وقال القرطبي في تفسيره : « فنزلت الآية مخبرة أنّ ذلك من تملّكهم وصعودهم [ أي نَزْوِهِم على منبره نزو القردة ] يجعلها الله فتنة للناس وامتحاناً ، وقرأ الحسن بن عليّ في خطبته في شأن بيعته لمعاوية : ( وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين ). قال ابن عطية : وفي هذا التأويل نظر ، ولا يدخل في هذه الرؤيا ، عثمان ، ولا عمر بن عبدالعزيز ، ولا معاوية »(1).
     وعليه فلا يصحّ ما قالوه من تكلّفات في كلمة الرؤيا والشجرة الملعونة في الآية ، مع وضوح أنّ الملعونين في القرآن هم جند إبليس واليهود ، والمشركون ، والمنافقون ، والذين ماتوا وهم كفار ، والذين يكتمون ما أنزل الله ، والذين يؤذون الله ورسوله وغيرها لا شجرة الزقوم ولا غيرها من التأويلات التي صيغت بأخرة لإبعاد الآية الكريمة عن معناها الحقيقي(2).
____________
(1) تفسير القرطبي 10 : 283 سورة الاسراء.
(2) وللتاكيد انظر : كتاب المأمون العبّاسي في تاريخ الطبري 10 : 57 ـ 58 حتى تقف على الفهم السائد في القرون الأولى بالنسبة للشجرة الملعونة وأنّها تعني بني أميّه وأن أهل البيت هم العترة ـ والكتاب طويل نأخذ من قوله ـ : ... فجعلهم الله أهل بيت الرحمة وأهل بيت الدين ، أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا ، ومعدن الحكمة ، وورثة النبوة ، وموضع الخلافة ، وأوجب لهم الفضيلة ، وألزم العباد لهم الطاعة ، وكان ممن عانده ونابذه وكذّبه وحاربه من عشيرته العدد الأكثر ، والسواد الأعظم ، يتلقّونه بالتكذيب والتثريب ، ويقصدونه بالأذيّة والتخويف ، ويبادونه بالعداوة ، وينصبون له المحاربة ، ويصدّون عنه من قصده ، وينالون بالتعذيب مَن اتّبعه ، وأشدّهم في ذلك عداوة وأعظمهم له مخالفة ، وأوّلهم في كلّ حرب ومناصبة ، لا يرفع على الإسلام راية إلاّ كان صاحبها وقائدها ورئيسها في كلّ مواطن الحرب من بدر ، وأحد ، والخندق ، والفتح : أبو سفيان بن حرب ، وأشياعه من بني أميّة الملعونين في كتاب الله ، ثمّ الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن وعدّة مواضع ؛ لماضي علم الله فيهم وفي أمرهم ، ونفاقهم ، وكفر أحلامهم ، فحارب مجاهداً ، ودافع مكابداً ، وأقام منابذاً حتّى قهره السيف ، وعلا أمر الله وهم كارهون ، فتقوَّل بالإسلام غير منطوٍ عليه ، وأسرَّ الكفر غير مقلعٍ عنه ، فعرفه بذلك رسول الله والمسلمون وميّز له المؤلفة قلوبهم فقبله ، وولده على علم منه ، ممّا لعنهم الله به على لسان نبيه وأنزل به كتاباً قوله : ( والشجرةَ الملعونَة في القرانِ ونُخوّفهم فما يزيدهم إلاّ طغياناً كبيرا ) ولا اختلاف بين أحد أنّه أراد بها بني أميّة ، ومنه قول الرسول عليه السلام وقد رآه مقبلاً على حمار ، ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به : لعن الله القائد ، والراكب ، والسائق...

( 87 )

     المجتهدون الأوائل ودورهم في التشريع :
     أبانت دراساتنا السابقة عن ( وضوء النبيّ ) و ( منع تدوين الحديث ) و( تاريخ الحديث النبوي الشريف )(1)بزور نهجين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله كانوا موجودَين في حياته :
     أحدهما : يتّخذ المواقف من خلال الأصول ، ويتّبع القرآن والسنّة ، ولا يرتضي الرأي والاجتهاد مع وجود النصّ.
     والآخر : يتّخذ الأصول من خلال مواقف الصحابة وإن خالفت النصوص ، فهؤلاء يشرّعون الرأي ويأخذون به مقابل النص ، ويتعاملون مع رسول الله كأنّه بشر غير كامل يصيب ويخطئ ويسبّ ويلعن ثمّ يطلب المغفرة للملعونين(2) ؛ أو أنّه صلى الله عليه وآله خفي عليه أمر الوحيٍ حتّى أخبره ورقة بن نوفل بذلك! وهذا يخالف ما ثبت من أنّ خاتم النبوة كان مكتوباً على كتفه.
     وبين هؤلاء من رفع صوته ـ في ممارساته اليومية ـ فوق صوت
____________
(1) طبع سابقا في مجلة تراثنا ( الأعداد 53 ـ 60 ) تحت عنوان ( السنّة بعد الرسول ).
(2) صحيح البخاري 8 : 435 / كتاب الدعوات ، باب 736 ، ح 1230 سورة الإسراء ، مسند أحمد 2 : 316 ـ 317 ، 419 ، و ج 3 : 40.

