شرط الشيخين مسلم والبخاري كما نقلت لك عن مستدرك الحاكم وكنز العمال .
3 ـ وأما حديثكم عن تدوين الحديث عامة كالقرآن ، فأن صريح القول فيه عندي الذي ادين به ربي ولا اغالط نفسي انه ثبت من طرق الطرفين الصحيحة (1) التي لا ريب فيها ان نبينا الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا . ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » .
فقد قرن الهداية ( ابدا ) بالتمسك بهما معا لا بالتمسك بواحد منهما فكل حديث لا يرجع إلى الثقل الثاني لا أجد مجالا للتمسك به إلا إذا كنت لا أفهم الكلام العربي المبين أو أغالط نفسي .
دقق النظر ـ يا أخي ـ في هذا الحديث الجليل تجد ما يدهشك في مبناه ومعناه ، فما أبعد المرمى في قوله : « لن تضلوا بعدي ابدا » ولكن بشرط إذا تمسكنا بهما ( بهما ) لا بواحد منهما فقط . وما أوضح المعنى في قوله : « لن يفترقا » فمن فرق بينهما أيجد الهداية ياترى ؟
وعلى هذا نستطيع أن نتنبه لماذا لم يأمر ( ص ) بتدوين الحديث كالقرآن فقد كفاه انه ( ترك ) لنا الثقل الثاني الذي هو عدل القرآن
____________
(1) ومسلم قد رواه في صحيحه في فضائل علي من عدة طرق إذا كنت لا تصدق إلا بمسلم والبخاري .
أما البخاري فلم يروه ولكن الحاكم استدركه عليه ( 3 : 109 ) .

( 189 )

الكريم حسب تعبيره وأمر بالتمسك به مقرونا بالتمسك بالثقل الاول ( القرآن ) ، فهو الذي كفل لنا دين النبي وقوانينه من وقوع الضلال فيها أبدا ( أبدا ) ما إن تمسكنا به مع القرآن ، وهو الذي يبين لنا كل ما أجمل في القرآن وما نزل من أحكام وما جاء من قوانين لا ( الحديث ) .
ولا يبقى بعد هذا مجال لمن قال أو يقول : « حسبنا كتاب الله » فانه لو كان ( حسبنا ) وفيه الكفاية لما قرنه النبي بعدله الثقل الثاني . أليس كذلك يا قرة عيني ؟
واستطيع ان اخلص من هذا الكلام إلى موافقتك ( موافقتك أنت ) انه لا يصح الاعتماد على ( الحديث ) لانه ليس بعدل للقرآن وإلا لو كان الحديث المعمول به عند الناس طريقا إلى اثبات الوحي الالهي لكان النبي يأمر ـ كما قلت ـ بتدوينه كما أمر بتدوين القرآن . بل ازيدك بأنه لم يقرن ( ص ) الحديث بالقرآن ولم تأت بذلك رواية معتبرة ولا آية ، بل اكثر من ذلك قد اخبر عن كثرة الكذابين عليه بعده وحذرنا منهم ، ولم يرو عنه انه شجع على الحديث عنه .
وهنا اعيد كلامك السديد فأقول معك : « أفيمكن ان يبني دين موحد على الحديث يصدقه اناس ويكذبه آخرون » . إذن فليسقط ( الحديث ) من اعتبارنا جملة ، ولكنا إنما نستدل به لنتخذه حجة على من يراه حجة عنده من باب الزام الخصم بما يعترف به ، فان تنازل الخصم عن حجية الحديث وانكره جملة ، قلنا له : بماذا تثبت تفاصيل الاحكام وخصوصياتها فان القرآن فيه المجمل والمبين والمتشابه والمحكم والعام والخاص والناسخ والمنسوخ وليس فيه تفاصيل الاحكام


( 190 )

