|
|||
151
الله ، وإذنه أمره لها بالإيمان ما كانت مكلّفة متعبّدة وإلجاؤه إيّاها إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبّد عنها .
فقال المأمون : فرّجت عنّي يا أبا الحسن فرّج الله عنك » (1). 3 ـ دليل العقل : فالعقل حينما يلاحظ الأفعال الكونيّة ، يراها أفعالا إختيارية ويجد فيها حسن الآثار ، والدقائق الكثار ، وقرائن الإختيار . ومن المعلوم أنّ العمل الإختياري ، والأثر المنظّم لا يكون إلاّ عملا إرادياً مقصوداً . فوقوع تلك الأفعال المنتظمة مفتقر عقلا إلى كون فاعلها مريداً لها ، قديراً عليها ، أوجدها بإرادته وصنعها بقدرته ، ولم تصدر عفواً أو اعتباطاً بغير مشيئة من حضرته . فيحكم العقل بداهةً بكون الخالق تعالى مريداً ذا إرادة قاهرة باهرة . مع أنّها صفة كمال لا يفقدها الكامل ، وفقدها نقص يتنزّه عنه ذو الكمال . 5 ) أنّه تعالى مُدرِكٌ الإدراك في أصل اللغة هو بلوغ أقصى الشيء ومنتهاه . ويطلق في الإنسان على اطلاعه على الاُمور الخارجيّة التي تدرك بالحواسّ الخمسة زائداً على العلم . فإنّه قد يعلم الإنسان شيئاً فيكون عالماً به ، ثمّ يراه عياناً فيكون مدركاً له . (1) توحيد الصدوق : (ص341 ب55 ح11) . 152
لكن بالنسبة إلى الله تعالى الذي هو منزّه عن الحواس يدرك أقصى الشيء وغايته ومنتهاه إدراكاً لا بحاسّة .
بل هو مدرك للأشياء بمعنى أنّه عالم بالمدركات ، أي أنّه عالم بما يدرك بالحواس إدراكاً أعظم من إدراكنا ، حيث انّه قد يقع الخطأ فيما ندركه ، ولكن لا يخطئ الله جلّ شأنه في إدراكه . فالمراد بإدراكه تعالى هو العلم الخاصّ ، كما أفاده في حقّ اليقين (1). ومن هنا يعلم أنّ هذه الصفة الكمالية من صفات ذاته المقدّسة . ويدلّ على هذه الصفة في الله أدلّة العلم الثلاثة المتقدّمة . ويضاف إلى ذلك ما يستفاد من تقريب المعارف : « إنّ وجود المدرك وارتفاع الموانع تستلزم الإدراك ، والله تعالى كامل مستجمع لجميع صفات الكمال ، ولا سبيل للنقص والموانع إلى ذي الجلال ، فيكون مدركاً لكلّ محسوس ، وعالماً بكلّ ما يحسّ » (2). ودلائل مُدركيّته واضحة بالعيان لكلّ ذي حسّ ووجدان .. وكيف لا يدرك المحسوسات مَن هو عالم بالغيوب والخفيّات ، بل يعلم السرّ وأخفى ؟ يعلم ما أسرّه الإنسان وما نساه وغاب عن خاطره ويعلم الغيب والشهادة ، فيكون عالماً بالمحسوسات بالأولويّة القطعية . فالله تعالى مدرك لجميع الأشياء المحسوسة ، وعالم بكلّ شيء محسوس وغير محسوس ، حاضر وغائب ، وكلّ غيب وحضور ، كما تلاحظ ذلك في (1) حقّ اليقين : (ج1 ص30) . (2) تقريب المعارف : (ص84) . 153
الأحاديث الشريفة (1).
