقاء الامة في اعظم هوة من الخلاف لاحد لها ولا قعر .


( 37 )

وسر ذلك ان الناس مختلفون متباينون ، ليس بينهم اثنان يتفقان في فكر أو عاطفة أو ذوق أو عادة أو عمل ، حتى التؤمين ، إلا من التشابه القريب أو البعيد من غير اتفاق حقيقي ، كاختلافهم في أجسامهم وسحنات وجوههم ، وتشابههم في ذلك . بل الناس مختلفون في كل شيء من دقائق أجسادهم وأخلاقهم ونفوسهم وعاداتهم فلم يتفق لشخصين أن يتفقا تحقيقا حتى في بصمة الاصابع ، حتى قيل ان كل فرد من الانسان نوع برأسه .
وعليه ، فيستحيل أن تتفق أهل بلدة واحدة على حكم واحد أو عمل واحد ، فضلا عن أمة كبيرة كالامة الاسلامية على توالي الزمان . وبالاخص إذا كان الحكم مسرحا للعواطف والاغراض الشخصية والتحيزات كالحكم في الزعامة العامة .
ومن هذا نستنتج ان الرأي العام الحقيقي غير موجود أبدا ، بل يستحيل وجوده لاية امة في العالم ، ومن خطل الرأي أن يطلب الانسان تكوين الرأي العام ، وتوحيد اختيار الامة بأسرها لامر من الامور ، على ان محاولة ذلك يستحيل أن تسلم من منازعات دموية واضطرابات شديدة إذا كان تكوينه يراد لامر ذي شأن ، إلا أن يكون هنا حاكم يفصل بين المتنازعين بماله من القوة القاهرة لمخالفيه ، كما هو موجود فعلا في الانتخابات الجارية عند الامم المتمدنة ، فان تحكيم الاكثرية ذات القوة الطبيعة خير علاج على منازعاتهم في الامور العامة .


( 38 )

وتحكيم الاكثرية في الحقيقة فرار من محاولة تكوين الرأي العام الحقيقي ، بل هو اعتراف باستحالته ، ومع ذلك لم يسغن غالبا الرجوع إلى الاكثرية ليكون لها الفصل عن ملطفات ومؤثرات اخرى تنضم إلى قوته الطبيعية ، أهمها سلطة الحكومة والقانون العام القاضي بتحكيم الاكثرية الذي أصبح بحكم التقليد لا مسيطرا على معتنقيه .
وبتوسيط أمثال هذه الامور تمكن التسوية بين الاكثرية على راي متوسط ، وإلا فالاتفاق الحقيقي على تفاصيل الامور يستحيل حتى في الاكثرية .
وهذا الرجوع إلى الاكثرية اخر ما توصل إليه الانسان بعد العجز عن تحصيل االاتفاق الحقيقي وبعد أن فشل البشر على ممر تلك القرون الطويلة التي انهكته بالتجارب القاسية ، فوجد ذلك خير ضمان للسلام في الامم . وليس معنى ذلك ان الاكثرية لا تخطأ ، كيف والجماعات دائما تفكر بأحط فكرة فيها ، ومن مزاياها انها خاضعة لسلطان العاطفة ، فهي علاج لفض المنازعات ليس إلا ، لا لضمان تحصيل الرأي المصيب .
وبهذا البيان نخرج إلى فكرة ان تعيين الرئيس أو غيره بالانتخاب الذي هو من أرقي التشريعات الحديثة معناه الرجوع إلى الاكثرية دائما التي أصبحت من التقاليد المرعية عند الناس في هذا العصر ، وهذا لم يسبق إليه الاسلام ، ومن يدعي ان النبي صلى الله عليه وآله أوكل أمته إلى اختيارهم


( 39 )

في تقرير شئون الخلافة لا يدعي انه شرع قانون الاكثرية لانه ليس لهذه الدعوى شاهد في زبر الاولين ، على انه ـ كما ذكرنا ـ لا يسلم من الخطأ ، فلا يسوغ لنا أن ننسبه إلى من لا ينطق إلا عن وحي ولا يريد إلا الحق .
وإذا ادعى انه أوكل الامر إلى اتفاق أمته واختيارهم جميعا ، فمن خطل الرأي ، إلا إذا جوزنا عليه ان يطلب المستحيل أو تعمد ايقاع أمته في منازعات دائمية تفضي إلى ازهاق النفوس واضعاف القوي المادية والادبية ، ثم إلى ضعف كلمة الاسلام في الارض .
فتلخص ان هذا التشريع أعني تشريع تعيين الامام بالانتخاب لا يصح لنا ان ننسبه إلى منقذ البشرية من الضلالة إلى الهدى الذي لا ينطق إلا عن وحي ، سواء فسرناه بالاكثرية أو باتفاق الجميع .