وخصوصياتها ، فهذه الصلاة ـ مثلا ـ من أين تعرف أوقاتها وفرائضها وركعاتها وأجزائها وشرائطها ومقدماتها وما يتصل بها من أحكام لا تحصى ؟
فهل ترجع إلى اعتبار الحديث مرة أخرى ؟
ـ أم تلتجئ عندئذ إلى الاعتراف بالثقل الثاني الذي أرجعنا إليه النبي ( ص ) مع القرآن .
ـ أم ماذا ؟
4 ـ قولك سدد الله قولك : « لا يعقل أن يترك أمرها أي الخلافة إلى حديث كحديث الغدير » فيا قرة العين ليس الامر منحصرا بحديث الغدير حتى يتم استغرابك فكم هي الاحاديث والآيات كما قرأت بعضها في السقيفة وهي يؤيد بعضها بعضا ويفسر بعضها بعضا إذا كان الواحد منها لا يكفيك .
أما وصفك لحديث الغدير بأنه ( لاتكاد الصحابة تسمعه حتى ينساه أكثرهم ويذهب في تأويله الآخرون مذاهب مختلفة ) فاني أجلك من هذا الكلام فانه ما على النبي من ضير أن تنسى حديثه الصحابة أو تتأوله ، بل ترك أمر الخلافة إلى الصريح الفصيح من الكلام وبلغهم وإذا كانوا نسوه فالعيب فيهم لا في الحديث ، على أنا لابد أن نقول : انهم تناسوه لا نسوه ، ومن أين علمنا بأنهم نسوه .
وأما الذين ذهبوا المذاهب المختلفة في تأويله فاولئك قوم من المتأخرين وليس هم من الصحابة كما يشعر به قولك وذلك لما ضاقوا


( 191 )

ذرعا في الطعن في سنده فاضطروا لتأويله بالتأويلات التي تعرفها .
5 ـ وأما آية « إنما وليكم الله . . . » فصحيح ما قلت فيها ـ على ما اعتقد ـ انه لم يعهد التعبير في الكتاب العزيز عن المفرد بالجمع . وازيدك انه لو كان المراد التعبير بالجمع عن المفرد لقال : « الذين أقاموا . . وآتوا . . » . والتعبير المضارع ( يقيمون . . ويأتون . . ) دليل على أن المقصود بها قاعدة كلية . وبتعبير منطقي ـ تعرفه إذا كنت درست علم المنطق ـ ان هذه قضية حقيقة معناها ان كل من فرض فيه انه وقع منه هذا العمل أو يقع فهو ولي للمؤمنين ولاية كولاية الله ورسوله ، لا قضية شخصية مشار بها إلى شخص أو أشخاص مخصوصين موجودين في الخارج ، وإلا لوجب ان يقول بصيغة الماضي أقاموا وآتوا .
وعليه فالمقصود بالآية الكريمة ان كل مؤمن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وهو في حال ركوعه فهو له هذه الولاية العامة التي هي كولاية الله ورسوله . وعلى هذا تكون الآية كبرى كلية لا يتألف منها وحدها القياس المنطقي ولا تنتج شيئا إلا إذا عرفنا الصغرى لها ، ولا يمكن الاستدلال بها وحدها مجردة بدون ضم الصغرى لها ، وليس منطوقها إلا كمنطوق القوانين العامة مثل أن يقول القانون ( كل من يحمل الشهادة الحقوقية له الحق أن يعين حاكما ) فإن هذا القانون لا ينفعنا في معرفة الاشخاص الذين يحملون الشهادة بل لابد من الخارج ان نعرفهم بأشخاصهم لنعطي لهم هذا الحق .
وبهذه المقدمة نخلص إلى معرفة وجه الاستدلال بالآية على ولاية


( 192)

علي ، وذلك بضميمة الصغرى أي بضميمة معرفة نزولها ، وقد ثبت انها نزلت في علي عندما تصدق بخاتمه وهو في حال ركوعه ، فتشخصت هذه القاعدة الكلية فيه باعتبار انها نزلت فيه . ولم يعهد من غيره من الصحابة من آتى الزكاة وهو راكع لا قبله ولا بعده ، فانحصر هذا الكلي في فرد واحد بحكم نزول الآية فيه .
وأما الحكمة في التعبير بهذه القاعدة الكلية فلبيان ان عليا بالاستحقاق نال هذه المنزلة من الولاية لصدور هذا العمل منه الذي يعطي له هذا الحق ، والمفروض انه لم يقع من غيره فتنحصر فيه هذه الولاية من دون باقي الصحابة .
6 ـ أما آية ( المباهلة ) فأظن ان ما ذكرته عنها ستتراجع عنه عندما تعيد التأمل فيه فانه قول غريب منك مع ذكائك وفطنتك ، لانه واضح ليس المقصود من انه نفسه انه هو هو على وجه تبطل الاثنينية حتى يترتب عليه انه لا يجوز ان يتزوج علي ببنت محمد ( ص ) باعتبار انها تكون ابنته ايضا ، فان هذا لا يتوهمه عاقل ولا يتوقف عليه الاستدلال ، فان محمدا محمد وعليا علي هما شخصان اثنان احدهما ابن عم الآخر وأحدهما ولد قبل الآخر ومات قبله ، ولكل منهما مميزاته الشخصية التي تختلف عن مميزات شخصية الآخر ، بل المقصود انه نفسه تنزيلا أي انه كنفسه وذلك مبالغة في تقاربهما واتحادهما في كثير من الاحكام المنزلة . وذلك يشبه قول الشاعر في مبالغته عن اتحاده مع حبيبه .

