الأمثال في القران الكريم ::: 211 ـ 225
(211)
النور
36



    ( وَالّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَمآنُ ماءً حَتّى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوفّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الحِسَابِ ). (1)
    تفسير الآية
    « السراب » : ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنّه ماء يجري ، و « القيعة » : بمعنى القاع أو جمع قاع ، وهو المنبسط المستوي من الأرض ، والظمآن هو العطشان.
    يشبه سبحانه أعمال الكفار تارة بالسراب كما في هذه الآية ، وأخرى بالظلمات كما في التمثيل الآتي ، ولعلّ المشبه في الأوّل هو حسناتهم ، وفي الثاني قبائح أعمالهم.
    وإليك توضيح التمثيل الوارد في الآية :
    قال سبحانه : ( وَالّذِينَ كَفَرُوا أَعمالهم ) أي ما يعملون من الطاعات ويقدمون من قرابين وأذكار يتقربون بها إلى آلهتهم ، مثلها ك‍ ( سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ).
1 ـ النور : 39.

(212)
    فقد وصف الظمآن بصفات عديدة :
    الاَُولى : حسبان السراب ماءً ، كما قال سبحانه : ( كَسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ).
    الثانية : إذا وصل إلى السراب لم يجده شيئاً نافعاً ، كما قال سبحانه ( حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ) وإنّما خصّ الظمآن به مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راءٍ ، لأن المقصود هو مجيء الرائي إلى السراب ، ولا يجيئه إلاّ الظمآن ليرتوي ويرفع عطشه.
    الثالثة : عند ما يشرف على السراب لا يجد فيه ماءً ، ولكن يجد الله سبحانه عنده ، كما قال سبحانه : ( وَوَجد الله عنده ).
    وهذا خبر عن الظمآن ، ولكن المقصود منه في هذه الجملة هو الكافر ، والمعنى وجد أمر الله ووجد جزاء الله ، وذلك عند حلول أجله واشرافه على الآخرة.
    فالكافر يتصوّر أنّ ما يقدم من قرابين وأذكار سوف ينفعه عند موته وبعده ، وسوف تقوم الآلهة بالشفاعة له ، ولكن يتجلّـى له خلاف ذلك وانّ الأمر أمر الله لا أمر غيره فلا يجدون أثراً من ألوهية آلهتهم.
    فعند ذلك يجدون جزاء أعمالهم ، كما يقول سبحانه : ( فَوَفّاهُمُ اللهُ حسابهم ).
    ثمّ إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله : ( وَاللهُ سريع الحساب ).
    وبذلك تبين انّ الآية المباركة لبيان حال الظمآن الحقيقي إلى قوله : ( لم يجده شيئاً ) ، كما أنّها من قوله ( ووجد ... ) يرجع إلى الظمآن لكن بالمعنى المجازي وهو الكافر.


(213)
    وحاصل التمثيل هو انّ الطاعة والعبادة والقربات كلها لله تبارك وتعالى ، فمن قدمها إليه وقام بها لأجله فقد بذر بذرة في أرض خصبة سوف ينتفع بها في لقائه سبحانه.
    وأمّا من عبد غيره وقدم إليه القربات راجياً الانتفاع به ، فهو كرجاء الظمآن الذي يتصوّر السراب ماءً فيجيئه لينتفع به ولكنّه سرعان ما يرجع خائباً.
    إلى هنا تمَّ ما يشترك فيه الظمآن والكافر ، أي المشبه به والمشبه ، ولكن المشبه ، أعني : الكافر الذي شبه بالظمآن فهو يختص بأُمور أخرى.
    أولاً : انّه عند مجيئه إلى الانتفاع بأعماله يجد الله هو المجازي لا غير.
    وثانياً : انّه سبحانه يجزيه بأعماله.
    وثالثاً : فيوفيه حسابه.
    وما ذلك إلاّ لأنّ الله سريع الحساب.
    وعلى ضوء ما ذكرنا فقد أُريد من الظمآن الاسم الظاهر الظمآن الحقيقي ، وأُريد من الضمائر الثلاثة في « وجد » « وفّاه » « حسابه » الظمآن المجازي أعني الكافر الخائب.


(214 )
النور
37



    ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها وَمَنْ لَمْ يَجعلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ). (1)
    تفسير الآية
    « اللجيّ » : منسوب إلى اللجّة ، وهي في اللغة البحر الواسع العميق ، ولكنّه استخدم في لازم معناه وهو تردد أمواجه ، فانّ البحر كلما كان عميقاً وواسعاً تزداد أمواجه ، وعلى ذلك فيكون المراد من قوله ( بحرٍ لجيّ ) أي بحر متلاطم.
    و « السحاب » : عبارة عن الغيوم الممطرة ، بخلاف الغيم فهو أعم ، وانّما استخدم كلمة السحاب ليكون سبباً لازدياد الظلم.
    هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية ، وأمّا المقصود فهو كالتالي.
    انّه سبحانه شبه في الآية السابقة أعمال الكافرين ، لأجل عدم الانتفاع بها بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ، ولكنّه تعالى شبّه أعمالهم في هذه الآية بالظلمة وخلوّها من نور الحق ببحر لجيّ فوقه سحابة سوداء ممطرة ويعلو ماءه
1 ـ النور : 40.

(215)
موج فوق موج ، فراكب هذا البحر تغمره ظلمة دامسة لا يرى أمامه شيئاً حتى لو أخرج يده فانّه لا يراها مع قربها منه.
    هذا هو المشبه به ، وأمّا المشبه فالأعمال التي يقوم بها الكافر باطلة محضة ليس فيها من الحقّ شيء مثل هذا البحر اللجي المحيط به عتمة الظلام الذي ليس فيه نور.
    ثمّ إنّ الآية تشير إلى ظـلمات ثلاث.
    الاَُولى : ظلمة البحر المحجوب من النور.
    الثانية : ظلمة الأمواج المتلاطمة.
    الثالثة : السحاب الأسود الممطر.
    فتراكم هذه الظلمات يحجب كلّ نور من الوصول ، وهكذا الحال في الكافر ففي أعماله ظلمات ثلاث يمكن بيانها بأنحاء مختلفة :
    النحو الأوّل : ظلمة الاعتقاد ، ظلمة القول ، ظلمة العمل.
    النحو الثاني : ظلمة القلب ، ظلمة البصر ، ظـلمة السمع.
    النحو الثالث : ظلمة الجهل ، ظلمة الجهل بالجهل ، ظلمة تصوّر الجهل علماً. (1).
    ويمكن أن تكون هذه الظلمات المتراكمة إشارة إلى أمر آخر وهو إصرار الكافر المتزايد على كفره وقبائح أعماله.
    ولذلك يصفه سبحانه بقوله : ( ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ).
1 ـ انظر تفسير الفخر الرازى : 24 / 8 ـ 9.

(216)
    إيقاظ
    ثمّ إنّ بعض المؤلفين في أمثال القرآن ذكروا الآية التالية واعتبروها من الأمثال ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأكُلُ الطَّعام وَيَمْشي فِي الأسْواقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأكُلُ مِنْها وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثال فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ). (1)
    ولكن الآية رغم ما جاء فيها من لفظ الأمثال ليست من قبيل التمثيل ، وإنّما هي بصدد نقل ما وصف به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في لسان الكفّار ، حيث وصفوه بأنّه يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، فلا يصلح للرسالة.
    ثمّ نقموا منه بأنّا سلمنا انّه رسول ، ولكنّه لماذا لا ينزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ليتصل إنذاره بالغيب بتوسط الملك ؟
    ثمّ نقموا منه أيضاً بأنّه لماذا لم يُلقَ إليه كنز من السماء حتى يصرفه في حوائجه المادية ، أو لماذا لا تكون له جنّة يأكل منها ، ثمّ في الختام وصفوه بأنّه مسحور.
    فقال سبحانه اعتراضاً وتنديداً بوصفهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إيجاباً وسلباً بقوله ( انظر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثال ) أي انظر كيف وصفوك تارة بأنّك تأكل وتمشي في الأسواق ، وأخرى بعدم اقترانك بملك ، وثالثة بالفقر ، ورابعة بكونك مسحوراً بتخيّل انّه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب.
    وليس هاهنا مشبه ولا مشبه به ولا تمثيل ليبين موقف الرسول ، ولأجل ذلك صرّحنا في المقدمة انّه ليس من الأمثال القرآنية.
1 ـ الفرقان : 7 ـ 9.

(217 )
العنكبوت
38



    ( مَثَلُ الّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإنّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون * إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيم * وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُهَا إلاّ العالِمُون ). (1)
    تفسير الآيات
    ضرب سبحانه لآلهة المشركين مثلاً بالذباب تارة ، وبيت العنكبوت أخرى ، أمّا الأوّل فقد مضى البحث عنه ، وأمّا الثاني فهو ما تتضمنه الآية من تشبيه آلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت.
    وقد مرّ انّ التشبيه يترك تأثيراً بالغاً في النفوس مثل تأثير الدليل والبرهان ، فتارة ينهى عن الغيبة ويقول : لا تغتب فانّه يوجب العذاب ويورث العقاب ، وأخرى يمثل عمله بالمثل التالي : وهو انّ مثل من يغتاب مثل من يأكل لحم الميت ، لأنّك نلت من هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب ، فكان نيلك منه كعمل من يأكل لحم الميت وهو لا يعلم ما يفعل به ولا
1 ـ العنكبوت : 41 ـ 43.

(218)
يقدر على الدفع.
    ثمّ إنّ الغرض من تشبيه الآلهة المزيفة بهوام وحشرات الأرض كالبعوض والذباب والعنكبوت هو الحط من شأنها والاستهزاء بها.
    إنّ العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجساداً من إناثها ، وهي تتغذى من الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت ، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة ، فيتجدد بمجرد ملامسته للهواء ويصير خيطاً في غاية الدقة ، وما أن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سمـاً يوقف حركاتها ، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها. (1)
    ومع ذلك فما نسجته بيتاً لنفسها من أوهن البيوت ، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت ، الذي يتألف من حائط هائل ، وسقف مظلٍّ ، وباب ونوافذ ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات هذا من جانب ، ومن جانب آخر فانّ بيتها يفتقد لأدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية ، فلو هبّ عليه نسيم هادئ لمزق النسيج ، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى ، ولو وقع على مقربة من نار لاحترق ، ولو تراكم عليه الغبار لمزق.
    هذا هو حال المشبه به ، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع. وهو انّها لا تنفع ولا تضرّ ، لا تخلق ولاترزق ، ولا تقدر على استجابة أي طلب.
    بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالاً من بيت العنكبوت ، وهو انّ العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعاً ، ولكن الأصنام والأوثان لا توفر شيئاً للكافر.
1 ـ انظر دائرة معارف القرن الرابع عشر : 6 / 772.

(219)
    وبذلك تقف على عظمة التمثيل الوارد في قوله : ( وَإنّ أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت لَو كانُوا يَعْلَمُون ).
    ثمّ إنّ قوله : ( لو كانوا يعلمون ) ليس قيداً لقوله : ( أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت ) ، لأنّه من الواضح لكلّ أحد انّ بيت العنكبوت في غاية الوهن ، وانّما هو من متمّمات قوله : ( اتخذوا ) أي لو علموا انّ عبادة الآلهة كاتخاذ العنكبوت بيتاً سخيفاً ، ربما أعرضوا عنها.
    ثمّ إنّه سبحانه أردف المثل بآية أخرى ، وقال : ( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يدعُونَ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم ) والظاهر انّ « ما » في قوله : ( ما يدعون ) موصولة ، أي انّه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار وما يتخذونه من دونه أرباباً. ولكن علمهم لا يضر إذ هو العزيز الذي لا يغالب فيما يريد والحكيم في جميع أفعاله.
    ثمّ قال سبحانه : ( وَتِلْكَ الأمْثال نَضْرِبها لِلنّاس وما يعقلها إلاّ العالمون ) أي نذكر تلك الأمثال ، وما يفهمها إلاّ العلماء العاقلون.


(220 )
الروم
39



    ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالأرْضِ كُلّ لَهُ قانِتُون * وَهُوَ الّذي يَبْدَوَُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأعْلى فِي السَّموات وَالأرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً من أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يعْقِلُون ). (1)
    « القانت » : هو الخاضع ، الطائع ، فقوله : ( كلّ له قانتون ) أي خاضعون وطائعون له في الحياة والبقاء والموت والبعث ، وبالجملة كلّ ما في الكون مقهور لله سبحانه.
    ثمّ إنّ هذه الآيات تتضمن برهاناً على إمكان المعاد وتمثيلاً على بطلان الشرك في العبادة ، أمّا البرهان فقوله سبحانه : ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالأرْض كُلّ لَهُ قانِتُون ) واللام في قوله « وله » للملكية ، والمراد منه الملكية التكوينية ، كما أنّ قنوطهم وخضوعهم كذلك ، ومفاد الآية انّ زمام ما في الكون بيده سبحانه ، والكل مستسلمون لمشيئته سبحانه دون فرق بين الصالحين والطالحين ، وذلك لأنّه سبحانه
1 ـ الروم : 26 ـ 28.

(221)
هو الخالق الذي يدبر العالم كيفما يشاء ، والمربوب مستسلم لربه.
    ثمّ إنّه سبحانه رتَّب على ذلك مسألة إمكان المعاد ، بقوله : ( وَهُوَ الّذي يَبْدَوَُا الخَلْق ثُمَّ يُعيدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ).
    وحاصل البرهان : انّـه سبحانـه قادر على الخلق من العدم ـ كما هو المفروض ـ فالقادر على ذلك قادر على الإعادة ، إذ ليس هو إعادة من العدم ، بل إعادة لصورة الأجزاء المتماسكة وتنظيم المتفرقة ، فالخالق من لا شيء أولى من أن يكون خالقاً من شيء.
    ثمّ إنّ هذه الأولوية حسب تفكيرنا ورؤيتنا ، وإلاّ فالاَُمور الممكنة أمام مشيئته سواء ، قال على ( عليه السلام ) :
    وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوى والضعيف في خلقه إلاّ سواء. (1)
    ولأجل توضيح هذا المعنى ، قال سبحانه : ( وَلَهُ المَثَلُ الأعلى فِي السَّمواتِ وَالأرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكيم ) والمراد من المثل الوصف ، والمراد من المثل الأعلى هو الوصف الأتم والأكمل ، الذي له سبحانه ، فهو علم كله ، قدرة كله ، حياة كله ، ليس لأوصافه حد.
    إلى هنا تمَّ ما ذكره القرآن من البرهان على إمكانية قيام المعاد بحشر الأجسام.
    وإليك بيان الأمر الثاني وهو التنديد بالشرك في العبادة من خلال التمثيل الآتي.
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 185.

(222)
    ألقى سبحانه المثل بصورة الاستفهام الإنكاري ، وحاصله : هل ترضون لأنفسكم أن تكون عبيدكم وإماؤكم شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم إيّاها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هؤلاء العبيد والإماء ورضاً منهم ، كما تخشون الشركاء الاَحرار.
    والجواب : لا ، أي لا يكون ذلك أبداً ولا يصير المملوك شريكاً لمولاه في ماله ، فعندئذٍ يقال لكم : كيف تجوزون ذلك على الله ، وأن يكون بعض عبيده المملوكين كالملائكة والجن شركاء له ، امّا في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة.
    والحاصل : انّ العبد المملوك وضعاً لا يصحّ أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الأموال ، فهكذا العبد المملوك تكويناً لا يمكن أن يكون في درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل ، كأن يكون خالقاً أو مدبراً ، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبوداً.
    فالشىء الذي لا ترضونه لأنفسكم ، كيف ترضونه لله سبحانه ، وهو ربّ العالمين ؟ وإلى ذلك المثل أشار ، بقوله :
    ( ضَرَبَ الله لَكُم مَثلاً مِنْ أَنْفُسكُم ) أي ضرب لكم مثلاً متخذاً من أنفسكم منتزعاً من حالاتكم ( هَل لَكُمْ من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم ) فقوله : ( هل لكم ) شروع في المثل المضروب ، والاستفهام للإنكار ، وقوله « ما » في ( مما ملكت ) إشارة إلى النوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والاِماء.
    فقوله : ( من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ) مبين للشركة ، فقوله شركاء مبتدأ والظرف بعده خبره ، أي شركاء فيما رزقناهم على وجه تكونون فيه سواء ، وعلى ذلك يكون من في شركاء ، زائدة.


