قال : حيّ على الفلاح ، فقال الله : قد أفلح من مشى إليها وواظب عليها ابتغاء وجهي . ثمّ قال : حيّ على خير العمل ، فقال الله : هي أزكى الأعمال عندي وأحبها إليَّ . ثمّ قال : قد قامت الصلاة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله ومن كان عنده من الرسل والملائكة. وكان المَلَك يؤذّن مَثْنى مَثْنى ، وآخِر أذانه وإقامته : لا إله إلاّ الله. وهو الذي ذكر الله في كتابه : ( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ). قال محمّد بن الحنفية : فتَمّ له يومئذٍ شرفُه على الخلق. ثمّ نزل فأمر أن يؤذَّن بذلك الأذان(1).
     الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام ( ت 94هـ ) :
     عن زيد بن عليّ ، عن آبائه ، عن عليّ : « أنَّ رسول الله عُلِّمَ الأذان ليلة المسرى ، وبه فُرِضَت عليه »(2).
     وقال الإمام الهادي بالله ـ من أئمّة الزيديّة ـ في كتابه الأحكام : « قال يحيى ابن الحسين رضي الله عنه : والأذان فأصلُه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله عُلِّمَه ليلةَ المسرى ، أرسل اللهُ إليه مَلَكاً فعلَّمه إيّاه.
     فأمّا ما يقول به الجهّال مِن أنّه رؤيا رآها بعض الأنصار فأخبر بها النبيَّ صلى الله عليه وآله فأمَرَه أن يُعَلِّمه بلالاً ، فهذا من القول محالٌ لا تقبله العقول ؛ لأنَّ الأذان من أُصولِ الدين ، وأُصولُ الدين لا يعلمها رسول الله على لسان بشر من العالمين »(3).

____________
(1) الأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي 18 ـ 19. وبتحقيق عزّان 58 .
(2) كنز العمّال 12 : 350/35354 ، عن « ابن مردويه » .
(3) الأحكام ، للإمام الهادي بالله الزيديّ 1 : 84 .

( 47 )

     الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام (ت 114هـ ) :
     جاء في الكافي والتهذيب والاستبصار ـ والنصّ للأخيرينِ ـ بإسناد الشيخ الطوسي عن محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن عليّ بن السنديّ ، عن ابن أبي عُمير ، عن ابن أُذينة ، عن زُرارة والفُضيل بن يسار ، عن أبي جعفر [ الباقر ] عليه السلام ، قال :
     « لمّا أُسري برسول الله صلى الله عليه وآله فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة ، فأذَّن جبرئيل وأقام ، فتقدَّم رسول الله ، وصفَّ الملائكة والنبيّون خلف رسول الله صلى الله عليه وآله ».
     قال : فقلنا له : كيف أذّن ؟
     فقال : « اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل ، اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، لا إله إلاَّ الله ، لا إله إلاَّ الله ؛ والإقامة مثلها إلاَّ أنَّ فيها : « قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة » بين : « حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل » ، وبين : « اللهُ أكبر اللهُ أكبر » ، فأمر بها رسولُ الله بلالاً ، فلم يَزَل يؤذِّن بها حتّى قَبض اللهُ رسولَه صلى الله عليه وآله »(1).
     وفي الكافي : بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ وأبي منصور ، عن أبي الربيع ، قال : « حَجَجنا مع أبي جعفر [ الباقر ] عليه السلام في السنة التي كان حجّ فيها هشام بن عبدالملك ، وكان معه نافع مولى عبدالله بن عمر بن الخطّاب ، فنظر نافع إلى أبي جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال : يا أمير المؤمنين ، مَن
____________
(1) الكافي 3 : 302/1 وفيه صدر الحديث ، التهذيب 2 : 60/210 ، الاستبصار 1 : 305 / باب عدد فصول الأذان ح 3.

( 48 )

هذا الذي قد تَداكَّ عليه الناس ؟!
     فقال : هذا نبيُّ أهل الكوفة ، هذا محمّد بن عليّ!
     قال : أشهد لأَتينّه ولأسألنّه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبيّ أو ابن نبيّ أو وصيّ نبيّ.
     قال : فاذهب إليه وسَله لعلكّ تُخجِلُه!
     فجاء نافع حتّى اتّكأ على الناس ثمّ أشرف على أبي جعفر ، فقال : يا محمّد ابن عليّ! إني قرأت التوراة ، والإنجيل ، والزّبور ، والفرقان وقد عرفتُ حلالها وحرامها وقد جئت أسألُك عن مسائل...
     [ومنها] : من الذي سأل محمّدٌ (1) وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة ؟
     قال : فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الآية ( سبحان الذي أسرى بعبدهِ ليلاً مِن المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي بارَكْنا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا )(2) ، فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمّداً حيث أسري به إلى بيت المقدس أن حشر الله الأوّلين والآخرين من النبيّين والمرسلين ، ثمّ أمر جبرئيل فأذَّن شفعاً ، وأقام شفعاً ، وقال في أذانه : حيّ على خير العمل ، ثمّ تقدّم محمّدٌ وصلَّى بالقوم »(3).
     وجاء في كتاب (الأذان بحيّ على خير العمل) للحافظ العلوي : أخبرنا عبدالله بن مخالد(4) ، أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد ، حدّثنا محمّد بن عمرو
____________
(1) في قوله تعالى ( فاسال مَن أرسلنا من قبلك ) .
(2) الإسراء : 1.
(3) الكافي 8 : 120 / 93 وعنه في بحار الأنوار 81 : 136 ، وسائل الشيعة 5 : 414 ، الاحتجاج 2 : 60.
(4) في تحقيق عزّان : مجالد البجلي ، وكذا في الاعتصام 1 : 306.