أنا من أهوى ومن أهوى أنا * نحن روحـان حللنا بـدنا


( 193 )

فإذا ابصرتني أبصرته * وإذا أبصـرته أبصرتنا

في البحث الثاني

قلت : « إذا صح أن النبي ( ص ) قد نص على الائمة الاثنى عشر بعد ان فقد ابنه ابراهيم » لا يا أخي لم يدع أحد أن النص على الائمة كان بعد فقد ابراهيم ولم يصح فيه حديث ، فمن أين جئت بهذا . ولا بأس أن ألفت نظرك إلى أن هناك آية قرآنية اخرى نظير التي ذكرتها وهي قوله تعالى : « قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى » فماذا تقول فيها (1) ؟
وهلا تدري أن النبي لما نزلت هذه الآية ( وانذر عشيرتك الاقربين ) جمع عشيرته واستنصرهم وجعل لناصره ان يكون اخاه ووصيه ووارثة وخليفته من بعده وكان علي صبيا فأجابه دونهم فقال في حقه : « إن هذا أخي ووصي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له واطيعوا » فخرجوا يتضاحكون من تأميره هذا الغلام على شيوخ قومه وفيهم
____________
(1) وما ذكرت انها آية فلا وجود لها بنصها ، وإنما بمضمونها آيات نزلت في نوح وهود وصالح وشعيب ولوط عليهم السلام . والنازلة على لسان نبينا إنما هي آية القربي وآية اخرى في سبأ 47 ( قل ما سألتكم من اجر فهو لكم إن اجري إلا على الله ) وهما يفسر
( 194 )

أبوه . بالله عليك كم سبقت هذه الواقعة في الزمن مولد ابراهيم . وتأمل في صبي لم يبلغ الحلم يقال له هذا القول من نبي لا يقول إلا عن وحي . أهذا جد أم هزل ؟ . تأمل في هذا وحكم وجدانك واعرضه على انصافك وأوله ما شئت أن تأوله فانك لا محالة ستجد هذا الصبي أكبر من أن يقاس إلى الناس وقد أمر من يومه ذاك في مبدأ البعثة ، ثم فكر في قول من يقول انه لا قيمة لاسلامه يومئذ وهو لم يبلغ الحلم كم يبلغ من درجة الانصاف وقول العدل وقوة الحجة .

في البحث الثالث

1 ـ ذكرت ان الانصار ساعة الاحتضار كانوا مجتمعين في السقيفة وجعلت دليلك مجيء معن وعويم إلى دار النبي لاخبار أبي بكر وعمر . ولكن الدعوى منك غريبة لا شاهد لها من التأريخ ، والدليل أغرب ، لانه في ساعة الاحتضار كان أبو بكر في السنح وما جاء إلى المدينة إلى بعد أن بلغه وفاة النبي فجاء إلى دار النبي فكشف عن وجهه صلى الله عليه وآله وسلم على ما ذكره بعض المؤرخين ثم ذهب إلى المسجد حيث وجد عمرا يخطب الناس بأن النبي لم يمت ، ومن المسجد بعد أن هدأت سورة عمر ذهبوا إلى دار النبي ولا بد أن الانصار حينئذ انسلوا إلى سقيفتهم .
2 ـ استغربت من الانصار أن يتنكروا للنص على علي ، ولكن
____________
احداهما الاخرى ، ويدلان على انه ( ص ) سأل اجرا هو المودة في القربى ، ولكنه للمسلمين اي نفعه لهم .
( 195 )