(223)
    فقوله : ( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) بيان للشركة ، أي يكون العبيد كسائر الشركاء الأحرار ، فكما أنّ الشريك يخاف من شركائه الأحرار ، كذلك يخاف من عبده الذي يعرف أنّه شريك كسائر الشركاء.
    ثمّ إنّه يتم الآية ، بقوله : ( كَذلك نُفصّل الآيات لقوم يعقلون ) ، وعلى ذلك فالمشبه هو جعل المخلوق في درجة الخالق ، والمشبه به جعل المملوك وضعاً شريكاً للمالك.


(224)
فاطر
40



    ( وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمن كُلّ تَأْكُلُون لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِليةً تَلْبَسُونَها وَتَرى الفُلكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ). (1)
    تفسير الآية
    « الفرات » : الماء العذب ، يقال للواحد والجمع ، قال سبحانه : ( وأَسْقَيناكُمْ ماءً فُراتاً ) ، وعلى هذا يكون عذب قيداً توضيحياً.
    « الاَُجاج » : هو شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار.
    « مواخر » من مخر ، يقال مخرت السفينة مخراً ، إذا شقت الماء بجؤجئها مستقبلة له.
    فالآية بصدد ضرب المثل في حقّ الكفر والإيمان ، أو الكافر والمؤمن.
    وحاصل التمثيل : انّ الإيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر ، كما أنّ الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الاَُجاج.
    وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع ، قال سبحانه : ( وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذبٌ فُراتٌ سائِغٌ شرابهُ وَهذا مِلحٌ أجاج ) بل انّ
1 ـ فاطر : 12.

(225)
الكافر أسوأ حالاً من البحر الاَُجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين :
    أ : يستخرج من كلّ منهما لحماً طرياً يأكله الإنسان ، كما قال سبحانه : ( وَمن كلٍّ تأكُلون لَحماً طَرياً ).
    ب : يستخرج من كلّ منهما اللآلئ التي تخرج من البحر بالغوص وتلبسونها وتتزينون بها.
    إلى هنا تمَّ التمثيل ، ثمّ إنّه سبحانه شرع لبيان نعمه التي نزلت لأجلها السورة ، وقال :
    ( وَتَرى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله لعلّكم تشكرون ) ، والدليل على أنّه ليس جزء المثل تغير لحن الكلام ، حيث إنّ المثل ابتدأ بصيغة الماضي ، وقال : ( وَما يستوى البحران ) ولكن ذيله جاء بصيغة المخاطب ( وترى الفلك ) وهذا دليل على أنّه ليس جزء المثل.
    مضافاً إلى أنّ مضمون الجملة جاء في سورة النحل ، وقال : ( وَهُوَ الّذي سَخَّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (1)
    وبذلك يظهر انّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوُبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهى كَالحِجارة أَو أَشَدُّ قَسوةً وانّ مِنَ الحِجارةِ لَمَا يَتفجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإنّ مِنْها لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإِنّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَما اللهُ بِغافلٍ عَمّا تعْمَلُون ). (2)
    فكما أنّ الحجارة ألين من قلوبهم ، فهكذا الملح الاَُجاج أفضل من الكافر ، حيث إنّه يفيد.
1 ـ النحل : 14.
2 ـ البقرة : 74.
الأمثال في القران الكريم ::: فهرس