الفصل الثاني

تدبير النّبي لمنع الخلاف



( 76 )

أ ـ بعث اسامة :
ـ 1 ـ

مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرضه الذي انتقل به إلى الرفيق الاعلى ، فوجس منه خيفة الفراق ، وهو يعلم ان امته على شفا جرف هار من بحر للفتن متلاطم والعرب مغلوبة على أمرها تحرق الار 0. م عليه وعلى قومه واهل بيته ، وتنتهز الفرص للوثوب لاخذ ثأرها وهو على حذر منهم ، والمنافقون بالمرصاد بين ظهراني المسلمين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويعدون من اصحابه وهو على المسلمين منهم احذر ، وليس عهد دحرجة الدباب في العقبة ببعيد . واكثر من ذلك هذه الاخبار ترد بخروج الاسود العنسي ومسيلمة يدعيان النبوة فتتكاثر أتباعهما .
ما أشد حال النبي وحزنه ، وهو يستدبر امة هذه حالها وهي تستقبل الفتن كقطع الليل المظلم كما في الحديث . وقد رأى مواقع الفتن خلال بيوت المدينة كمواقع القطر في حديث آخر (1) .
ولكنه في هذا الموقف الدقيق مع ذلك يرمي بجيشه
____________
(1) صحيح مسلم 8 : 168 باب نزول الفتن .
( 77 )

اللجب إلى مكان سحيق ، إذ يعقد اللواء بيده للشاب اسامة بن زيد أميرا على الجيش بعد يوم واحد من ابتداء شكاته ، بعد ان كان امرهم بالبعث قبل ابتداء مرضه . ثم يضم تحت لوائه شيوخ المهاجرين والانصار وجلتهم ووجوههم منهم أبو بكر (1) وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وابو عبيدة وسعد بن ابي وقاص واسيد بن حضير وبشير بن سعد وغيرهم ، ليحارب بهم اهل أبنى بناحية البلقاء من ارض الشام اولئك قتلة ابي اسامة زيد من الروم .
ثم يشدد في الخروج ويلعن المتخلف منهم ويغضب ذلك الغضب لتباطؤ القوم ولغطهم حول تأمير فتى يافع على
____________
(1) صرح بدخول ابي بكر في البعث اكثر المؤرخين ، منهم ابن سعد في طبقاته : ( 4 : 46 ) و( 4 : 136 ) وابن عساكر في التهذيب ( 2 : 391 ) و( 3 : 215 ) وصاحب كنز العمال ( 5 : 312 ) . وصاحب تاريخ الخميس ( 2 : 172 ) واليعقوبي في تاريخه ( 2 : 93 ) وابن ابي الحديد ( 2 : 21 ) ومحمد حسين هيكل من المتأخرين في حياة محمد ( 467 ) وغيرهم مما لا يحصى . ولم نجد تصريحا ولا تلويحا لاحد من المؤرخين بخروجه من جيش اسامة . وانما يكتفي بعضهم بقول « وجوه المهاجرين » وما يؤدي هذا المعنى بدون تصريح باسم أحد ، ولكن بعضهم المؤلفين الجدليين حاول انكار دخوله من غير حجة ظاهرة .
( 78 )

شيوخ المسلمين ، فيقول : « ان تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة ابيه من قبل وإيم الله ان كان لخليقا للامارة وان ابنه من بعده لخليق للامارة » .
ـ 2 ـ