اعتقد يا عزيزي لو انك رجعت إلى ما ذكرته في السقيفة عن دوافعهم على تنكيرهم لكان لك مقنعا كافيا .
وأما قولك : « فقد كان الاولى أن لا تغيب عن فطنة رسول الله وهو المؤيد بالوحي فلا يأمر بأمر امته يعلم سلفا بأنهم لا يطيعونه فيه فيعرضهم بذلك إلى غضب الله . . . » فاني أقول كيف يغيب عن فطنتك قوله تعالى : « فان تولوا فانما عليك البلاغ المبين » . وقوله : « ان انت إلا نذير » . وقوله : « ولا تذهب نفسك عليهم حسرات . . . » وأمثال ذلك في القرآن كثير . وفي الحقيقة ان الرسول عليه ان يبلغ الامر الالهي وليس عليه أن لا يطيعه الناس . ولا يصح أن يتنازل عنه لمجرد انه يعلم سلفا انهم لا يطيعونه ، وإلا لوجب ان يترك كثيرا من الاحكام أو كلها لانه يعلم سلفا انهم ـ كلهم أو بعضهم لا فرق ـ لا يطيعونه . ومن المواقع التي يعلم سلفا انهم لا يطيعونه فيها ومع ذلك بلغها قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة » فانه اجمع المفسرون وأهل الحديث انه لم يعمل بهذا الحكم إلا علي عليه السلام (1) .
يا عزيزي إن الله تعالى يقول : « وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين » ثم يقول عن المؤمنين بالخصوص : « وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون » فإذا كان تعالى يعلم سلفا ورسوله يعلم سلفا أن الناس اكثرهم لا يؤمنون وأن يؤمنون أكثرهم في ايمانهم مشركون ، فيكون ـ على قولك ـ ارسال الرسل وتبليغ الاحكام للناس من قبلهم تعريضا
____________
(1) هذا الحديث مما ترك روايته البخاري ومسلم أيضا واستدركه عليهما
( 196 )

لا كثر الناس واكثر المؤمنين منهم إلى غضب الله وتذهب جهود الرسل في هدايتهم سدى .
أهذا هو المنطق يا قرة عيني ؟ أيترك الله دينه واحكامه لسواد عيون الناس لانه يعلم سلفا انهم يعصونه ؟ لا يا أخي إن الحق يجب ان يبين والحكم يجب ان يوضح سواء أطاع الناس أم عصوا وما على الرسول إلا البلاغ .

في البحث الرابع

قلت عن بعث اسامة : « ان رسول الله ( ص ) لم تكن تأخذه في الحق لومة لائم وهذا التدبير أشبه بتدبير الضعفاء » . وأقول : نحن بعد أن تثبت عندنا النصوص على علي فانا نعرف كيف لم تكن تأخذه في الحق لومة لائم ، فقد بين وأوضح وكرر وأكد ، ولكنه بعد ان اتضح لديه ان كل هذه التأكيدات والبيانات ستخالف على كل حال وان هناك جماعة سوف لا تطيع الامر في علي فأراد أن يبعدهم عن المدينة بهذه الطريقة . وليس هذا من تدبير الضعفاء بل من التدبير الحكيم بعد أن نعرف ملابسات الواقعة كما أوضحناها في كتاب السقيفة .
نعم نتصوره من تدبير الضعفاء إذا نحن أنكرنا تلك النصوص على علي وتصريحات النبي في حقه وأنكرنا ان المسلمين يوم
____________
(1) الحاكم على شرطهما ( 2 : 482 ) مع الاجماع على نقله فلماذا تركه الشيخان ؟
( 197 )

الغدير سلموا عليه بأمرة المؤمنين . نعم إذا انكرنا تلك النصوص جملة وتصورنا أن النبي أراد البيعة لابن عمه سرا فدبر ذلك التدبير الخفي لابعاد خصومه فلا نتصور النبي حينئذ ـ وحاشاه ـ إلا جبانا ضعيفا يريد أن يخاتل المسلمين في ابن عمه . ولكن ـ يا أخي ـ كل هذا التدبير إنما يكون مقبولا حكيما إذا كان قد وقع بعدما اعلن أمر ابن عمه فلم تنفع معهم كل تلك التوصيات وعلم اصرارهم على المخالفة فأرسل هذا البعث ، وإن لم ينفذوه فقد أقام به الحجة البالغة عليهم ، والا فلماذا خالفوا أمره فيه ولماذا تباطؤا واعترضوا على تأمير اسامة ؟ وقد بسطنا كل ذلك في كتاب السقيفة .
ولا يشك التاريخ في وقوع البعث ولا في تأخر المبعوثين عن تنفيذه ولا في تألم النبي منهم وغضبه عليهم واصراره عليه مرة اخرى . ولا يصح تفسير ذلك بغير ما ذكرنا إلا إذا كنا ننكر النصوص على علي جملة ، فهذا أمر آخر ولا كلام لنا مع هذا المنكر فان مثله لا يستطيع أن يستسيغ هذا التفسير قطعا .
أما تقديرك أن جيش اسامة هذا لو رجع بعد ان يفتح وقد وجد الامر قد تم لعلي قد ينتقض فيحارب من في المدينة ، فهذا احتمال من الجائز أن يقع وأن لا يقع ، ولكن لو وقع منهم فانهم يكونون كأهل الردة الخارجين على امام زمانهم يحاربون وتكون الحجة عليهم لاسيما مع سبق النصوص وبيعتهم لعلي يوم الغدير ولم يبق مجال للتأويل أو تجاهل النص على علي بعد تمام البيعة له .