( 88 )

النبيّ ، واعترض على رسول الله في أعماله(1) ، وتعرّف المصلحة وهو بحضرته صلى الله عليه وآله ، وتنزّه في أمرٍ رخّص فيه ، أو تزهد في أمرٍ نهى عنه.
     فجاء في كتاب الآداب من صحيح البخاري أنّ النبيّ رخّص في أمر فتنزّه عنه ناس ، فبلغ النبيّ فغضب ثمّ قال : ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه ، فوالله إنّي لأعلمُهم وأشدّهم خشية(2).
     وفي خبر آخر : أخبر رسول الله أنّ عبدالله بن عمرو بن العاص يقول : والله لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ، فقال له رسول الله : أنت الذي تقول : « لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ما عشت » ؟!
     قال : قد قلت ذلك يا رسول الله.
     فقال رسول الله : إنّك لا تستطيع ذلك فصُمْ وأفطرِ ، ونَم وقُم ، وصُم من الشهر ثلاثة أيّام ، فإنّ الحسنة بعشر أمثالها ، وذلك مثل صيام الدهر.
     قال ، قلت : إنّي أُطيق أفضلَ من ذلك.
     فقال صلى الله عليه وآله : فصم يوماً وأفطِر يومين.
     قال : قلت : إنّي أطيق أفضل من ذلك.
     فقال : قال : فَصُم يوماً وأفطِر يوماً ، فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل
____________
(1) كاعتراض عمر بن الخطاب على رسول الله لمّا أراد أن يصلّي على المنافق ، وقوله له : أتصلّي عليه وهو منافق ؟! وإنكاره على رسول الله فعله في أخذ الفداء من أسرى بدر وغيرها. انظر : صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب فضائل عمر.
(2) انظر : صحيح البخاري 8 : 353 كتاب الدوب ، باب من لم يواجه الناس بالعتاب ، ح 979.

( 89 )

الصيام.
     فقلت : أطيق أفضل من ذلك.
     فقال النبيّ : لا أفضل من ذلك(1).
     إن مثل هذا التحكيم للرأي الشخصي في مقابل قول رسول الله صلى الله عليه وآله يحمل في طياته مخاطر عديدة ، ويفتح مسارات للتحريف والتبديل ، ومن شأنه أن يحوّل الدين الالهي إلى دين مشوب بآراء الناس ووجهات نظرهم الشخصية ، وهو يجرّ من ثمّ إلى تجزيء الدين والى النزعة التلفيقية في الشريعة ، ومن هنا ظهرت في الصدر الأوّل وما بعده الأحكام المبتدعة والأهواء المتّبعة التي ليست من دين الله في شيء ، و لا تمت إلى الحياة الإسلامية النزيهة بصلة ، وهو الذي كان رسول الله يتخوف على اُمته منه. وقد صرّح الإمام عليّ في خطبة له بأنّه لو أتيحت له الفرصة لأرجع بعض الأُمور إلى أصلها ، فقال : ( ... وإنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، يتولّى فيها رجالٌ رجالاً... إلى أن يقول : .. أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة ، ورددت صاع رسول الله كما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلى الله عليه وآله لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد(2) ، ورددت قضايا من الجور قضي بها(3) ، ونزعت نساء تحت رجال بغير حقّ فرددتهن إلى أزواجهن(4) واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأحكام ، وسبيت ذراري
____________
(1) انظر : صحيح البخاري 3 : 91 كتاب الصوم ، باب صوم الدهر ، ح 233.
(2) كأنّهم غصبوها وأدخلوها في المسجد.
(3) كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الإرث وسواهما.
(4) كمن طلّق زوجته بغير شهود وعلى غير طهر ، وقد يكون فيه إشارة إلى قوله بعد بيعته : ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج به . إلخ ، وانظر : نهج البلاغة 1 : 42 خ 14.