لشد ما يعتلج العجب في نفوس المتفكرين من هذا الحادث ، فيعجب الانسان .
« اولا » ـ ان تسند قيادة اعظم جيش اسلامي يومئذ ، في ذلك الظرف الدقيق الذي وصفناه ، في مرض النبي ، إلى شاب يافع لم يتجاوز العشرين من سنيه ( على جميع التقادير ) ، وهو لم يجرب الحروب بعد وبالاصح لم تسند إليه قيادة من هذا النوع ولا من نوع آخر . والجيش معبأ لجهاد اقوى اعداء الاسلام في ذلك الموقع البعيد عن العاصمة الاسلامية .
« ثانيا » ـ أن يؤمر هذا الفتى ، مع ذلك ، على شيوخ المسلمين الذين فيهم قواد الحروب ورؤساء القبائل واصحاب النبي الذين يرون لانفسهم مقاما اسمى ومنزلة رفيعة . ويرشحون انفسهم لمنصب هو أعظم كثيرا من منصب قائدهم الصغير هذا .
« ثالثا » ـ ان يتباطأ المسلمون عن الالتحاق بهذا البعث بالرغم على اصرار النبي وتشديده النكير على المتخلفين ولعنه


( 79 )

اياهم . ويكفي ان نعرف ان البعث وقع قبيل شكاته أو في أولها وقد استدامت علته اربعة عشر يوما ( على اوسط التقادير ) . وفي كل هذه المدة الطويلة يثاقل القوم عن الخروج . وقد عسكر قائدهم الفتى بالجرف ، وهو عن المدينة بفرسخ واحد ( بعد ان عقد النبي له الراية بيده الشريفة ) ينتظر جيشه المتمرد ان يجتمع إليه ، فتخلق الاشاعات عن حال النبي فيرجع اسامة إلى المدينة برايته فيركزها على باب النبي ، ولكن الرسول في كل مرة يأمره بالعودة ويحث القوم على الالتحاق به . ولكنه في اليوم الاخير يرجع مرتين في المرة الاولى يأمره النبي بالسير قائلا : ( اغد على بركة الله تعالى ) فيودعه ويخرج ، وفي المرة الثانية يرجع ومعه عمر وأبو عبيدة فيجد النبي يجود بنفسه ، ثم يلتحق بالرفيق الاعلى .
فماذا دهى المسلمين حتى خالفوا الصريح من أمر النبي هذه المدة الطويلة من غير حياء منه ولا خجل ولا خوف من الله ورسوله وتوطنوا على غضبه ولعنهم جهارا ، أتراهم استضعفوا النبي وهو مريض شاك فتمردوا عليه ، أم ماذا ؟
« رابعا » ـ ان ينكر هؤلاء المسلمون على نبيهم تأميره لهذا الفتى ، ثم لا يرتدعون ان نهاهم عن ذلك . وليس لهم على كل حال حق هذا الانكار إذا كانوا حقا قد تغذوا بتعاليم


( 80 )

الاسلام وعرفوا ان النبي لا ينطق عن الهوى وما كان لهم الخيرة .
( خامسا ) ـ ان النبي قد علم بقرب أجله ويعلم ان الفتن قد أقبلت كقطع الليل المظلم ، فكيف يبعد جيشه وقوته عن العاصمة ومركز الدعوة ، بل كيف يخلي المدينة من شيوخ المهاجرين والانصار وزعمائهم واهل الحل والعقد منهم .
فلا بد أن يكون كل ذلك لامر ما عظيم ، اكثر من هذه الظواهر التي يتصورها الناس .

ـ 3 ـ

فهل نجد حلا لهذه المشاكل تطمئن إليه النفس الحرة ، بعد عرفاننا للنبي وعظمته وانه لا يفعل ولا يقول إلا عن وحي وسر إلهي .
ـ لم يصح عندنا تفسير لمشاكل هذا الحادث إلا بأن نقول انه « ص » اراد :
( أولا ) ـ ان يهيئ المسلمين لقبول « قاعدة الكفاية » في ولاية امورهم ، من ناحية ، عملية ، فليست الشهرة ولا تقدم العمر هما الاساس لاستحقاق الامارة والولاية ، فإذا قال عن اسامة مؤكدا جدارته بالقسم ولام التأكيد : « وايم الله ان كان لخليقا للامارة ـ يعني زيدا ـ وان ابنه لخليق للامارة » .


