الأمثال في القران الكريم ::: 241 ـ 255
(241)
الزخرف
46



    ( فَاسْتَخَفَّ قوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِين * فَلَمّا آسفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقناهُمْ أَجْمَعِين * فَجَعَلْناهُمْ سلفاً وَمَثَلاً للآخِرِين ). (1)
    تفسير الآيات
    « آسفونا » : مأخوذ من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه.
    وقال الراغب : الآسف : الحزن والغضب معاً ، وقد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد ، والمراد في الآية هو الغضب.
    السلف : المتقدم.
    انّه سبحانه يخبر عن انتقامه من فرعون وقومه ، ويقول : فلمّا آسفونا ، أي أغضبونا ، وذلك بالاِفراط في المعاصي والتجاوز عن الحد ، فاستوجبوا العذاب ، كما قال سبحانه : ( انتقمنا منهم ) ثمّ بين كيفية الانتقام ، وقال : ( فَأَغْرَقناهم أجمعين ) فما نجا منهم أحد ( فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين ) ، أي جعلناهم عبرة وموعظة لمن يأتى من بعدهم حتى يتّعظوا بهم.
    فالمشبه به هو قوم فرعون واستئصالهم ، والمشبه هو مشركو أهل مكة وكفّارهم ، فليأخذوا حال المتقدمين نموذجاً متقدماً لمصيرهم.
1 ـ الزخرف : 54 ـ 56.

(242)
الزخرف
47



    ( وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ * وَقالُوا ءالِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون * إِنْ هُوَ إلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ * وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيم )
    تفسير الآيات
    « الصدّ » : بمعنى الانصراف عن الشيء ، قال سبحانه : ( يصدّون عنك صدوداً ) ، ولكن المراد منه في الآية هو ضجة المجادل إذا أحس الانتصار.
    « تمترُنَّ » : من المرية وهي التردد بالاَمر.
    ذكر المفسرون في سبب نزول الآيات انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما قرأ : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُون * لَوْ كانَ هوَُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلّ فِيها خالِدُونَ * لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ). (2)
1 ـ الزخرف : 57 ـ 61.
2 ـ الأنبياء : 98 ـ 100.


(243)
    امتعضت قريش من ذلك امتعاضاً شديداً ، فقال عبد الله بن الزبعرى : يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم ».
    فقال : خصمتك وربّ الكعبة ، ألست تزعم انّ عيسى بن مريم نبي وتثني عليه خيراً ، وعلى أُمّه ، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما ، وعزير يعبد ، والملائكة يعبدون ، فإن كان هؤلاء في النار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرحوا وضحكوا. (1)
    وإلى فرحهم وضجّتهم ، يشير سبحانه بقوله : ( إذا قومك منه يصدّون ) حيث زعموا انّهم وجدوا ذريعة للرد عليه وإبطال دعوته ، فنزلت الآية إجابة عن جدلهم الواهي ، قال سبحانه :
    ( ولمّا ضرب ابن مريم مثلاً ) أي لما وصف المشركون ابن مريم مثلاً وشبهاً لآلهتهم ( إذا قومك منه يصدون ) أي أحس قومك في هذا التمثيل فرحاً وجذلاً وضحكاً لمّا حاولوا إسكات رسول الله بجدلهم ، حيث قالوا في مقام المجادلة : ( وقالوا ءآلهتنا خير أم هو ) يعنون آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب النار كانت آلهتنا هيناً.
    وبذلك يعلم انّ المشركين هم الذين ضربوا المثل حيث جعلوا المسيح شبهاً ومثلاً لآلهتهم ، ورضوا بأن تكون آلهتهم في النار إذا كان المسيح كذلك ازداد فرح المشركين وظنوا انّهم التجأوا إلى ركن ركين أمام منطق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ثمّ إنّه سبحانه يشير في الآيات السابقة إلى القصة على وجه الاِجمال ، ويجيب
1 ـ الكشاف : 3 / 100.لاحظ سيرة ابن هشام : 1 / 385 ، وقد ذكرت القصة بتفصيل.