في البحث الخامس
انك تشك في صحة حديث الكتاب الذي أراد النبي أن


( 198 )

يكتبه . وأنا أقول لا مجال لهذا الشك بعد ثبوته برواية أهل الحديث والتاريخ والتفسير . ولابد من التسليم به بعد ان كان متواتر النقل أوفي حكم المتواتر . وأما ما ذكرت من سبب الطعن فيه ففيه كثير من فضول القول فيما يتعلق باحتمال انه كان قرآنا فانه ليس مجال لهذا الاحتمال ولا يتصوره أحد بل هو كتاب أراد أن يسجله للمسلمين لئلا يضلوا بعده فأبوا لانفسهم هذه النعمة . وكونه بادرة لم يسبق لها مثيل منه ( ص ) فهو صحيح ولكن لا يوجب ذلك انكارا للحديث وهل تعجب من النبي ان يصنع شيئا لم يسبق له نظير لا سيما وانها بادرة تقع في اخريات ايامه قصد بها ان يفارق امته عن شيء يسد عليهم باب الخلاف والضلال . ان النبي اعظم من ان تستكثر عليه مثل هذه البادرة .
واما قولك : « ثم من هو عمر هذا الذي يأمر وينهي ولا يستطيع احد مخالفته » فهذا صحيح ولكن عمر لم يمنعه بقوة سيف أو سيطرة على المسلمين أو على النبي وانما منعه لانه القى شبهة تثير الخلاف مدى الدهر وهي ان النبي كان يهجر أو غلبه الوجع ما شئت فعبر ، وأقل الناس يستطيع ان يصنع ذلك لاسيما إذا وجد أعوانا وانصارا وبالفعل قد وجد عمر اولئك الاعوان إذ رأينا المسلمين الحاضرين قد اختلفوا على فرقتين ، فبطل مفعول الكتاب الذي كان المقصود منه أن لا يضلوا بعده أبدا كيف وقد صار هو نفسه موضوعا للنزاع والجدال والنبي حاضر بينهم وامام عينيه حتى أغضبوه وقال : « قوموا عني ولا ينبغي عند نبي نزاع » . ولا يريد النبي أن ينفذ مثل هذا بقوة السيف أو العشيرة فان طبيعة الموضوع تأبى ذلك لان هذا يزيد في الخلاف ويعقده .


( 199 )

نعم صحيح قولك : « ولم يزد عمر على ان رأى رأيا حين قال : ان الرجل قد غلبه الوجع . . . » ولكن هذا الرأي لابد أن يحول دون تنفيذ الكتاب لان طبيعة الموضوع تقتضي أن يحول هذا الرأي دونه كما قلنا ، فنعرف السر في عدوله ( ص ) عن تنفيذ الكتاب ونعرف كيف جاز له العدول عنه .
وما أدري أي أمر جوهري أعظم من كتاب يؤمن الناس من الضلال ابدا ، وهل المقصود من الدين شيء فوق هذا ، حتى تقول أنت : « ولو كان الامر متعلقا بأمر جوهري من امور الدين . . . »
وبذلك البيان تعرف يا أخي مدى قولك بالاخير « وإلا لترتب على ذلك ان النبي ( ص ) كتم كثيرا مما كان يريد تبليغه خشية عمر وغيره ولا أظن مؤمنا يقول بذلك » فاني اكرر القول بأن النبي انما عدل عنه ـ لا خشية من عمر وغيره ـ ولكن الشبهة التي أثارها وتقبلها بعض الحاضرين بالفعل فاختلفوا بحضوره لا تبقى مجالا للكتاب ، لانه ـ بالعكس ـ سيكون سببا للضلال والخلاف ابد الدهور بعد ان كان المقصود منه تأمين البشر من الضلال ، فلا بد أن يعدل عنه روحي فداه ، ولا ينفع معه التدبير باخراج عمر ولا أي تدبير آخر حتى بقتله كما تقول ، لان الشبهة قد وقعت رضوا أم أبوا ، وكل قول وفعل حينئذ من النبي بعد هذا يكون موضعا لهذه الشبهة بأنه من الهجر وغلبة الوجع . وحق لابن عباس وغير ابن عباس بعد هذا أن يبكي ويبكي بل حق له أن تتفطر كبده ألما لفوات هذه النعمة الكبرى التي لا تعادلها نعمة ، مهما كان مقصود


( 200 )