( 81 )

وإذا علمنا ان علي بن ابي طالب هو المهيأ لولاية امور المسلمين بعد النبي ـ على الاقل ـ ان فرض انه لم يكن هو المنصوص عليه ، أفلا يثبت لنا ان قضية اسامة كانت لقبول الناس امارة علي على صغر سنه يومئذ بالقياس إلى وجوه المسلمين وكان إذ ذاك لا يتجاوز الثلاثين ؟ وهذا ما يفسر به المشكل الاول والثاني في هذا البعث .
و( ثانيا ) ـ ان يبعد عن المدينة ساعة وفاته من يطمع في الخلافة خشية ان يزيحوها عن صاحبها الذي نصبه لها في الخلافة . وقد ثبت عنه انه كان يتوجس خيفة على اهل بيته ولا سيما على علي ، فوصفهم بأنهم المظلومون من بعده . ولذا نراه اوعب في هذا الجيش كل شخصية معروفة تتطاول إلى الرئاسة ، ولم يدخل فيه عليا ولا احدا ممن يميل إليه الذين كانوا له بعد ذلك شيعة ووافقوه على ترك البيعة لابي بكر ، فلم يذكر واحد منهم في البعث ، وهم ليسوا اولئك النكرات الذين لا يذكرون .
وهذا ما يفسر تباطؤ القوم عن البعث وعرقلتهم له بخلق الاشاعات في المعسكر عن وفاة الرسول ، مع اصراره « ص » ؟ ذلك الاصرار العظيم . ولم يمكنهم ان يصرحوا بما في نفوسهم ، فاعتذروا بصغر قائدهم ، وفي هذا كل معنى التهجين لرأي النبي وعصيان أمره الصريح .
فكان الغرض اخلاء المدينة من المزاحمين لعلي ليتم الامر


( 82 )

له ، بعد ان اتضح للنبي ان التصريحات بخلافته لا تكفي وحدها للعمل بها عندهم ، كما امتنعوا عن السير تحت لواء اسامة وهو لا يزال في قيد الحياة ، فقدر أن القوم إذا ذهبوا في بعثهم هذا يرجعون وقد تم كل شيء لخليفته المنصوب من قبله ، فليس يسعهم إلا ان ينضووا حينئذ تحت جماعة المسلمين ورايتهم .
و( ثالثا ) ـ ان يقلل من نزوع المتوثبين للخلافة ، ليقيم الحجة لهم وللناس بأن من يكون مامورا طائعا لشاب يافع ولا يصلح لامارة غزوة موقته كيف يصلح لذلك الامر العظيم وهو ولاية امور جميع المسلمين العامة ، وهي في مقام النبوة وصاحبها اولى بالمؤمنين من انفسهم .
وزبدة المخض ان بعث اسامة لا يصح أن يفسر إلا بأنه تدبير لاتمام أمر علي بن ابي طالب بمقتضى الظروف المحيطة به من تقدم النص على علي وقرب أجل النبي « ص » ؟ وعلمه بأن هناك من لا يروق له ولاية ابن عمه ، وبمقتضى الدلائل الموجودة في الواقعة نفسها : من تأمير فتى يافع وتكديس وجوه القوم وقوادهم في البعث وعدم دخول علي ومن يميل إليه وامتناع جماعة عن الالتحاق بالجيش وحث النبي على تنفيذه وغضبه من اعتراضهم وتخلفهم ، وهو في مرض الفراق والظرف دقيق على المسلمين .
فهذا البعث في الوقت الذي كان تدبيرا لاخلاء المدينة


( 83 )