(244)
على استدلال ابن الزبعرى.
    أوّلاً : انّهم ما أرادوا بهذا التمثيل إلاّ المجادلة والمغالبة لا لطلب الحق ، وذلك لأنّ طبعهم على اللجاج والعناد ، يقول سبحانه : ( ما ضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون ).
    وثانياً : انّهم ما تمسكوا بهذا المثل إلاّ جدلاً وهم يعلمون بطلان دليلهم ، إذ ليس كلّ معبود حصب جهنم ، بل المعبود الذي دعا الناس إلى عبادته كفرعون لا كالمسيح الذي كان عابداً لله رافضاً للشرك ، فاستدلالهم كان مبنياً على الجدل وإنكار الحقيقة ، وهذا هو المراد من قوله : ( ما ضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون ).
    ولذلك بدأ سبحانه يشرح موقف المسيح وعبادته وتقواه وانّه كان آية من آيات الله سبحانه ، وقال : ( إِنْ هُوَ إلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثلاً لِبَني إِسرائيل ) ، أي آية من آيات الله لبني إسرائيل ، فولادته كانت معجزة ، وكلامه في المهد معجزة ثانية وإحياوَه الموتى معجزة ثالثة ، فلم يكن يدعو قطُّ إلى عبادة نفسه.
    ثمّ إنّه سبحانه من أجل تحجيم شبهة حاجته إلى عبادة الناس ، يقول : ( وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَة في الأرض يخلفُون ) أي يطيعون الله ويعبدونه ، فليس الاِصرار على عبادتكم وتوحيدكم إلاّ طلباً لسعادتكم لا لتلبية حاجة الله ، وإلاّ ففي وسعه سبحانه أن يخلقكم ملائكة خاضعين لاَمره.
    ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى خصيصة من خصائص المسيح ، وهي انّ نزوله من السماء في آخر الزمان آية اقتراب الساعة.


(245)
    إلى هنا تم تفسير الآية ، وأمّا التمثيل فقد تبين ممّا سبق حيث شبهوا آلهتهم بالمسيح ورضوا بأن تكون مع المسيح في مكان واحد وإن كان هو النار. فالذي يصلح لأن يكون مثلاً إنّما هو قوله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلاً ) وقد عرفت انّ الضارب هو ابن الزبعرى ، وأمّا قوله : ( وَجَعَلناه مثلاً لبني إِسرائيل ) فالمثل فيه بمعنى الآية.
    إيقاظ :
    ربما عُدّت الآية التالية من الأمثال القرآنية : ( وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحاتِ وَآمنُوا بِما نُزّلَ على مُحمّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ ) (1) والظاهر انّ المثل في الآية بمعنى الوصف لا بمعنى التمثيل المصطلح ، أي تشبيه شيء بشيء ويعلم ذلك من خلال تفسير الآيات.
    تفسير الآيات
    « بال » البال : الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال : ما باليت بكذا بالةً أي ما اكترثت به ، قال : ( كفّر عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالهُم ) ، وقال : ( فَما بال القُرون الأولى ) أي حالهم وخبرهم ، ويعبَّر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان ، فيقال خطر كذا ببالي. (2)
1 ـ محمد : 2 ـ 3.
2 ـ مفردات الراغب : 67 مادة بال.


(246)
    إنّ هذه الآيات بشهادة ما تليها تبين حال كفّار قريش ومشركي مكة الذين أشعلوا فتيل الحرب في بدر. فقال : ( انّ الّذين كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبيلِ الله ) أي منعوا الآخرين من الاهتداء بهدى الإسلام ، فهؤلاء أضلّ أعمالهم ، أي أحبط أعمالهم وجعلها هباءً منثوراً. فلا ينتفعون من صدقاتهم وعطياتهم إشارة إلى غير واحد من صناديد قريش الذين نحروا الاِبل في يوم بدر وقبله.
    فيقابلهم المؤمنون كما قال : ( وَالّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَآمنوا بِما نزّل على محمّد وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ ).
    فلو انّه سبحانه أضلّ أعمال الكافرين وأحبط ما يقومون به من صدقات ، لكنّه سبحانه من جهة أخرى جعل صالح أعمال المؤمنين كفارة لسيئاتهم وأصلح بالهم.
    فشتّان ما بين كافر وصادّ عن سبيل الله ، يحبط عمله.
    وموَمن بالله وبما نزّل على محمد ، يكفّر سيئاته بصالح أعماله.
    ومن هذا التقابل علم مكانة الكافر والمؤمن ، كما علم نتائج أعمالهما.
    ثمّ إنّه سبحانه يدلّل على ذلك بأنّ الكافرين يقتفون أثر الباطل ولذلك يضل أعمالهم ، وأمّا المؤمنون فيتبعون الحقّ فينتفعون بأعمالهم ، وقال : ( ذلك بأَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبّهِمْ ).
    وفي ختام الآية الثانية ، قال : ( كذلِكَ يضرب الله للنّاس أمثالهم ) أي كذلك يبين حال المؤمن والكافر ونتائج أعمالهما وعاقبتهما.
    وعلى ذلك فالآية ليست من قبيل التمثيل ، بل بمعنى الوصف ، أي كذلك يصف سبحانه للناس حال الكافر والمؤمن وعاقبتهما. فليس هناك أي تشبيه