( 49 )

ابن عثمان ، حدّثنا محمّد بن سنان ، حدّثنا عمّار بن مروان ، عن المنتخل(1) ، عن جابر قال : سألت أبا جعفر عن الأذان : كيف كان بدؤه ؟ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أُسري به إلى السماء ، نزل إليه جبريل ، ومعه محملة من محامل الربّ عزّوجلّ ، فحمل عليها رسولَ الله صلى الله عليه وآله إلى السماء ، فأذّن جبريل ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لاإله إلاّ الله ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أن محمّداً رسول الله ، [ أشهد أن محمّداً رسول الله ] ، حيّ على الصلاة ، [ حيّ على الصلاة ] ، حيّ على الفلاح ، [ حيّ على الفلاح ] ، حيّ على خير العمل ، [ حيّ على خير العمل ] ، وذكر الحديث(2).
     وفي كتاب الاعتصام بحبل الله : .. وروى محمّد بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : من جهالة هذه الأمّة أن يزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله إنّما علم الأذان من رؤيا رآها رجل ، وكذبوا والله. لما أراد الله أن يعلّم نبيّه الأذان جآءه جبريل عليه السلام بالبُراق ، وذكر الحديث بطوله(3).
     ثمّ قال بعد ذلك : ... وفي الشفا للأمير الحسن ، روى الباقر محمّد بن عليّ السجّاد بن الحسين السبط الشهيد بن عليّ الوصيّ ، والقاسم بن إبراهيم والهادي إلى الحقّ يحيى بن الحسين الحافظ ، والناصر للحقّ الحسن بن عليّ عليهم السلام أن الله عَلَّمه رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة أُسرِيَ به ليلاً من المسجد الحرام إلى
____________
(1) في تحقيق عزّان : المنخل. وفي الاعتصام 1 : 306 « المنتحل ».
(2) الأذان بحيّ على خير العمل ، للحافظ العلوي : 82 ، بتحقيق الفضيل ، وانظر : ص 21 و 28 من الكتاب نفسه وبتحقيق عزّان 60. والاعتصام بحبل الله 1 : 286. والزيادات من الاعتصام 1 : 306.
(3) الاعتصام بحبل الله 1 : 277.

( 50 )

المسجد الأقصى ؛ أمر الله مَلَكاً من ملائكته فعلّمه الأذان(1).
     الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام ( ت 148هـ ) :
     روى الكلينيّ بسنده عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عُمير ، عن حمّاد ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبدالله [ الصادق ] عليه السلام ، قال : « لمّا هبط جبرئيل بالأذان على رسول الله صلى الله عليه وآله كان رأسه في حِجر عليّ عليه السلام ، فأذَّن جبرئيل وأقام ، فلمّا انتبه رسول الله ، قال : يا عليّ! سمعت ؟
     قال : نعم.
     قال : حفظت ؟
     قال : نعم.
     قال : ادعُ بلالاً فعلِّمْه. فدعا عليّ بلالاً فعلَّمَه »(2).
     وفي تفسير العيّاشيّ عن عبدالصمد بن بشير ، قال : ذُكِر عند أبي عبدالله بدء الأذان ، فقال : إنَّ رجلاً مِن الأنصار رأى في منامه الأذان ، فقصَّه على رسول الله فأمره الرسول أن يعلّمه بلالاً.
     فقال أبو عبدالله : كذبوا ؛ إنَّ رسول الله كان نائماً في ظِلّ الكعبة ، فأتاه جبرئيل
____________
(1) الاعتصام بحبل الله 1 : 278.
(2) الكافي 3 : 302/2 ، التهذيب 2 : 277/1099 مثله ، ورواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه 1 : 183/865 بإسناده عن منصور بن حازم ، ولا يخفى عليك بأن هذا النص لا يخالف ما ثبت عند أهل البيت وبعض أهل السنة والجماعة من كون تشريع الأذان كان في الاسراء والمعراج ، لأن التأذين في المعراج هو في مرحلة الثبوت ، أما التأذين في الأرض فهو في مرحلة الاثبات ، وسيتضح معنى كلامنا هذا اكثر في الباب الثالث من هذه الدراسة « اشهد ان عليّاً ولي الله ، بين الشرعية والابتداع » فانتظر.

( 51 )

ومعه طاس فيه ماء مِن الجنّة فأيقظه ، وأمره أن يغتسل به ، ثمّ وضع في محمل له ألف ألف لون مِن نور ، ثمّ صعد به حتّى انتهى إلى أبواب السماء ، فلمّا رأته الملائكة نَفَرت عن أبواب السماء ، وقالت : إلهانِ ! إلهٌ في الأرض ، وإله في السماء ؟!
     فأمر اللهُ جبرئيلَ ، فقال : اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، فتراجعت الملائكة عن أبواب السماء ، فقالت : إلهانِ ! إله في الأرض وإله في السماء ؟!
     فقال جبرئيل : أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، فتراجعت الملائكة وعَلِمتْ أنّه مخلوق.
     ثمّ فتح الباب فدخل ومَرَّ حتّى انتهى إلى السماء الثالثة ، فنَفَرت الملائكة عن أبواب السماء ، فقال جبرئيل : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، فتراجعت الملائكة ، وفتح الباب ومَرَّ النبيُّ حتّى انتهى إلى السماء الرابعة...
     ـ إلى أن قال ـ : ... فلمّا فرغ من مناجاة ربّه رُدّ إلى البيت المعمور وهو في السماء السابعة بحذاء الكعبة ، قال : فجمع له النبيّين والمرسلين والملائكة ، ثمّ أمر جبرئيل فأتمَّ الأذان وأقام الصلاة ، وتقدّم رسول الله فصلّى بهم ، فلمّا فرغ التفت إليهم فقال الله له : ( فسئل الذيِنَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ من رَّبِّكَ فَلأ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرين ) (1)، فسألهم يومئذ النبيّ صلى الله عليه وآله ، ثمّ نزل ومعه صحيفتان فدفعهما إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال أبو عبدالله عليه السلام : فهذا كان بدء الأذان »(2).