لعلي وحزبه كان حجة على المستصغرين لسنه ودليلا على عدم صلاح غيره لهذا المنصب العظيم . فإذا كان الاخلاء لم يتم لتمانع القوم وعرقلتهم للبعث فان الحجة ثابتة مع الدهر .
ولا يصح للباحث ان يدعي إن السبب الحقيقي لتخلف القوم هو ما تظاهروا به من عدم الرضى بامارة قائدهم الصغير ، وان تذرعوا به عذرا لاخفاء تلك الشنشنة التي عرفها النبي من اخزم ، لانا نرى ان لو كان هذا هو السبب الحقيقي ، لما تنفذ البعث بعد أن تم أمر الخلافة الذي به زال المانع الحقيقي ، والمسلمون إلى النبي اطوع منهم إلى ابي بكر لو كان يمنعهم صغر القائد . ولم يتأب عمر نفسه بعد ذلك ان يخاطب اسامة بالامير طيلة حياته اعترافا بامارته .
اما الشفقة على النبي ـ ان لم تكن عذرا آخر تذرعوا به ـ فلا يصح ان تكون سببا حقيقيا ، إذ ينبغي أن يكونوا عليه أشفق بالتحاقهم بالبعث ، وقد غضب أشد الغضب من تأخرهم على ما فيه من حال ومرض . ولئن ذهبوا يسألون عنه الركبان كان أكثر برا بنبيهم من أن يعصوا امره ويغضبوه ذلك الغضب المؤلم له .
ولو ان القوم كانوا قد امتثلوا الامر لاصابوا خيرا كثيرا ولتبدل سير التأريخ ومجرى الحوادث تبدلا قد لا يحيط به حتى الخيال « ولو ان أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون »


( 84 )

ولما وقع ما وقع بعد ذلك من خلاف بين المسلمين وتطاحن وحروب دموية انهكت قوى الاسلام واضعفت روحية الدين حتى انفصمت عرى الجامعة الاسلامية سريعا وانتهكت حرمات الاحكام الدينية ، فعاد الاسلام كما نشاهد اليوم غريبا كما بدئ .
أي أمر عظيم وتدبير حازم صنعه النبي لسد باب كل خلاف يحدث ؟ « وكل أفعاله عظيمة » لو تم ما اراد . ولكن لا امر لمن لا يطاع .
ب ـ ائتوني بكتف ودواة :
قد شاهد النبي ( ص ) ما كان من أمر عرقلة بعث اسامة ، وهؤلاء القوم المتباطؤن لم ينفع معهم صعوده المنبر عاصبا رأسه في أشد حال لا تقله رجلاه مما به من لغوب ، مشددا عليهم النكير على مقالتهم في حق اسامة وتخلفهم عن البعث .
وهي اول حادثة من نوعها تمر على النبي في المدينة ، لا يطاع امره ويتجاهل حكوه ، ويتساهل في غضبه ، ثم لا يستطيع ان ينفذ هذا الامر وهو مصر على تنفيذه إلى آخر يوم من حياته إذ دخل عليه اسامة راجعا من الجرف فأمره بالسير غاديا .
لا شك ان مثل هذا الحادث يدعو إلى تدبير آخر سريع


( 85 )

لاتمام الامر لعلي ، ومنه يتأكد للنبي جليا ما عليه القوم من التواطؤ على عدم التقيد بالنص على علي . وهم إذا كانوا في حياته لا يطيعون أمره في هذا السبيل فكيف اذن بعد وفاته . فلم يجد بعد هذا خيرا من ان يكتب لهم كتابا فاصلا لا يضلون بعده ابدا ، لانه سيكون امرا ثابتا لا يقبل التأويل والنكران والتناسي ، لا كالكلام الذي لا يحفظ الا في الصدور وهي لا تسلم من دخل .
ما أعظمه من كتاب ؟
أهم لا يضلون بعده ابدا ؟
ما أعظمها من نعمة !
بالله أبالله أهكذا قال النبي ؟
نعم ! لما اشتد المرض به « يوم الخميس » وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب ، قال ( ص ) : « هلموا اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ابدا » .
فأية فرصة غالية هذه يجب ان يقتنصها الحاضرون لهم ولجيلهم وللاجيال اللاحقة حتى الابد ؟ وأية نعمة كبرى هذه لا تعادلها نعمة ! . . . أما كان على المسلمين ان يستغلوها اعظم غنيمة فيسرعوا إلى تلبية هذا الطلب ليخلد لهم الهدى ما بقوا ؟ فأي شيء كان يؤخرهم عن اقتناص هذه النعمة ؟
أو ليس عمر بن الخطاب حال دون هذا التدبير ، فأوهى