* * *

ومهما حاولنا اصلاح هذا التشريع بتفسير الامة بأهل الحل والعقد منها خاصة ، فلا اجد هذه المحاولة تسلم من ذلك النقص البارز فان اهل الحل والعقد وكبار الامة هم بؤرة الخلاف والنزاع . فان الخاصة مع اختلاف نفوسهم وتباين نزعاتهم كسائر الناس ، لا ينفكون عن تحيزات فيهم اعظم منها في غيرهم . ويندر ان يتجردوا من اهواء نفسية واغراض


( 40 )

شخصية ، تجعل كل فرد يشرئب إلى هذا المنصب الرفيع ما هيء له ووجد مجالا لارتقائه ، ولو عن غير قصد ، بل عن رغبة نفسية كامنة هي غريزية لا يفطن لها صاحبها أو لا يعدها باطلا وخروجا عن محجة الصواب . بل حب النفس قد يحمله على الاعتقاد بأن زعامته اصلح للامة واجدى ، فيوحي الهوى للنفس البرهان المقنع على صحة رأيه .
وللمعتقد ان يعتقد ان الخليفة ابا بكر تفطن إلى سوء عواقب هذا الشريع ، فأسرع إلى تعيين الخليفة من بعده ، بالرغم على جدة هذا التشريع الذي به كان خليفة ، وعلى تركزه في النفوس تتوقف صحة خلافته . كيف لا وقد شاهد هو الموقف في بيعته يوم السقيفة ، وكان أدق من سم الخياط ، مع غفلة الناس يومئذ عن الامر ، وانشغالهم بفاجعة نبيهم .
وهكذا حذا حذوه خليفتة ، فاخترع طريقة الشورى من ستة اشخاص ، وهي تبعد كل البعد عن قاعدة الرجوع إلى اختيار اهل الحل والعقد ، على ان وجدنا هؤلاء ـ وهم ستة لا غير ـ لم يتفقوا على رأي واحد ، فلعبت دورها التحيزات والعواطف ، فصغى رجل لضغنه ، ومال الاخر لصهره ، على حد تعبير الامام علي بن أبي طالب .
ولا شك لم يخف على الخليفة عمر استحالة حتى اتفاق الجماعة الصغيرة ، فحكم فيها الاكثرية ، وعند التساوي فالكفة الراجحة التي فيها عبدالرحمن بن عوف . ومع ذلك


( 41 )

حدد لهم الوقت بثلاثة ايام ، واعطى السلطة التنفيذية لغيرهم ، ليقهرهم على تنفيذ خطته .
لماذا كل هذه القيود التي وضعها ، مع تهديدهم بالقتل إن تأخروا عن الموعد ولم يبرموا العهد ؟ لاشك انها كانت لقصد الابتعاد عن الخلاف والنزاع الطبيعي لمثل هذا الامر . إذا القى حبله على غاربه . وهنا وجدنا كيف أحكم عمر بن الخطاب وضع هذه الخطة ، اتقاء للخلاف والنزاع على الامارة الذي لا ينفك عادة عن اراقة الدماء ، في وقت اراد ألا يتحمل تبعة تعيين شخص الخليفة بعده ، أو انه في الاصح لم يجد نفسه تميل كل الميل إلا لتعيين احد الثلاثة الذين قد ماتوا يومئذ ، وهم ابو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى ابي حذيفة ، ومعاذ بن جبل .