____________
(1) يونس : 94.
(2) تفسير العيّاشيّ 1 : 157/530 ، المستدرك 4 : 42 ـ 43 وانظر : بيان المجلسيّ في بحار الأنوار 81 : 121.

( 52 )

     وروى الصدوق باسناده عن الصباح المزنيّ وسدير الصيرفي ومحمّد بن النعمان الأحول وعمر بن أُذينة أنّهم حضروا عند أبي عبدالله عليه السلام ، فقال : « يا عمر بن أُذينة! ما ترى هذه الناصبة في أذانهم وصلاتهم ؟.
     قال : جُعِلتُ فداك ؛ إنّهم يقولون : إنَّ أُبيّ بن كعب الأنصاريّ رآه في النوم.
     فقال عليه السلام : كذبوا والله ، إنَّ دين الله تعالى أعَزُّ من أن يُرى في النوم. وقال أبو عبدالله : العزيز الجبّار عَرَج بنبيّه إلى سمائه ـ فذكر قصّة الإسراء بطولها ـ »(1).
     وفي نصّ آخر ، قال عليه السلام : « ينزل الوحيُ على نبيِّكم فتزعمون أنَّه أخذ عن عبدالله بن زيد ؟! »(2).
     وعن عليّ بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أُذينة ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : « ما تروي هذه الناصبة ؟ ».
     فقلت : جُعِلت فداك ؛ في ماذا ؟
     فقال : « في أذانهم وركوعهم وسجودهم ».
     فقلت : إنّهم يقولون : إنَّ أُبيَّ بن كعب رآه في النوم.
     فقال : « كذبوا ، فإنَّ دين الله عزَّوجلّ أعَزُّ مِن أن يُرى في النوم ».
     قال : فقال له سدير الصيرفيّ : جُعلت فداك ؛ فأحدِثْ لنا مِن ذلك ذِكراً.
     فقال أبو عبد عليه السلام : « إنَّ الله عزّوجلّ لمّا عَرَج بنبيّه صلى الله عليه وآله إلى سماواته السبع ، أمّا أُولاهُنَّ فبارَك عليه ، والثانية علّمه فرضه فأنزل الله محملاً من نور فيه أربعون نوعاً من أنواع النور كانت مُحدِقة بعرش الله تغشي أبصار الناظرين...(3)
     قال : ثمّ زادني ربّي أربعين نوعاً من أنواع النور لا تشبه الأنوار الأُولى ، ثمّ عرج
____________
(1) انظر : علل الشرائع 312/1 ، وعنه في بحار الأنوار 8 : 354.
(2) وسائل الشيعة 5 : 370/6816.
(3) الحديث طويل أخذنا مقاطع منه.

( 53 )

بي إلى السماء الثالثة ، فنَفَرت الملائكة وخَرَّتْ سُجَّداً ، وقالت : سبُّوح قدُّوس ربُّ الملائكة والرُّوح ، ما هذا النور الذي يشبه نور ربّنا ؟!
     فقال جبرائيل عليه السلام : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله.
     فاجتمعت الملائكة وقالت : مرحباً بالأوّل ، ومرحباً بالآخِر ، ومرحباً بالحاشر ، ومرحباً بالناشر ، محمّد خير النبيّين وعليّ خير الوصيّين.
     قال النبيُّ صلى الله عليه وآله : ثمّ سَلَّموا علَيَّ وسألوني عن أخي ، قلتُ : هو في الأرض ، أفتعرفونه ؟
     قالوا : وكيف لا نعرفه وقد نَحجّ البيت المعمور كلَّ سنة وعليه رَقّ أبيض فيه اسم محمّد واسم عليّ والحسن والحسين [ والأئمة ] عليهم السلام وشيعتهم إلى يوم القيامة ، وإنّا لَنُبارِك عليهم كلّ يوم وليلة خمساً ـ يعنون في وقت كلّ صلاة ـ ...
     قال : ثمّ زادني ربّي أربعين نوعاً من أنواع النور لا تشبه تلك الأنوار الأُولى ، ثمّ عرج بي حتّى انتهيت إلى السماء الرابعة ، فلم تَقُل الملائكة شيئاً ، وسمعت دَويّاً كأنّه في الصدور ، فاجتمعت الملائكة ففتحت أبواب السماء وخرجت إليَّ شبه المعانيق ، فقال جبرئيل عليه السلام : حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ؛ حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح.
     فقالت الملائكة : صوتان مقرونان معروفان.
     فقال جبرئيل عليه السلام : قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة...
     ثمّ أوحى الله إليَّ : يا محمّد! ادنُ من صاد فاغسل مساجدك وطهّرها وصلِّ لربِّك.
     فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله من صاد(1) ، وهو ماءٌ يسيل من ساق العرش الأيمن ،
____________
(1) وللشيخ الجوادي الآملي في كتابه « أسرار الصلاة » : 86 ، 22 بيان في ذلك فراجع.

