على هامش

السَّقيفَة



( 166 )



( 167 )

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

بقلم محمد جواد الغبان

تفرض علي الابوة أن أذهب بين حين وآخر إلى ناحية ( الشنافية ) لزيارة سيدي الوالد سماحة الشيخ عبد الكاظم الغبان الذي يشغل مركز العالم الديني هناك .
وقبل بضعة أشهر سافرت إلى ( الشنافية ) فترامى إلى سمعي من عامة أهل المدينة مديح وافر وثناء جزيل على مدير جديد في ناحيتهم هو الاستاذ السيد عبدالله الملاح الذي تم نقله إلى تلك الناحية قريبا .
وما كان إلا أن اجتمعت بهذا المدير الجديد وتتابعت الاجتماعات بيني وبينه حتى رأيت نفسي منجذبا إليه ومتخذا منه صديقا حميما وأخا كريما لانني وجدت فيه رجلا متمسكا بالصفات الحميدة والاخلاق الكريمة بالاضافة إلى كونه قويا في ادارته نزيها في احكامه ومعاملاته .


( 168 )

ومما لفت نظري من الاخ الاستاذ الملاح أن هوايته المفضلة هي العكوف على العلم والادب والثقافة فهو لا يمضي أوقات فراغه الا بالمطالعة أو البحث والنقاش ، وهو في بحثه ونقاشه يمتاز بحرية الرأي وطلب الحقيقة من دون تعصب .
ولقد دارت بيني وبينه عدة مباحثات ومناقشات دينية وعلمية وأدبية كان في مقدمتها موضوع ( الامامة ) الذي هو نقطة الخلاف بين ( السنة والشيعة ) ، وكنا في بحثنا ومناقشتنا في هذا الموضوع متجردين عن كل عاطفة وتعصب ذميم فوصلنا إلى نتائج حسنة جدا .
وقد أرشدت الاستاذ ـ تتمة لما دار بيننا من المناقشات ـ إلى مطالعة كتاب ( السقيفة ) الذي كتبه استاذنا سماحة العلامة الشيخ محمد رضا المظفر ( عميد منتدى النشر ) . . ذلك الكتاب القيم الذي نفدت طبعته الاولى واعيد طبعه مرة اخرى لانه الكتاب الوحيد الذي درس موضوع الخلافة الدقيق دراسة مستفيضة على ضوء المنطق المتجرد عن العواطف والمغالطات .
وحين رجعت إلى النجف ارسلت نسخة من كتاب ( السقيفة ) إلى الاستاذ الملاح ، وبعد بضعة أيام وصلتني منه رسالة يسجل فيها إعجابه بالكتاب وبراعة عرضه وقوة حجته مع إكباره لمؤلفه الكريم ، وقد سرد في رسالته المذكورة عدة ملاحظات اعترضته أثناء مطالعته للسقيفة فطلب مني أن


( 169 )

اعرضها على الاستاذ المؤلف ليتفضل بالاجابة عنها ، فما كان مني الا أن عرضت الرسالة على استاذنا العميد بعد أن اعطيته لمحة خاطفة عن صديقي الاستاذ الملاح فأبدى الاستاذ المظفر استعداده للجواب عن تلك الملاحظات وتفضل فأفرغ نفسه ـ على كثرة أشغاله ومسؤلياته ـ لكتابة كراس خاص ضمنه أجوبته عنها .
هذا وقد رأيت بملاحظات الاستاذ الملاح وأجوبة استاذنا ( العميد ) عنها موضوعا رائعا طريفا أهم مميزاته طلب الحقيقة وكشف الواقع عن طريق الدراسة الصحيحة التي يوحيها العقل والمنطق السليم ، فوجدت نفسي مدفوعا إلى تمثيلها لعالم الطبع والنشر ـ بعد موافقة الطرفين طبعا ـ خدمة للحقيقة وعرضا لنماذج من البحث النزيه المتجرد عن الانجراف مع العواطف ، لعل اخواننا المسلمين جميعا ـ من سنة وشيعة ـ يسيرون على منوال هذا الكلام البريء والمنطق السليم فيجتمع الشمل وتتوحد الصفوف . وإذا كانوا يرون اجتماع الكلمة ضربا من المستحيل فلا أقل من أن يتركوا التطاحن الذي مزق صفوف الطرفين وأوهى قوى الاسلام الذي يتمثل بكلا الفريقين .
وها أنا ذا الآن أنشر في هذا الكراس نص رسالة الاستاذ الملاح التي تتضمن ملاحظاته مع نص جواب ( العميد ) عنها . وما أدري عسى الاستاذ الملاح تخطر في ذهنه ملاحظات اخرى بعد ذلك . وإنني أعد القارئ الكريم بعرضها على استاذنا العميد عندما أتلقاها لعلنا نظفر بنشر كراسة ثانية في