(247)
وتنزيل ، وإنّما الآيات سيقت لبيان الحقيقة ، فالآية الاُولى تشير إلى الكافر ونتيجة عمله ، والآية الثانية تشير إلى المؤمن ومصير عمله ، والآية الثالثة تذكر علة الحكم ، وهو انّ الكافر يستقي من الماء العكر حيث يتبع الباطل والمؤمن ينهل من ماء عذب فيتبع الحقّ.


(248)
محمد
48



    ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَير آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ لِلشّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصفىً وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمعاءَهُمْ ). (1)
    تفسير الآية
    « آسن » يقال : أسن الماء ، يأسن : إذا تغير ريحه تغيراً منكراً ، وماء غير آسن : أي غير نتن.
    « الحميم » : الماء الشديد الحرارة.
    قوله : « مثل الجنة » أي وصفها وحالها ، وهو مبتدأ خبره محذوف ، أي جنة فيها أنهار. فلو أردنا أن نجعل الآية من آيات التمثيل فلابدّ من تصور مشبه وهو الجنة الموعودة ، ومشبه به وهو جنة الدنيا بما لها من الخصوصيات.
    ولكن الظاهر انّ الآية صيغت لبيان حال الجنة ووصفها وسماتها ، وهي كالتالي :
1 ـ محمد : 15.

(249)
    1. فيها أنهار أربعة وهي عبارة عن :
    أ : ( أنهار من ماء غير آسن ) أي الماء الذي لا يتغير طعمه ورائحته ولونه لطول البقاء.
    ب : ( أنهار من لبن لم يتغير طعمه ) ، ولا يعتريها الفساد بمرور الزمان.
    ج : أنهار من خمر لذة للشاربين ، فتقييد الخمر بكونه لذة للشاربين احتراز عن خمر الدنيا ، وقد وصف القرآن الكريم خمر الجنة في آية أخرى ، وقال : ( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأسٍ مِنْ مَعِين * بَيضاءَ لَذّةٍ للشّارِبينَ * لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُون ). (1) فقوله : ( لذّة للشاربين ) أي ليس فيها ما يعتري خمر الدنيا من المرارة والكراهة ، فقوله : ( لا فيها غول ) ، أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ، وقوله : ( ولا هم عنها ينزفون ) أي يسكرون. وبذلك يمتاز خمر الآخرة على خمر الدنيا.
    د : أنهار من عسل مصفّى وخالص من الشمع.
    وهذه الأنهار الاَربعة لكلّ غايته وغرضه : فالماء للارتواء ، والثاني للتغذّي ، والثالث لبعث النشاط والروح ، والرابع لإيجاد القوة في الإنسان.
    2. وفيها وراء ذلك من كلّ الثمرات ، كما قال سبحانه : ( وَلَهُمْ فيها مِنْ كُلّ الثَّمرات ) فالفواكه المتنوعة تحت متناول أيديهم لا عين رأتها ولا أُذن سمعتها ولا خطرت على قلب بشر.
    3. وفيها وراء هذه النعم المادية ، نعمة معنوية يشير إليها بقوله : ( وَمَغْفِرة مِنْ رَبّهِم ).
1 ـ الصافات : 45 ـ 47.