( 54 )

فتلقّى رسول الله صلى الله عليه وآله الماء بيده اليمنى ، فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين.
     ثمّ أوحى الله عزّوجل إليه أن : اغسل وجهك(1)...
     وفي تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ « سورة بني اسرائيل » عن أبيه ، عن محمّد ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن الصادق عليه السلام ـ في خبر طويل جدّاً ـ قال فيه : « فإذا مَلَكٌ يُؤَذِّن لم يُرَ في السماء قبل تلك الليلة ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ؛ فقال الله : صدق عبدي أنا أكبر.
     فقال : أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ؛ فقال الله تعالى : صدق عبدي ، أنا الله لا إله غيري.
     فقال : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ؛ فقال الله : صدق عبدي ، إنَّ محمّداً عبدي ورسولي أنا بعثته وانتجبته.
     فقال : حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ؛ فقال : صدق عبدي ، دعا إلى فريضتي ، فَمَن مشى إليها راغباً فيها محتسباً كانت كفّارة لِما مضى من ذنوبه.
     فقال : حيّ على الفلاح [ حيّ على الفلاح ] ؛ فقال الله : هي الصلاح والنجاح والفلاح.
     ثمّ أمَمتُ الملائكة في السماء كما أمَمتُ الأنبياء في بيت المقدس... »(2).
     وقد أخرج الحافظ العلوي في كتابه ( الأذان بحيّ على خير العمل ) بقوله : حدّثنا الحسين بن محمّد بن الحسن ، حدّثنا عليّ بن الحسين بن يعقوب ،
____________
(1) الكافي كتاب الصلاة باب النوادر 3 : 482 ـ 486/1 ، وللمزيد يمكن مراجعة خبرالإسراء في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 2 : 11.
(2) تفسير القمّيّ 2 : 3 ـ 12 كما في مستدرك وسائل الشيعة 4 : 40 ، وفي تفسيرالعيّاشي 1 : 157 ح 530 عن عبدالصمد بن بشير عن الصادق في حديث المعراج ، إلى أن قال : ثمّ أمر جبرئيل فأتمّ الأذان واقم الصلاة.

( 55 )

أخبرنا أحمد بن عيسى العجلي ، حدّثنا جعفر بن عنبسة اليشكري ، حدّثنا أحمد بن عمر البجلي ، حدّثنا سلام بن عبدالله الهاشمي ، عن سفيان بن السمط ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه قال : أوّل مَن أذّن في السماء جبريل عليه السلام حين أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ؛ فقالت الملائكة : الله أكبر من خلقه.
     فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، فقالت الملائكة : ونحن نشهد أن لا إله إلاّ الله.
     فقال ، أشهد أن محمّداً رسول الله ، أشهد أن محمّداً رسول الله ، فقالت الملائكة : عبد بُعِث.
     فقال جبريل : حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ؛ فقالت الملائكة : أُمِر القوم بالصلاة ، فقال : حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ؛ فقالت الملائكة : أفلح القوم.
     فقال : حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل ؛ فقالت الملائكة : أُمِر القوم بخير العمل. وأقام الصلاة ، فقال النبيّ : يا جبريل ، تَقدّمْ صلِّ بنا ، فقال جبريل : يا محمّد ، إنّ الله عزّوجلّ أمرنا أن نسجد لأبيك آدم ، فلسنا نتقدّم ولدَه ، فتقدّم رسول الله صلى الله عليه وآله فصلّى بالملائكة(1).
     وقد نقل محمّد بن مكّيّ ـ الشهيد الأوّل ـ في (ذكرى الشيعة) قول ابن أبي عقيل ، قال : أجمعت الشيعة عن الصادق عليه السلام أنَّه لَعَن قوماً زعموا أنَّ النبيَّ أخذ الأذان من عبدالله بن زيد ، فقال : « ينزل الوحي على نبيِّكم فتزعمون أنَّه أخذ الأذان من عبدالله بن زيد ؟! »(2).

____________
(1) الأذان بحيّ على خير العمل ، للحافظ العلوي : 20 ، بتحقيق الفضيل ، وبتحقيق عزّان 59.
(2) ذكرى الشيعة 3 : 195 ، وعنه في وسائل الشيعة 5 : 370.

( 56 )

     الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام ( ت 204هـ ) :
     أخرج الصدوق في ( عيون أخبار الرضا ) و ( علل الشرائع ) بسنده إلى الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام ، قال : « قال رسول الله : لمّا عُرِج بي إلى السماء أذَّن جبرئيل مَثْنى مَثْنى وأقام مَثْنى مَثْنى »(1).
     وجاء في الاعتصام بحبل الله عن صحيفة عليّ بن موسى الرضا : ... حدّثني أبي موسى بن جعفر قال : حدّثني أبي جعفر بن محمّد قال : حدّثني أبي محمّد ابن عليّ قال : حدّثني أبي عليّ بن الحسين بن عليّ قال : حدّثني أبي الحسين ابن عليّ قال : حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لمّا بُدئ رسول الله صلى الله عليه وآله بتعليم الأَذان ، أتى جبريل عليه السلام بالبُراق فاستصعب عليه ، فأتاني بدابّة يقال لها برقة ـ من حديث طويل ـ فقال لها جبريل : اسكُني برقة ـ من حديث طويل فيهـ : فخرج مَلَك من وراء الحجاب فقال : الله أكبر الله أكبر. قال : فقلت : يا جبريل ، من هذا المَلَك ؟ قال : والذي أكرمك بالنبوّة ، ما رأيت هذا المَلَك قبل ساعتي هذه ، فقال المَلَك : الله أكبر ألله أكبر.. فنُودِي من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر أنا أكبر. فقال الملك : أشهد أن لا إله إلاّ الله... الخبر(2).
     الأذان في قول بعض الأعلام
     قال الشيخ الطوسيّ : « الأذان مأخوذٌ من الوحي النازل على النبيِّ دون الرؤيا
____________
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 204 باب ما جاء عن الرضا في زيد بن عليّ ح 22 ، علل الشرائع 1 : 6 وعنه في بحار الأنوار 81 : 108.
(2) الاعتصام بحبل الله 1 : 278.