النبي من ذلك البيان الذي لا يضلون بعده أبدا سواء كان هو النص على علي أو علي أي شيء آخر .
ونحن رجحنا ان يكون المقصود هو النص على علي للدلائل والاشارات التي ذكرناها في كتاب السقيفة ومن جملتها قول عمر : « حسبنا كتاب الله » الذي هو صريح في ان ما يريد ان يبينه النبي هو عدل للقرآن ، ويسرع إلى أذهاننا حينئذ حديث الثقلين وانه هو المستهدف في البيان والمنع منه .
ثم انك تسأل عن الحاجة إلى الكتاب بعد نص الغدير وغيره ، فان الحاجة إليه ما كان يستشعره النبي من عزم جماعة على تجاهل تلك النصوص كما وقع فعلا . وأما قولك : « ومن نسي حديث الغدير وانكره على قرب العهد به فهو لما في الكتاب المزمع كتابته أشد نسيانا ونكرانا » فاني لم استطع فهمه ولم اعرف فيه وجه كون الكتاب أشد نسيانا ، فان ما هو مكتوب أثبت مما ينقل على الافواه وكيف يتطرق إليه النسيان أو النكران وهو حجة ثابتة مكتوبة ، على انه لو وقع يكون أقرب عهدا إلى الناس من حديث الغدير لو كان بعد العهد هو السبب في النسيان أو النكران كما اردت ان تقول .

في البحث السادس

1 ـ قلت : « إن ما نسب إلى الامام . . . يدل دلالة صريحة على عدم ثبوت حديث الغدير » وأنا استميحك عذرا إذا قلت لك : إن كلامك هذا غير فني فان ما ذكرته من قولي الامام : « احتجوا


( 201 )

بالشجرة . . . » و« افسدت علينا . . . » لا معنى لان يقال فيه انه يدل دلالة صريحة على نفي الحديث ، لانه لادلالة لفظية فيه على ذلك ، وأقصى ما يمكن ادعاؤه انهما يدلان بالدلالة العقلية على نفيه باعتبار انه ترك الاستدلال بحديث الغدير في موقع كان الاولى أن يستدل به ، فعدوله عند دليل على عدم ثبوته وإلا لاستدل به . وهذه الدلالة لا تسمى دلالة صريحة .
ونحن ننكر عليك حتى هذه الدلالة العقلية لانه لم يكن في موقع الاستدلال بحديث الغدير حتى يكون تركه دليلا على عدم ثبوته في القول الاول ، لانه جاء احتجاجا على من احتج باستحقاق الخلافة بالقرابة من الرسول فقال لهم : إذا كان ذلك سببا للاستحقاق فمن كان اكثر قرابة وأقرب فهو أولى بالاستحقاق . والتشبيه بالشجرة والثمرة من التشبيهات البديعة في الباب فانه لبيان أولوية الاستحقاق للاقرب لانه هو الثمرة التي هي أولى من أصل الشجرة بالاستفادة منها بل الثمرة هي الغاية المقصودة من الشجرة . وليس هذا موردا لذكر النص لانه من باب النقض على المستدل بحجته .
وأما القول الثاني فعلى تقدير صحة نقله فان قوله : « لم ترع لنا حقا » كلام عام يجوز ان يراد به النص ويجوز ان يراد مطلق الحق الذي صورته في كلامك . وهذا التصوير الذي ذكرته وأطنبت فيه ليس في كلام الامام دلالة عليه وإنما هو من اجتهاد الكاتب حينما تخيل ان الامام لا نص عليه فلا بد أن تكون احتجاجاته وشكواه ناشيءة من اعتقاده بالاحقية .


( 202 )

2 ـ تحدثت عن قصة انصراف الناس عنه بعد موت فاطمة فانه كلام غريب فانه لا ربط له بقصة النص وإنما تلك القصة ترتبط بقصة التجاء الامام إلى مسالمة القوم بعد الانصراف عنه .
3 ـ تقارن بين قول الامام : « فنظرت فإذا ليس لي معين . . . » وبين آية « كنتم خير أمة . . . » لتستدل من الآية على تكذيب نسبة هذا القول إليه . وازيدك انك بهذا الاستدلال تستطيع ان تكذب كثير من الاحاديث النبوية مثل احاديث الحوض ونحوها الدالة على ارتداد أصحابه بعده وتبدلهم ورجوعهم القهقري والمروية في الصحاح .
غير اني احيلك على كتب التفسير لمعرفة مدى دلالة هذه الآية . وما علينا من كتب التفسير ! لننظر بأنفسنا إلى مدى دلالة هذه الآية على المقصود :
ان دلالتها تكمن في كلمة ( كنتم ) فان كانت على ظاهرها من دلالتها على الماضي المنقطع بمعنى انهم كانوا فيما مضى خير امة ثم لم يستمر ذلك لهم فلا ينافيها أن تكون الامة قد انقلبت بعد الرسول على الاعقاب لانه قال : كنتم خير امة ، ولم يقل انتم خير أمة أبد الدهر .
ولكن بعض المفسرين أول معنى ( كنتم ) فقال : انها للماضي الاستمراري مثل قوله تعالى : « وكان الله غفورا رحيما » وأنا شخصيا كذلك أفهم هذا المعنى من الآية ، غير أن الذي يشكل علينا ان المسلمين لم يكونوا في جميع عهودهم على ما تصف الآية الكريمة يأمرون بالمعروف وينهون عن