( 86 )

منه عقدته المحكمة ، فقال : « ان رسول الله قد غلبه الوجع ـ أو ليهجر ـ وعندكم القران وحسبنا كتاب الله » ! . فاختلف الحضور واكثروا اللغط والنقاش ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول : ما قال عمر .
فما ترى نبي الرحمة صانعا بعد هذا ؟ أيكتب الكتاب وهو في زعم بعضهم على حال مرض غالب « حاشا النبي الذي لا ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى » ، فكيف إذن يهتدون به ولا يضلون بعده ابدا ، وقد وقع فيه الخلاف من الآن ، وطعن بتلك الطعنة النجلاء التي لا سبر لها ولا غور . فلم يجد روحي فداه إلا ان ينهرهم وينبههم على خطأهم فقال : « قوموا . ولا ينبغي عند نبي نزاع » لتبقي هذه الحادثة حجة على مرور القرون .
حقا انها لرزية من أعظم الرزايا سببت كل ضلال وقع ويقع بعد النبي . وحق لابن عباس حبر الامة ان يبكي عند تذكرها حتى يخضب دمعه الحصباء ويقول : « ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ( ص ) وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب » .
وليفكر المفكر اي شيء كان يدعو عمر ليقول هذه المقالة القارصة في حق النبي المختار ، وما ضره لو كان يكتب هذا


( 87 )

الكتاب ليعصم الخلق عن الضلالة ابد الدهور وسجيس الليالي ؟
أكان لا يحب أن يبقي الخلق على هدى لا يضلون ؟
أم كان يعتقد حقيقة ان النبي ليهجر . ولكن لا يعتقد هذا الاعتقاد إلا من كان يجهل حقيقة النبي وما جاء به القرآن من الآيات التي ندد بها على المشركين . وليس ذلك عمر . وما باله لم يعتقد بهجر ابي بكر « وليس شأنه شأن النبي » لما أوصى بالخلافة ، وكان قد أغمى عليه اثناء تحرير الاستخلاف ، فأتم ذلك عثمان بالنص على عمر من دون علم ابي بكر ، خشية ان يدركه الموت قبل الوصية ، فأمضى ما كتبه عثمان لما استفاق .
أم ماذا ؟
ليتني أستطيع أن افهم غير انه علم بما سيكتبه النبي من النص على علي ، وقد سبق للنبي ان عبر مثل هذا التعبير في العترة يوم الغدير إذ ذكر الثقلين كتاب الله وعترته اهل بيته ووصفهما بأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ثم قال : « لن تضلوا ان اتبعتموها » (1) أو على المشهور « لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما ابدا » ففهم عمر من قوله : « لا تضلوا بعده ابدا » ماذا سيريد ان يكتب الرسول . ويشهد لتنبه عمر
____________
(1) مستدرك الحاكم ( 3 : 106 ) .
( 88 )

لذلك قوله : « حسبنا كتاب الله » إذ فهم ان غرض النبي ان يقرن الثقلين احدهما بالآخر فكأنه قال : يكفينا واحد منهما وهو الكتاب ولا حاجة لنا بالآخر ، وإلا فما كان معنى لقوله حسبنا . . . وهو يدعي هجر النبي « ص » .
فكانت هذه المقالة من عمر والمقالة بمشهد النبي للحيلولة دون الكتاب لعلي ، اقداما جريئا جاء في وقته المناسب له قبل أن تفوت الفرصة . ولا يشبهه أي موقف آخر منه على كثرة مواقفه في اتمام البيعة لابي بكر ، كما سنرى في انكاره موت النبي وموقفه في السقيفة وبعدها فانه هو الذي شيد (1) بيعت ابي بكر وكافح المخالفين . ولولاه لم يثبت لابي بكر امر ولا قامت له قائمة : فقد كسر سيف الزبير ، ودفع في صدر مقداد ، ووطأ سعد بن عبادة وقال : اقتلوه فانه صاحب فتنة ، حطم انف الحباب بن المنذر ، وتوعد من لجأ إلى بيت فاطمة عليها السلام وكان بيده عسيب نحل (2) بعد خروجهم من السقيفة يدعو الناس إلى البيعة . . .
ولا يستطيع الباحث ان ينكر من عمر بن الخطاب تمالؤه على علي بن أبي طالب ويقظته فيما يخص استخلافه . وكذلك جماعته الذين شاهدنا منهم التعاضد والتكانف في اكثر
____________
(1) راجع شرح ابن ابي الحديد ( 1 : 58 ) .
(2) راجع كنز العمال ( ج 3 رقم 2346 و2363 ) .