( 57 )

والمنام »(1).
     وقال السيّد محمّد العامليّ صاحب ( المدارك ) : « قد أجمع الأصحاب على أنَّ الأذان والإقامة وحيٌ من الله تعالى على لسان جبرئيل عليه السلام كسائر العبادات ، وأخبارُهم به ناطقة »(2).
     وقال الشهيد في الذكرى : « وهما وحيٌ من الله تعالى عندنا كسائر العبادات على لسان جبرئيل عليه السلام »(3).
     وهذه الرؤية النابعة من النصوص الدالّة على قداسة الأذان وأنّه بوحي من السماء لم تختصّ بمدرسة أهل البيت ، فقد حكى الداوديّ عن ابن إسحاق أنَّ جبرئيل أتى النبيَّ بالأذان قبل أن يراه عبدالله بن زيد وعمر بثمانية أيّام(4) ، ويؤيّده ما جاء عن عمر من أنّه ذهب ليشتري ناقوساً فأُخبِر أنَّ ابن زيد قد أُرِي الأذان في المنام ، فرجع ليخبر رسول الله ، فقال له : « سبقك بذلك الوحي »(5).
     وقد روى عبدالرزّاق عن ابن جريج عن عطاء أنّه سمع عبيد بن عمير يقول : إنّ الأذان كان بوحي من الله(6).
     وروى السيّد ابن طاووس ـ مِن علماء الشيعة الإماميّة ـ بإسناده إلى
____________
(1) المبسوط 1 : 95.
(2) مدارك الأحكام 3 : 255 المقدّمة السابعة من الأذان.
(3) ذكرى الشيعة 3 : 195.
(4) سبل الهدى والرشاد 3 : 361 ، وانظر : تنوير الحوالك : 86 ، وفتح الباري2 : 65.
(5) تاريخ الخميس 1 : 360 ، وانظر : السيرة الحلبيّة 2 : 301 ـ 302.
(6) المصنَّف ، لعبدالرزّاق 1 : 456/1775 كتاب الصلاة بدء الأذان.

( 58 )

عبدالرزّاق عن معمر ، عن ابن حمّاد ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبيِّ في حديث المعراج ، قال : « ثمّ قام جبرئيل فوضع سبّابته اليمنى في أذنه فأذّن مَثْنى مَثْنى ».. يقول في آخرها : « حيّ على خير العمل ، حتىّ إذا قضى أذانه أقام للصلاة مثنى مثنى »(1).
     وفي كنز العمّال « مسند رافع بن خديج » : لمّا أُسرِي برسول الله إلى السماء أوحي إليه بالأذان ، فنزل به فعلّمه جبرئيل ( الطبراني في الاوسط عن ابن عمر )(2).
     ولذلك حاول القسطلانيّ الشافعي في ( إرشاد الساري ) التخلّص من إشكال التشريع بالرؤيا ، فادّعى أنّ المشرِّع للأذان هو النصّ الذي أمَرَّ المنامَ لانفس المنام ، فقال : قوله تبارك وتعالى : ( وإذا نادَيتُم إلَى الصلاةِ اتّخَذُوها هُزُواً ولَعِباً ذلكَ بأنهم قوم لايَعلَمون ) معانيَ عبادة الله وشرائعه ، واستدلّ على مشروعيّة الأذان بالنصّ لا بالمنام وحده لكنك تعلم أنّ الإشكال باقٍ بحاله ، إذ لا معنى للمنام في هذه الحالة (3).
     وقال السرخسيّ ـ مِن أعلام الحنفيّة ـ في ( المبسوط ) : ... وروي أنَّ سبعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين رأوا تلك الرؤيا في ليلة واحدة ، وكان أبو حفص محمّد بن عليّ ينكر هذا ويقول : تعمدون إلى ما هو من معالم الدين فتقولون : ثَبَت بالرؤيا! كلاَّ ولكنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله حين أُسري به إلى المسجد الأقصى وجُمِع له النبيّون ، أذَّنَ مَلَكٌ وأقام ، فصلَّى بهم رسول الله. وقيل : نزل به جبرئيل عليه الصلاة والسلام ، حتَّى قال كثير بن مرة : أذَّن جبرئيل في السماء فسمعه عمر(4).

____________
(1) سعد السعود 100 ، وفي متن بحار الأنوار 81 : 107 : فوضع سبّابته اليمنى في أذنه اليمنى.. حيّ على خير العمل مَثْنى مَثْنى... الخ.
(2) كنز العمّال 8 : 329 كتاب الصلاة فصل من الأذان ح 23138.
(3) إرشاد الساري 2 : 2 كتاب الأذان.
(4) المبسوط للسرخسيّ 1 : 128 كتاب الصلاة باب الأذان.

