5 ـ وصول النبأ باجتماع الانصار

لم يهدنا التأريخ إلى أن أبا بكر وعمر اي شيء صنعا مباشرة بعد حادثة انكار موت النبي واجتماعهما ، واين كانا قبل ذهابهما إلى السقيفة فهل دخلا إلى دار النبي معا والباب مغلق دون الناس ، أو انهما وقفا على الباب ، أو ان ابا بكر وحده دخل الدار ؟ كل واحد من هذه الاحتمالات يستشعر فيه حديث . وجائز وقوعها جميعا .
ولكن مثلهما جدير به إلا يبارح دار النبي « ص » في مثل هذه ال‍سرعة ، وإذا كان شيء يحدث فانما يحدث ها هنا ، ومحوره هذا المشغول بجهاز النبي ( علي بن أبي طالب ) ، ومن كان يتهم ان الانصار تستبد بهذا الامر على آل البيت والمهاجرين وتطمع فيه دونهم فتبادر إلى اجتماعها معرضة عن لهم شأن لا ينكر في هذا الامر .
واغلب الظن انه لم يطل الزمن على وصولهما إلى الدار حتى جاء اثنان من الاوس مسرعين إلى دار النبي ، وهما (1) معن بن عدي وعويم بن ساعدة ، وكان بينهما وبين
____________
(1) ذكر ذلك في العقد الفريد ( 3 : 63 ) وفي الجزء الثاني من شرح النهج ولم نر غيرهما يصرح باسم الشخص المخبر . ولكن عمر بن
( 121 )

سعد الخزرجي المرشح للخلافة موجدة قديمة ، فأخذ معن بيد عمر بن الخطاب ، ولكن عمر مشغول بأعظم امر ، فلم يشأ ان يصغي إليه ، لولا ان يبدو على معن الاهتمام إذ يقول له : ( لابد من قيام ) ، فأسر إليه باجتماع الانصار ففزع اشد الفزع ، وهو الآخر يصنع بأبي بكر ما صنع معن معه ، فيسر إلى ابي بكر بالامر ، وهو يفزع ايضا اشد الفزع . فذهبا يتقاودان مسرعين إلى حيث مجتمع الانصار ، وتبعهما أبو عبيدة بن الجراح ، فتماشوا إلى الانصار ثلاثتهم (1) .
اما علي واما من في الدار وفي غير الدار من بني هاشم وباقي المهاجرين والمسلمين ، فلم يعلموا بكل الذي حدث وبما عزم عليه ابو بكر وعمر .
ولماذا ؟ ـ ألم تكن هذه الفتنة التي فزعا لها اشد الفزع تعم
____________
الخطاب نفسه يحدثنا أنه صادفها في ذهابهم إلى السقيفة ، فأشار عليهم بالرجوع ليقضوا أمرهم بينهم . واحسب ان عمر أراد أن يحفظ لهما هذه اليد ، فيكتم عليهما غايتهما هذه على قومهما دفاعا عنهما ، لان الانصار اجتمعت بعد بيعة أبي بكر في محفل فدعوهما وعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين واكبوا فعلهما فخطبا فردت عليهما الانصار وأغلظوا وفحشوا عليهما وكل منهما قال شعرا : ( راجع شرح النهج 2 : 11 نقلا عن كتاب الموفقيات للزبير بن بكار ) .
(1) الطبري ( 3 : 208 ) .

( 122 )

جميع المسلمين بخيرها وشرها وأخص ما تخص عليا ثم بني هاشم ؟ أو ليس من الجدير بهما ان يوقفاهم على جلية الامر ليشاركوهما على اطفاء نار الفتنة الذي دعاهما إلى الذهاب إلى مجتمع الانصار مسرعين ؟ ثم لماذا يخص عمر ابا بكر دون الناس ثم أبا عبيدة ؟
ليس من السهل الاحاطة بأسرار ذلك التكتم وهذا التخصيص ، وهو موضوع بكر لم يقرع بابه الباحثون . ولكنا إذا علمنا ان الجماعة كانوا يلاحظون في علي تلك الامور التي ذكرناها في البحث السابق فيحذرون ان يستبق إلى بيعته مستبق ، نجد منفذا إلى خبايا هذا التكتم ونطمئن إلى انهم رأوا الاصلح لهم ان يتداركوا الامر بأنفسهم من دون ان يشيع الخبر وحينئذ يستطيعون ان يهيمنوا على الوضع ولا يقع ما يحذرون ، إذ يكبسون على الانصار اجتماعهم السري في جو هادئ ممن يتحمس لعلي . وهذا التخصيص من عمر يشجعنا على ان ندرك التفاهم السري بينه وبين ابي بكر بل بينهما وبين ابي عبيدة في هذا الشأن بل بينهم وبين سالم مولى أبي حذيفة . ولذلك وجدنا عمر بن الخطاب يأسف عند الموت الا يكون واحد من هذين « ابي عبيدة وسالم » حيا حتى يجعل الخلافة فيه من بعده ، مع ان سالما ليس من قريش .
وإذا كانوا لم يلاحظوا في علي ما قلناه ، فمن هو أجدر منه بالاخبار بهذا الامر ومن أجدر من قومه بني هاشم ، وعلي