* * *

ولا اعجب ان يكون ابو بكر وعمر تفطنا إلى ما في تشريع إلقاء الامر على عاتق اختيار الامة من فساد ، وما ينجم منه من جدال وجلاد . ولكن عجبي ممن يتسرع فينسب ذلك التشريع إلى النبي الحكيم الذي لا يفعل إلا عن وحي ولا يحكم الا بوحي . ومع ذلك يدعي الاسلام وعرفان الرسول العظيم .
ولو كان للخليفة عثمان كلمة تسمع ورأي يطاع يوم


( 42 )

حوصر وأيس من الحياة ؛ لما تأخر عن تعيين من يخلفه قطعا . ولكن الموقف كان ابعد من ان يتحكم عليه بمثل ذلك ، وهو محاط به ليخلع .
ومما يزيدنا اعتقادا بعقم هذا الحل لمشكلتنا الاجتماعية الخطيرة ، انا لم نعرف خليفة تعين بهذه الطريقة إلا ابا بكر وعلي بن أبي طالب ، وابو بكر كانت بيعته فتنة أو فلتة وقى الله شرها على حد تعبير عمر عنها وهو نفسه الذي شيد اركانها ، ومع ذلك قال عنها : ( فمن دعا إلى مثلها فهو الذي لابيعة له ولا لمن بايعه ) (1) .
اما علي عليه السلام ، فبعد تمام البيعة له ( الشرعية بنظر اصحاب هذا الرأي ) قد وجدنا كيف انتفض عليه نفس اهل الحل والعقد ، والاسلام بعد لم يرث والعهد قريب ، وهؤلاء المنتقضون هم جلة الصحابة . فكانت حرب الجمل فحرب صفين اللتان اريقت بهما الاف الدماء المحرمة هدرا ، وانتهكت فيهما حرمات الشريعة ، وشلت بهما حركة الدين الاسلامي .
ولم نعرف بعد ذلك خليفة تعين إلا بتعيين من قبله أو بحد السيف ، ولقد لعب السيف دورا قاسيا جعل العالم الاسلامي يمخر في بحر من الدماء . ولم يجرئ الطامعين بالخلافة على
____________
(1) كنز العمال ـ ج 3 ـ رقم 2326 وغيره .
( 43 )

خوض غمار الحروب إلا سن هذا القانون . قانون الاختيار ، فمهد السبيل لطلحة والزبير ان يشعلا نار حرب الجمل ، ومهد لمعاوية ما اجترم ، ولابن الزبير تطاوله للخلافة وهو القصير ، وللعباسيين ثورتهم على الامويين ولغيرهم ما شئت ان تحدث والحديث ذو شجون .
إلى هنا اجد من نفسي القناعة والاطمئنان إلى القول بفساد تشريع تعيين الامام باختيار اهل الحل والعقد . وهيهات ان يكون من النبي الحكيم مثل هذا التشريع .
وكيف يخفى عليه ضرر هذا التشريع ، ولا يخفى على عائشة ام المؤمنين يوم تقول لعمر على لسان ابنه عبدالله : ( لا تدع امه محمد بلا راع . استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا فاني اخشى عليهم الفتنة ) .
وما ادري لماذا لم يشر احد على محمد عليه افضل التحيات ان يستخلف أو يبين على الاقل طريقة الاستخلاف حتى لا يفتتنوا ، كما اشارت عائشة على عمر ؟ ولماذا لم يسأله احد عن هذا الامر ، وهم يسألونه عن الكبيرة والصغيرة لماذا ؟ . . . ؟
والمرجح انه سئل فأجاب ، ولكن التأريخ هو المتهم في اهمال مثل هذه القضيا . على ان تأريخ الشيعة لم يمهل مثل هذا السؤال والجواب الصريح عليه .


( 44 )

4 ـ لانص في قاعدة الاختيار

لنتنازل الان جميع ما قلناه في البحث السابق من فساد تشريع قاعدة الاختيار ، ولكن ألا يجب علينا ان نسأل مدعي صدور هذا التشريع من النبي عن الدليل عليه في كتاب أو سنة .
وبودي ان يدلني احد على قول الرسول في هذا الشأن ، فما سمعنا عنه انه قال يوما : ان الاختيار في تعيين الامام لاهل الحل والعقد ، أو انه امر الامة باختيار الامام بعده ، لا تصريحا ولا تلويحا . على ان الدواعي جد متوفرة لنقل مثل هذا القول ، والقوة والحول في صدر الاسلام إلى ما بعده في يد من يرتئي هذا الرأي ويدافع عنه ، فليس لاحد ان يدعي ان هذا الاثر قد خفي علينا أو امتنع الرواة عن نقله .
أجل ! إلا ان الله تعالى قال في كتابه العزيز : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) .
إذن لم يثبت عن النبي قول وتصريح في هذا الامر من الاتكال على اختيار الامة ، بل قال تعالى : ( ما كان لهم