( 59 )

وقفة مع أحاديث الرؤيا

     اتّضح بجلاء ـ من خلال ما مرّ بنا من أحاديث وأقوال وغيرها ـ أنّ القول بتشريع الأذان في الإسراء والمعراج ، ممّا لم ينفرد به الإماميّة الاثنا عشريّة ، وإنّما قالت به الشيعة الزيدية والإسماعيلية أيضاً ، إضافةً إلى أعلام من أهل السنّة ، وهذا يعني أنّ تشريع الأذان ـ بوصفه فعلاً تعبّدياً ـ كان سماوياً وعُلْوياً وليس مناماً وأرضياً ، وهذا القول ينسجم تماماً مع التشريعات السماوية الإلهية ، ومع الاعتقاد بالنبوّة والوحي ، التي هي واسطة في التشريع بين الله تعالى وبين خلقه.
     أمّا القول بأنّه كان عبر منام رآه رجل واخبر به النبيَّ صلى الله عليه وآله فإنّه من منفردات بعض أهل السنّة ، والذي أمسى قولاً مشهوراً لديهم فيما بعد.
     وإزاء اشتهار هذا القول عندهم ، تبرز طائفة من التساؤلات الملحّة التي تصدر من الرؤية الإسلاميّة لحقائق الاشياء وعمق التشريع الإلهي.
     ومن هذه التساؤلات : هل يسوغ لهذا القول ـ الذي يُسنِد تشريع الأذان إلى رؤيا أحد الناس ـ أن يتلاءم وأصول الشريعة القائمة على تلقّي النبيّ صلى الله عليه وآله من الله سبحانه ؟
     وهل يسوغ ـ في منطق الإسلام والوحي ـ أن تؤخذ الشريعة من الأحلام والمنامات والأقاصيص ، أو حتّى من المشاورة كما جاء في بعض أحاديث الأذان ؟
     أوّلاً : إنّ المنام لا يصحّ أن يُستنَد إليه في القضايا الشرعيّة ، ولا يمكن أن


( 60 )

يُعتمَد عليه فى تشريع الأحكام.. اللهمّ إلاّ أن يكون رؤيا رآها رسول الله نفسه ؛ لأنّها جزء من الوحي.
     إنّ التلّقي عن الله وحصر الاخذ عنه جلّ وعلا تنفي كلّ ما عدا الوحي الإلهي في التشريع ، وتؤكّد أنّ هذا الوحي هو وحده المنبع الذي ليس للنبيّ أن يبدّله أو يغيّر فيه من تلقاء نفسه ، كما عرّفنا الله سبحانه ذلك بقوله : ( قل ما يكون لي أن أُبدِّلَهُ مِن تِلقاءِ نفسي إن أتَّبعُ إلاَّ ما يُوحى إليّ إنّي أخافُ إن عَصَيتُ ربّي عذابَ يوم عظيم ) (1).
     وقال : ( قل ما كُنتُ بِدعاً من الرُّسلِ وما أدري ما يُفعَلُ بي ولا بكم إن أتَّبعُ إلاَّ ما يُوحى إليَّ وما أنا إلاَّ نَذيرٌ مُبين )(2).
     وقال أيضاً : ( قل إنما اتَّبعُ ما يُوحى إليَّ مِن ربّي هذا بَصائرُ مِن ربِّكُم وهُدىً ورحمةٌ لِقومٍ يُؤمنون )(3).
     وقال : ( وما يَنطِقُ عَن الهوى * إن هُو إلاَّ وَحيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَديدُ القوى )(4).
     وقال في ملائكته : ( بل عباد مكرَمونَ * لا يَسبِقونَهُ بالقَولِ وهم بأمرِه يعملون )(5).
     إنّ هذه الآيات الشريفة صريحة في أنّه ليس لرسول الله ولا لملائكته أن يسبقوه بالقول أو أن يُشرِّعوا من قِبَل أنفسهم ، إذ ليس لهم إلاّ الاستماع إلى
____________
(1) يونس : 15.
(2) الأحقاف : 9.
(3) الأعراف : 203.
(4) النجم : 3 ـ 5.
(5) الأنبياء : 26 ـ 27.

( 61 )

الوحي وانتظاره ، وقد انتظر الرسولُ صلى الله عليه وآله الوحيَ في تغيير القبلة مدّة ستّة شهر أو سبعة حتّى نزل قوله تعالى : ( قد نرى تقلُّبَ وجهِكَ في السماءِ فَلَنُولينّكَ قِبلةً ترضاها فَوَلِّ وجهَكَ شَطرَ المسجدِ الحرامِ وحيثُ ما كُنتم فَولُّوا وجوهَكُم شطرَهُ... )(1).
     أمّا التشاور فهو أبعدُ ما يكون عن أن يتولّد منه حكم شرعيّ ، ذلك أنّ لله الدين الخالص وليس لغيره فيه من شيّ ، كما قال جلّ جلاله : ( يقولون هل لنا من الأمرِ مِن شيء قُل إنّ الأمرَ كُلَّه لله )(2). من هنا يكون قول الحقّ تعالى : ( وشاوِرْهُم في الأمر ) دالاًّ على المشاورة في الموضوعات الخارجية وشئون الحياة اليومية ، والمواقف العملية من بعض الحوادث ، كالموقف في الحرب ومواجهة مكائد الأعداء وإمكانيّات سبل السلام ، وما إليها.
     وهذه المشاورة ذات ثمرات صالحة ، منها : أنّها تُشعِر المشاوَرين بالمشاركة في صنع الموقف المسؤول ، ومنها أنّها تَهَبُهم طاقة للاندفاع في سبيل تنفيذ مقرّرات هذه المشاورة وتحمّل نتائجها. ومع ذلك كلّه تظلّ لرسول الله صلى الله عليه وآله الكلمة الأخيرة في مقرّرات المشاورة ، فهو الذي يحدّد ما ينبغي وما لاينبغي ، ويكون عزمه في المسألة هو الساري الجاري ( فإذا عزمت فتوكَّلْ على الله ).
     إنّ الشورى ليس لها دخل في الأحكام ، ومتى تدخّلت في الحكم فإنّها تكون قد شاركت الوحيَ في التشريع ، وهَوَّنت من شأن النبوّة والنبيّ ، وفتحت باباً للتقوّل على الله.. ذلك التقوّل الذي هدّد اللهُ تعالى باجتراح ولو بعض منه.
     ولقد حذّر اللهُ رسولَه ـ وهو أحبّ خلقه إليه ـ أيما تحذير ، وهدّده أيّما
____________
(1) البقرة : 144.
(2) آل عمران : 154.

