الأمثال في القران الكريم ::: 91 ـ 105
(91)
بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كلّ عظيم ، كما مثل في الإنجيل على الصدور بالنخالة ، والقلوب القاسية ، بالحصاة ، ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير ، وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأعز من مخ البعوض. (1)
    وربّما يتصور أنّ التمثيل بالاَشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء ، وعلى هذا فالقرآن المشتمل على النمل والذباب والعنكبوت والنحل لا يكون فصيحاً فضلاً عن كونه معجزاً.
    وأجاب عنه صدر المتألهين الشيرازي ( المتوفّى عام 1050 ه‍ ) بقوله : إنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها ، إذا شرط في المثال أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعظم والحقارة ، والشرف والخساسة ، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال ، لأنّ الغرض الأصلي منه إيضاح المعنى المعقول ، وإزالة الخفاء عند إبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه ، فانّ العقل الإنساني مادام تعلقه بهذه القوى الحسيّة لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداً عن مزاحمة الوهم ومحاكاته ، لأنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.
    ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية ، وفشت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم ، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم ، وصحف الأوائل ومسفوراتهم ، تتميماً للتخيّل بالحس ، فهناك يضاعف في التمثيل ، حيث يمثل أوّلاً المعقول بالمتخيل ، ثمّ يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكل. (2)
    ثمّ إنّه سبحانه يذكر أنّ الناس أمام الأمثال على قسمين :
1 ـ تفسير البيضاوي : 1 / 43.
2 ـ تفسير القرآن الكريم : 2 / 192 ـ 193.


(92)
    أ : المؤمنون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم : ( فَأَمّا الّذين آمَنُوا فَيَعْلَمُون انّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ ).
    ب : الكافرون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم : ( وَأَمّا الّذين كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مثَلاً ). والظاهر أنّ قولهم ( أراد اللّهُ ) كان على سبيل الاستهزاء بادّعاء الرسول أنّ المثل وحي منزل من الله ، وإلاّ فانّ الكافرين والمنافقين كانوا ينكرون الوحي أصلاً.
    ولا غرو في أن يكون شيء سبب الهداية لطائفة وسبب الضلال لطائفة أخرى ، وما هذا إلاّ لأجل اختلاف القابليات ، فمن استعد لقبول الحقّ والحقيقة فتصبح الآيات الإلهية سبب الهداية ، وأمّا الطائفة الأخرى المعاندون الذين صمّوا مسامعهم عن سماع كلمة الحق وآياته فينكرون الآيات ويكفرون بذلك.
    ثمّ إنّ الظاهر أنّ قوله سبحانه : ( يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين ) من كلامه سبحانه ، ولا صلة له بكلام المنكرين ، بل تم كلامه بقوله : ( بها مثلاً ) وهو انّ الأمثال تؤثر في قوم دون قوم.
    ثمّ إنّه يعلّل إضلال غير المؤمنين بفسقهم ويقول : ( وَما يُضِلُّ بِهِ إلاّ الفاسقين ) ، والفسق : عبارة عن خروج النواة من التمر ، وفي الاصطلاح : من خرج عن طاعة الله ، سواء أكان مسلما متجرياً أو كافراً فاسقاً.
    وقد أطنب المفسرون الكلام في مفاد الجملة الاَخيرة أعني : ( يُضِلُّ به كثيراً وَيَهْدي بهِ كَثيراً ) فربما يتوهم أنّ الآية بصدد الإشارة إلى الجبر ، فحاولوا تفسير الآية بشكل يتلاءم مع الاختيار ، وقد عرفت أنّ الحقّ هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ المواعظ الشافية والكلمات الحِكَمية لها تأثير معاكس فيؤثر في القلوب المستعدة تأثيراً إيجابياً وفي العقول المنتكسة تأثيراً سلبياً.


(93)
    هذا هو تفسير الآية.
    وربّما يحتمل أنّ الآية ليست بصدد بيان ضرب المثل بالبعوضة كضربه بالعنكبوت والذباب ، بل الآية خارجة عن نطاق ضرب المثل بالمعنى المصطلح ، وإنّما الآية بصدد بيان قدرته وعظمته وصفاته الجمالية والجلالية ، والآية بصدد بيان أنّ الله سبحانه لا يستحيي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته سواء أكان كبيراً وعظيماً كالسماوات والأرض ، أو صغيراً وحقيراً كالبعوضة والذباب ، فمعنى ضرب المثل هو وصفه سبحانه بصفات الجلال أو الكمال.
    ويدل على ذلك أنّه سبحانه استدل على جلاله وكماله بخلق السماوات والأرض وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الّذِي خَلقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الّذي جَعَلَ لَكُمُ الاََرضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ). (1)
    يلاحظ على تلك النظرية بأمرين :
    أوّلاً : لو كان المراد من ضرب المثل وصفه سبحانه بالقدرة العظيمة لكان اللازم أن يأتي بالآية بعد هاتين الآيتين مع أنّه فصل بينهما بآيات ثلاث تركّز على إعجاز القرآن والتحدّي به ، ثمّ التركيز على الجنة وثمارها كما هو معلوم لمن راجع المصحف الكريم.
    وثانياً : انّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد جاء قوله : ( فَأَمّا الّذينَ آمنوا فيعلمون انّه الحق من ربّهم ) في سورة الرعد بعد تشبيه الحق والباطل بمثل
1 ـ البقرة 21 ـ 22.

(94)
رائع يأتي البحث عنه إن شاء الله ، قال سبحانه : ( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِها ... ) إلى أن قال : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ ) ثمّ قال : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ انّمَا أُنزل إِلَيكَ مِن ربِّكَ الحقُّ كَمَن هو أعمى إِنّما يَتَذَكّرُ أُولُوا الألباب * الّذين يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ولاَ يَنْقُضُونَ المِيثاقَ ). (1)
    تجد أنّ الآيات في سورتي البقرة والرعد كسبيكة واحدة يفسر بعضها البعض.
    ففي سورة البقرة ذكر ضرب المثل بالبعوضة ، كما ضرب في سورة الرعد مثلاً للحق والباطل.
    ففي سورة البقرة قال سبحانه : ( وَأَمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم ).
    وفي سورة الرعد قال سبحانه : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنّ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبّكَ الحَقُّ كمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألباب ).
    وفي سورة البقرة قال : ( وَما يُضِلُّ بهِ إلاّ الفاسِقينَ ) ، وفسَّره بقوله : ( الّذين ينقضون عهد الله من بَعْدِ ميثاقِهِ ... ) الخ.
    وفي سورة الرعد ، فسّر أُولي الألباب بقوله : ( الّذينَ يُوفُونَ بعَهدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ المِيثاق ). (2)
    فبمقارنة هذه الآيات يعلم أنّ المراد من ضرب المثل هو المعنى المعروف أي التمثيل بالبعوضة لتحقير معبوداتهم أو ما يشبه ذلك.
    نعم ما نقلناه عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ربّما يؤيد ذلك الوجه كما مرّ ، فتدبّر.
1 ـ الرعد : 17 ـ 20.
2 ـ الرعد : 20.


(95)
سورة البقرة
4


    ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَانَّ مِنَ الحِجارَة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُون ). (1)
    تفسير الآية
    جاءت الآية بعد قصة البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل ، وقد كانوا يجادلون موسى ( عليه السلام ) بغية التملّص من ذبحها ، ولكن قاموا بذبحها وما كادوا يفعلون.
    وكان ذبح البقرة لأجل تحديد هوية القاتل الذي قام بقتل ابن عمه غيلة واتهم بقتله شخصاً آخر من بني إسرائيل ، فصاروا يتدارأون ويدفعون عن أنفسهم هذه التهمة ، فرجعوا في أمرهم إلى موسى ( عليه السلام ) ، وشاء الله أن يظهر حقيقة الأمر بنحو معجز ، فقال لهم موسى ( عليه السلام ) : ( انّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، فلمّـا ذبحوها ـ بعد مجادلات طويلة ـ أمر سبحانه أن يضربوا المقتول ببعض البقرة حتى يحيى المقتول ويعين هوية القاتل.
    قال سبحانه : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يحيي اللهُ المَوتى وَيُريكُمْ آياتِهِ
1 ـ البقرة : 74.

(96)
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ). (1)
    ومع رؤية هذه المعجزة الكبرى التي كان من المفروض أن تزيد في إيمانهم وانصياعهم لنبيهم موسى ( عليه السلام ) ، لكن ـ وللأسف ـ قست قلوبهم بنحو يحكي سبحانه شدة تلك القساوة ويقول :
    ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كالحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ).
    وبما أنّ الحجر هو المعروف بالصلابة والقساوة شبّه سبحانه قلوبهم بالحجارة وقال : إنَّ قُلوبهُمْ ( كالحِجارَة أَوْ أَشَدّ قَسوَة ) أي : بل أشدّ قسوة ، فكلمة « أو » موضوعة مكان بل.
    ثمّ إنّ القلوب إمّا بمعنى النفوس الناطقة ، فعندئذ تكون نسبة القساوة إلى الروح نسبة حقيقية. أو انّ المراد منها هو العضو المودع في الجهة اليسرى من الصدر الذي ليس له دور سوى تصفية الدم وإرساله إلى سائر الأعضاء ، وعندئذٍ تكون النسبة مجازية ، وإنّما نسبت القساوة إلى ذلك العضو ، لأنّه مظهر من مظاهر الحياة الإنسانية ، وأوّل عضو يتأثر بالاَُمور النفسانية كالفرح والغضب والحزن والجزع ، فلامنافاة في أن يكون المدرك هو النفس الناطقة ، ومع ذلك يصحّ نسبة الإدراك إلى القلب.
    ثمّ إنّه سبحانه وصف قلوبهم بأنّها أشدّ قسوة من الحجارة ، وعلّل ذلك بأُمور ثلاثة :
    الأوّل : ( وَانّ مِنَ الحِجارة لَما يَتَفَجَّرُ مِنْه الاََنْهار ).
    الثاني : ( وَانَّ مِنْها لما يَشَّقّق فيَخرج مِنْهُ الماء ).
1 ـ البقرة : 73.

(97)
    الثالث : ( وَإنّ مِنْها لما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ).
    أمّا الأوّل : أي تفجّر الأنهار من الحجارة ، كالعيون الجارية من الجبال الصخرية.
    وأمّا الثاني : كالعيون الحادثة عند الزلازل المستتبعة للانشقاق والانفجار المستعقب لجريان الأنهار.
    وأمّا الثالث : كهبوط الحجارة من الجبال العالية إلى الأودية المنخفضة من خشية الله.
    ولا مانع من أن يكون للهبوط علة طبيعية كالصواعق التي تهبط بها الصخور وعلة معنوية التي كشف عنها الوحي ، وهي الهبوط من خشية الله.
    وعلى ضوء ذلك فالحجارة على الرغم من صلابتها تتأثر طبقاً للعوامل السالفة الذكر ، وأمّا قلوب بني إسرائيل فهي صلبة لا تنفعل أمام وحيه سبحانه وبيان رسوله ، فلا تفزع نفوسهم ولا تخشع لأمره ونهيه.
    ومن عجيب الأمر أنّ بني إسرائيل رأوا باُمّ أعينهم ليونة الحجارة حيث استسقى موسى لقومه ، فأمر بأن يضرب بعصاه الحجر ، فلمّا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الاَسباط.
    ثمّ إنّ ظاهر الآية نسبة الشعور إلى الحجارة حيث إنّها تهبط من خشية الله ، وهذه حقيقة علمية كشف عنها الوحي وإن لم يصل إليها الإنسان بأدواته الحسية.
    يقول صدر المتألهين : إنّ الكون بجميع أجزائه يسّبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور ، فلكلّ موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والإدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.


(98)
    وعلى هذا الشعور تسّبح الموجودات كلّها ، خالقها وبارئها وربّها سبحانه وتنزّهه عن كلّ نقص وعيب.
    ثمّ يقول : إنّ العلم والشعور والإدراك كلّ ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود ، ابتداء من « واجب الوجود » إلى النباتات والجمادات ، وانّ لكلّ موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة. و ... و ... ولا يخلو موجود من ذلك أبداً ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا ـ بعض الأحيان ـ لضعفها وضآلتها.
    على أنّ موجودات الكون كلما ابتعدت عن المادة والمادية ، واقتربت إلى التجرد ، أو صارت مجردة بالفعل ازدادت فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً ، وكلّما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية ، وتعمّقت فيها ، ضعفت فيها هذه الصفات ، وضؤلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرّة ، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراك ، ولكنّها ليست كذلك ـ كما نتوهم ـ إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف ، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة. (1)
    وليست هذه الآية هي الفريدة في بابها ، بل هناك آيات تؤكد على جريان الشعور في أجزاء العالم من الذرة إلى المجرّة.
    يقول سبحانه : ( تُسَبّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ). (2)
    وبما أنّنا بسطنا الكلام في سريان الشعور إلى أجزاء العالم برمّته في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة ، فلنقتصر على ذلك ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه.
1 ـ الأسفار : 1\118 و 6\139 ، 140.
2 ـ الإسراء : 44.


(99)
سورة البقرة
5


    ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِداءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ). (1)
    تفسير الآية
    النعيق : صوت الراعي لغنمه زجراً ، يقال : نعق الراعي بالغنم ، ينعق نعيقاً ، إذا صاح بها زجراً.
    والنداء : مصدر نادى ينادي مناداة ، وهو أخص من الدعاء ، ففيه الجهر بالصوت ونحوه ، بخلاف الدعاء.
    وفي تفسير الآية وجوه :
    الأوّل : انّ الآية بصدد تشبيه الكافرين بالناعق الذي ينعق بالغنم ، ولا يصح التشبيه عندئذٍ إلاّ إذا كان الناعق أصم ، ويكون معنى الآية : انّ الذين كفروا الذين لا يتفكرون في الدعوة الإلهية ، كمثل الأصم الذي ينعق بما لا يسمع نفسه ولا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولاً إلاّ دعاءً ونداءً وصوتاً بلا معنى.
    وجه التشبيه : انّ الناعق أصم كما أنّ هؤلاء الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون.
1 ـ البقرة : 171.

(100)
    وفي هذا المعنى المشبه هو الكافرون الذين لا يفهمون من الدعوة النبوية إلاّ صوتاً ودعوة فارغة من المعنى.
    والمشبه به : هو الناعق الأصم الذي ينعق بالغنم ، ولكن لا يسمع من نعاقه إلاّ دعاءً ونداءً.
    وهذا الوجه وإن كان ينطبق على ظاهر الآية ، ولكنّه بعيد من حيث المعنى ، إذ لو كان الهدف هو التركيز على أنّ الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون لكفى تشبيههم بالحيوان الذي هو أيضاً كذلك ، فما هو الوجه لتشبيههم بإنسان عاقل أخذ منه سمعه لا يسمع من نعاقه إلاّ صوتاً ونداءً ؟
    الثاني : انّ المشبه هو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والمشبه به هو الناعق للغنم ، والمراد ومثلك أيها النبي في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق في البهائم التي لا تسمع من نعيقه إلاّ دعاءً ونداءً ما ، فتنزجر بمجرد قرع الصوت سمعها من غير ان تعقل شيئاً ، فهم ـ الكافرون ـ صمّ لا يسمعون كلاماً يفيدهم ، وبكم لا يتكلمون بما ينفع ، وعمي لا يبصرون ، فهم لا يعقلون شيئاً ، لأنّ الطرق المؤدية إلى التعقل موصدة عليهم.
    ومن ذلك ظهر أنّ في الكلام قلباً أو عناية أخرى يعود إليه ، فانّ المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى ، إلاّ انّ الأوصاف الثلاثة التي استنتجت واستخرجت من المثل وذكرت بعده ، وهي قوله : ( صمّ بكمٌ عميٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون ) ، لما كانت أوصافاً للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحقّ استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب. (1)
1 ـ الميزان : 1 / 420.

(101)
    ثمّ إنّ صاحب المنار فسّر الآية على الوجه الأوّل وقال : ( مثل الذين كفروا ) أي صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم كمثل الذي لا يسمع إلاّ دعاء ونداءً ، أي كصفة الراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء وجزها عن الحمى ، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار. شبّه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل ، ويزجرها فتنزجر ، وهي لا تعقل مما يقول شيئاً ، ولا تفهم له معنى وإنّما تسمع أصواتاً تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد ، ولا تعقل سبباً للإقبال ولا للإدبار. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد ذمهم وانّهم لا يعتنقون الإيمان ولا يمتثلون الأوامر الإلهية ونواهيها ، وعلى ذلك تصبح الآية نوع مدح لهم ، لأنّهم لو كانوا كالبهائم السائمة يجيبون دعوة النبي كقبولها دعوة الراعي وينزجرون بزجره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانتهائها عن نهي الراعي ، فيكون ذلك على خلاف المقصود ، فانّ المقصود بشهادة قوله ( صم بكم عمي ) انّهم لا يسمعون كلام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا ينطقون بالحقّ ولا ينظرون إلى آيات الله وانّهم في واد والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في واد آخر.
    وأين هم من البهائم السائمة التي تقع تحت يد الراعي فتنتهى بنهيه ؟!
1 ـ تفسير المنار : 2 / 93 ـ 94.

(102)
سورة البقرة
6


    ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالّذين آمنوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ). (1)
    نزلت الآية عندما حوصر المسلمون واشتد الخوف والفزع بهم في غزوة الأحزاب فجاءت الآية لتثبّت قلوبهم وتعدهم بالنصر.
    وقيل : إنّ عبد الله بن أُبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد : إلى متى تتعرضون للقتل ، ولو كان محمّد نبياً لما واجهتم الأسر والتقتيل ؟ ، فنزلت الآية.
    تفسير الآية
    وردت لفظة « أم » للاِضراب عما سبق وتتضمن معنى الاستفهام ، والمعنى « بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة ».
    و ( البَأساء ) : هي الشدة المتوجهة إلى الإنسان من خارج نفسه كالمال والجاه والأهل.
    و « الضرّاء » : هي الشدة التي تصيب نفس الإنسان كالجرح والقتل ، وقيل :
1 ـ البقرة : 214.

(103)
انّ « البأساء » نقيض « النعماء » ، « الضراء » نقيض « السراء » ، و « الزلزلة » شدة الحركة ، والزلزال البلية المزعجة لشدة الحركة والجمع زلازل ، وأصله من قولك زلّ الشيء عن مكانه ، ضوعف لفظه بمضاعف معناه ، نحو صرى وصرصر ، وصلى وصلصل ، فإذا قلت زلزلته ، فمعناه كرّرت تحريكه عن مكانه.
    وقد جاء ما يقرب من مضمون الآية في آيات أخرى ، منها قال سبحانه : ( وَالصّابِرينَ فِي البَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولئِكَ الّذينَ صَدَقُوا وَأُوْلئِكَ هُمُ المُتَّقُون ). (1)
    وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون ). (2)
    وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ إلاّ أَخَذْنا أَهْلَهَا بِالبَأساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرّعُون ). (3)
    تدلُّ مجموع هذه الآيات على دوام الابتلاء والامتحان في جميع الأمم خصوصاً في الأمة الاِسلامية.
    ثمّ إنّ الهدف من امتحان أبناء البشر هو تحصيل العلم بكفاءة الممتحن ، لكنّه فيه سبحانه يستهدف إلى إخراج ما بالقوة من الكمال إلى الفعلية مثلاً : فانّ إبراهيم ( عليه السلام ) كان يتمتع بموهبة التفاني في الله وبذل ما يملك في سبيله غير انّه لم تكن لها ظهور وبروز ، فلما وقع في بوتقة الامتحان ظهرت تلك الموهبة إلى الوجود بعد ما كانت بالقوة.
1 ـ البقرة : 177.
2 ـ الأنعام : 42.
3 ـ الأعراف : 94.


(104)
    وما ذكرنا هو المستفاد من الآيات وقد صرح به الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في بعض خطبه : قال :
    « لا يقولنّ أحدكم : اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة ، لأنّه ليس أحد إلاّ وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن ، فانّ الله سبحانه يقول : ( وَاعْلَمُوا أنّما أَموالكُمْ وَأَولادكُمْ فِتْنَة ) ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يُستحق الثواب والعقاب ». (1)
    إلى هنا تبين معنى مفردات الآية وسبب نزولها والآيات التي وردت في هذا الصدد في حقّ سائر الاَُمم.
    إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآية.
    يقول سبحانه : إنّ الابتلاء بالبأساء والضراء سنة إلهية جارية في الأمم كافة ولا تختص بالاَُمة الإسلامية ، فالتمحيص وتمييز المؤمن الصابر عن غير الصابر رهن الابتلاء. فلا يتمحض إيمان المسلم إلاّ إذا غربل بغربلة الامتحان ليخرج نقياً. ولا يترسخ الإيمان في قلبه إلاّ من خلال الصمود والثبات أمام أعاصير الفتن الهوجاء.
    وكأنّ الآية تسلية لنبيه وأصحابه مما نالهم من المشركين وأمثالهم ، لأنّ سماع أخبار الأمم الماضية يسهّل الخطب عليهم ، وانّ البلية لا تختص بهم بل تعم غيرهم أيضاً ، ولذلك يقول : ( أَمْ حَسِبْتُمْ ) أي أظننتم وخلتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ( ولمّا يَأْتِكُمْ مَثلُ الّذين خَلوا مِنْ قَبْلِكُم ) ، أي أن تدخلوا الجنة ولما تبتلوا وتمتحنوا بمثل ما ابتليت به الأمم السالفة وامتحنوا به. فعليكم بالصبر والثبات كما صبر هؤلاء وثبتوا.
1 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم : الحكمة 93.

(105)
    وعلى ضوء هذا فالمثل بمعنى الوصف ـ وقد تقدم منّا القول ـ بأنّ من معاني المثل هو الوصف. فقوله : ( وَلَما يَأتِكُم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء ) ، أي « لمّا يأتكم وصف الذين خلوا من قبلكم » فلا يدخلون حظيرة الإيمان الكامل إلاّ أن يكون لهم وصف مثل وصف الذين واجهوا المصائب والفتن بصبر وثبات وعانوا الكثير من القلق والاضطراب ، كما قال تعالى في حقّ المؤمنين : ( وَزلزلوا زِلزالاً شَديداً ) ففي خضّم هذه الفتنة التي تنفد فيها طاقات البشر ، فإذا بالرحمة تنزل عليهم من خلال دعاء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصالح المؤمنين.
    كما قال سبحانه : ( وَزلزلوا حتى يقول الرسول والّذين آمنوا معه متى نصر الله ) والجملة ليست إلاّ طلب دعاء للنصر الذي وعد الله به رسله والمؤمنين بهم واستدعاءً له ، كما قال تعالى : ( وَلَقدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُون ) (1) ، وقال تعالى : ( كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلي ). (2)
    يقول الزمخشري : ومعناه طلب الصبر وتمنّيه واستطالة زمان الشدة ، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة ، وتماديه في العظم ... فإذا لم يبق للرسل صبر حتى ضجّوا ، كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح ورائها.
    وعند ذلك يخاطبون بقوله سبحانه : ( ألا إنّ نصر الله قريب ) أي يقال لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر. (3)
    ثمّ إنّ القراءة المعروفة هي الرفع في قوله : ( حَتى يَقول الرسول ) ، وعند ذلك تكون الجملة لحكاية حال الأمم الماضية. وقرئ بنصب « يقول » وعلى هذا
1 ـ الصافات : 171 ـ 172.
2 ـ المجادلة : 21.
3 ـ الكشاف : 1 / 270 في تفسير الآية.
الأمثال في القران الكريم ::: فهرس