( 45 )

الخيرة ) . فلنذهب الان من طريق ثانية إلى إثبات صحة هذا التشريع ، فنقول :
« أليس النبي كان غير غافل عن امر الخلافة ! ولكنه سكت عن الحل لمشكلتها بطريق النص على احد من اصحابه ، فلا بد انه أوكل ذلك إلى اختيار أمته ، فيكون سكوته إذن دليلا على هذا الايكال » .
وهذا يقرب من التفكير الصحيح لاول وهلة ، إذا استطعنا التصديق بسكوته عن النص ، فلذلك لا يصح إلا إذا ثبت لنا ان لا نص هناك ، فوجب ان ننظر فيما تقوله اهل السنة والشيعة من النص على أبي بكر أو علي بن أبي طالب . وسيأتي في البحث ( 7 ) و( 8 ) .
ولكن لو فكرنا قليلا ، فلا نرضى لمصلح عاقل فضلا عن النبي الكريم ان يرمز لهذا الامر العظيم الذي وقع فيه اعظم خلاف في الامة بمثل هذا الرمز الخفي . وما الذي يلجئه إلى مثل هذا الدليل الصامت ـ إن صح هذا التعبير ـ مع علمه بما سيقع بعده من انشقاق وخلاف تتسع شقته هذا الاتساع ، وتتخلله فتن وحروب أنهكت المسلمين وأفسدت روحية الاسلام ؟ ! .
أما كان الجدير ـ إذا لم يكن قد نص على احد ـ ان يصرح لامته بايكال الامر إلى اختيارهم ؟ ثم يحدده باختيار اهل الحل والعقد منهم ، أو يحدده بخصوص اهل المدينة أو


( 46 )

اهل عاصمة الخلافة ، ثم يكتفي باختيار الواحد والاثنين منهم ( على ما يذهب إليه جماعة من علماء اهل السنة ) ، ثم يذكر شروط الامام حتى يعرفوا من يجب ان يختاروه !
أكل هذه الامور والقيود نستقيها من هذا الدليل الصامت ويكون هذا السكوت حجة على من يشكك في واحد من هذه الشئون فيستحق عقاب الخالق الجبار ، ثم مع ذلك يخرج عن ربقة الاسلام ويدخل في زمرة الكافرين ؟ ! .
اللهم اشهد علي اني لا أستطيع أن أؤمن بصحة دليل صامت يدل هذه الدلالة الواسعة على اعظم الشئون العامة التي يعم بلاؤها جميع الخلق في كل زمان ومكان ، في وقت الحاجة إلى دليل ناطق وحجة واضحة .
اللهم اشهد اني لا استطيع ان أؤمن بذلك إلا إذا فقدت حرية التفكير ومسكة العقل .

5 ـ اختلاف امتي رحمة

وأخشى الآن أن أكون قد أخذت بقلمي النعرة المذهبية في بحثي السابق ، فبالغت في تشويه تلك الدعوى وخرجت عن خطتي التي رسمتها لنفسي .
وهل تراني اخفف من وطأة تلك السورة ، فأطمئن إلى


( 47 )

تعليل مقبول لذلك الصمت ، بأن أقول : إن الرسول إنما ترك بيان هذا الامر ليوقع الخلاف بين امته رحمة بهم لما روى عنه : « اختلاف أمتي رحمة » ؟ .
ولكن هيهات ! إن لم تؤول الكلمة بما يتفق ومبادئ الاسلام (1) فانها الكذب الصراح على داعية الوحدة ومقاتل نزعات الجاهلية الاولى بسيف من الاخوة الاسلامية انتشل العرب من هوة عميقة للتفرق والنزاع والنزال .
إن أكبر ظاهرة للاسلام بل من أعظم أعماله ، تلك الدعوة إلى الوحدة المطلقة بأوسع معانيها وتحطيم الفروق حتى بين الشعوب والامم المختلفة . ألا ( إنما المؤمنون إخوة ) .
____________
(1) هذه الكلمة مروية من طرق الطرفين . والوارد في تفسيرها عن آل البيت غير ما يتخيل من ظاهرها ففي علل الشرايع : « انه قيل للامام جعفر ابن محمد الصادق عليه السلام : ان قوما يروون أن رسول الله قال : « اختلاف امتي رحمة » ، فقال : صدقوا ، فقيل : إذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ، قال : ليس حيث تذهب وذهبوا انما أراد قول الله عزوجل ( فلولا نفر من كل فرقة طائفة . . ) واختلاف أهل البلدان إلى نبيهم ثم من عنده إلى بلادهم رحمة . . . » الخبر . ومثله في معاني الاخبار للصدوق ، وفيه : « انما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله ، انما الدين واحد » .
( 48 )

وليس هناك شيء في الاسلام غني عن البرهان بل عن البيان مثل دعوته إلى الوحدة والعمل لها بكل الوسائل ، ليكون المؤمنون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا . وقد تجلى ذلك ظاهرا في كثير من الاحكام العملية : في وجوب الحج وصلاة الجمعة والجماعة وحرمة الغيبة واللمز والغمز والقذف . . . وما إلى ذلك مما لا يحصى ، وبعد هذا أيمكننا ان نجرأ فندعي ان الرسول يدعو إلى الخلاف ! وأكثر من ذلك يسعى إلى التفرقة ، وأية تفرقة هي ؟ إن هذا لبهتان عظيم وزور مبين ! اللهم اني استجير بك من شطحات القلم والتفكير .

6 ـ الاجماع على قاعدة الاختيار

وهنا لا بد أن ننصف في القول فلا نجري الكلام على عواهنه ، فأني لم أعرف عن اخواننا أهل السنة أنهم فسروا هذا الصمت المدعى بذلك التفسير إلا من قل . وعلى الاقل انهم لم يجعلوه وحده دليلا على ايكال أمر الخلافة لاختيار أهل الحل والعقد ، وإنما يستدلون باجماع أهل الصدر الاول على كفاية اختيار أهل الحل والعقد ، بدليل بيعة أبي بكر يوم السقيفة . وعندهم الاجماع حجة لما روي عنه عليه الصلاة والسلام ، « لا تجتمع أمتي على الخطا » و« ولا تجتمع أمتي على ضلال » .


( 49 )

ولكن الشيعة لا يعتبرون مثل هذا الاجماع . وإنما يعتبرون الاجماع إذا كشف عن رضى امام معصوم حيث يكون داخلا في أحد المجمعين . وبيعة أبي بكر لم تقترن بموافقة الامام وهو علي بن أبي طالب فلم يتم عندهم الاجماع الذي يكون حجة .
ويذهبون إلى أكثر من ذلك ، فيقولون إن الاجماع بكل معانيه لم ينعقد على صحة بيعة أبي بكر ، لمخالفة علي الذي يدور معه الحق حيثما دار ومخالفة قومه بني هاشم وسعد بن عبادة وابنه وجماعة من كبار الصحابة كسلمان وابي ذر والمقداد وعمار والزبير وخالد بن سعيد وحذيفة اليمان وبريدة وغيرهم . ولم يبايع من بايع منهم بعد ذلك إلا قهرا واضطرارا حفظا لبيضة الاسلام وتوحيدا لكلمة المسلمين . ولا يصح بحال ان يدعي ان هؤلاء ليسوا من اهل الحل والعقد ، وهم من تعرف . ويقول الشيعة ايضا : لم يتكرر بعد ذلك تعيين الامام باختيار أهل الحل والعقد ، حتى نؤمن بحصول الاجماع على صحة الاختيار في تعيينه ، لان كل خليفة تعين إنما تعين بنص السابق عليه أو بحد السيف والقوة ، ما عدا علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهو امام بالنص من النبي ( ص ) ولا شأن لاختيار الامة في امامته .

* * *

هكذا اختلف الطرفان ، وأجدني الآن حائرا إزاء أدلة


( 50 )