( 170 )

هذا الموضوع إكمالا للفائدة المتوخاة والله تعالى من وراء القصد .
النجف الاشرف 2 رجب 1373 هـ محمد جواد الغبان .


( 171 )

نص رسالة الاستاذ عبدالله الملاح حول كتاب
السقيفة

أخي الكريم الاستاذ محمد جواد الغبان لا حرمت اخوته تحية وشوقا
دعني أشكر لك قبل كل شيء هذه الاخوة الصادقة وحسن ظنك بي فأنا اعتقد انني لا أستحق منك كل هذا الاطراء إنما هي نفسك النبيلة تريك الناس في صورة نفسك . لوددت اني احقق ظنك في والله المسئول ان يلهمنا الصواب ويهدينا إلى أحسن الاخلاق انه لا يهدي لاحسنها إلا هو .
أشكر لك أيها الاخ الكريم هديتك الممتعة كتاب السقيفة فقد أمضيت بقراءته وقتا سعيدا وكنت أود ان ادون لكم رأي حوله بعد انتهائي من قراءته ولكن حال دون ذلك ذهابي إلى بغداد .
كتاب السقيفة كتاب ممتع جدا يدل على سعة علم مؤلفه الفاضل وتمكنه من الاسلوب العلمي العصري ولو التزم بما جاء في المقدمة لكان خير كتاب أخرج للناس ولكنه آثر ارضاء عقيدته فلم يلتزم بما أوجبه على نفسه اولا من الحياد التام ، وكنت أود أن اطلع على كتاب ( رد على السقيفة ) لاطلع على المآخذ التي أخذها على المؤلف . وسأورد باختصار


( 172 )

كل ما عن لي عند مطالعة الكتاب ، ولعل بعض ما أورده لا يخرج عن حدود السؤال الذي لا أحسن الاجابة عنه فإذا كان عندك أو عند المؤلف جواب شاف له فأرجو التفضل بعدم حرماني من فائدته .
1 ـ يرى المؤلف استبعاد سكوت النبي عن أمر الخلافة وتوكيل ذلك إلى اختيار الامة . لما في ذلك من توقع حدوث الاختلاف كما حصل فعلا وأنا أسأل فأين النص الصريح إذن على تعيين أحد بالذات ؟
ستقول دون شك : أفليس في حديث الغدير كفاية ؟
إن حديث الغدير لم يؤمن بصحته كل الناس من المسلمين ، وبعض من آمن بصحته فسره على غير تفسير الشيعة مستفيدا من دلالة كلمة المولى على معاني مختلفة ، وأنا شخصيا أرى تفسير كلمة المولى بغير التفسير الذي فسرته الشيعة في حديث الغدير تمحل وسخف .
ولكن في نفسي شيء كثير من الحديث فان البخاري ومسلم لم يرويا الحديث وفي سنده من طعن فيه ، ولكنني لا أهتم لذلك فان كتب الشيعة ترويه بسند صحيح وهم ليسوا أقل حرصا على دينهم من السنة ، ولكني سأطرح النقل هنا وأعتمد على العقل فقط .
يقول القرآن : « وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى » .


( 173 )

ويعتقد السنة والشيعة ان جميع ما صح عن النبي يجب الاخذ به باعتباره وحيا من الله ولكننا نرى ان النبي أمر بكتابة القرآن علما منه بأن كل ما اعتمد في حفظه على الذاكرة اعتوره النسيان أو التحريف بزيادة أو نقصان ولم نسمع انه أمر أحدا بكتابة الحديث فإذا كان الحديث وحيا من الله كالقرآن فلماذا لم يكن قرآنا ؟ وأي فرق بين وحي الحديث ووحي القرآن ؟
إن عدم تدوين الحديث أدى إلى الاختلاف الذي نراه الآن فليس من حديث صح عند السنة إلا وجد فيه الشيعة مجالا للطعن والعكس صحيح أفيمكن أن يبنى دين موحد على حديث يصدقه اناس ويكذبه آخرون ، ولكن الفرق الاسلامية كلها متفقة على أن القرآن الذي بين أيديها صورة صحيحة للوحي المنزل على رسول الله ولا عبرة ببعض الاقوال المنسوبة إلى اناس زعموا ان القرآن قد حذف منه كل ما كان فيه مدح لآل البيت .
اريد ان اخلص من هذه المقدمة إلى القول بأن امر الخلافة وهي من الاهمية بحيث صورها مؤلف السقيفة الفاضل لا يعقل ان يترك أمرها إلى حديث كحديث الغدير لا تكاد الصحابة تسمعه حتى ينساه اكثرهم ويذهب في تأويله الآخرون مذاهب مختلفة ، أفما كان ينبغي والامر بهذه الاهمية ان ينزل فيها قرآنا . صحيح « أن الله لا يسأل عما يفعل وهم


( 174 )

يسألون » ولكن منطق الحوادث يدلنا على ان امرا كهذا ـ لا سيما إذا أخذنا عقيدة اللطف الالهي بنظر الاعتبار ـ لم يكن ينبغي ان يسكت عنه القرآن وقد نزل في أشياء أقل أهمية من هذا بكثير ، أما الآيات التي أوردها المؤلف « إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون » فلا اظن ان من له أقل المام باسلوب القرآن يرى قصر الذين آمنوا على علي ( رض ) فإن الله لم يشر إلى واحد بلفظ الجمع وقد خاطب النبي بقوله : « إنك ميت وإنهم ميتون » . وبقوله : « وإنك لعلى خلق عظيم » . وقال : « إذ يقول لصاحبه . . . الخ » ثم شيء آخر لا بد من الاشارة إليه وهو لو صح ان النبي جعل عليا عليه السلام نفسه حقيقة في آية المباهلة كيف جاز له تزويجه من ابنته .
2 ـ إذا صح ان النبي ( ص ) قد نص على الائمة الاثنى عشر بعد ان فقد ابنه ابراهيم وحزن عليه حزنا شديدا ترتب على ذلك اتهام النبي بأنه إنما قام بالدعوة لحصر الملك والخلافة في نفسه وفي أحفاده من بعده وهو ما يناقض الآية القرآنية « قل لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الله » .
3 ـ حديث الغدير وقع بعد منصرف النبي من حجة الوداع ووفاته ( ص ) في أواخر صفر أو أوائل ربيع الاول من نفس السنة فيكون بين سماع الحديث والوفاة نحو شهرين وهي مدة قصيرة فإذا كان عدد الذين سمعوا حديث الغدير سبعين


( 175 )

الفا يزيدون أو ينقصون قليلا فلا بد ان يكون الانصار الذين اجتمعوا في السقيفة من جملة من سمع الحديث وهم لم يكونوا ممن انامهم عمر مغناطيسيا بنفيه الموت عن رسول الله لانهم ساعة الاحتضار كانوا مجتمعين في السقيفة كما يدل على ذلك مجيء معن بن عدي وعويم بن ساعدة إلى عمر وابي بكر في دار النبي ( ص ) ولم يكن بين الانصار وبين علي عليه السلام ترات فإذا كانت قريش لم تشأ أن تجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة وإذا كان علي عليه السلام قد وتر أكثرهم فان الانصار لم يكونوا يريدون غير رضا رسول الله فما بالهم ولم يمض على سماعهم حديث الغدير غير ايام قليلة لا يقوم واحد منهم ـ وقد تنازعوا أمر الخلافة ورشحوا لها مرشحيها ـ يذكرهم بالحديث وبأن أمر الخلافة قد فرغ منها وقد عين رسول الله لها بأمر ربه عليا .
أما ما أورده المؤلف الفاضل من تطاول الانصار للخلافة بعد تيقنهم من انصرافها عن مستحقها علي عليه السلام لما يعلمونه من حسد العرب له وقريش خاصة فلا يمكن ان يقبله العقل لان استحالة نصب علي للخلافة للاسباب المذكورة إذا كانت لم تغب عن فطنة الانصار فقد كان الاولى ان لا تغيب عن فطنة رسول الله وهو المؤيد بالوحي فلا يأمر امته بأمر يعلم سلفا انهم لا يطيعونه فيه فيعرضهم بذلك إلى غضب الله وتذهب جهوده طيلة حياته في هدايتهم سدى .


( 176 )

أما قول أحد الانصار : « لانبايع إلا عليا » فلا يخرج عن كونه ترشيحا لعلي من قبل أحد المسلمين ولا ينكر أحد أهلية علي عليه السلام لهذا الترشيح إذ ان الرجل لم يحتج بحديث الغدير أو آية قرآنية دالة على وجوب نصب علي .
4 ـ استدل المؤلف الفاضل بتأمير اسامة بن زيد وتخلف وجوه المهاجرين وفيهم ابو بكر وعمر وأبو عبيدة عن اللحاق بجيشه على الرغم من تشديد النبي عليهم في الخروج ـ على رغبة الرسول في إبعاد من يطمع في الخلافة عن المدينة وفي تهيئة المسلمين لقبول ( قاعدة الكفاية ) .
إن رسول الله ( ص ) لم تكن تأخذه في الحق لومة لائم وهذا التدبير أشبه بتدبير الضعفاء منه بتدبير الانبياء فمن كان يدري النبي ـ وقد تمت البيعة لعلي ـ في غياب جيش اسامة ووجوه المهاجرين والانصار ـ ان القائد وجيشه وقد علموا بوفاة النبي وبالغاية التي ارسلوا من أجلها في ذلك الظرف الحرج وبنفاذ المؤامرة في تعيين علي للخلافة ، من كان يدريه انهم لا يولون الخلافة من يريدون وليس في عنقهم بيعة لاحد ثم يحتلون المدينة بالقوة ويعود التدبير الذي ظنه المؤلف الفاضل حكيما شرا على المسلمين جميعا فان من يخالف أمر النبي وهو في المدينة لا يعجزه ان يخالفه وهو في جيش يؤيده في رأيه .
إن حياة الرسول ( ص ) كلها تدل على أنه لم يكن يرهب القوة في سبيل نشر الدعوه وتبليغ أوامر الله فقد كان في مكة


( 177 )

وحيدا وفي قريش أمثال عمر وأبي لهب وأبي جهل فلم يمنعه ذلك من تسفيه أحلامهم والكفر بآلهتهم وفعل كل ما من شأنه استجلاب غضبهم فإذا كان الله قد أمره بقوله : « يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من أمر ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته » بتعيين علي للخلافة فلا عمر ولا غيره كان يمكن ان يحول بين رسول الله وتنفيذ أمر الله وما كان يمكن أن يترك النبي تنفيذ هذا الامر الذي فيه صلاح الدين وبقاؤه إلى أحاديث تحمل معاني مختلفة وتدابير يذهب في تأويلها كل واحد مذهبا فأمر الخلافة كما تعتقدون من اسس الدين فكان يجب ـ وقد علم النبي بدنو أجله ـ وعلم كذلك لما ينتظر امته من فتن كقطع الليل المظلم ورأى مواقع الفتن خلال بيوت المدينة كمواقع القطر ـ يجب وقد علم كل ذلك أن يأخذ البيعة لعلي في حياته ويتخذ من التدابير ما يحول بين امته وبين الفتن وهو قد بعث رحمة للعالمين وإلا فليس نبي اضيع جهدا منه فقد اذهب حياته في هدى امة ما لبثت ان أخذت طريقها من بعده إلى النار .
5 ـ حديث ( هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ابدا ) . لاشك في وضعه أبدا على الرغم من رواية ائمة الحديث له إذ لا يخلو أن يكون ما أراد النبي كتابته حديثا أو قرآنا وقد ظل النبي ثلاثا وعشرين سنة يتحدث ويوحي إليه بالقرآن فلم نره أمر بكتابة شيء من الحديث أما القرآن فلم يكن النبي يقول « هلموا أكتب لكم » بل كان يخبرهم بنزول


( 178 )

الوحي عليه ويأمر كتبة الوحي بتدوين ما نزل عليه فإذا كان ما أراد يكتبه قرآنا فلماذا لم يدع كتبة الوحي ليضيفوه إلى القرآن أو لماذا لم يتله على الحاضرين على انه قرآن كما كان يفعل فيحفظه عنه الصحابة كما كانوا يحفظون عنه القرآن فلا يتأتى لاحد الشك فيه ولم يكن لعمر حق منع الوحي من النزول ولم ينكر أحد جواز نزول الوحي على النبي في مرضه . أما إذا كان حديثا فمتى ياترى أمر النبي بكتابة الحديث وما الحاجة إلى كتابة هذا الكتاب إذا كان كل ما فيه هو التأكيد على امامة علي عليه السلام ؟ ألم يسبق أن نص النبي على امامته يوم الغدير ومن نسى حديث الغدير أو أنكره على قرب العهد به فهو لما في الكتاب المزمع كتابته أشد نسيانا ونكرانا .
ثم من هو عمر هذا الذي يأمر وينهي ولا يستطيع أحد مخالفته حتى رسول الله يمنعه عمر من أن يرشد المسلمين إلى أهم أمر من أمور الدين بعد التوحيد .
لقد كان عند رسول الله ( ص ) علي وعبد الله بن العباس وغيرهما من وجوه بني هاشم ولم يزد عمر على أن رأى رأيا حين قال : « إن الرجل قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله » . فلو كان الامر من الاهمية بحيث كان ابن عباس يبكي حتى يبل الحصباء كلما ذكر ذلك لكان وجب أن يأمر رسول الله باخراج عمر من عنده ويصر على املاء ما أراد املاءه بمحضر ممن يثق بأمانتهم ولو كان الامر متعلقا بأمر جوهري من


( 179 )

امور الدين لما جاز لرسول الله أن يعدل عن تبيانه لمجرد اعتراض عمر وإلا لترتب على ذلك ان النبي ( ص ) كتم كثيرا مما كان يريد تبليغه خشية عمر وغيره ولا أظن أن مؤمنا يقول بذلك .
6 ـ إن ما نسب إلى الامام علي عليه السلام بعد تمام البيعة لابي بكر يدل دلالة صريحة على عدم ثبوت حديث الغدير آنذاك فان قول الامام : « احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة » . وقوله لابي بكر : « أفسدت علينا أمرنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقا » لا يدل إلا على انه كان يرى نفسه أحق بالخلافة من أبي بكر وليس ذلك بعجيب ، فعلي من عرفه المسلمون ربيب رسول الله وزوج الزهراء وأبو الحسنين وأتقى الناس لله فلا غرو إذا رأى نفسه أحق بالخلافة من غيره ولكن اعتقاد الاحقية في الخلافة شيء وعد استخلاف غيره اغتصابا لحقه ومروقا من الدين شيء آخر فاننا لا زلنا نرى ترأس المفضول على الافضل في جميع الازمان والسلطة كالرزق حظوظ وحتى في أيامنا ليس انتخاب نائب عن منطقة ـ على فرض حرية الانتخاب ـ دليلا على ان المنتخب هو خير أهل المنطقة .
ثم ما معنى انصراف وجوه الناس عنه بعد موت الزهراء عليها السلام فإذا كان من قد اجتمع إليه قبل موت الزهراء إنما اجتمع لانه آمن بحديث الغدير واعتقد ان البيعة لغيره ضلال لما جاز أن يتغير بموت الزهراء وإلا لثبت أن اجتماعه


( 180 )

إلى علي عليه السلام لم يكن من أجله هو ولا ايمانا بوجوب امامته بل اكراما للزهراء فلما دعاها ربها إلى جواره انتفى السبب الذي كان يربطه بعلي .
ثم انظر رحمك الله إلى قول الامام : « فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم على الموت » . كيف يعقل ان امة قال الله فيها : « كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر » تعلم من أمر دينها ان عليا أمامها لا يجوز العدول عنه إلى غيره ولا يتم الايمان إلا بأمامته لا يبقى فيهم من ينهي عن المنكر وأي منكر أعظم من مخالفة صريح أمر النبي والعدول بالخلافة إلى غير مستحقيها حتى لم يبق منهم من يؤيد عليا غير اهل بيته وليتني اعلم فيم باع كل هؤلاء الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه مرارا وتكرارا دينهم ، أمن أجل سواد عيني أبي بكر وعمر فقط أو يكون بغض علي قد بلغ بهم حدا هون عليهم دخول النار ؟
7 ـ ألا ترى تناقضا بين قولي الامام : « لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم » ، وبين قوله : « فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمد فخشيت ان لم أنصر الاسلام وأهله ان ارى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم » .
فهو عليه السلام يود مرة لو يجد أربعين ذوي عزم


( 181 )

ليناهض بهم القوم ومرة يرى وجوب نصرهم ويحشرهم مع أهل الاسلام ، أو تراه لو وجد أربعين ذوي عزم ثم ناهض بهم القوم أما كان ذلك هدما للاسلام أو ثلما له ، إذ من كان يضمن النصر له فالامة مجمعة على ان جيش يزيد كان مبطلا وكان جيش الحسين محقا ومع ذلك جاء الباطل وزهق الحق . وإذا صح أن مالكا بن نويرة قد رفض بيعة أبي بكر لانه لم يرى البيعة إلا لعلي أما تكون الحجة قد قامت بوجود الناصر فلا شك ان مالكا كان من ذوي العزم الذين كان الامام يود وجودهم .
ثم كيف يتفق قوله : « فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن ارى فيه ثلما أو هدما » ، مع ما ذهب إليه المؤلف الفاضل من تقاعسه عن نصرة الخلفاء وعدم التعاون معهم إلا بمقدار ، فان كل معاونة باليد أو باللسام نصر للاسلام وأهله وأي تباطؤ عن ذلك ثلم له .
فلو علم الامام عليه السلام ان الاسلام يعز بالعمل الفلاني أو القول الفلاني ثم احجم عن الفعل أو القول لكان خاذلا للاسلام ولأهله .

ولم أر في عيوب الناس عيبا * كـعيب القادرين على التمام

لذلك فأنا أشك في صحة نسبة الاقوال المذكورة للامام فأبو الحسن أجل في نفسي من ذلك ليس هو دون خالد بن الوليد حين


( 182 )

قال وقد عزله عمر عن امرة الجيش : « لم أكن احارب من أجل عمر » فلم يكن الاسلام ملكا لابي بكر وعمر أو غيرهما حتى يتباطأ أبو الحسن عن نصرتهما .
أما عدم ورود ذكره في الحروب التي جرت على عهد الخليفتين الاولين فلا يدل ذلك على عدم تعاونه معهما تعاونا صادقا تاما في كل ناحية من نواحي العمل وإلا فأين الحروب التي اشترك فيها عمر وعثمان وطلحة والزبير في زمن أبي بكر وهل يدل عدم ذكر اسمائهم على عدم معاونتهم له معاونة صادقة .
وبعد فهذه ملاحظات عابرة أحببت أن ادونها تزجية للوقت وقد يكون لها أجوبة مقنعة أنا أجهلها .
وأرجوا أن تتهيأ لي فرصة الاجتماع بالمؤلف الفاضل الذي أرجو أن تبلغه أعجابي وتحياتي فنتوسع فيما اجملته هنا .

واسلم لمحبك
عبدالله الملاح

الشنافية 3 ربيع الثاني 1373


( 183 )

نص رسالة الشيخ المظفر ردا على
رسالة الاستاذ الملاح

إلى حضرة الاخ الفاضل عبدالله الملاح المحترم

اهدي تحياتي العاطرة
اطلعني الاخ قرة العين ( الغبان ) على رسالتكم إليه المؤرخة 3 ربيع الثاني 1373 فقرأت فيها الادب الجم والتواضع المستحب والرغبة في الركون إلى الانصاف في القول . وهذا ما كنت اتوقعه بعد ان كان قد عرفك إلى ( الجواد ) من قبل .
ولاجل ان لا تفوتني فرصة التعرف اليك فضلت أن احرر بنفسي الجواب عن رسالتك وسامحني إذا تأخرت اياما اقتضتها طبيعة أشغالنا هذه الايام .
وقبل كل حديث احببت أن أذكر للاخ ان كل بحث وسؤال يمكن ان يعقب ويجاب عنه إذا استعمل الاسلوب الخطابي بمهارة ، عندما تكون العاطفة تأخذ أثرها في الجدل ، غير اني ارجو من الله تعالى أن يعصمني ويعصمك من ان تطلع رأسها خلال هذه الابحاث التي يجب ان يتبع فيها الحق للحق .
وعلى ذكر العاطفة فانك رعاك الله ـ بعد ما تفضلت من الثناء العاطر على كتاب السقيفة وصاحبه بما يعبر عن سمو نفسك .


( 184 )

واخلاقك ـ قلت : « ولكنه آثر ارضاء عقيدته فلم يلتزم بما أوجبه على نفسه اولا من الحياد التام » . صحيح إني لم يظهر على بحثي الأخير الحياد التام بل ولا الحياد الناقص ، ويجب ان اعترف بذلك ، ولكن ما حيلتي إذا كان منطق البحث هو الذي ساقني إلى ذلك ، فلم أشأ أن اغالط القارئ أو اخادعه فيما توصلت إليه من رأي . ولو كان البحث قد ساقني إلى الانحراف عن هذا الطريق لما عدوته . وحينئذ اتبع مسلكا آخر في اسلوب التأليف أو نشره . والله المطلع على السرائر هو الشاهد إذا كان ما أمليته بدافع العاطفة ولو بنحو لا شعوري . ولا ابرئ نفسي ـ كما قلت في مقدمة السقيفة ـ إن النفس لامارة بالسوء إلا ماعصم الله .
ولااطيل المقدمة ، فأقول ما عندي باختصار في الابحاث التي أثرتها

البحث الاول

1 ـ انك شككت في صحة حديث الغدير ، لان البخاري ومسلما لم يروياه في كتابيهما . وإني لملتجئ أن اصارحك انه لا يضر هذا الحديث المستفيض بل المتواتر انهما لم يروياه بشخصهما ، لا سيما بعد أن استدركه عليهما الحاكم في المستدرك ( 3 : 109 ) و( 4 : 381 ) واكثر من ذلك صححه على شرطهما وكذلك في كنز العمال ( 6 : 390 ) .
ثم هل تدري ـ يا أخي ـ كم ترك البخاري ومسلم من احاديث


( 185 )

صحيحة على شرطهما استدركت عليهما ؟ ويكفي ان تراجع مستدرك الحاكم . والله اعلم لماذا تركا هذا الحديث ونحوه ! وأرجوا الا تذهب بك الثقة بصحيحي البخاري ومسلم هذا المذهب ، حتى تجعل عدم روايتهما لحديث سببا في الطعن بذلك الحديث . فقد رابني منهما ما يريب كل منصف طالب للحق ، فانهما لم يرويا أبدا ولا حديثا واحدا عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، ولئن لم يكن اماما فعلى الاقل هو أوثق وأجل وأعلم فقهاء عصره ؟ بل لم يرويا عن أبنائه الائمة كلهم . وما أقل ما روياه عن آبائه حتى عن علي أمير المؤمنين عليه السلام وهو من تعرف .
هذا كله في وقت قد اكثرا من الرواية عن جماعة كثيرة هم محل الريب بل الطعن فضلا عن المجهولين . ولو وسع الوقت وهذه الرسالة العابرة لذكرت لك العشرات من هؤلاء الرواة . ولا محيص من أن أذكر لك جماعة منهم على سبيل المثال لتعرف اني على حق فيما قلت ولك علي أن لا أنقل إلا من علماء ورجال أهل السنة لتطمئن إلى قولهم :
فمن هؤلاء الرواة ( احمد بن عيسى المصري ) فقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب والذهبي في ميزان الاعتدال : ان ابن معين حلف عن احمد هذا انه كذاب . ونقل في التهذيب عن أبي زرعة انه انكر على مسلم روايته عن احمد هذا في الصحيح قال : « هؤلاء قوم ـ يعني مسلما ونحوه ـ أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شيئا يتشرفون به » وقال : « يروي ـ يعني مسلما ـ عن احمد في الصحيح ما رأيت أهل مصر يشكون في أنه . . . » وأشار إلى لسانه يعني انه يقول الكذب .