( 123 )

ليس ذلك الرجل الذي يستهان بشأنه ويستصغر قدره حتى لا يستشار ولا يخبر بمثل هذا الامر الخطير ، وهو ان لم يكن منصوصا عليه بالخلافة فان مؤاخاة النبي له مرتين دون سائر الخلق وجعله منه بمنزلة هارون من موسى وهو أحب الناس إليه ومولى كل من كان مولاه وولي كل مؤمن بعده ووارثه ووصيه ويدور الحق معه كيفما دار . . . كل هذا وغيره ما شئت ان تحدث يجعل له المنزلة الاولى في هذا الشأن ليستشار على الاقل .
ولئن كان مشغولا عنهم بجهاز النبي « ص » فجدير بأن يكون على خبر من ذلك ليكون ردا لهم عند حدوث ما يكره ، وهم مقدمون على أمر عظيم ، وعلي من لا ينكر في شجاعته وبطولته وايمانه وتفانيه في سبيل نصرة الاسلام . ولكنه بالرغم من ذلك كله لم يعلم بالحادث إلا بعد ان سمع التكبير من المسجد عاليا ، وقد فرغوا من اجتماع السقيفة وجاءوا بأبي بكر يبايعونه البيعة العامة .
ولست في تعليلي هذا أدعي الاحاطة بأسرار هذا التكتم وإنما ذكرت ما يبدو لي عند البحث مقتنعا انه أهم أسراره وعسى ان يكون هناك من يستطيع ان يشبع الموضع بحثا ، فيزيدنا علما على علم أو يكشف لنا انا على جهل .


( 124 )

6 ـ تأثير دخول المهاجرين في اجتماع الانصار

لنجئ الآن مع ابي بكر وعمر وابي عبيدة إلى السقيفة ، فنرى الانصار مجتمعين يتداولون الحديث ، وسعد بن عبادة بينهم مزمل وجع يخطب فيهم وقد ترأس حفلهم مرشحا للخلافة . ولا نشك ان الانصار الآن في لغط وحماس ، قد اخذت الانانية والفخر بأطرافهم معدين للوثبة عدتها ، يريدون في اجتماعهم السري هذا ان يقبضوا على ناصية هذا الامر العظيم ، وليس امامهم من يطاولهم .
وإذ يدخل عليهم وجوه المهاجرين فجأة لا بد ان يسقط ما في أيديهم بافتضاح امرهم قبل ابرامه ، وبتخوفهم من خروجه من ايديهم بعدما قالوا وصنعوا . ولا بد ان يرتبكوا لذلك ويقوى فيهم شعور الخذلان . وقد عرفنا نفسياتهم التي يتغلب عليها الضعف ، فيتغير عليهم مجرى الحادثة . وهنا ينقلب الدور فيتهيئون لمواجهة هذا الحادث الجديد بما يقتضيه : فمن كان يبغض الامارة لسعد وجد الفرصة قد حانت للانتقاض عليه ، وبالعكس اصحابه الذين يوادونه لابد ان ينقلبوا مدافعين . وهذا أول تبدل في حالهم وانخذال في اجتماعهم .
وبعد دخول جماعة المهاجرين هذا الاجتماع وسؤالهم عن


( 125 )

هذا المزمل من هو ؟ وما شأنه ؟ نرى عمر يذهب ليبتدئ المنطق ، وقد زور في نفسه مقالة في الطريق ليقولها بين يدي ابي بكر ، وكان يخشى جد ابي بكر أو حدته ، وكان ذا جد كما يقول هو . ومن الواضح ان الموقف دقيق جدا يدعوا إلى كثير من اللين واللباقة رعاية لهذه العواطف الثائرة المتحفزة ، ولكن ابا بكر يمنع عمر من ابتداء الكلام ، وكأنه هو ايضا يرقب شدته وغلظته المعرفتين فيه فانطلق يتكلم ، وما شيء كان زوره عمر إلا أتى به أو بأحسن منه على ما يحدثنا عمر نفسه .
ولقد كان ابو بكر يحسن المعرفة بما يتطلب هذا الوضع من الرفق والسياسة ، أو لا ترى لما كادوا ان يطأوا سعدا قال قائل : قتلتم سعدا . . فقال عمر وهو مغضب : « اقتلوا سعدا قتله الله انه صاحب فتنة » فالتفت إليه ابو بكر قائلا : « مهلا يا عمر ! الرفق هنا ابلغ » .
ولا اعتقد مع ذلك ان عمر كان يجهل ضرورة الموقف ، ولكني اخاله ـ وقد تمت البيعة لابي بكر ـ لم يجد حاجة لكثير من هذا اللين والمداراة ، وقد أخذ بموافقة الانصار إلا القليل ، وتحقق فشل سعد وانخذاله . فهو اذن يعرف موضعي اللين والشدة . ولعله ـ وهو رجل الساعة بعد أبي بكر ـ أراد ان يظهر بالغلظة لينطق ابا بكر بكلمة اللين .


( 126 )

7 ـ تأثير خطب أبي بكر على المجتمعين

من المتيقن ان الرجال الذين سادوا الامم والجماعات فأحسنوا سيادتهم هم من ابرع الناس في علم الاجتماع وهم لا يشعرون . وإنما جبلوا على معرفة فطرية تشحذها التجارب التي تخلق في النفس الملكة على تطبيق النظريات عند الحاجة . وابو بكر وعمر هما من اولئك الناس الذين عرفوا خواص نفسية الجماعات وكيف يمكن التأثير عليها في الوقت المناسب كما دلت الحوادث المتكررة على ذلك .
ولا شك ان مميزات الجماعة المقصودة لعلماء الاجتماع كانت متوفرة ايضا هنا أتم من توفرها في اجتماع المسجد غب موت النبي الذي اشرنا إليه سابقا : فقد كان الاجتماع حافلا التجأ فيه سعد بن عبادة أن ينيب عنه ابنه أو بعض بني عمه في إلقاء كلامه ، فيرفع به صوته ليسمع المجتمعين . وقد اجتمعوا لغرض واحد حساس أعني تأمير من يخلف ذلك النبي العظيم ، ليكون على رأس هذه الامة الكبيرة القوية المستجدة ، وهم على ما هم عليه من الحال التي وصفناها من التوثب والشعور بالاستحقاق والتكتم .
وأظنك عرفت في البحث الاسبق ان الاجتماع الذي يتألف على هذا النحو كيف يطلع فيه قرن العاطفة ويأرز


( 127 )

رأس العقل والتفكير في المجتمعين فيصبح عرضة للتقلبات والانقلابات الفجائية ويقوى فيه سلطان المحاكاة والتقليد الاعمى . بل تظهر عليه الاعراض المتناقضة ، فبينا تجده قد يقوم بأعمال وحشية جبارة تدل على شجاعة افراده البالغة حدها تجده مرة اخرى يجبن من الصفير . وبينا تراه يأتي بأعمال صبيانية مضحكة تراه تارة اخرى يحكم التدبير والتنظيم . وما ذلك كله إلا من سجية المحاكاة الموجودة في كل انسان فتسود على المجتمع عندما يبطل حكم العقل وحينئذ يكون تابعا مسخرا لكل من يحسن تسخيره بالمؤثرات التي تهيمن على العاطفة كالمنوم تنويما مغناطيسيا .
ونحن إذا فهمنا جيدا هذه البديهيات عن روحية الجماعات ، ولاحظنا توفر شروط الجماعة الاجتماعية في جماعة السقيفة ، نفهم معنى تلك الاساليب التي اتبعها ابو بكر وصاحبه ـ كما سترى ـ للتأثير على المجتمعين يومئذ ونفهم سر تأثر جماعة الانصار وانقلابهم الفجائي على انفسهم ، فأخذ أبو بكر وعمر الامر من أيديهم باختيارهم . على انهما في جنب قوة الانصار واعتزازهم بجمعهم تلك الساعة لا يعدان شيئا ، وليس من المهاجرين معهما إلا أبو عبيدة بن الجراح كما سبق وسالم مولى أبي حذيفة على رواية . فاسمع الآن إلى الاساليب التي قلنا عنها :
لقد رأينا سابقا كيف حرش ابو بكر بين الانصار ، وأثار


( 128 )

عواطف الاوس على الخزرج . وقد صادف منهم نفوسا متهيئة الوثبة على سعد . حتى استمالهم إلى جانبه وهم يشعرون أو لا يشعرون . في حين انهم يعلمون ان الامر إذا كان للانصار وان تولاه رئيس الخزرج فهو إلى حيازتهم أقرب والى سلطانهم أدنى . ولكن للعاطفة هنا سلطانها القاهر على النفس لا يقف في وجهها أي سور محكم من المنطق والتفكير .
ولنفحص الآن « خطبته » التي واجههم بها في أول الملاقاة وقال عنها عمر : « ما شيء كان زورته في الطريق إلا اتى به أو بأحسن منه » فانه ذكر فيها أولا ما للمهاجرين من فضل وسابقة في الاسلام بأنهم أول من عبدالله في الارض وآمن بالله وبالرسول وانهم اولياؤه وعشيرته واحق اناس بهذا الامر « أي الخلافة » من بعده . وأن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ، وانهم لا ينازعهم في ذلك إلا ظالم . . . ! ثم خاطب الانصار فلم يغمط حقهم وسابقهم وجهادهم ، لكن . . . لكن من غير استحقاق لهذا الامر ، وإذا استحقوا شيئا فانما هي « الوزارة » . . ولغيرهم . . . « الامارة » ، فقال :
ـ « . . . وأنتم يا معشر الانصار من لا ينكر فضلكم في الدين ولا سابقتكم العظيمة في الاسلام . رضيكم الله انصارا لدينه ولرسوله وجعل اليكم هجرته ، وفيكم جلة أزواجه


( 129 )

وأصحابه ، فليس بعد المهاجرين الاولين عندنا بمنزلتكم ، فنحن الامراء وأنتم الوزراء » (1) .
وفي هذا البيان الشيء المدهش من اطفاء نار عواطفهم المتأججة ضد المهاجرين ، واشباع نهمة نفوسهم الفخورة المتطاولة بفضلهم ، وجهادهم ونصرتهم ، وتقريبها إلى المهاجرين للاعتراف بفضلهم عليهم ، لانه ليس اقوى على تخدير أعصاب الجماعة الهائجة من الذهاب مع تيار روحهم المندفعين بها ، فأعطى لهم ما يسألون بلسان حالهم من الاعتراف بالفضل والجهاد وكل فخر يشعرون به متطاولين .
حقا لقد صدق وصدقوا ، فان لهم الفضل الذي لا ينكر ، ولكنهم أخطأوا بزعمهم ان لهم بذلك حق الامارة ، وهنا نجد أبا بكر يريد أن يحولهم عن هذا الزعم ، فيحذر أن يخدش عواطفهم بما ينقص منزلتهم ويحط من مقامهم ، فعدل عن التصريح بكلمة الخطأ أو ما ينسق عليها من معناها ، واتبع اسلوبا آخر من البيان وانه لمن السحر المأثور فلم يزد على كلمة : « فليس بعد المهاجرين الاولين عندنا بمنزلتكم فنحن الامراء وأنتم والوزراء » . وفيها تنبيه على خطأهم من طرف خفي من دون التجاء إلى الكلمة التي بها تجرح عواطفهم وتثير الحزازات مع الثناء عليهم في نفس الوقت ثم اثبات الوزارة لهم .
____________
(1) الطبري ( 3 : 208 ) .
( 130 )