( 62 )

تهديد .. إذا ما غيّر حرفاً واحداً ، وذلك لمّا جاءه أهل قرية الناصرة بأحمال الذهب والفضّة والحرير وأرادوا إعطاءها رشوةً للنبي صلى الله عليه وآله في مقابل أن يُبدّل حرف الباء تاءً في لفظة « أبَوا » بعد نزول قوله تعالى : ( حتى إذا أتيا أهلَ قَريةٍ استَطعَما أهلَها فأبَوا أن يضَيِّفوهما )(1). وعندئذ نزل التهديد الإلهيّ الحازم ليعلم الناس أنّ دين الله خالص نقيّ لا يجوز بحالٍ أن يشوبه شيء من رأي البشر ولو قَلّ وضَئُل إلى مستوى حرفٍ إستمع الى تعابير المواجهة والإنذار : ( ولو تقوّل علينا بعضَ الأقاويلِ * لأَخَذْنا منه باليمينِ * ثمّ لَقَطعنا منه الوَتين * فما منكم مِن أحدٍ عنه حاجِزين )(2) ، وهو الذي ( لا يَنطِقُ عن الهوى * إنْ هو إلاّ وحيٌ يُوحى )(3).
     ثانياً : إنّ الأذان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفريضة الصلاة التي هي « خيرُ موضوع » ، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهي عمود الدين وأساسه الجوهري.. إلى حدّ أن جعل الإمام الهادي الزيدي الأذان من أصول الدين! كما مرّ بنا سابقاً.
     والأذان مقدّمة للصلاة ، وكلاهما عبادة خالصة لله عزّوجلّ صادرة عن حقيقة وجودية توحيدية عميقة. من هنا يكون من الغفلة الاعتقاد بأنّ الله عزّوجلّ قد أمر خاتم أنبيائه الكرام بإقامة الصلاة على وجهها الذي شرّعه الله تعالى ، ثمّ ترك شأن تعليم أذان الصلاة وإقامتها لأُناس عاديّين يقولون إنّهم رأوها في المنام! أو إنّهم قد أضافوا إليها من عندهم ما يكملها ، دون أن يُعلّمها رسولَه الذي هو مبلّغ الوحي وحامل راية الهدى لأجيال البشرية كافّة.
     ثالثاً : تشير بعض النصوص السنيّة التي أوردتها كتب الصحاح والسنن في موضوع الأذان إلى أنّ رسول الله كان في حيرة من أمر الأذان ، ولم يكن يعلم
____________
(1) الكهف : 77.
(2) الحاقّة : 44 ـ 47.
(3) النجم : 3.

( 63 )

الحكم الإلهيّ فيه أيّاماً ، حتّى شاور الصحابةَ في ذلك ، وأمر بناقوس النصارى ليكون إعلاماً لوقت الصلاة حتّى « كاد ينقس »!
     وفي هذا الرأي من التوهين والتقليل من شأن رسول الله صلى الله عليه وآله ما لا خفاء فيه ، وهو ممّا يرفضه منطق القرآن الكريم ، ويرفضه المنطق الإيماني على وجه العموم ، ذلك أنّ هذا التوهين يعارض دعوةَ القرآن المسلمين إلى توقير رسول الله وتعظيمه ، ويضادّ نهي الذين آمنوا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبيّ صلى الله عليه وآله ، تعريفاً بتميّزه وعلوّ مقامه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تُقَدِّموا بين يدي الله ورسوله واتَّقوا الله إنَّ الله سميع عليم * يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيِّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )(1) اهتماماً بمكانته صلى الله عليه وآله وشأنه.
     وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية نزلت لمّا تنازع أبو بكر وعمر في تعيين مَن يكون موفد الرسول المصطفى إلى بني تميم.
     فقال أبو بكر : القعقاع بن معبد ، وقال عمر : الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردتَ إلاَّ خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، فتمارَيا حتّى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك هذه الآيات الحكيمة(2).
     فإذا كان الله سبحانه لا يرتضي التنازع ورفع الصوت بمحضر النبيِّ في أيّة قضيّة من القضايا احتراماً له وتوقيراً لمقامه ، فكيف يصحّ أن يُنسَب إليه التحيّر في شأن أمر تعبّدي كالأذان حتّى اختار ـ أو كاد أن يختار ـ ناقوس النصارى يُنقس به إعلاماً للصلاة ؟!

____________
(1) الحجرات : 1 ـ 2.
(2) انظر : صحيح البخاريّ 6 : 290 كتاب المغازي ، باب وفد بني تميم ج 812 ، باب وفد بني تميم.

( 64 )

     رابعاً : أهمل الشيخان البخاريّ ومسلم وكذا الحاكم النيسابوريّ في مستدركه ذِكْر أحاديث رؤيا عبدالله بن زيد ، بل في المستدرك عن (سفيان بن الليل عن الإمام الحسن السبط) ما يُسَخِّف تشريع الأذان بالمنام.
     وقد أجاب الحاكم معلّلاً تركَ الشيخين أحاديث عبدالله بن زيد التي قصّها على رسول الله بقوله : (... وإنّما ترك الشيخان حديث عبدالله بن زيد في الأذان والرؤيا التي قصّها على رسول الله بهذا الإسناد(1) ، لتقدّم موت عبدالله بن زيد ، فقد قيل : إنَّه استُشهد بأُحد ، وقيل : بعد ذلك بيسير ، والله أعلم )(2).
____________
(1) ليس فيما روي عن عبدالله بن زيد في الأذان ما رجاله على شرط الشيخين إلاّ ما رواه بشير بن محمد بن عبدالله بن زيد عن جدّه عبدالله بن زيد ، ولكن لم يخرجه الشيخان في صحيحيهما لأنّه منقطع ؛ فالحفيد بشير لم يدرك جدّه عبدالله بن زيد.
(2) المستدرك للحاكم 4 : 348 كتاب الفرائض ، باب ردّ الصدقة ميراثاً. قال ابن حجر في تلخيص الحبير 3 : 12.
     ( وقال الحاكم والبيهقي : الروايات عن عبدالله بن زيد في هذا الباب كلّها منقطعة ؛ لأنّ عبدالله بن زيد استشهد يوم أحد . ثمّ أسند عن الدراوردي عن عبيدالله بن عمر قال : دخلت ابنة عبدالله بن زيد على عمر بن عبدالعزيز فقالت : يا أمير المؤمنين ، أنا ابنة عبدالله بن زيد ، شهد أبي بدراً وقتل يوم أحد ، وفي صحّة هذا نظر ؛ فإن عبيدالله بن عمر لم يدرك هذه القصّة... وروى الواقدي عن محمد بن عبدالله بن زيد قال : تُوفّي أبي بالمدينة سنة اثنين وثلاثين ، وقال ابن سعد : شهد أحداً والخندق والمشاهد كلها ، ولو صحّ ما تقدم للزم أن تكون بنت عبدالله بن زيد صحابية ). عن تلخيص الحبير3 : 162 ـ 163.
     أقول : الظاهر أنّ كلام الحاكم هو الصحيح ، فإنّ الراوي هو عبيدالله بن عمر العمري كما في الإصابة 2 : 312 ترجمة عبدالله بن زيد بن ثعلبة ، وهو عبيدالله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطّاب ، المتوفّى سنة 144 أو 145 أو 147هـ ، والمسند إليه صحيح بلحاظ الراوي والمروي عنه. انظر : تهذيب الكمال 19 : 124 ـ 130.

( 65 )

     ويشير إهمال الشيخين لهذا الحديث إلى أنّه لا أصل لحديث عبدالله بن زيد عن رسول الله ، ويؤيّد ذلك ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة عمر بن عبدالعزيز عن عبيدالله بن عمر ، قال : ( دَخَلتْ ابنة عبدالله بن زيد على عمر بن عبدالعزيز ، فقالت : يا أمير المؤمنين ، أنا بنت عبدالله بن زيد ، أبي شهد بدراً وقُتِل يوم أحد ، فقال عمر :
تلك المكارِمُ لا قعبان من لَبنٍ       شيبا بماء فعادا بَعدُ أبوالا
     سَليني ما شئتِ ، فسألت فأعطاها ما سألت(1).
     ولو ثبت بشكل قطعي أنَّ عبدالله رأى الأذان لَذَكرتْ ابنته هذه المكرمة له وعدّتها ضمن منقبتيه الأُوليين : حضوره بدراً وقتله بأُحد ، بل أن فضيلة رؤيا الأذان لو كانت واقعةً فعلاً لَما ضاهاها شيء ؛ إذ إنّ الوحي قد وافقه في هذه المسألة دون عموم بني البشر ، وهي أهمّ من حضوره بدراً وقتله بأُحد ، وذلك لمشاركة آخَرين له في هاتين الفضيلتين.
     إنَّ عدم ذكر ابنة عبدالله بن زيد لهذه المنقبة ـ وهي في معرض استعطاف عمر بن عبدالعزيز ـ ليشير إلى عدم ثبوت هذه المكرمة له في العهد الأوّل.
     خامساً : من الثابت عند أهل العلم أنّ رؤيا الأنبياء وحدهم حجّة ، لا رؤيا غيرهم. نعم ، إنّهم صحّحوا هذه الرؤيا والمنامات الأخرى بتطابق الوحي معها.
     قال العسقلانيّ : ( وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبدالله بن زيد ، لأنَّ رؤيا غير الأنبياء لا يُبنى عليها حكم شرعيّ ، وأُجيب باحتمال مقارنة
____________
(1) حلية الأولياء 5 : 322 ترجمة عمر بن عبدالعزيز ، وعنه في الإصابة 2 : 312 ترجمة عبدالله بن زيد بن عبد ربّه بن ثعلبة.