(250)
    وبذلك تبيّن لنا وصف الجنة وحال المتقين فيها ، بقي الكلام في تبيين حال أهل الجحيم ومكانهم ، فأشار إليه بقوله :
    ( كمن هُوَ خالِدٌ في النّار ) هذا وصف أهل الجحيم ، وأمّا ما يرزقون فهو عبارة عن الماء الحميم لا يشربونه باختيارهم وإنّما يسقون ، ولذلك يقول سبحانه : ( وسقوا ماءً حميماً ) الذي يقطّع أمعاءهم كما قال : ( فقطّع أمعاءهم ).
    وعلى كلّ تقدير ، فلو قلنا : إنّ الآية تهدف إلى تشبيه جنة الآخرة بجنة الدنيا التي فيها كذا وكذا فهو من قبيل التمثيل ، وإلاّ فالآية صيغت لبيان وصف جنة الآخرة وانّ فيها أنهاراً وثماراً ومغفرة.
    والظاهر هو الثاني ، فالأولى عدم عدّ هذه الآية من الأمثال القرآنية وإنّما ذكرناها تبعاً للآخرين.


(251)
الفتح
49


    ( هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهيداً * مُحَمّدٌ رَسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الاِِنْجِيلِ كَزَرعٍ أَخْرَجَ شطأهُ فَآزره فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجراً عَظِيماً ). (1)
    تفسير الآيات
    « السيماء » : العلامة ، فقوله : ( سيماهم في وجوههم ) ، أي علامة إيمانهم في وجوههم.
    شطأ الزرع : فروخ الزرع ، وهو ما خرج منه ، وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه إشطاء ، وهو ما يعبر عنه بالبراعم.
    « الأزر » : القوة الشديدة ، آزره أي أعانه وقوّاه.
    « الغلظة » : ضد الرقة.
1 ـ الفتح : 28 ـ 29.

(252)
    « السوق » : قيل هو جمع ساق.
    القرآن يتكلم في هاتين الآيتين عن النبي تارة وأصحابه أخرى :
    أمّا الأوّل فيعرّفه بقوله : ( هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهيداً ) والضمير « ليظهره » يرجع إلى دين الحقّ لا الرسول ، لأنّ الغاية ظهور دين على دين لا ظهور شخص على الدين ، والمراد من الظهور هو الغلبة في مجال البرهنة والانتشار ، وقد تحقّق بفضله سبحانه وسوف تزداد رقعة انتشاره فيضرب الإسلام بجرانه في أرجاء المعمورة ، ولا سيما عند قيام الإمام المهدي المنتظر ( عليه السلام ).
    يقول سبحانه في هذا الصدد : ( محمّد رسول الله ) أي الرسول الذي سوف يغلب دينه على الدين كله ، وقد صرح باسمه في هذه الآية ، إلاّ أنّه أجمل في الآية الأولى ، وقال : « أرسل رسوله ».
    إلى هنا تمّ بيان صفات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسماته ، وأمّا صفات أصحابه فجاء ذكرهم في التوراة والإنجيل.
    أمّا التوراة فقد جاء فيها وصفهم كالتالي :
    1. ( والّذين معه أشداء على الكفّار ) ، الذين لا يفهمون إلاّ منطق القوة ، فلذلك يكونون أشداء عليهم.
    2. ( رُحماء بَينهم ) فهم رحماء يعطف بعضهم على بعض ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. (1)
1 ـ مسند أحمد بن حنبل : 4 / 270 و 268 و 274.