( 89 )

الحوادث كأبي بكر وأبي عبيدة وسالم مولى حذيفة ومعاذ بن جبل واضرابهم . وكذا علي نفسه ظاهر عليه جليا ميله عن هؤلاء في جميع مواقفه معهم حتى انه لم يبايع ابا بكر حتى ماتت فاطمة فبايع مقهورا ، ولم يدخل في حرب قط على عهد الخلفاء الثلاثة ، وهو هو ابن بجدتها وقطب رحاها . وكان يتهم عمر انه لم يشد أزر ابي بكر إلا ليجعلها له بعده فقال له مرة : « احلب حلبا لك شطره اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غدا » (1) وقد صدقت فيه مقالته فاستخلف من قبل ابي بكر .
وهل يخفى على أحد ما كان في القلوب من تنافر ؟ ويكفي شاهدا أن نسمع المحاورة التي دارت بين عمر بن الخطاب وابن عباس كما رواها ابن عباس (2) .
عمر « لابن عباس » : أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد ؟
ابن عباس : « وهو يكره أن يجيبه » ان لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني .
ـ : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة ، فتبجحوا
____________
(1) السياسة والامامة : باب امامة ابي بكر . وشرح النهج ( 2 : 5 ) .
(2) الطبري ( 5 : 31 ) وابن الاثير ( 3 : 31 ) وشرح النهج ( 2 : 18 ) .

( 90 )

على قومكم بجحا بجحا ، فاختارت قريش لانفسها فأصابت ووفقت .
ـ : يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت .
ـ : تلكم : ـ : اما قولك : « اختارت قريش لانفسها فأصابت ووفقت » فلو ان قريشا اختارت لانفسها حيث اختار الله عزوجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ومحسود . واما قولك : « انهم كرهوا ان تكون لنا النبوة والخلافة » فان الله عزوجل وصف قوما بالكراهية فقال : « ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله فأحبط اعمالهم » .
ـ : هيهات ! والله يا إبن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره ان افرك عنها فتزيل منزلتك مني .
ـ : وما هي ؟ فان كانت حقا فما ينبغي ان تزيل منزلت منك وان كنت باطلا فمثلي اماط الباطل عن نفسه .
ـ بلغني انك تقول انما صرفوها حسدا وظلما .
ـ : اما قولك : ( ظلما ) فقد تبين للجاهل والحليم . واما قولك ( حسدا ) فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون .
ـ : هيهات ! ابت ـ والله ـ قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا ما يحول وضغنا وغشا ما يزول .


( 91 )

ـ : مهلا ! لا تصف قلوب قوم اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بالحسد والغش ، فان قلب رسول الله من بني هاشم .
ـ : اليك عني ؟

* * *

نقلنا هذه المحاورة بطولها لانها تجلي كثيرا من الغوامض في بحثنا ، فهي تكشف لنا :
( اولا ) ـ عما في نفوس الطرفين من نزوان بغضاء كامنة يستطير شرارها . وهذا ما أردنا استكشافه الآن وسقنا لاجله المحاورة .
و( ثانيا ) ـ عن ان القوم كانوا قد تعمدوا منع الامر عن آل البيت ، وان منعهم كان عاطفيا كراهة اجتماع النبوة والخلافة فيهم خشية تبجحهم ، وقد فسر ابن عباس هذه الخشية بالحسد وانها من الظلم . واستشعر الالم الكامن من تأكيد هذه الكلمة ( بجحا بجحا ) .
و( ثالثا ) ـ عن ان الامامة انما هي باختيار الله ، وأن الخلافة في آل البيت مما انزله الله ، وليست تابعة لا ختيار قريش وكراهتهم .


( 92 )

و ( رابعا ) ـ عن ان ظلمهم لآل البيت بأخذها منهم مشهور يعرفه كل احد .
وهذان الامران الاخيران صرح بهما ابن عباس على شدة تحفظه واتقائه غضب عمر الذي لم يسلم منه بالاخير . ولم يرد عليه عمر الرد الذي يكذب هذا التصريح اكثر من الطعن فيه وفي بني هاشم ثم الزجر له بقوله : « اليك عني » . وهذا الزجر ينطق صريحا بالعجز عن الجواب ، فختمت به المحاورة .
والغرض من كل ذلك ان اقدام عمر الجرئ ، على نسبة الهجر إلى النبي المعصوم ، وعلى دعوى ان كتاب الله وحده كاف للناس بلا حاجة إلى شيء آخر على عكس تصريح النبي ، لا يستغرب منه ما دام القصد منع الامر عن علي . وقد اتضح ان بينهما مالا يستطيع التأريخ نكرانه والتمويه فيه .
واما اعتذار بعض الناس عنه بأنه ظهر له ان الامر ليس للوجوب فهو اعتذار بارد لا يقره العلم . فمن اين ظهر ذلك ؟ أمن قول النبي « لا تضلوا بعده أبدا » ـ وهل هناك أمر اعظم مصلحة في الحكم الشرعي تجعله للوجوب من هداية الخلق اجمعين إلى أبد الدهور ـ أم من وقوع النزاع وغضب النبي وزجرهم بالانصراف . وإذا كان قد فهم الاستحباب فلماذا يرده بأشنع كلمة لا يواجه بمثلها الرجل العادي من


( 93 )

الناس لا سيما عند المرض ، أعني كلمة الهجر والهذيان ، مهما لطفت العبارة بتحويلها إلى كلمة « قد غلبه الوجع » . ثم أي معنى حينئذ لقوله : « حسبنا كتاب الله » ، وهو رد على النبي وتدخل في مصلحة الحكم واساسه ، وكان يغنيه ان يقول لا يجب علينا امتثال الامر .

* * *

والخلاصة إن الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبي ( ص ) من نفس وصفه له : « لا تضلوا بعده أبدا » ومن نفس رد عمر « حسبنا كتاب الله » ومن قرائن الاحوال المحيطة بالقصة بعد سبق توقف البعث عن الذهاب نعرف ان المقصود منه النص على خليفته من بعده وهو علي بن ابي طالب ، لا سيما ان كل خلاف بين المسلمين وكل ضلال وقع ويقع في الامة هو ناشيء من الخلاف في أمر الخلافة فهو أس كل ضلالة . ولو تركوا النبي يكتب التصريح بالخلافة من بعده لما كان مجال للشك والخلاف الا بالخروج رأسا عن الاسلام .
وليس بالبعيد انه ( ص ) امتنع عن التصريح شفاها أو كتبا بعد هذه القصة بالنص على خليفته لئلا يأخذ اللجاج بالبعض إلى الخروج على الاسلام ، فتكون المصيبة أعظم على الاسلام والمسلمين وهذا ما حدا بعلي عليه السلام إلى المجاراة والمماشاة ، فلذا قال في خطبته الشقشقية : « فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء . . .


( 94 )

فرأيت ان الصبر على هاتا أحجى . . . » . وسيأتي في الفصل الرابع الكلام عن موقفه مع الخلفاء تفصيلا .