6 ) أنّه تعالى قديم قال الشيخ الصدوق : « القديم معناه أنّه المتقدّم للأشياء كلّها ، وكلّ متقدّم لشيء يسمّى قديماً إذا بولغ في الوصف ، ولكنّه سبحانه قديم لنفسه بلا أوّل ولا نهاية ، وسائر الأشياء لها أوّل ونهاية ، ولم يكن لها هذا الإسم في بدئها فهي قديمة من وجه ومحدثة من وجه » (2). وقال في المجمع : « القديم من أسمائه تعالى وهو الموجود الذي لم يزل ... وإن شئت فسّرته بالموجود الذي ليس لوجوده ابتداء . وأصل القديم في اللسان : السابق ، فيقال : الله قديم ، بمعنى أنّه سابق الموجودات كلّها » (3). وقال الشيخ الكفعمي : « القديم هو المتقدّم على الأشياء الذي ليس لوجوده أوّل ، والذي لا يسبقه العدم » (4). وقد تطابق على قدمه تعالى الدليل النقلي والعقلي المفيدان للعلم بأنّه تعالى قديم جلّ جلاله وعظم شأنه . (1) بحار الأنوار : (ج4 ص79 ب2 ح2 و3) ، وقد مرّ آنفاً الحديثان الدالاّن عليه في بحث « إنّه تعالى عالم ... » . (2) التوحيد : (ص209) . (3) مجمع البحرين : (ص531 مادّة ـ قدم ـ ) . (4) المصباح : (ص344) . 154
أمّا الدليل النقلي فكما يلي :
1 ـ خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة : « الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر ، الدالّ على قدمه بحدوث خلقه ... » (1). 2 ـ رواية أبي الحسن الموصلي ، عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال : « جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال : يا أمير المؤمنين ! متى كان ربّك ؟ فقال له : ثكلتك اُمّك ! ومتى لم يكن حتّى يقال : متى كان ؟! كان ربّي قبل القبل بلا قَبل ، ويكون بعد البعد بلا بَعد ، ولا غاية ولا منتهى لغايته ، انقطعت الغايات عنه فهو منتهى كلّ غاية » (2). 3 ـ رواية ميمون البان قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) وقد سُئل عن قوله جلّ وعزّ : ( هُوَ الاَْوَّلُ وَالاْخِرُ ) (3) ? فقال : « الأوّل لا عن أوّل قبله ولا عن بدء سبقه ، وآخر لا عن نهاية كما يعقل من صفات المخلوقين ، ولكن قديم أوّل آخر ، لم يزل ولا يزال بلا بدء ولا نهاية ، لا يقع عليه الحدوث ، ولا يحول من حال إلى حال ، خالق كلّ شيء » (4). (1) نهج البلاغة : (ص137 رقم الخطبة180 من الطبعة المصرية) . (2) بحار الأنوار : (ج3 ص283 ب12 ح1) . (3) سورة الحديد : (الآية 3) . (4) بحار الأنوار : (ج3 ص284 ب12 ح2) . 155
4 ـ رواية نافع بن الأزرق عن أبي جعفر (عليه السلام) قال :
« أخبرني عن الله عزّ وجلّ متى كان ؟ فقال له : ويلك ! أخبرني أنت متى لم يكن حتّى اُخبرك متى كان ; سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً » (1). 5 ـ رواية أبي بصير قال : أخرج أبو عبدالله (عليه السلام) حُقّاً (2) فأخرج منه ورقة فإذا فيها : « سبحان الواحد الذي لا إله غيره ، القديم المبدئ الذي لا بدء له ، الدائم الذي لا نفاد له ، الحي الذي لا يموت ، الخالق ما يرى وما لا يرى ، العالم كلّ شيء بغير تعليم ، ذلك الله الذي لا شريك له » (3). 6 ـ رواية النزال بن سبرة قال : جاء يهودي إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال : يا أمير المؤمنين ! متى كان ربّنا ؟ قال : فقال له علي (عليه السلام) : « إنّما يقال : ( متى كان ) لشيء لم يكن فكان ، وربّنا هو كائن بلا كينونة كائن ، كان بلا كيف يكون ، كان لم يزل بلا لم يزل وبلا كيف يكون تبارك وتعالى . ليس له قبل ، هو قبل القبل بلا قبل وبلا غاية ولا منتهى غاية ، ولا غاية إليها ، غاية انقطعت الغايات عنه ، فهو غاية كلّ غاية » (4). (1) بحار الأنوار : (ج3 ص284 ب12 ح3) . (2) الحُقّ والحُقّة بضمّ الحاء : وعاءٌ من خشب . (3) بحار الأنوار : (ج3 ص285 ب12 ح4) . (4) بحار الأنوار : (ج3 ص285 ب12 ح6) . 156
7 ـ رواية محمّد بن سماعة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
« قال رأس الجالوت لليهود : إنّ المسلمين يزعمون أنّ عليّاً من أجدل الناس وأعلمهم ، اذهبوا بنا إليه لعلّي أسأله عن مسألة اُخطّئه فيها ، فأتاه فقال : يا أمير المؤمنين ! إنّي اُريد أن أسألك عن مسألة . قال : سل عمّا شئت . قال : يا أمير المؤمنين ! متى كان ربّنا ؟ قال : يا يهودي ! إنّما يقال : ( متى كان ) لمن لم يكن فكان ; هو كائن بلا كينونة كائن ، كان بلا كيف . يا يهودي ! كيف يكون له قبل وهو قبل القَبل ؟ بلا غاية ولا منتهى غاية ... انقطعت الغايات عنه فهو غاية كلّ غاية . فقال : أشهد أنّ دينك الحقّ وأنّ ما خالفه باطل » (1). وأمّا الدليل العقلي : فالعقل يحكم ، والضرورة تقضي ، والبرهان يفيد أنّه تعالى قديم ، ثبت له القدم بالوجوه العقليّة الثلاثة التالية : الأوّل : ما في تقريب المعارف (2) وهو أنّه لو كان فاعل الأجناس محدَثاً غير قديم لاحتاج إلى محدِث ، وذلك المحدِث يحتاج إلى محدِث آخر ، وذلك يقتضي وجود ما لا يتناهى ، أو إثبات قديم بدون دليل ، وكلا الأمرين محال . (1) بحار الأنوار : (ج3 ص286 ب12 ح7) . (2) تقريب المعارف : (ص76) . 157
الثاني : ما في حقّ اليقين (1) ، وهو أنّه تعالى لو لم يكن قديماً ، لم يكن وجوده واجباً ، فيكون محتاجاً ، يعني محتاجاً إلى ما يوجده ، تعالى الله عن ذلك فهو الغني بذاته عمّا سواه ، فيكون غنيّاً عن الإيجاد وموجوداً بالقدم .
الثالث : ما في شرح نهج البلاغة (2) ، وهو أنّ الأجسام كلّها حادثة ، لأنّها غير خالية عن الحركة والسكون ، وكلّ حادث مفتقر إلى محدِث وخالق له ، وذلك المحدِث الخالق إمّا ان يكون محدَثاً فيحتاج إلى خالق ويتسلسل .. وإمّا أن يكون محدِثاً لنفسه وهو باطل ، فإنّ ما لا يوجد لا يمكن أن يصدر منه الوجود . فلابدّ أن يكون المحدِث الخالق قديماً أزليّاً غنيّاً لا بداية لوجوده كما لا نهاية له ، وهو الله تعالى . وأوضح الأدلّة على قدمه تعالى بحكم العقل الجازم ، هو ما أرشد إليه سيّد الموحّدين وأمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله : « الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه ، وبمحدَث خلقه على أزليّته ... » (3). وكذلك قوله (عليه السلام) : « الدالّ على قِدَمه بحدوث خلقه » (4). فإنّ العقل حينما يرى المخلوقات حوادث متّصفة بالحدوث يكشف ويحكم بأنّ خالقها قديم أزليّ ، لمباينته مع خلقه ، وعدم اتّصافه بالصفات التي (1) حقّ اليقين : (ج1 ص29) . (2) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : (ج9 ص174) . (3) نهج البلاغة : (ص53 رقم الخطبة148 من الطبعة المصرية) . (4) نهج البلاغة : (ص137 رقم الخطبة180 من الطبعة المصرية) . 158
أوجدها في خليقته .