(253)
    3. ( تراهم ركّعاً سُجّداً ) ، هذا الوصف يجسّد ظاهر حالهم وانّهم منهمكون في العبادة ، فلذلك يقول : ( تراهم ركعاً سجداً ) ، أي تراهم في عبادة ، التي هي آية التسليم لله سبحانه.
    ومع ذلك لا يبتغون لعبادتهم أجراً وإنّما يأملون فضل الله ، كما يقول : ( يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ) ، ولعل القيد الأخير إشارة إلى أنّ الحافز لأعمالهم هوكسب رضاه سبحانه.
    ومن علائمهم الأخرى انّ أثر السجود في جباههم ، كما يقول : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) فسيماهم ووجوههم تلمح إلى كثرة عبادتهم وسجودهم وخضوعهم لله سبحانه ، وهذه الصفات مذكورة أيضاً في الاِنجيل.
    إنّ أصحاب محمد لم يزالوا يزيدون باطّراد في العدة والقوة وبذلك يغيظون الكفار ، فهم كزرع قوي وغلظ وقام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده.
    ولم يزالوا في حركة دائبة ونشيطة ، فمن جانب يعبدون الله مخلصين له الدين بلا رياء ولا سمعة ، ومن جانب آخر يجاهدون في سبيل الله بغية نشر الإسلام ورفع راية التوحيد في أقطار العالم.
    فعملهم هذا يغيظ الكفار ويسرّ المؤمنين ، قال سبحانه : ( ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفّار ).
    فالمجتمع الاِسلامي بإيمانه وعمله وجهاده وحركته الدؤوبة نحو التكامل يثير إعجاب الأخلاّء وغيظ الألدّاء.
    ثمّ إنّه سبحانه وعد طائفة خاصة من أصحاب محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مغفرة وأجراً


(254)
عظيماً ، وذلك لأنّ المنافقين كانوا مندسّين في صفوف أصحابه ، فلا يصح وعد المغفرة لكلّ من صحب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورآه وعاش معه وقلبه خال من ا لاِيمان ، ولذلك قال سبحانه : ( وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات مِنْهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْراً عظيماً ) فكلمة « منهم » تعرب عن أنّ المغفرة لا تعم جميع الأصحاب بل هي مختصة بطائفة دون أخرى.
    وما ربما يقال من أنّ « من » بيانية لا تبعيضية غير تام.
    لاَنّ « من » البيانية لا تدخل على الضمير ، ويؤيد ذلك قوله : ( وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ). (1)
    والحاصل : انّه لا يمكن القول بشمول أدلة المغفرة والأجر العظيم لقاطبة من صحب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع أنّهم على أصناف شتى.
    فمن منافق معروف ، عرّفه الذكر الحكيم بقوله : ( إذا جاءَكَ الْمُنافِقُون ). (2)
    إلى آخر مختفٍ لا يعرفه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال سبحانه : ( وَمِنْ أَهْلِ المَدينَة مَرَدُوا علَى النّفاق لا تعلَمهم نَحنُ نَعْلَمهم ).
    إلى ثالث يصفهم الذكر الحكيم بمرضى القلوب ، ويقول : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللهُ وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُوراً ). (3)
    إلى رابع سمّاعون لنعق كل ناعق فهم كالريشة في مهب الريح يميلون تارة
1 ـ التوبة : 101.
2 ـ المنافقون : 1.
3 ـ الأحزاب : 12.


(255)
إلى المسلمين وأخرى إلى الكافرين ، يصفهم سبحانه بقوله ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إلاّ خَبالاً وَلاَ وضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمين ). (1)
    إلى خامس خالط العمل الصالح بالسيّء يصفهم سبحانه بقوله : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وآخَرَ سَيّئاً ). (2)
    إلى سادس أشرفوا على الارتداد ، عرّفهم الحق سبحانه بقوله : ( وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقّ ظَنَّ الجاهِليةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الاََمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ ). (3)
    إلى سابع يصفه القرآن فاسقاً ، ويقول : ( يا أَيّها الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَيَّنُوا أن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِين ). (4)
    والمراد هو الوليد بن عقبة صحابي سمي فاسقاً ، وقال تعالى : ( فَإِنَّ اللهَ لا يَرضَى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِين ). (5)
    إلى ثامن يصفهم الذكر الحكيم مسلماً غير مؤمن ويصرِّح بعدم دخول الإيمان في قلوبهم ، ويقول : ( قالَتِ الأعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُوَْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلمّا يَدْخُلِ الإيمانُ فِي قُلُوبِكُم ). (6)
    إلى تاسع أظهروا الإسلام لأخذ الصدقة لا غير ، وهم الذين يعرفون بالمؤلّفة
1 ـ التوبة : 47.
2 ـ التوبة : 102.
3 ـ آل عمران : 154.
4 ـ الحجرات : 6.
5 ـ التوبة : 96.
6 ـ الحجرات : 14.
الأمثال في القران الكريم ::: فهرس