وإذا أردت التدقيق في هذه الكلمة ترى الشيء الاعجب : فهو الآن يريد أن يفضل المهاجرين الاولين « الاولين بالخصوص ! » عليهم ، ليثبت لهم استحقاق الخلافة ، ولو كان وضعهما في طرفين وفضل المهاجرين لاثار ذلك بحفيظتهم وحرش بين خصمين متطاولين من القديم ، فعدل عن منطوق مقصوده والتاف إليهم من طريق تفضيل الانصار أنفسهم على الناس والقى في الطريق كلمة « بعد المهاجرين الاولين » ، فتضاهر انه يريد ان يقول : ليس أحد بمنزلة الانصار . وأن مقصوده ليس غير ، وإنما استثنى المهاجرين كأمر ثابت مقرر لا يتطرق إليه الشك وليس محلا للنقاش لا لانه المقصود في البيان .
وهنا إذ تهدأ تلك النفوس الجامحة في الجماعة راضية بما قيل لها وفق شعورها تتفكك أوصالها وترجع من حيث جاءت كأنما حصل لها كل ما تصبو إليه . وهذا من انحطاط نفسية الجماعات ، فلا تشعر بالنتيجة التي يراد أخذها منها وان خالفت تفكيرها عند التأمل ، لان عادة الجماعة في الافكار ان تقبلها جملة أو تردها جملة ، ولا طاقة لها على التأمل والتفكيك بين الافكار ولا صبر لها على التمييز .
مضافا إلى ان الوعد بجعلهم الوزراء لا يفتاتون بمشورة ولا تقضي الامراء دونهم الامور يطمن من رغباتهم واطماعهم ، ويذهب بخوفهم من الاستبداد عليهم وأخذ الثأر منهم ،


( 131 )

ويسدل على ما حاولوه ستارا كثيفا من النسيان . وبعبارة أصح ، يأخذ أثره الوقتي وتلهو الجماعة عن صدق الوفاء ولا تحتاج إلى التدليل عليه ، ولا يكلف قائله إلا الوعد وبهرجة الكلام .
وهناك كلمتان أخريان في تلك العبارة التي حللناها لا يفوتنا أن نتعرف اليهما والى ما فيهما من معنى أخاذ
الاولى ـ كلمة ( الاولين ) ـ فأبعدهم بها عن شعور الخصومة الموجودة للمهاجرين عامة . والمهاجرون والانصار حزبان متطاولان وقد كان تنافسهما أمرا واضحا للعيان في زمن الرسول وبعده حتى قال لهم النبي يوما : « ما بال دعوى اهل الجاهلية » ، وذلك عندما قال الانصاري : « يا للانصار ! » وقال المهاجري : « يا للمهاجرين ـ » فأقبل جمع من الجيشين وشهروا السلاح حتى كاد ان تكون فتنة عظيمة ، في قصة مشهورة (1) ـ فتجد ابا بكر بتخصيص المهاجرين بالاولين كيف اتقى شعور الانصار بخصومتهم لعامة المهاجرين ، وهم لا ينكرون ما للاولين من فضل وقد سبقوهم إلى الاسلام وعبادة الرحمن على انه بهذا التخصيص قرب نفسه وصاحبيه إلى هذا الامر .
الثانية : كلمة ( عندنا ) ـ فانظر إلى ما فيها من قوة
____________
(1) راجع البخاري ( 2 : 165 و3 : 126 ) .
( 132 )

سحرية إذ رفع بها عن مقام القرن المنازع للانصار ، وأخرجها عن الحزبين : الانصار والمهاجرين ، ونصب نفسه بها كحكم بينهما يفضل هذا على ذاك ثم يختار لهم ما فيه الصلاح . وهذا له الاثر البليغ في اخماد نار عاطفة التعصب عليه ، ويعطيه ايضا منزلة في نفوسهم هي أعلى وأرفع تجعل له نفوذ الحكم المستشار والزعيم للفريقين وعلى العكس فيما لو نصب نفسه مزاحما لهم مطالبا بحق يعود له ولحزبه . وشأن الجماهير انها لا تنتظر الدليل على الدعاوي البراقة المبهرجة . لان التصوير ولو بالالفاظ له الحكم الفصل على نفسياتها .
فارجع الآن إلى تلك العبارة ودققها ! وهي جعجعة تسحن الجماعات من غير طحن ، وإلا فمن المقصود بضمير ( عندنا ) يتكلم عنه ابو بكر غير جماعة المهاجرين وهو منهم ، وعلى تقديره فمن الذي خوله ان يمثل المهاجرين بشخصه ؟ . . . ولكنه جرد من نفسه « ومعه غيره » حكما مفضلا ، عنده المهاجرون أفضل من الانصار وليس بمنزلة الانصار أحد بعدهم .
فلا نعجب بعد عرفاننا هذه الاساليب التي لها القوة السحرية على الجماعات ان يأخذ ابو بكر بناصية الحال ، ويستهوي المجتمعين لينظروا إليه بقلوبهم لا بعقولهم ، فيصرفهم كيف يريد . فانتظر نتيجة تأثيره عليهم .