( 203 )

المنكر لا سيما في مثل عهودهم الحاضرة التي لم يبق فيها من المعروف حتى رسمه فضلا عن أن يكون كلهم من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر . هذا هو الواقع المرير الذي لا سبيل لنا من انكاره والمكابرة فيه فكيف نتصور انطباق الآية على عهودنا وامثالها .
وعليه فليس الاشكال يخص الامة الاسلامية في أول عهودها بعد النبي بل في جميع عهودها الغابرة والحاضرة فكيف نستطيع التوفيق بين واقع امتنا المحزن وبين دلالة الآية على امتداح هذه الامة وتفضيلها على سائر الامم لانها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ كيف التوفيق ياترى ؟
والذي يخطر في بالي من الجواب على ذلك أحد أمرين ( الاول ) وهو الارجح عندي ان الآية قد تقدمتها آيات أخر ذكرت وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن هذا التشريع كما يبدو منها انه من مختصات المسلمين المخاطبين بهذا الوجوب على أن يتولى بعضهم هذا الامر ثم ذكرت نهي المؤمنين عن ان يتفرقوا ويختلفوا من بعد ان جاءتهم البينات فتبيض وجوه بعض وتسود وجوه آخرين ثم قال : « كنتم خير أمة . . . » لبيان انه لما كانوا خير الامم لا ينبغي ان يختلفوا وسر انهم خير الامم لانه قد شرع لهم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس المقصود الاخبار عن انهم كلهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا سيما ان المخاطب


( 204 )

بالوجوب بعض المسلمين على نحو الوجوب الكفائي ( ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف . . . ) .
( الثاني ) ان المراد انكم تأمرون بالمعروف من حيث مجموعكم ولو بامتثال البعض وان كان ذلك البعض قليلا باعتبار ان ذلك البعض من الامة يعمل باسمها كأنه يقول : انكم خير الامم لان فيكم من يأمر بالمعروف وليس كذلك باقي الامم . وهذا كما نقول مثلا ان الامة الانكليزية احتلت العراق ، وليس المراد ان جميع الامة احتلته بل بعض جيوشها وذلك باعتبار ان ذلك البعض منها وكان عمله باسمها .

في البحث السابع

1 ـ تسأل عما إذا كان تناقض بين قول الامام : « لو وجدت اربعين ذوي عزم . . » وبين قوله : « فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس . . . » فاني لم اعرف وجها للتناقض بين القولين فان الامام في الاول يقول : لو وجدت الاربعين على هذه الصفة لناهضت القوم ، ومعنى ذلك انه لم يجد الاربعين فلم يناهضهم يعني انه سالمهم ، ثم صرح في الثاني بأنه امسك يده عن نصرتهم غير انه لما رأى راجعة الناس عن الاسلام فرأى ان المصيبة في ذلك أعظم من مصيبة فوت الولاية فالتجأ أن ينصر الاسلام لاجل ذلك ، لانصرة للامراء ولا لكونهم عنده أهلا للنصرة كما هو مدلول كلامه . وأنت


( 205 )

ترى ان احد الكلامين يتصل بالآخر ويكون متمما له ، فأين التناقض ؟
أما انه لو ناهض القوم بلاربعين عندما يجدهم فانك تحتمل ان تدور عليه الدائرة كالحسين فهذا تكهن لم يعترف به الامام وهو من ظاهر كلامه كان جازما بأن الاربعين على هذه الصفة لو وجدهم لكانوا كافين له في النصرة على خصومه . اما انه يكون ذلك ثلما للاسلام لو انتصر عليهم ، فمن أين نفهمه إذا فرضنا انه انتصر على غاصبي حقه من الخلافة التي هي بنص النبي وبها حينئذ قوام الاسلام لا هدمه إلا إذا كنا لا نعترف بالنص فهذا أمر آخر .
وأما كفاية نصرة مالك بن نويرة فعلى تقديره فهو واحد من ذوي العزم إذا كان هو حقيقة من ذوي العزم الذين يشترطهم الامام فيكف تفرض ان الحجة قد قامت عليه بمالك وحده على انه كونه يعترف بحقه شيء وكونه من ذوي العزم شيء آخر .
وأما سؤالك عن اتفاق قوله عليه السلام : « فخشيت ان لم أنصر الاسلام وأهله ان أرى فيه ثلما أو هدما » مع ما ذهبت إليه من تقاعس الامام عن نصرة الخلفاء إلا بمقدار الضرورة فانه واضح الاتفاق لان الامام في صدر كلامه ذكر انه أمسك يده ولكن ضرورة حفظ بيضة الاسلام دعته إلى النصرة . وهذا صريح بأن الضرورة هي التي دعته إلى ذلك