( 186 )

و( منهم ) اسماعيل بن عبدالله بن اويس ، فقد نقل في هذين الكتابين المتقدمين اعني التهذيب والميزان : « ان ابن معين قال عنه : لا يساوي فلسين . وقال ايضا : هو وأبوه يسرقان الحديث » ونقلا غير هذا من الطعون الشديدة فيه .
و( منهم ) عبدالله بن صالح المصري طعن فيه في التهذيب والميزان نقلا عن ثقاة العلماء بأنه يكذب وليس بشيء وليس بثقة ، وقال في الميزان : » روى عنه البخاري في الصحيح ولكنه يدلسه فيقول عبدالله ولا ينسبه » فانظر واعجب .
و( منهم ) عمران بن حطان السدوسي الخارجي المعروف ، وقد روى عنه البخاري وقد أكثر علماء الرجال من الطعن فيه ، وهو المادح لابن ملجم بقوله المشهور :

يا ضربة مـن تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

و( منهم ) عنبسة بن خالد الذي كان على خراج مصر وكان يعلق النساء بالثدي ، فقال عنه يحيى بن كثير كما في التهذيب والميزان : « إنما يحدث عنه مجنون أو أحمق لم يكن موضعا للكتابة عنه » .
و( منهم ) محمد بن سعيد الكذاب المشهور الذي صلبه أبو جعفر على الزندقة قال في الميزان : « روى عنه ابن عجلان والثوري ومروان الفزاري وابو معاوية والمحاربي وآخرون ، وقد غيروا اسمه على وجوه سترا له وتدليسا لضعفه » إلى أن قال أحد العلماء : « قلبوا اسمه على مائة


( 187 )

اسم وزيادة قد جمعها في كتاب » ثم قال في الميزان : « قد اخرج عنه البخاري في مواضع وظنه جماعة » .
ومنهم ) هشام بن عمار خطيب دمشق ومحدثها وعالمها قيل عنه : انه حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها ، وقيل عنه غير ذلك .
ومنهم . . . ومنهم . . . وما أدري ماذا احصي لك من رواة الصحيحين على هذه الشاكلة . قيل لمسلم ـ كما في التهذيب والميزان بترجمة سويد بن سعيد الهروي ـ : « كيف استجزت الرواية عن سويد » ؟ فقال : « ومن أين آتي بنسخة حفص بن ميسرة ! » . بالله عليك ايصلح هذا عذرا في الرواية عن الضعفاء ممن اشترط على نفسه انه لا يروي إلا عن ثقة مأمون ، وعند جعفر بن محمد الصادق وابنائه وآبائه من العلم والحديث ما طبق الخافقين وما يغنيه عن امثال سويد وحفص ؟ أفلا يساوي أهل البيت عنده امثال أولئكم الضعفاء المطعون في صدقهم ؟ . بالله عليك أيأخذ الانسان المؤمن الموقن دينه من هؤلاء الرواة وأمثالهم ويوثقهم ثم يترك آل البيت ! أي عذر يتخذه الانسان يلاقي به ربه يوم الحساب إذا كان ممن يعتقد بالله وبيوم الجزاء ويريد مخلصا أن يخلص إلى الحق الصريح إلا إذا أراد أن يخادع نفسه أو يداهن في دينه ؟
2 ـ وأما قولك : « ان في سند الحديث من طعن فيه » فأظن يكفينا مراجعة الجزء الاول من كتاب الغدير لنعرف ان الطعن مهلهل لا سيما بعد أن نعرف ان الحديث ليس له سندا واحد يبقى مجال معه للطعن ، بل هو مستفيض إن لم يكن متواترا ، على أنه قد روى بسند صحيح على