( 133 )

8 ـ نقاش المهاجرين والانصار

قرأنا في الفصل السابق خطبة ابي بكر وما فيها من الاساليب فلنر مدى تأثيرها على المجتمعين وكيف كانت النتيجة ؟ :
لم يرد عليه إلا الحباب بن المنذر في كلامه المتقدم في البحث رقم (2) وقد رأيناه لم يأت بشيء وكان اول منخذل امام المهاجرين وإن ظهر بالقوة التي تلاشت في آخر كلامه كما شرحناه ، ففتح على نفسه باب الحجة الظاهرة إذ قال : « فمنكم أمير ومنهم أمير » ، على أنه ظهر جليا بمظهر المتعصب المغالب ، فاستهل كلامه بقوله : « املكوا عليكم أمركم . . . » وهذا مردود عليه معكوس الاثر ، وسيأتي .
وهنا . جاء دور عمر بن الخطاب فقال : « هيهات ! لا يجتمع اثنان في قرن . والله لا ترضى العرب ان يؤمروكم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع ان تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي امورهم منهم . ولنا بذلك من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين . من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن اولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لا ثم أو متورط في هلكة » .
فتجد كلام عمر هذا ـ وان كان هادئا ـ لا يبلغ كلام ابي


( 134 )

بكر ، إذ ظهر بمظهر الخصم المدعي بحق الامارة . وكأن ابا بكر فسح له المجال لان يكون هو المدعي العام عن المهاجرين بعد ان نصب نفسه كحكم للمتنازعين . كما نلاحظ ايضا انه لم يشر إلى قضية النص على قريش أو على خصوص واحد منهم ، وإنما القضية قضية رضى العرب وابائها وان المهاجرين اولياء محمد وعشيرته . ولذا قال علي عليه السلام بعد ذلك : « احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة » .
فقام الحباب بعد عمر فقال : « يا معشر الانصار املكوا عليكم امركم ولا تسمعوا مقالة هذا واصحابه ، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الامر ، فان ابوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد ، وتولوا عليهم هذه الامور ، فأنتم ـ والله ـ احق بهذا الامر منهم فانه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين . انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب . انا شبل في عرينة الاسد . اما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة . والله لايرد أحد على ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف » .
وهذه عصبية جاهلية وسوء قصد ظاهر . فقال له عمر : « إذا يقتلك الله » فانتحى به الناحية الدينية إذ نسب القتل إلى الله تعالى ولم يقل يقتلك الناس . وهذا اسلوب من الرد فيه التهديد والتنديد على تلك دعوى الجاهلية منه . فقال الحباب : « بل إياك يقتل » .


( 135 )

وهذه مهاترة يلتجأ إليها ضعف الحجة وشدة الغضب ، فترى الحباب في كل ذلك كان قلق الوضين يرسل من غير سدد ، وتتضوع من فمه رائحة نفسه ، ولا يعرف ان يسر حسوا في ارتغاء . فاقتحم في الميدان بجنان الفارس المدله المدل بقوته ونفسه ، ومن سيفه ولسانه تنطف دعوى الجاهلية الاولى البشعة في الاسلام ، تأباها عليه الصبغة الدينية المصطبغ بها المجتمع يومئذ ، وهو في الدرجة الاولى متأثر بالاسلام وتعاليمه ، وللشعور الديني المكان الاول في تأثر الجماعات الدينية وانفعالاتها ، فما لم يستخدم هذا الشعور لا يرجى ان يحدث في الجماعة التعصب الذي يجعل الانسان يرى سعادته في التضحية بنفسه وبكل عزيز فداء للمقصد الذي يوجه إليه .
فالحباب ان تولى الدفاع عن سعد وقومه نصرة لهم فهو الذي أفسد عليهم أمرهم أكثر من أي شخص آخر من حيث يظن الصلاح وبدلا من ان يقود المجتمعين للغرض الذي اجتمعوا لاجله قد خسرهم واعطى القيادة ـ من حيث لايشعر ـ لغيره الذي عرف كيف تؤكل الكتف في استمالتهم واستعمال نفوذه فيهم . وكان اول ظهور هذه الخسارة قيام ابن عمه بشير بن سعد الخزرجي ، فنقض على الخزرج ما اجمعوا عليه فقال :
« يا معشر الانصار انا والله لئن كنا اولى فضيلة في جهاد