( 206 )

والضرورات تقدر بقدرها لا ان النصرة ابتدائية بدافع نفسي ليناقض ما قلته عنه ، بل هذا الكلام مما يؤيد قولي ويؤكده وهو يدل على أن العمل الذي يعلم انه يضر بالاسلام يتركه ويعمل ما يرى عمله ضرورة اسلامية ، فكيف كان قوله هذا يدل على انه يحجم عن الفعل أو القول الذي يكون خذلانا للاسلام كما رغبت انت ان تقوله وتتصوره عن هذه الكلمة .
نعم ان الامام اعظم وأجل ان يتقاعس عن عمل يراه واجبا لنصرة الاسلام ، ومن اين يدل كلامه المنقول أو كلامي المسطور على خلاف ذلك فإذا تباطأ أبو الحسن فانما تباطأ عن شيء يكون فيه نصرة لابي بكر وعمر ولم يتباطأ عما تدعوه الضرورة الاسلامية إلى فعله ، وانما لم يشترك في الحروب لانه حينئذ يكون مأمورا لهم وهذا ما كان يتحاشاه بل يتحاشونه معه . وما ذكرته في السقيفة عن ذلك ففيه الكفاية .
وأما قياسه في الاشتراك في الحروب بعمر وعثمان وطلحة وامثالهم فقياس مع الفارق البعيد ، لو كان هناك قياس ، وابو الحسن من تعرف في حروبه ايام النبي وايام خلافته ولم يشترك قبله ولا بعده من الخلفاء بنفسه في الحروب ، فكيف يقاس غيره به وكيف لا يستغرب عدم اشتراكه في الحروب ايام الخلفاء قبله وكيف لا يدل ذلك على عدم تعاونه معهم معاونة صادقة ؟
هذا ما أردت ان اقوله ـ يا قرة العين ـ في جوابات


( 207 )

اسئلتك واعذرني إذا كنت قد رمزت لك رمزا في كثير من الابحاث اقتصادا في الوقت واستعجالا في الاجابة للشواغل التي دهمتني في خلال تسجيل هذه الرسالة فعاقتني عن الاسراع إلى اتمامها في الوقت المناسب .
وتقبل التحيات من المخلص
محمد رضا المظفر





( 208 )

أهم مصادر الكتاب

1 ـ صحيح البخاري المطبوع بمصر عام 1320 هـ
2 ـ صحيح مسلم المطبوع بمصر عام 1390 هـ
وما في ص 58 رجعنا فيه الى المطبوع عام 1334 هـ
3 ـ مسند احمد المطبوع بمصر عام 1313 هـ
4 ـ العقد الفريد المطبوع بمصر عام 1353 هـ
5 ـ مستدرك الحاكم
6 ـ الجمع بين الصحيحين
7 ـ كنز العمال
8 ـ تاريخ الطبري
9 ـ تاريخ ابن الاثير
10 ـ تاريخ الخميس
11 ـ تاريخ اليعقوبي
12 ـ السياسة والامامة لابن قتيبة
13 ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي
14 ـ تاريخ ابن خلدون
15 ـ مروج الذهب
16 ـ السيرة الحلبية
17 ـ سيرة ابن هشام


( 209 )

18 ـ سيرة دحلان
19 ـ طبقات ابن سعد
20 ـ الاصابة
21 ـ الاستيعاب
22 ـ اسد الغابة
23 ـ التهذيب لابن عساكر
24 ـ ميوان الاعتدال
25 ـ نهج البلاغة
26 ـ شرح النهج لابن ابي الحديد
27 ـ منهاج السنة لابن تيمية
28 ـ الصواعق المحرقة له
29 ـ مقالات الاسلاميين لأبي الحسن الاشعري
30 ـ الملل والنحل للشهرستاني
31 ـ الفصل في الملل والنحل لابن حزم
32 ـ البيان والتبيين للجاحظ
33 ـ معجم البلدان
34 ـ لسان العرب
35 ـ حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل