أما الحباب ـ ولا ينبغي أن ننساه ـ لما رأى اقبال الناس على البيعة انتضى سيفه ، فحامله عمر فضرب يده ، فندر السيف ، فأخذ منه . فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة ، ولكن من المعلوم أنه لم يصنع شيئا ولم يستطيع رد جماح أي شخص من قومه حتى تمت البيعة مرغما ، وصدق فيه وفي قومه المثل المشهور « رب ساع لقاعد » . وليتني أراه في تلك الساعة كيف كان حاله فتزبد شدقاه ويتميز غيظا ويعض على أنامله وقد ملكت حواسه سورة الغضب ، وماذا كان يقول لقومه ولنفسه بعد ذلك الذي مضى منه من التهديد والوعيد ثم ذهب هباء وخار ضعفا ؟ لا شك انه لو كان من ابناء هذه المدينة الحديثة متشبعا بعاداتها ، لكان ـ هو على مثل هذه الحال ـ ضحية الانتحار ليتخلص من شنارها ويستر عارها .

10 ـ النتيجة
نستنتج من سير الحادثة ان طريقة بيعة ابي بكر لم تكن طريقة اختيار بالمعنى الصحيح (1) ويحقق معنى أنها كانت « فلتة » وقى الله شرها على حد تعبير عمر بن الخطاب .
____________
(1) فنصدق كلمة الاستاذ محمد فريد أبي حديد في مقاله « نظرة في نظام بيعة الخلفاء » المنشور في مجلة الرسالة المصرية العدد 10 .
( 142 )

وقد رأينا السرعة التي جرت بالحادث لم تبق مجالا للمفكر ان يشحذ فكره ولا للمعارض ان يقيم حجته ، فكانت مفاجأة في مفاجأة . مع ان العاطفة العدائية عند الاوس المهيجة من ابي بكر كان لها الاثر الفعال في تقريب النتيجة ، وساعدها بل اشعل أوارها ان المجتمعين انطبعت فيهم اوصاف الجماعة الاجتماعية ، مما يذهب عنهم صحة الاختيار والحكم .
فلا بدع إذا لم يثق الباحث المفكر باختيار جماعة السقيفة ، ولا يغتر به دليلا على صحة هذه الطريقة من البيعة في الاسلام . وقد اشرنا في الفصل الاول إلى ان عمر نفسه قال عنها : « فمن دعا إلى مثلها فهو الذي لا بيعة له ولا لمن بايعه » .
ولا غرابة ايضا إذا لم يدافع احد عن النص على علي بن ابي طالب ، وقد اندفع المجتمعون بتيار جارف لا يقف في سبيله شيء ، ونحن نعرف رأي المهيمنين على الاجتماع في علي ، وهم يبتعدون ان يتم له شيء من ذلك . أفتراهم يدعون إليه في هذا المجتمع الذي اسس على الاعراض عن النص فيه . وإذا قال بعد ذلك بعض الانصار أو كلهم « لا نبايع إلا عليا » كما سبق فقد قلنا ان ذلك بعد خراب البصرة ، فان هذا الجمهور اصبح لا يملك اختياره وتفكيره وشعوره بواجبه الديني لما قلناه من تكهربه بتيار تلك القوة السحرية


( 143 )

قوة الاجتماع التي تجعل اعماله اعمالا لا شعورية ، على ان اساس الاجتماع ارتكز على طمع الانصار من جهة تخوفهم من جهة اخرى « على ما شرحناه فيما تقدم » . وهذان لم يتركاهم يفكرون في واجبهم الديني فبعد أن افحموا وغلبوا واندفعوا مع الغالبين ، وتلك هي فطرة البشر .
ويشهد على ما نحسه من الضعف الديني في تلك الاحكام العاجلة والقرارات الخاطفة في اجتماع السقيفة ، انه مما تقرر في تلك النهزة أمران عامان :
1 ـ ان الانصار لا حق لهم في هذا الامر .
2 ـ انهم الوزراء لمن كانت له الامارة .
مع ان الاول شك فيه أبو بكر نفسه بعد ذلك إذ تمنى فيما تمنى لو سأل النبي عنه ، والثاني هذا المنصب المزعوم ـ وزارة الخليفة ـ لم يعط لاحد منهم لا في عهد ابي بكر ولا بعده ، بل هذا المنصب لم يحدث لاحد إلا في عهد العباسيين .
وبهذه النتيجة التي حصلنا عليها من سير حوادث السقيفة وملابساتها يسهل علينا ان نفسر بها الآية الكريمة « أفإن مات أو قتل انقلبتم . . . » . فان الاجتماع كان ـ على كل حال ـ انقلابا على الاعقاب حتى لو لم نؤمن بالنص من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على من سيكون خليفة من بعده ، لان الاجتماع كما قلنا من اصله كان افتياتا على المسلمين ولم


( 144 )

يكن مستندا إلى قاعدة اسلامية أو تصريح من الرسول . وكذلك ما قرره الاجتماع لم يكن إلا قرارا خاطفا تحكمت فيه العواطف في المبدأ والمنتهى ، وليس فيه مجال الرجوع إلى النص . والى هنا نستطيع ان نرجع إلى ما قلناه في التمهيد انه كيف تفسر الآية بحوادث السقيفة وأرجو من القارئ ان يرجع من جديد إلى بحث السقيفة ليأخذ بأطراف الموضوع على ضوء هذه النتيجة .
ومن نفس الحادثة نستطيع ايضا ان نؤيد النص على الامام علي عليه السلام ، لان ما ورد فيه من تلك النصوص لو لم تكن لتعيينه خليفة وكانت لمجرد الثناء وبيان فضله ولم يكن الاجتماع لاستغلال الفرصة لمخالفة النص وكان اجتماعا طبيعيا شرعيا ـ لو لم يكن كل ذلك لوجب أن يكون هذا الرجل الذي هو من النبي بمنزلة هارون من موسى في مقدمة المجتمعين وعلى رأسهم ومعه أهل بيته ولما كان ينعقد الاجتماع ولا يقرر فيه شيء من دون مشورته وموافقته ولكن ـ كما سبق ـ كل ذلك لم يقع . بل الحادثة من مبدأها إلى منتهاها اخذت على أن تقع على غفلة منه ومن بني هاشم إلى آخر لحظة منها واهمل شأنهم وكأنهم لم يكونوا من المسلمين أو لم يكونوا من الحاضرين إلا بعد أن تم كل شيء .


( 145)

الفصل الرابع

علي مع الخلفاء



( 146 )

1 ـ الافتيات على الامام

لا يشك التأريخ ان عليا عليه السلام ـ كما قدمنا ـ لم يكن على علم من اجتماع الانصار في سقيفتهم ، حتى بعد ذهاب الثلاثة من حزب المهاجرين متكتمين ، وهم ابو بكر وعمر إذ ذهبا يتقاودان ـ على حد تعبير الطبري في تاريخه ـ وتبعهما ابو عبيدة . بل لم يعلم الامام بما تم في السقيفة إلا بعد خروجهم إلى المسجد في ضجيجهم « وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب وبيده عسيب نخل وهو محتجز يحث الناس على البيعة » ، فبلغه تكبيرهم ، وهو مشغول ـ لا يزال ـ في جهاز النبي . ولم يخرج إليهم إلا في اليوم الثاني .
واول شيء يبدو دليلا على افتيات القوم عليه بالمشهورة ، وهم يشعرون بأنهم في مقام الخصومية له انهم لم يخبروه بحادث اجتماع الانصار عندما أسر عمر إلى ابي بكر وهو في بيت الرسول بالخبر ، وهما ايضا لم يخبرا احدا غير ابي عبيدة الذي تبعهما وحده حيث الاجتماع السري ، مع ان مثل الامام اولى الناس بتدارك هذا الموقف الدقيق ان كان في اجتماع الانصار خطر على الاسلام أو فتنة ، والامور جارية على ظواهرها الطبيعية بين الامام وبين هذه الجماعة . ثم الاغرب انهم لم يدعوه للمشاورة بل حتى للبيعة قبل أن يتم كل شيء ينتظر لبيعة أبي بكر . ولا ينتهي التساؤل عما إذا


( 147)

ينبغي ان يرسلوا إليه من يخبره بالامر على الاقل ! اما كانوا على حسن نية معه أو ثقة بموافقته لهم ورضاه ؟
نعم ! لقد وجدناهم قد قضوا أمرهم بينهم ، ودعوا الناس إلى البيعة اشتاتا ومجتمعين ، مستشعرين الكفاح والخصومة بل الخوف امام حزب علي . ولذا انتهزوا فرصة انشغاله وانشغال اصحابه وبني هاشم بجهاز سيدهم . ويشهد لهذا قول الطبري في تاريخه : « وجاءت اسلم فبايعت فقوي بهم جانب ابي بكر وبايعه الناس » ، تأمل كلمة ( فقوي بهم جانب أبي بكر ) ، لتفهم ان هناك جانبين متخاصمين يقوى احدهما ويضعف الآخر ، وليس المراد بالجانب الآخر الانصار لانهم قد بايعوا في السقيفة ولم يبق إلا سعد بن عبادة وابنه ، وليس له كبير اهتمام وقد اهملت بيعته حسب اشارة بعض ابناء عمه .
أما علي فقد قلنا انه جاءه الخبر عفوا لما سمع تكبير القوم في المسجد وهو حول النبي مشغول بجهازه . ولما بلغته حجتهم على الانصار لم يكتم نقدها ، فقال كما في نهج البلاغة : « احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » .

2 ـ رأيه في بيعة السقيفة

قلنا في آخر الفصل الاول انه لماذا لم يطالب الامام


( 148 )

صراحة بالنص عليه بالخلافة ، وهنا نقول : انه مع ذلك لم يكتم رأيه في بيعة السقيفة ، فان التأريخ لا يشك ، عند من ينظر إليه نظرة فحص وتمحيص ، أنه كان ناقما على ما اسرعوا إليه من بيعة ابي بكر ، وكان يعدها غضبا لحقه ، فلم يلاق الحادث إلا بالاستغراب والاستنكار كما يبدو من كلمته السابقة التي قرأتها أخيرا ، ومن كلمات كثيرة منبثة في نهج البلاغة وغيره وأهمها الخطبة الشقشقية . وأقل ما يقال في انكاره تخلفه عن البيعة حتى ماتت فاطمة الزهراء عليها السلام .
على ان من الظلم نقول : ان الامام تخلف عن البيعة ، وهو صاحب الامر الذي يجب أن يؤتى إليه ، وإنما الحق أن نقول : إن الناس هم الذين تخلفوا عنه .
وأول اعلان له عن رأيه كان عند خروجه في اليوم الثاني من السقيفة بعد البيعة العامة ـ كما في مروج الذهب ـ فقال لابي بكر : « أفسدت علينا أمرنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقا » . وهذا القول صرخة في وجه الاستئثار عليه ، وتصريح بعدم الرضى بما تم ، وليس علي ممن يداجي أو يخاتل ولا ممن تأخذه في الله لومة لائم . ولذلك هم كانو يفرون من التحرش به قبل تمام البيعة خوف اعلان خصومتهم ، فنرى ابا بكر في جواب كلامه السابق يعترف له ويقول : « بلى ! ولكن خشيت الفتنة » .
ويسكت التأريخ عن ذكر جواب الامام ، أفتراه اقتنع


( 149 )

بكلمة ابي بكر أو أغضى عن جوابها أو التأريخ أهمل الجواب . ولكن عليا نفسه يقول من خطبة له عن هذه الحادثة : « فلما قرعته بالحجة في الملا الحاضرين هب كأنه لا يدري ما يجيبني به » .
ولئن فرض انه سكت هذه المرة فانه لم يترك الدعوة إلى نفسه واستنكار حادث السقيفة ، وان بايع بعد ذلك فلم يبايع عن طيبة خاطر واطمئنان إلى الوضع ، وهو الذي يقول بالصراحة في الشقشقية : « فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا » .
ثم التأريخ يحدثنا انه لم يبايع إلا بعد أن صرفت عنه وجوه الناس بموت فاطمة الزهراء . وكم تذمر وتظلم من دفعه عن حقه مثل قوله من كلام له في النهج : « فو الله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا » ويشير بهذا اليوم إلى عصره في خلافته .

* * *

هذا هو الصريح الواضح من رأي الامام في بيعة السقيفة وما وقع بعدها . ويكفي النظر في الشقشقية وحدها ، غير ان التأريخ قد يحاول ان يكتم هذه الصراحة ، لانه لا ينكر على كل حال ان عليا مع الحق والحق مع علي ، فلا


( 150 )

يمكنه ان يتهمه بالحيدة عن طريق الحق إذا اعترف بهذا الرأي منه ، وهو ـ أعني التأريخ ـ يريد ان يصحح ما وقع يوم السقيفة الذي لا يصح من دون رضى صاحب الحق وموافقته ، فير‍كن إلى المداورة .
ولكن في الحقيقة لابد ان تتم على نفسها ، فانه جاء في صحيحي البخاري ومسلم عدا كتب التأريخ والسير ما لا يخرج عن هذا القول : « ان وجوه الناس كانت إليه وفاطمة باقية فلما ماتت انصرفت وجوه الناس عنه وخرج من بيته فبايع ابا بكر وكانت مدة بقائها بعد أبيها ستة أشهر » .
وجاء ما هو أصرح من كل ذلك في جوابه لكتاب لمعاوية ، إذ يتهمه معاوية بالبغي على الخلفاء والابطاء عنهم وكراهية أمرهم ، فيقول الامام منكرا لبعض التهم ومعترفا بالبعض الآخر : « فأما البغي فمعاذ الله أن يكون واما الابطاء والكراهية لامرهم فلست اعتذر إلى الناس في ذلك » (1) .
3 ـ الموقف الدقيق

يظهر للمتتبع ان الامام كان يرى ـ عطفا على رأيه السابق ـ وجوب مناهضة القوم حتى يأخذ حقه منهم .
____________
(1) راجع شرح النهج ( 3 : 409 ) .
( 151 )

ويستشعر ذلك من سيرته معهم ومن كثير من أقواله التي منها قوله في الشقشقية عن حربه لاهل الجمل ومعاوية : « أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ؛ لالقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها » .
فانظر إلى موقع كلمته : « لسقيت آخرها بكأس أولها » ، فانه يريد أن يقول : ان زهدي بالدنيا يدعو إلى أن أترك حقي في المرة الاخيرة كما تركته في المرة الاولى ، ولكن الفرق كبير بين الحالين : ففي الاولى لم تقم علي الحجة في القتال لفقدان الناصر دون هذه المرة ، فلا يسعني ان اعرض عنها هذه المرة واسقيها بالكأس الذي سقيت به اولها يوم طويت عنها كشحا وصبرت على القذى .
وأصرح من ذلك ما كان يقوله : « لو وجدت اربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم » وهذا ما عده معاوية من ذنوبه ، وذلك فيما كتب إليه من قوله : « فمهما نسيت فلا أنسى قولك لابي سفيان لما حركك وهيجك لو وجدت اربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم ، فما يوم المسلمين منك بواحد » ، ولم ينكر امير المؤمنين عليه السلام هذا القول في جوابه على هذا الكتاب .
وفي التاريخ مقتطفات تؤيد ذلك ، كما في تأريخ


( 152 )

اليعقوبي : إن اصحابه الذين كانوا يجتمعون إليه طالبوه بمناهضة القوم وتعهدوا بالنصرة ، وكأنهم ظنوا ان قد بلغوا العدد المطلوب « 40 ذوي عزم » فقال لهم : اغدوا على هذا محلقي الرؤس ، وهو إنما يريد ان يريهم انهم لم يبلغوا المنزلة التي تقام بها الحجة ، فلم يعد عليه إلا ثلاثة نفر .
وإذا كان هذا رأيه في المناهضة للقوم يبلغ ـ يا سبحان الله ـ هذه الشدة والصرامة فماذا تراه صانعا ؟ لنتركه الآن يحدثنا هو عن نفسه وموقفه الدقيق ، إذ يقول من الشقشقية : « وطفت ارتئي بين أن أصول بيد جذاء أو اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه » . ثم يبين لنا كيف ان يده جذاء من خطبة ثانية . « فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم على الموت » .
فهو إذن بين امرين لا ثالث لهما : اما المغامرة بما عنده من اهل بيته ، واما الرضوخ للامر الواقع ، اما الحالة الاولى ففيها خطر على الاسلام لا يتدارك فانه إذا قتل هو وآل بيته ارتفع الثقل الثاني من الارض « عترة الرسول » وافترق عن عديله القرآن الكريم وهناك الضلالة التي لا هداية معها ، وقد قال النبي : « لا تضلوا ما ان تمسكتم بهما أبدا » أو« لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » واما الحالة الثانية فان في الصبر على هضم حقوقه اضاعة لوصية النبي ، وتعطيل لنصبه اياه اماما وخليفة من بعده .


( 153 )

فأي الامرين هو اولى بالرعاية لحفظ بيضة الاسلام ؟
وأنى لنا ان نتحكم في ترجيح أحد الامرين ، ونعرف الامام واجبه في هذا الامر ؟ !
وما بالنا نذهب بعيدا ، فانا نعرف ما صنع الامام ، انه استسلم للقوم وبايع كما بايع الناس بالاخير ، وقد قرر الرأي الاخير بعد ان طفق يرتئي بين ان يصول بيد جذاء أو يصبر على طخية عمياء عندما قال : « فرأيت الصبر على هاتا احجى » فسدل دونها حينئذ ثوبا وطوى عنها كشحا .
على انه لا يضيع وجه الرأي على الناظر في هذا الامر ليعرف كيف كان الصبر أحجى ، لانه لو نهض في وجه القوم مع قلة الناصر وحسد العرب له وترات قريش عنده ، لكان المغلوب على أمره ، وعندئذ يصبح نسيا منسيا ، ولربما لا يحفظه التأريخ إلا باغيا بغى على الدين كأولئك اصحاب الردة ، فقتل « بسيف الاسلام » واضيع مع ذلك النص على خلافته . وقد رأيناه مع بقائه حيا وانتهاء الامر إليه بعد ذلك كيف غمط حقه وأعلن سبه وبقي الشك فيه إلى يوم الناس هذا !
وقد أشار إلى ذلك في كلامه لعمه العباس وابي سفيان لما طلبا بيعته ، إذ قال لهما : « أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح . . . ثم قال : ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه » .


( 154 )

حقا ، لا ينهض في هذا الموقف إلا من لا يبالي إلا بالحرص على الملك ومطاولة الناس مهما كانت النتائج على الدين والصالح العام ، وأمير المؤمنين أحرص على الاسلام من ان يغرر به لامر يقول عنه : « انه ماء آجن ولقمة يغص بها آكلها » . ولا يساوي عنده نعله التي لاتسوى درهما ، إلا إذا كان يقيم حقا أو يدحض باطلا . ولذلك ، ينصح الناس في كلامه الذي أشرنا إليه مع العباس وابي سفيان ، وهما يحثانه على قبول البيعة ، فيقول : « شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا عن طريق المناظرة ، وضعوا عن تيجان المفاخرة » .
وكأنه في كلامه هذا يحس منهما إذ دعواه لهذا الامر الانفة من الخضوع لاخي تيم ، و( تيم ) على حد تعبير أبي سفيان أقل حي في قريش ، فهما ينظران إلى الامر من ناحيته القبلية ، والعصبية الجاهلية . أما فقهه هو فكما قال من كتاب له في جواب معاوية في خصوص هذا الامر : « وما على المسلم من غضاضة في ان يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه » ، وهو غير فقههما فان العباس مشى إليه أبو بكر وجماعة ليلا ، لما عرفوا موقفه ، فأطمع في الخلافة له ولولده ، بعد نقاش انتهي بالاعراض عن النزاع . واما ابو سفيان فقد نقل ابن أبي الحديد ( 1 : 30 ) وغيره ان عمر كلم ابا بكر فقال إن ابا سفيان قد قدم وانا لا نأمن شره ، فدفع له ما في يده فتركه ، وكان أبو سفيان قد بعث قبل وفاة النبي على الصدقات .


( 155 )

ثم لنفترض ثانيا أنه ما كان ليقتل لو ناهض القوم ولكن مع ذلك فالصبر على ترك حقه كان أحجى وأجدر لان منازعتهم كانت ـ لاشك ـ تجر إلى الفتنة وتبعث على الفرقة ، والاسلام بعد لم يتغلغل في نفوس العرب ولم يضرب جرانه في الجزيرة ، وقد أشرأبت الاعناق للانتقاض عليه .
فهو إذ وطن نفسه على ما هو أمر من طعم العلقم كما يقول بالتنازل عن حقه ، كان يخاف ويخشى ، ولكن لا على الحياة ـ وهو هو إبن أبي طالب في شجاعته واستهانته بالحياة ، الذي كان يقول : والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها ـ بل كان خوفه على الدين من التصدع وعلى جامعته من التفرق ، فسالم إبقاء لكلمة الاسلام واتقاء للخلاف والشقاق في صفوف المسلمين فيرتدوا جميعا على أعقابهم ، والمفروض ليس عنده القوة الكافية لاظهار كلمة الحق وإقامة السلطان .
وهو يشير إلى هذا الخوف فيما يقول في هذا الصدد من خطبته في النهج : « ما شككت في الحق مذ رأيته . لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه . اشفق من غلبة الجهال ودول الضلال . اليوم توافقنا على سبيل الحق والباطل من وثق بماء لم يظمأ » . فهو في هذه الكلمة يتأسى بموسى عليه السلام إذ رموه بالخيفة ولكن فرقا بين الخوف على الحياة والخوف من غلبة الباطل : وهذا أفضل تفسير لقوله تعالى : « فأوجس في نفسه خيفة » وفيه تبرئة لنبي الله من الوهن والشك وما أدق


( 156 )

معنى كلمة « من وثق بماء لم يظمأ » بعد تقديم قوله : « ما شككت في الحق مذ رأيته » وقد رأى الحق وهو إبن عشر سنين ! .
ويوضح لنا ذلك جوابه المشهور لابي سفيان لما جاءه مستفزا على أبي بكر وهو يقول : « فو الله لئن شئت لاملؤها خيلا ورجلا » وأنت تعرف ما قال له الامام أنه قال : « أنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة وأنك والله طالما بغيب للاسلام شرا لا حاجة لنا في نصيحتك » ما أعظم هذه الصرامة والصراحة منه لمن يريد أن يبذل نفسه وقومه في ظاهر الحال ناصرا ومعينا على خصومه وهو يشكو فقد الناصر . نعم أن الدين الذي بذل له مهجته كان عنده فوق جميع الاعتبارات ، وإن استهان به غيره ، وقد رأينا أبا سفيان كيف أسرع في الرجوع عن وعده ووعيده لما تركوا له ما في يده . وأمير المؤمنين قد صرح بغرضه هذا بعد ذلك في جوابه الذي أشرنا إليه عن كتاب معاوية كما في النهج والعقد الفريد إذ قال عن إبائه على أبي سفيان : « حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الاسلام » .

4 ـ سلوكه مع الخلفاء

اما وقد تركنا الامام يغضي عن حقه ويقرر بالاخير خطة


( 157 )

الصبر على ما فيها من قذى وشجى فماذا تراه يتخذ من خطة في سياسته وسلوكه مع الخلفاء : أيستسلم فيسرع إلى بيعتهم كسائر الناس ويعمل لهم كما يعمل باق المسلمين أم يسلك بقدر ما تسمح به الضرورة وتقتضيه المصلحة للدين ؟
قد ابى بعض المؤرخين من القدماء والمحدثين إلا ان يصور الامام مسالما إلى أبعد حدود المسالمة ، فيسرع إلى البيعة عن طيبة خاطر ورضى بمن نصب لها ، ولكن البحث الصحيح يأبى علينا أن نسلم بهذا التسرع في النقل أو الحكم : فقد ثبت تأريخيا ان عليا لم يبايع ابا بكر إلا بعد موت فاطمة بضعة الرسول ، وفي تقدير ابن الاثير في تاريخه والبخاري ومسلم في صحيحهما وغيرهم انه ستة أشهر ، وفي كل هذه المدة هو جليس بيته لم يشترك في جماعة ولا جمعة ولا أمر ولا نهي ولم يسمع له صوت في حروب الردة وغيرها . واكثر من ذلك كان يطرق ابواب الانصار واهل السوابق ليلا حاملا معه فاطمة والحسنين يدعوهم إلى نفسه ويذكرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهذا ما جعله معاوية من ذنوبه في كتابه السابق الذكر ، ثم انه كان يقرعهم بالحجة وينير لهم طريق المحجة ذلك قوله المتقدم : « فلما قرعته بالحجة » .
وهل يظن الظان انه كان يحاول في هذا العمل ان يتحولوا في البيعة وان يتركوا ما ابرموه وهو الذي اسدل دونها


( 157 )

ثوبا وطوى عنها كشحا ورأى الصبر على ذلك احجى وهو الذي يدعوه العباس وابو سفيان إلى البيعة فيأبي ؟ ان هذا الاباء وذاك الصبر لا يجتمعان مع تلكم المحاولة والدعوة إلى نفسه ما لم يكن يرمي الامام من وراء ذلك إلى غرض أسمى مما يظن ، انه كان يقيم الحجة في عمله على اولئك الناس ويفهمهم خطأهم فيما ارتكبوا وتنكبهم عن الحق فيما اسرعوا والى ذلك يشير فيما قال : « اللهم انت تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الطعام ولكن لنرد المعالم في دينك ونظهر الصلاح في بلادك » .
ويؤخذ من طيات التأريخ انه لم تأخذه هوادة في الدعاية والدعوة إلى مبدئه اظهارا لحقه واقامة للحجة على سواه ، فلا ينكر التأريخ اجتماع اصحابه عنده طيلة ايام انعزاله ، فيعتبره الطرف الآخر كمؤامرة يحاول ابطالها خشية توسعها ، فيرسل من يفرق القوم المجتمعين فيجتمعون . ولا ينكر التأريخ ايضا تطوافه على الانصار واهل السوابق كما قدمنا . ولا ينكر عدم اشتراكه في جمعة ولا جماعة ، وهو احرص على الشعائر الدينية والواجبات الالهية من أن يجرأ مجترئ على اتهامه بالمسامحة فيها .
وهذه المقاطعة وما إليها اعلان صريح برأيه فيما عليه القوم ولذا نرى الخليفة ابا بكر يتذمر من موقف الامام


( 159 )

فعرض فيه من خطبة : « يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء كأم طحال احب اهلها إليها البغي إلا اني لو اشاء ان أقول لقلت ولو قلت لبحت . اني ساكت ما تركت » . وفي هذا تخوف مما يظن انه سيقع وتهديد باذاعة أمر مكتوم . ما أدري ـ ولا أظن أحد يدري اليوم ـ أي شيء هذا الامر الذي يهدد الخليفة بافشائه ، والظنون تذهب ولا تقف على شيء معين !
وزبدة المخض : انا نفهم من كل ذلك ان خطة الامام في حياة فاطمة كانت المقاطعة والدعوة إلى مبدئه وان يقعد حجزة الضنين ـ على تعبير فاطمة نفسها ـ معتزا بوجودها ، وقد جاهدت معه في هذا المضمار جهادا له الاثر فيما بعد في تركيز مقام الامام في ذهنية المجتمع الاسلامي . ولا ننسى خطبتها البليغة التي يرن صداها إلى اليوم .
ولذا نراه بعد وفاتها يبدل خطته ، فبايع ، ويبايع معه اهل بيته واصحابه ، ويدخل فيما يدخل فيه القوم . ولكن إلى حد محدود بقدر ما تحكم به الضرورة الدينية للاحتفاظ بالجامعة الاسلامية .
لنسمعه يحدثنا هو عن تبديل خطته في كتابه إلى اهل مصر : « فأمسكت يدي ، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله ،


( 160 )

فخشيت ان لم انصر الاسلام وأهله ان أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به علي اعظم من فوت ولايتكم . . » .
ولم تكن نصرته للاسلام وأهله إلا بسكوته عن حقه ومتابعته للقوم ، ونصيحته لهم في مواقع النصح ، وإلا فلم يشترك معهم في طعنة رمح ولا ضربة سيف في جميع المواقف إلى يوم بويع بالخلافة .
وماذا يظن الظان في من جاهد وجالد في سبيل الاسلام عشرين عاما ، وفي كل هذه المدة كان سيفه يقطر من دماء المشركين ، ولم تثر حرب إلا وهو ابن بجدتها ، وحامل لوائها ، ومقطر أبطالها والمقذوف في لهواتها ؟ ماذا يظن الظان فيه عندما يجلس جلس البيت عن هذا الدين الذي قام بسيفه ، وقد تألبت العرب عليه واشرأبت اعناق النفاق ؟ والجهاد فرض من فروض الاسلام ، أكان ذلك زهدا في الجهاد وتواكلا عن الواجب ، أم ماذا ؟ أهناك غير ما نقول من رأيه في المقاطعة إلا ما تدعو إليها ضرورة المحافظة على الجامعة .
وقد يقول القائل : ان الخلفاء هم الذين لم يدعوه إلى الدخول معهم في الحروب والاشتراك في الحكم لمصلحة يرونها ، وما كان يجب عليه ان يقدم نفسه متبرعا ، كما لم يدع إلى ذلك جميع الهاشميين ، ولم يسمع ان هاشميا اشترك قائدا في حرب أو حكم في عهد الخلفاء الثلاثة . ويشهد لذلك


( 161 )

المحاورة (1) بين الخليفة عمر بن الخطاب وابن عباس حينما يدعوه إلى العمل في حمص ، فيقل لابن عباس : « وفي نفسي شيء لم أره منك وأعياني ذلك » ثم يصرح بذلك الشيء : « اني خشيت ان يأتي علي الذي هو آت وأنت في عملك فتقول : هلم إلينا ولا هلم اليكم دون غيركم اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل الناس وترككم » .
فيقول ابن عباس : فلم نراه فعل ذلك ؟
فقال عمر : والله ما أدري اضن بكم عن العمل ، فأهل ذلك انتم ، أم اخشى ان تبايعوا بمنزلتكم منه ، فيقع العقاب ولا بد من عتاب ؟
وعندئذ يمتنع ابن عباس عن قبول العمل ويقول : ان اعمل لك وفي نفسك ما فيها لم ابرح قذى في عينيك .
أليست هذه المحاورة شاهدة على ان الخلفاء هم الذين كانوا يمتنعون عن استعمال بني هاشم خوف ان يستغلوا مناصبهم للدعوة إلى أنفسهم ؟
وللمجيب ان يجيب ، فيقول : ان امتناع الخلفاء عن استعمال علي وبني هاشم ـ ان صح ـ فهو دليل آخر على سيرة الامام معهم ، واستعماله خطة يخشون معها ان يأخذ وقومه ناصية الامر ان تولوا عملا من الاعمال . على انا لا
____________
(1) راجع مروج الذهب ( 1 : 427 ) .
( 162 )

نعدم شاهدا على ان عليا هو الذي كان يمتنع عن قبول اعمالهم ، فلنستمع إلى الحديث الذي جرى بين الخليفتين عمر وعثمان .
يشير عثمان على عمر : « ابعث رجلا ـ أي لحرب فارس ـ له تجربة بالحرب ومضر بها .
عمر : من هو ؟
عثمان : علي بن أبي طالب !
عمر : فالقه وكلمه وذاكره ذلك ، فهل تراه مسرعا إليه ؟
فيخرج عثمان . ويلقى عليا ، فيذاكره فيأبى علي ذلك ويكرهه » .
تأمل استفهام عمر وشكه في قبول علي ، ثم امتناع علي وكراهيته للامر ! وما نستنتج من ذلك ؟
من هذا وامثاله نعرف ماذا كان علي عليه السلام يتبع في سيرته مع القوم ، وما كان يجري عليه في معاملته معهم ، حتى كان يخفت صوته في جميع الحروب والمواقف ، وكأنه ليس من المسلمين أو ليس موجودا بينهم ، وهو منهم في الرعيل الاول ، اللهم إلا صوته إذا استشير ونبراس علمه إذا استفتي ، حتى اشتهر عن عمر كلمته « لولا علي لهلك عمر » أو « لا كنت لمعضلة ليس لها ابو الحسن » .


( 163 )

وتتبع استشاراته واحكامه في كثير من الوقائع يخرج بنا إلى موضوع آخر يحتاج إلى كتاب آخر .

انتهى
29 جمادى الاولى 1368 هـ