( 136 )

المشركين وسابقة في هذا الدين ما اردنا إلا رضى ربنا . نبينا والكدح لانفسنا ، فما ينبغي لنا ان نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي من الدنيا عرضا فان الله ولي المنة علينا بذلك . ألا إن محمدا من قريش وقومه أحق به وأولى . وايم الله لا يراني الله انازعهم هذا الامر ابدا فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم » .
انظر إلى الشعور الديني كيف أخذ بأطراف كرم هذا الرجل ، متأثرا بدعوة ابي بكر وصاحبه ، خارجا على قومه بل على نفسه ، وكان بعد ذلك اول مبايع من القوم . ولا اعتقد ان ذلك كله عن نفاسة لسعد كما رماه به الحباب لما مد يده للبيعة فناداه : « يا بشير بن سعد عققت عقاق ! ما أحوجك إلى ما صنعت ؟ أنفست على ابن عمك الامارة ! » . فقال بشير : « لا والله ولكن كرهت ان انازع قوما حقا جعله الله لهم » .
بل اعتقد انه كان صادقا بعض الصدق أو كله فيما ادعاه عن نفسه فان سير الحادثة كما وصفناه يدل دلالة واضحة على تأثر الجماعة بكلام ابي بكر وانقيادها إلى دعوته ولا سيما بعد ما صدر من الحباب ما يبعد النفوس عن دعوة قومه . نعم ! وإنما كان مبدأ ظهور ذلك التأثير في بشير بن سعد ، فيصح ان نجعله ممثلا لشعور قومه تلك الساعة .


( 137 )

9 ـ المهاجرون يربحون الموقف

إن الحقيقة هي التي وصفناها لك . إن القوم قد تكهربوا بدعوة المهاجرين وتهيئوا لبيعة واحد منهم بالرغم من وجود التنافس بين الحزبين كما أشرنا إليه وصرح به أبو بكر في خطبته التي تقدمت في البحث « 3 » إذ قال : « فقد جلس بين لحي اسد يقضمه المهاجري ويجرحه الانصاري » وزاد في تهيئهم هذا منافسة الاوس للخزرج وحسدهم لسعد . وطبيعي ان تنافس القريب اكثر أثرا من منافسة البعيد مهما كانت .
ولذلك نرى ابا بكر لما سمع مقالة بشير لم يتأخر عن تقرير النتيجة من هذا النقاش ، فلا بد انه علم بانقلاب الجمع تأثرا بدعوتهم كيف وهو قد هيمن عليهم ونومهم تنويما مغناطيسيا ، فيعرف كيف سخره وقاده فقدم للبيعة أحد الرجلين اللذين معه : عمر بن الخطاب وابي عبيدة الجراح ، وقال : « قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فأيهما شئتم فبايعوا » .
وقد جرى في هذا الكلام هنا على نفس تلك الطريقة التي سلكها في خطبته المتقدمة في البحث « 7 » من ترفعه عن مقام المعارضة ، وتجريده من نفسه حكما للحزبين يختار لهما ما هو الصالح باجتهاده ، فاختار لهم احد هذين الرجلين .
ولكن الجمهور كما قلنا ضعيف الرأي والاختيار ،


( 138 )

لايعرف ان يختار ولا يعرف ان يعين ما يختار ، ويبقى في مثل هذا الحال منتظرا اشارة من سخرة ونومه التنويم المغاطيسي أو لاي شخص آخر يفاجئه بارادة قوية حازمة ، فلو ان احدا من الحاضرين قام فبايع احدا منهما عمر أو أبا عبيدة لبويع وانتهى كل شيء . ولو ان ابا بكر عين واحدا لما تأخروا عن بيعته ، ولكن هذا الترديد بين الرجلين يظهر انه كان مقصودا تمهيدا لارجاع الامر إليه ، ولعله عن تفاهم سابق واتفاق بين الثلاثة ليتعاقبوا هذا الامر . ولذلك تمنى عمر عند الموت ان يكون ابو عبيدة حيا ليعهد إليه .
اما هما فقد أبيا عليه وقال عمر : « لا والله لا نتولى الامر عليك ابسط يدك نبايعك ! » قال هذا القول ولم يترك فرصة تستغل للرد والحجاج ، فحقق القول بالعمل ، وأقدم بارادة جازمة لا تعرف التردد يتطلبها الموقف الدقيق ، فذهب ليبايع ابا بكر ، ولم يتمنع ابو بكر فمد يده ، ولكن بشير بن سعد هذا الذي تقدمت خطبته سابق عمر بن الخطاب إليها فوضع يده بين يديهما مبايعا ، كأنما اراد بذلك ان يحرز الفضيلة في السبق أو ليبرهن على اخلاصه للمهاجرين ، بل هذا من اندفاعات الجمهور المدهشة بنتيجة انفعالهم بالمؤثرات التي تطرأ عليهم .
وهو من ابلغ الشواهد على ما قلنا من تكهرب نفوس جمهور السقيفة بتلك المؤاثرات التي استعملها ابو بكر بتلك