الطرفين . وإذا اردت ان اعالج في بحثي حادث السقيفة فانما اعالجه من عدة نواح هذه أهمها ، فهل استطيع ان استنتج الحكم الفاصل لاحدى الطائفتين ؟ هذا ما قد يكشفه مستقبل البحث ، وكل آت قريب . ولا أتنبأ بالنتيجة قبل وقتها .
وكنت راغبا في بحثي هنا أن احصل على نتيجة حاسمة قبل الدخول في تفسير حوادث السقيفة ، بل قبل الدخول في البحث عن النص على الامام بعد النبي في هذا الفصل ، ولكني هنا وجدت هذه المسائل متداخلة بعضها آخذ برقاب بعض .
ومع ذلك أجد بامكاني أن أضع تقريرا يقرب من التفكير الصحيح مع الاعراض عما يقوله الطرفان في هذا الشأن ، مستعينا بما تقدم في الابحاث السابقة ، فهل تعيرني تفكيرك لحظة
لاحظ انك لا تشك ـ وأنا معك ـ ان النبي ما فاه ولا ببنت شفة عن قاعدة انعقاد الامامة باختيار أهل الحل والعقد ، مع ان الواجب يدعو للبيان الصريح ، كما قلنا آنفا ، فلماذا سكت عن ذلك ؟ .
أكان إهمالا وتوريطا للمسلمين في الخلاف والنزاع ، أو أنه لم يشرع مثل هذا التشريع ؟ والثاني هو الاقرب للصحة . وعليه فما قيمة الاجماع ـ إن تم ـ مع علمنا بان هذا الامر ليس من الدين ولم يشرعه الله على لسان نبيه ، على أنا وجدنا في


( 51 )

ابحاثنا السالفة ان البرهان الصحيح يقودنا إلى الاعتراف بفساد هذا التشريع ، فنعلم بنتيجة ان النبي لم يشرعه لامته ، فلا بد ان نتهم الاجماع المدعى باحدى التهم المتقدمة .
هذا من جهة . ومن جهة اخرى ، انا لا أدري أن هؤلاء الذين اقدموا على الاجتماع في السقيفة لعقد البيعة بدون مشورة من جميع الموجودين في المدينة وغيرهم على أي سناد استندوا وبأية حجة اجتمعوا
والمفروض ان لا حجة إلا الاجماع ، وهو ـ على فرضه ـ بعد لم ينعقد على صحة عملهم ؟ فهذا العمل من أساسه كان بغير حجة قائمة ولا بينة واضحة ، ولذا قال عمر لسعد بن عبادة : « اقتلوه قتله الله إنه صاحب فتنة » .
فلأي شيء استحق القتل ولم يكن يدعو إلا إلى نفسه كما دعا غيره ؟ ولماذا كان صاحب فتنة ؟ ـ ليس إلا لان دعوته من غير حجة قائمة . وإذا كان قد ثبت من النبي صحة انقاد الخلافة بأختيار أهل الحل والعقد ، ويكتفي بمثل القوم الذين اجتمعوا في السقيفة يومئذ فلم يكن قد دعا سعد إلا إلى ما هو مشروع لا يستحق عليه قتلا ولا غضبا .
أما النص المروي : « الائمة من قريش » فلم يكن معروفا عند المهاجرين يومئذ أو أنهم لم يريدوا ان يعرفوه ، ولذا لم يستدلوا له ذلك اليوم ، بناء على ما هو الصحيح وإنما


( 52 )

استدل الخليفة أبو بكر بالقرابة من الرسول وان العرب لا تعرف هذا الامر إلا بهذا الحي من قريش .

7 ـ النص على أبي بكر

لم نتوقف فيما مضى للاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو كل نصب الامام إلى اختيار الامة ، أو أهل الحل والعقد منهم خاصة . . . وهنا نبحث عما إذا كان قد عين شخص الامام بعده ، فمن هو هذا الامام ؟
أصحيح انه هو ( أبو بكر ) ؟ يقطع الباحث ان الاحاديث المروية في النص عليه موضوعة إذا كان يفهم منها النص المدعي . وليس أدل على ذلك مما ثبت من تصريحاته نفسه ، ولا سيما عندما تمنى ـ قبيل موته ـ ان يسأل عن أشياء ثلاثة ترك السؤال عنها ، أحدها أمر الخلافة انه فيمن حتى لا ننازع أهله . ثم من تصريحات خليفته عمر ابن الخطاب لا سيما عندما دنت منه الوفاة فصرح ان النبي لم يستخلف . ثم من تصريحات عائشة « وهي المدافعة والمنفحة عن أبيها وقد قامت بقسط وافر من تأييده وتثبيت خلافته » فنفت الاستخلاف لما سئلت من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف (1) .
____________
(1) ومن الغريب اعتذار ابن حزم : « ان هذا الاثر خفي على عمر كما