فيستدلّ بحدوث الخلق على قدم الخالق ، تعالى شأنه وجَلّ كماله . 7 ) أنّه تعالى متكلّم. الكلام هي الحروف المسموعة المنتظمة ، ومعنى كونه متكلِّماً هو أنّه أوجد الكلام (1). وقال العلاّمة المجلسي : « اعلم أنّه لا خلاف بين أهل الملل في كونه تعالى متكلّماً ، لكن اختلفوا في تحقيق كلامه وحدوثه وقدمه . فالإمامية قالوا بحدوث كلامه تعالى ، وأنّه مؤلّف من أصوات وحروف ، وهو قائم بغيره . ومعنى كونه تعالى متكلّماً عندهم أنّه موجد تلك الحروف والأصوات في الجسم كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي (صلى الله عليه وآله) أو غيرهم كشجرة موسى » (2). وفي منهاج البراعة (3) أفاد أنّه قد تواترت الأنباء عن الرسل والأنبياء ، وأطبقت الشرائع والملل على كونه عزّ وجلّ متكلّماً ، لا خلاف لأحد في ذلك ، وإنّما الخلاف في معنى كلامه تعالى وفي قدمه وحدوثه . فذهب أهل الحقّ من الإماميّة إلى أنّ كلامه تعالى مؤلّف من حروف وأصوات قائمة بجوهر الهواء ، ومعنى كونه متكلّماً هو أنّه موجد للكلام في جسم من الأجسام ، كالمَلَك والشجر ونحو ذلك . (1) مجمع البحرين : (ص536 مادّة ـ كلم ـ ) . (2) بحار الأنوار : (ج4 ص150) . (3) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة : (ج10 ص263) . 159
وعلى مذهبهم فالكلام حادث ، لأنّه مؤلّف من أجزاء مترتّبة متعاقبة في الوجود وكلّ ما هو كذلك فهو حادث .
هذا ; ومن المعلوم أنّ الكلام من صفات الفعل فيكون حادثاً ، فمثل الصوت الذي أوجده في شجرة موسى لابدّ وأن يكون حادثاً ويكون بحدوثه غير مجرّد أيضاً شأن سائر المخلوقات ; فإنّ الخلقة تساوي الجسميّة . وعلى الجملة فإيجاد الكلام ناشء من قدرته الخاصّة الذاتية ، إلاّ أنّ نفس كلامه تعالى حادث محدَث ، ومن صفات الفعل ، بدليل تصريح نفس كلامه المجيد : ( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ ) (1) كما أفاده في حقّ اليقين (2). ثمّ إنّ الدليل على متكلّميته تعالى ثابت قائم من الكتاب والسنّة والعقل : أمّا الكتاب فآيات كثيرة منها : 1 ـ قوله تعالى : ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (3). 2 ـ قوله تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ) (4). 3 ـ قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ (1) سورة الأنبياء : (الآية 2) . (2) حقّ اليقين : (ج1 ص33) . (3) سورة النساء : (الآية 164) . (4) سورة الأعراف : (الآية 143) . 160
حِجَاب ) (1).
وأمّا السنّة : فأحاديث عديدة منها : 1 ـ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب ذعلب اليماني الوارد في نهج البلاغة ، قال فيها : « متكلّم لا برويّة ، مريد لا بهمّة » (2). 2 ـ حديث أبي بصير قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : « لم يزل الله جلّ اسمه عالماً بذاته ولا معلوم ، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور . قلت : جعلت فداك ! فلم يزل متكلّماً ؟ قال : الكلام محدَث ، كان الله عزّ وجلّ وليس بمتكلّم ثمّ أحدث الكلام » (3). 3 ـ حديث صفوان بن يحيى قال : سأل أبو قرّة المحدّث من الرضا (عليه السلام) فقال : أخبرني ـ جعلني الله فداك ـ عن كلام الله لموسى ؟ فقال : الله أعلم بأي لسان كلّمه بالسريانية أم بالعبرانية ; فأخذ أبو قرّة بلسانه فقال : إنّما أسألك عن هذا اللسان . فقال أبو الحسن (عليه السلام) : « سبحان الله ممّا تقول ! ومعاذ الله ! أن يشبه خلقه أو يتكلّم بمثل ما هم متكلّمون ، ولكنّه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء ، ولا كمثله (1) سورة الشورى : (الآية 51) . (2) نهج البلاغة : (ص120 رقم الخطبة 174 من الطبعة المصرية) . (3) بحار الأنوار : (ج4 ص150 ب6 ح1) . |
|||
|