( 139 )

الحذاقة واللباقة ، فان لبعض الالفاظ والجمل سلطانا لا يضعفه العقل ولا يؤثر فيه الدليل . الفاظ وجمل يفوه بها الخطيب خاشعا أمام الجمهور ، فلا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو الوجوه هيبتها وتعنو القلوب لها احتراما كأن فيها قوة إلهية أو موجة سحرية ، فتثير تارة في النفوس أشد الصواعق من الغضب ، وتسكنها تارة إذا جاشت فتمزق اشلاءها وتقودها إلى حيث يريد المتكلم راضية قانعة (1) .
ويظهر ان عمر ايضا أدرك حقيقة الموقف وكيف قد ربحه المهاجرون فلم يبق إلا أن يصدر أحدهم الحكم الفاصل في تعيين من يبايع منهم ، فأقدم على بيعة ابي بكر ـ كما رأيناه ـ غير متردد ولا متخوف ولا مستشير ، ومد يده مسرعا . وإلا فان الامر أعظم من أن يتم بهذه السرعة والسهولة التي كانت : باقدام شخص واحد يعقد البيعة لشخص آخر الظاهر ظهور الشمس انه صاحبه المنحاز إليه في وقت هو احد ثلاثة أو أربعة من الحزب المعارض لقوم في عقر دارهم معتزين بقوتهم يريدون أن يملكوا أعظم سلطان لاعظم أمة ، وهو لم يأخذ رأيهم وتصديقهم على ما أراد (2) .
____________
(1) راجع كتاب « روح الاجتماع » المعرب لغستاف لبون ص 113 .
(2) على انه قال بعد ذلك في خلافته : « فمن بايع اميرا من غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه تغرة يقتلا » راجع كنز العمال الجزء الثالث رقم الحديث 2323 .

( 140 )

وإنما اقدم كأن الامر لا يدور إلا بينه وبين ابي بكر كأمر ثابت لاشك فيه . وهذه مغامرة خطيرة لها ما بعدها ، ولم تكن منه إلا لانه أدرك نضج القوم وتهيئهم لبيعة أحد المهاجرين .
ولذلك لم نجد معارضة من القوم ، بل الاوس ذهبت جميعها مسرعة للبيعة من غير تردد ولا تلكؤ يقدمها أسيد بن حضير بعد ان قالت ما قالت كما تقدم في البحث « 3 » . ثم تبعهم جميع الانصار ما عدا سعدا ومن كان شديد التعصب له كأبنه قيس والحباب . ولا شك ان للعدوى أثرها الفعال في الجماعات فتسري سريان النار في الهشيم ، أو تيار الكهرباء في سلكه ، فقد وجدنا كيف كان هلعهم في تزاحمهم على البيعة وتسابقهم إليها ، كأنما تفوت دونها الفرصة ، فأقبلوا من كل جانب يبايعون ابا بكر ، حتى ازدحموا على سعد بن عبادة السيد المطاع في الخزرج بل الانصار كلهم ، هذا الزعيم الذي كان قبل ساعة مرشحا للبيعة خليفة للنبي وأميرا على جميع المسلمين ، وكادوا يطأونه فيقتلونه وهو مزمل وجع ، فحمل إلى داره صفر اليدين .
وهذا ألطف شيء في تناقض أفعال الجمهور وعدم ثباته وتطرفه في اعماله وآرائه وشدة نزقه ، فانه لا يعرف الحلم والصبر ولا قمع النفس عن الاسترسال في نزعاتها ، ولا المحافظة على الآداب العامة المصطلح عليها ، وهو مع ذلك كثير النسيان لاحواله السابقة .