( 90 )

بني تغلب(1) ، ورددت ما قسّم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا(2) وأعطيت كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعطي بالسويّة ، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء. وألقيت المساحة(3) ، وسوّيت بين المناكح(4) ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل عزّوجلّ وفرضه(5) ، ورددت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ما كان عليه(6) ، وسددت ما فُتح فيه من الأبواب(7) ، وفتحت ما سُدّ منه ، وحرّمت المسح على
____________
(1) لأنّ عمر رفع الجزية عنهم فهم ليسوا بأهل ذمّة ، فيحلّ سبي ذراريهم ، قال محيي السنّة البغويّ : روي أنّ عمر بن الخطّاب رام نصارى العرب على الجزية ، فقالوا : نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم ، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض ، بعنوان الصدقة . فقال عمر : هذا فرض الله على المسلمين. قالوا : فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية ، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة.
(2) إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من وضعه الخراج على أرباب الزراعة والصناعة والتجارة لأهل العلم والولاة والجند ، بمنزلة الزكاة المفروضة ، ودوّن دواوين فيها أسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء.
(3) راجع تفصيل هذا الأمر في كتاب الشافي للسيّد المرتضى.
(4) ربّما كان إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من منع غير القرشيّ الزواج من القرشيّة ، ومنعه العجم من التزوّج من العرب.
(5) إشارة إلى منع عمر أهل البيت خُمسَهم.
(6) يعني أخرجت منه ما زاده عليه غصباً.
(7) إشارة إلى ما نزل به جبرئيل من الله تعالى بسدّ الأبواب المفضية إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ باب عليّ.

( 91 )

الخفين(1) ، وحَدَدت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين (2) ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات(3) ، وألزمتُ الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم(4) ، وأخرجت من أُدخل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجده ممّن كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخرجه ، وأدخلت من أُخرج بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ممّن كان رسول الله صلى الله عليه وآله أدخله(5) ، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة(6) ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها (7) ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها(8) ، ورددت أهل نجران
____________
(1) إشارة إلى ما أجازه عمر في المسح على الخفّين ، ومخالفة عائشة وابن عبّاس وعليّ وغيرهم له في هذا الصدد.
(2) يعني متعة النساء ومتعة الحجّ.
(3) لِما كبّر النبيّ صلى الله عليه وآله خمساً في رواية حذيفة وزيد بن أرقم وغيرهما.
(4) والجهر بالبسملة ممّا ثبت قطعاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله في صلاتهِ ، وروى الصحابة في ذلك آثاراً صحيحة مستفيضة متظافرة.
(5) يحتمل أن يكون المراد إشارة إلى الصحابة المخالفين الذين أُخرجوا بعد رسول الله من المسجد في حين كانوا مقرّبين عند النبيّ صلى الله عليه وآله ، وكذا إنّه عليه السلام يخرج من أخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله ، كالحكم بن العاص وغيره.
(6) ينظر عليه السلام إلى الاجتهادات المخالفة للقرآن وما قالوه في الطلاق ثلاثاً.
(7) أي من أجناسها التسعة ، وهي : الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والغنم والبقر.
(8) وذلك لمخالفتهم هذه الأحكام. وقد أوضّحنا حكم الوضوء منه في كتابنا ( وضوء النبيّ ) فراجع ، نأمل أن نوفّق في الكتابة عن الغسل والصلاة وغيرها من الأحكام الشرعية التي أشار الإمام علي بن أبي طالب إلى التحريف والابتداع فيها إنّ شاء الله تعالى.

( 92 )

إلى مواضعهم (1) ، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله .. إذن لتفرّقوا عنّي (2) .
     وقد أعلن الأئمّة من آل البيت أنهم كانوا يتبعون النصوص ولا يرتضون الرأي..
     فعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال لجابر : والله يا جابر لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نُفتيهم بآثارٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله وأُصول علمٍ عندنا ، نتوارثها كابراً عن كابر ، نَكنِزُها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم(3).
     وسأل رجلُ الإمام الصادق عليه السلام عن مسألةٍ فأجابه فيها ، فقال الرجل : أرأيتَ إن كان كذا وكذا ، ما يكون القول فيها ؟
     فقال له : مَه! ما أجبتك فيه شيء فهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، لسنا من « أرأيت » في شيء(4). وعن الإمام الباقر عليه السلام : ما أحدٌ أكذب على الله وعلى رسوله ممّن كذّبنا أهلَ البيت أو كذب علينا ؛ لأنّا إنّما نحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن الله. فإذا كُذّبنا فقد كُذّب الله ورسوله(5).
     وقال : لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا ، ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه فبيّنها لنا(6).
____________
(1) وهم الذين أجلاهم عمر عن مواطنهم.
(2) الكافي 8 : 58 ، الروضة ح 21.
(3) بصائر الدرجات : 300 ح 4 والنص عنه ، و 299 ح 1.
(4) الكافي 1 : 58. كتاب فضل العلم باب البدع والرأي والمقاييس ح 21.
(5) جامع أحاديث الشيعة 1 : 181. باب حجيّة فتوى الأئمّة المعصومين ، ح 114.
(6) بصائر الدرجات : 299 ح 2 وانظر : 301 ح 1.

( 93 )

     وعن أبي بصير ، قال : قلت للصادق : تَرد علينا أشياءُ ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّة ، فننظر فيها ؟ قال : لا ، أما إنّك إن أصبتَ لم تُؤجَر ، وإن أخطأتَ كذبتَ على الله عزّوجلّ(1).
     نعم ، إنّ نهج الاجتهاد كان له دعاة وأتباع استمدّوا جذورهم من مصدر غير التعبد والتسليم ، وهو أقرب إلى ما عرفوه في الجاهلية ممّا عرفوه في الإسلام وكان لهؤلاء وجود ملحوظ أيضاً في صدر الإسلام ، فقد اقترح بعض المشركين على رسول الله أن يبدل بعض الأحكام الشرعية وهو صلى الله عليه وآله يقول : ( ما يكونُ لي أن أُبدّله من تِلقاءِ نفسي إن أتّبعُ إلاّ ما يُوحى إلَيَّ )(2).
     وقد أثبتنا سابقاً أنّ عمر بن الخطّاب كان من المجتهدين الأوائل الذين تعرّفوا المصلحة وهم بحضرة الرسول المصطفى ، فأنكر عليه أخذَه الفداءَ من أسارى بدر(3) ، واعترض عليه صلى الله عليه وآله في صلاته على المنافق (4) ، وواجه النبيّ بلسان حادّ في صلح الحديبية(5) ، وطالب النبيَّ أن يزداد علماً إلى علمه وأن يستفيد من مكتوبات اليهود في الشريعة(6)وقال لرسول الله في مرض موته :
____________
(1) الكافي 1 : 56. كتاب فضل العلم باب البدع والرأي ح 11.
(2) يونس : 15.
(3) شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 11 ـ 12 : 12 / 82 ، باب نكت من كلام عمرو سيرته وأخلاقه.
(4) صحيح مسلم 4 : 1865 كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عمر ح 25 و 1 : 2141كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ح 3.
(5) صحيح البخاري 4 / 381 كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة ، ح 932.
(6) المصنّف لعبد الرزاق 10 : 313 كتاب أهل الكتابين ، باب هل يسأل أهل اليهود بشيء / ح 19213 ، مجمع الزوائد 1 : 174 باب ليس لاحد قول مع رسول الله صلى الله عليه وآله .

( 94 )

( إنه ليهجر ) أو غلبه الوجع (1) !
     المجتهدون الاوائل والأذان!
     والآن لنرى موقف عمر بن الخطاب وموقف غيره من المجتهدين في الأذان ، وهل لهؤلاء دور في هذا التغيير ، أم تقع تبعات التحريف على اللاحقين من بني أميّة وبني العبّاس ؟ وغيرهم من المتأخّرين حسب تعبير الصنعاني(2).
     إنّ النّصوص السابقة أوقفتنا على وجود اتّجاه في الصحابة وموقف من الأذان يقترح على الرسول أن يتّخذ ناقوساً مثل ناقوس النصارى ، أو بُوقاً مثل بوق اليهود ، فيستاء رسول الله من هذا ويغتمّ لاقتراحات هذا الاتجّاه من الصحابة الذين وصل الأمر بهم إلى أن يقترحوا على الرسول المصطفى إدخال بعض أحكام وأفكار شريعتي موسى أو عيسى المحرَّفتين في منهج الإسلام ، وكأنّ اطروحة الإسلام غير قادرة على أن تفي بالأعباء ؛ فقد رووا عن عمر أنّه قال للنبي صلى الله عليه وآله « يا رسول الله إنّي مررتُ بأخٍ لي من يهود فكتب لي جوامع من التوراة ، أفلا أعرضها عليك ؟ فتغيّر وجه رسول الله.
     فقال عمر : رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمّد رسولاً ، فسُرّي عن النبيّ ، ثمّ قال صلى الله عليه وآله : والذي نفسي بيده ، لو أصبح فيكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنّكم حظّي من الأمم وأنا حظّكم من النبيّين »(3).
    
____________
(1) صحيح البخاري 1 : 39 كتاب العلم ، باب 82 ، ح 112 ، صحيح مسلم3 : 1257 ،1259 ، كتاب الوصية باب ترك الوصية...
(2) انظر : كلامه المتقدم في صفحه 23 من هذه الدراسة.
(3) المصنّف لعبدالرزّاق 10 : 313 رقم 19213 ، مجمع الزوائد 1 : 174 وفيه : يا رسول الله ، جوامع من التوراة أخذتها مع أخٍ لي من بني زُرَيق ، فتغيّر وجه رسول الله...

( 95 )

فهؤلاء المجتهدون في الصدر الأوّل كانوا يتعاملون مع الأحكام وفق ما عرفوه من الشرائع السابقة ، وكانوا يتصورون بأنّ الأمر بيدهم يفعلون ما يشاؤون ، فكانوا هم الذين اقترحوا على رسول الله البوق ، الناقوس « فتقسوا أو كادوا أن ينقسوا » حتى رأى عبد الله بن زيد أو غيره في المنام ....
     إذاً فكرة كون تشريع الأذان كان ب ـ « رؤيا » جاءت من قبل الصحابة المجتهدين ، ثمّ تطوّرت حتّى وصل بها الأمر إلى ما وصل لاحقاً ، وهذا ما يجب الوقوف عليه في مطاوي بحوثنا..
     إذ جاء عن كثير بن مرة الحضرمي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : أوّل من أذّن في السماء جبرئيل عليه السلام ، قال : فسمعه عمر وبلال ، فأقبل عمر فأخبر النبيّ بما سمع ، ثمّ أقبل بلال فأخبر النبيّ بما سمع ، فقال له رسول الله : سبقك عمر يا بلال....
     أو قول ابن عمر : إنّ بلالاً كان يقول أوّل ما أذّن : « أشهد أن لا إله إلاّ الله ، حيّ على الصلاة » ، فقال له عمر : قل في أثرها « أشهد أنّ محمّداً رسول الله »...
     نعم إنّهم رفعوا بضبع الصحابة الحالمين الرائين للأذان إلى مرتبة النبوة والمعاينة الحقيقيّة حتّى قال عبدالله : « يا رسول الله ، إنّي لَبينَ يقظان ونائم » ، وفي آخر : « لقلت : إني كنت يقظاناً غير نائم » ، وبعكس ذلك نراهم يحطّون من منزلة النبيّ صلى الله عليه وآله عن المعاينة الحقيقية في المعراج ـ ( دنى فتدلى فكانَ قابَ قوسَينِ أو أدنى ) ـ إلى مرتبة التشكيك ، مستخدمين العبارة نفسها « بين النائم واليقظان » ، ورووا ذلك في الصحيح!!
     ففي صحيح مسلم بسنده عن قتادة ، عن أنس بن مالك ـ لعله قال : عن مالك بن صعصعة (رجل من قومه) ، قال ـ قال نبي الله صلى الله عليه وآله : بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ...
     ثمّ أتيت بدابة أبيض يقال له البُراق فوق الحمار ودون البغل يقع خطوه عند


( 96 )

أقصى طرفه ، فحُمِلتُ عليه ، ثمّ انطلقنا حتّى أتَينا السماء الدنيا.... ثمّ سرد قصة المعراج(1).
     بل في رواية شريك في حديثه عن أنس التصريح بأنّه صلى الله عليه وآله كان نائماً. قال : « وهو نائم بالمسجد الحرام » وذكر القصة الواردة ليلة الإسراء ، ثمّ قال في آخرها : « استيقظت » ـ أي انتبهت ـ من منامي وأنا في المسجد الحرام(2).
     قال الصالحي الشامي : وهذا المذهب يعزى إلى معاوية بن أبي سفيان... ويُعزى أيضاً إلى عائشة(3).
     بل صرّح إمام الشافعية القاضي أبو العبّاس بن سريج بوضع هذا الحديث على عائشة فقال : هذا حديث لا يصحّ وإنّما وُضِعَ ردّاً للحديث الصحيح(4).
     ترى من هو الواضع ؟
     وما هو غرضه من التحريف في مقابل ما هو أصيل ؟
     ولماذا جَحْدُ منزلة النبيّ صلى الله عليه وآله ومحاولة جعل القضية مناماً عاديّاً ؟
     ولماذا يختص ذلك بمعاوية وعائشة ؟!
     وهل يكمن في ذلك إنكارٌ مُبَطَّن لرؤيا النبيّ بني أميّة ـ أو تيماً وعديّاً ـ
____________
(1) صحيح مسلم 1 : 150 ، باب الإسراء من كتاب الإيمان ـ ح 264. وانظر : مثله في صحيح البخاري 4 : 549 ، كتاب بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم ، ح 1371.
(2) سبل الهدى والرشاد 3 : 69 والنص عنه. وانظر : رواية شريك في صحيح البخاري 9 : 824 ـ 826 / كتاب التوحيد / باب قوله ( وكلم الله موسى تكليماً ) / ح 2316 ، وانظر : صحيح مسلم 1 : 148 ح 262 / كتاب الإيمان ـ باب الاسراء برسول الله.
(3) سبل الهدى والرشاد 3 : 69.
(4) سبل الهدى والرشاد 3 : 70 ، نقلاً عن المعارج الصغير لابن الخطاب بن دحية.

( 97 )

يردون الناس عن الإسلام القهقرى ؟!(1)إذ ليس في الرؤيا الماميّة كبير أمر ولا كثير طائل ، وإذا كان المعراج رؤيا فلماذا لم يَرَها الآخرون كما رأى الأذان سبعة أو أربعة عشر أو عشرون شخصاً ؟! لكي لا يكذّب المشركون النبيَّ صلى الله عليه وآله أو لكي لا يرتدّ من أسلم من المسلمين ؟ ألم يقولوا مثل هذا التعليل في سرّ رؤى الصحابة للأذان ؟!
     فهذه النصوص ترفع هؤلاء إلى السماء وتجعلهم قرب الوحي ، وتحاول إنزال مقامات النبيّ صلى الله عليه وآله في المعراج إلى حدّ الرؤيا العادية ، فنحن لو لحظنا دور المجتهدين في الشريعة ووقفنا على اجتهادات الصحابة واقتراحاتهم على رسول الله في الأذان وغيرها ، وعرفنا الدواعي التي دفعت بعمر بن الخطّاب أن يرفع ( حيّ على خير العمل ) أو يضع ( الصلاة خير من النوم ) في الأذان لآمَنَّا بأن الشرارة الأولى لهذا التحريف جاءت من قبل هذا القسم من الصحابة ، وأن فكرة كون الأذان رؤيا تتّفق مع فكر هذا الصنف لا المتعبّدين ، وذلك لاجتهادهم وعدم تعبّدهم بالنصوص. ونظرة هؤلاء تختلف عن نظرة أهل البيت إلى الشريعة والإسراء والمعراج وغيرها.
     الأمويّون والأذان
     لقد تطوّرت فكرة الرؤيا وما جاء في تشريع الأذان في العهد الأموي وتأطّرت بإطارها الخاص ؛ إذ لو جمعنا القرائن والشواهد لعرفنا بأن معاوية ومن بعده هم الذين تبنوا هذه الفكرة وأنّهم كانوا قد سعوا لتثقيف الناس حسبما يريدونه ، وهذا ما نلاحظه في نصوص الأذان بعد الإمام عليّ ، إذ لم يشر عليّ عليه السلام إلى هذا التضاد في الأذان في ما رواه عن النبيّ ، بل لم يردنا خبرٌ
____________
(1) الكافي 8 : 343 ـ 345 باب رؤيا النبيّ صلى الله عليه وآله .
    

( 98 )

صريحٌ في تكذيب الروايات المدّعية لثبوت تشريع الأذان بالرؤيا قبل الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام .
     فأوّل ما تطالعنا النصوص بهذا الصدد هو كلام سفيان بن الليل حينما قدم على الإمام الحسن بعد الصلح ، قال : فتذاكرنا عنده الأذان فقال بعضنا : إنّما كان بدء الأذان برؤيا عبدالله بن زيد.
     فقال له الحسن بن عليّ : إنّ شأن الأذان أعظم من ذلك ، أذَّن جبرئيل..
     وهذا يرشدنا إلى تذاكر المسلمين في أمر الأذان بعد الصلح لقوله ( لما كان من أمر الحسن بن عليّ ومعاوية ما كان قدمت المدينة وهو جالس في أصحابه ).
     فبعضهم في هذا الخبر يقول : ( إنّما كان بدء الأذان برؤيا عبدالله ) ، لكنّ الإمام الحسن صحّح رؤيتهم الخاطئة قائلاً : إن شأن الأذان أعظم من ذلك.
     ونحن لو واصلنا السير التاريخي وانتقلنا من خبر الإمام الحسن إلى ما جاء عن الإمام الحسين وأنه سئل عمّا يقول الناس ؟ فقال عليه السلام : « الوحي ينزل على نبيكم ، وتزعمون أنّه أخذ الأذان عن عبدالله بن زيد » ؛ لعرفنا استمرار هذا النزاع بين الناس وأهل البيت في كيفية نشوء وبدء تشريع الأذان.
     وقد مر عليك كلام أبي العلاء سابقاً حيث قال : قلت لمحمّد بن الحنفية : إنا لنتحدث أنّ بدء الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الانصار في منامه.
     قال : ففزع لذلك محمّد ابن الحنفية فزعاً شديداً وقال : عمدتم إلى ما هو الاصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنّه إنّما كان رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه يحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام.
     قال : فقلت : هذا الحديث قد استفاض في الناس ؟
     قال : هذا والله هو الباطل...
    
( 99 )

     فبدءُ النزاع العلني وانتشاره كان في زمن معاوية بعد صلح الإمام الحسن ، وفزعُ محمّد بن الحنفية الفزع الشديد ، وإخبارهم إياه باستفاضة هذا الحديث ، ليدلاّن على أنّ وضع تلك الأحاديث الأذانية أو بدء انتشارها كان في زمان معاوية بن أبي سفيان ، الّذي كان حسّاساً إلى درجة كبيرة من ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله ، إذ كيف يقرن اسم بشر « محمد » باسم رب العالمين « الله » ؟! (1) مع أن كل الأنبياء الذين جاؤوا بشرائع سابقة لم يقرن اسم أحدهم باسم رب العزة في إعلامهم للطقوس الدينية ، بل كان الناقوس والبوق والشبّور .
     إذن لم يكن معنىً ـ بنظر معاوية ـ لمقارنة اسم النبيّ لاسم الربّ في السماء وفي المعراج ، بل يكفي بذلك أن يكون مناماً ، أو اقتراحاً من عمر ، أو....
     وعلى ذلك فلا ضير إذن في الزيادة أو الحذف في الأذان ، فلَكَ أن تحذف « حيّ على خير العمل » كما فعل عمر وتضع موضعها « الصلاة خير من النوم » ، ولك أن تفرد الإقامة ولا تثنّيها « لحاجة لَهُمْ » ، ولك أن تزيد النداء الثالث يوم الجمعة ، ووو.... إلى آخر هذه الاجتهادات ، إن كان لها آخِر.
     ومن هذا الباب كان معاوية أوّل من أفشى مقولة التثويب الثاني ، وهي دعوة المؤذّن للخليفة أو الأمير ـ لكثرة مشاغله ـ إلى الصلاة بقوله « السلام على أمير المؤمنين ، الصلاة الصلاة رحمك الله » ، وسار المغيرة بن شعبة على نهج معاوية في هذا أيضاً ، بل قيل إنّه أوّل من فعل ذلك.
     ولكن صرّح الأعلام بأنّ معاوية كان أوّل من أحدث هذا ، وتبعه المغيرة بن شعبة ومَن حذا حذوه(2).
     فشاع الأمر واستفاض ، وصار كأنّه حقيقة لا مناص عن الإذعان لها ـ مع أنّ
____________
(1) سيأتي خبر معاوية لاحقاً في صفحة 106/108 .
(2) انظر : الوسائل إلى معرفة الاوائل ، للسيوطي : 26.

( 100 )

الحقيقة الإسلامية هي شيء آخر ـ وراحت أصداء هذا الحدث الأذاني تمتد وتمتد إلى العصر العباسي ، ومنه وصلت إلى يومنا الحاضر.
     روى عبدالصمد بن بشير ، قال : ذُكر عند أبي عبدالله [ الصادق ] بدء الأذان فقيل : إنّ رجلاً من الأنصار رأى في منامه الأذان ، فقصه على رسول الله فأمره رسول الله أن يعلّمه بلالاً ، فقال أبو عبدالله : كذبوا ، إنّ رسول الله كان نائماً في ظلّ الكعبة فأتاه جبرئيل ومعه طاس فيه ماء من الجنَّة(1)....
     ولو تدبرنا في هذه النصوص وما جاء في تاريخ بني أميّة لعرفنا إمكان تطابق هذه الرؤية معهم لما يحملون من أفكار أكثر من غيرهم ، خصوصاً بعد أن وقفنا على تاريخ النزاع وأنّه بدأ في عهدهم ، وإنّك لو تتبّعت مجريات الاحداث لعرفت تضاد بني أميّة مع رسالة الإسلام وعدم تطابق مفاهيمهم مع مفاهيم الوحي ورسول الله ، وأنّهم كانوا على طرفي نقيض مع بني هاشم في الجاهلية وفي الإسلام ، إذ التزم بنو أميّة جانب المشركين أمام بني هاشم الذين لم يفارقوا الرسول في جاهلية ولا إسلام.
     فقد قال رسول الله عن بني هاشم : « أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام ، وإنّما نحن وهم شيء واحد » وشبك بين أصابعه.(2)
     نعم كان الأمر كذلك ، فرسول الله كان لا يرتضيهم ، وهُم لم يدخلوا الإسلام إلاّ مكرهين.

____________
(1) تفسير العيّاشي 1 : 157 ، ح 530.
(2) سنن أبي داود 3 : 146 كتاب الخراج والامارة و.. ، باب في بيان مواضع قسم الخمس.. ، ح 2980 ، وانظر : سنن النسائي 7 : 131 كتاب قسم الفيء.

( 101 )

     الأمويّون ورسول الله
     لقد صحّ عن رسول الله أنّه لعن أبا سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وصفوان بن أميّة في قنوته(1)وهم من أقطاب قريش ، وفيهم أبو سفيان رأس بني أميّة.
     وصحّ عنه صلى الله عليه وآله قوله لمّا أقبل أبو سفيان ومعه معاوية : اللهمّ العن التابع والمتبوع(2).
     وفي آخر : اللهمّ العن القائد والسائق والراكب(3) ، وكان يزيد بن أبي سفيان معهم. وقوله صلى الله عليه وآله في مروان بن الحكم : اللهمّ العن الوَزغ بن الوزغ(4).
     فبنو أميّة بعد عجزهم عن ردّ صدور أحاديث اللعن رووا عن أبي هريرة قوله صلى الله عليه وآله : اللّهم إني أتّخذ عندك عهداً لن تُخلفنيه ، فإنمّا أنا بشر ، فأيّ المؤمنين آذيته ، أو شتمته ، أو لعنته أو جلدته.. فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها يوم القيامة(5)!
     ومن المعلوم أنّ هذه الروايات لا تّتفق مع أصول الإسلام والسير التاريخي والفكري لرسول الله ، وما جاء به من مفاهيم ، لأنّه قال : إني لم أُبعث لعّاناً وإنّما
____________
(1) سنن الترمذي 5 / 227 كتاب تفسير القران ، باب سورة آل عمران ، ح 3004 . الفردوس 1 : 503/ ح 2060 ، انظر : صحيح البخاري 5 : 201 كتاب المغازي ، باب135 / ح 556 ، الإصابة 2 : 93 ترجمة سهيل بن عمرو بن عبد شمس.
(2) وقعة صفين : 217 ـ 217 ، باب ما ورد من الاحاديث في شأن معاوية ، وانظر : المحصول للرازي 2 : 165 ـ 166.
(3) وقعة صفّين : 220.
(4) انظر : تلخيص المستدرك للذهبي 4 : 479.
(5) صحيح مسلم 4 : 2007 ـ 2008 ، كتاب البرّ والصلة ، باب من لع ـ نه النبيّ صلى الله عليه وآله ح 2601 ، مسند أحمد 2 : 317.

( 102 )

بعثت رحمة(1).
     فهو صلى الله عليه وآله لم يكن لعّاناً في سجيّته ، ولم يلعن من لم يكن مستحقّاً للّعنة ، بل لعنَ جماعات وأفراداً مخصوصين يستحقّون اللعنة من الله ورسوله في ضمن ملاكات الأحكام الشرعية والموازين الإلهية ، ومثل هذا اللعن والسبّ والجلد لا معنى لإََنْ يكون رحمة لصاحبه.
     وهؤلاء القوم لم يسلموا إلاّ ليحقنوا دماءهم ، بعدما عجزوا عن الوقوف أمام الدعوة وطمس الإسلام فدخلوا الإسلام لتحريف بعض المفاهيم وإبدال مفاهيم أخرى مكانها ، وكان ضمن مخططهم التقليل من مكانة الرسول والتعامل معه كإنسان عاديّ يصيب ويخطئ ويسبّ ويلعن ، كما كان في مخطّطهم الاستنقاص من الإمام عليّ ، لأنّه كان قد وتر شوكة قريش وسعى لتحطيم سلطانهم.
     فقد جاء في كتاب معاوية إلى عماله : « أن انظروا من قِبَلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه ، فَأَدنُوا مجالسهم وقَرِّبوهم وأَكرموهم ، واكتبوا إليَّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته ».
     « فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنّ هذا أحبّ إلي وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله »(2).
    
____________
(1) صحيح مسلم 4 : 2007.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 44 ـ 45 باب ذكر ما مُني به آل البيت من الأذى والاضطهاد.

( 103 )

     نحن لو تأملنا تاريخ قريش وما فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وآله في بدء الدعوة وقضايا فتح مكّة لوقفنا على خبث الأمويين واستغلالهم لرحمة رسول رب العالمين فقد اشتهر عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه لما سمع قول القائل :
اليوم يوم الملحمة      اليوم تسبَى الحرمة
     فقال له صلى الله عليه وآله : لا تَقُلْ هذا بل قل :
اليوم يوم المرحمة      اليوم تحفظ الحرمة (1)
     وجاء عنه قوله يوم الفتح في أعدى عدوه : « من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن »(2) ، وقوله : « اذهبوا أنتم الطلقاء »(3) ، لكن قريشاً ومع كلّ هذه الرحمة كانوا يتعاملون مع الرسالة والرسول بشكل آخر.
قال الواقدي : ... وجاءت الظهر فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وآله بلالاً أن يؤذّن فوق ظهر الكعبة وقريشٌ في رؤوس الجبال ، ومنهم من قد تَغيّب وستر وجهه خوفاً من أن يُقتلوا ، ومنهم من يطلب الأمان ، ومنهم من قد أمن.
فلمّا أذّن بلال وبلغ إلى قوله « أشهد أن محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله » رفع صوته كأشدّ ما يكون.
فقالت جويرية بنت أبي جهل : قد لعمري « رفع لك ذِكرك » فأمّا الصلاة فسنصلّي ، ولكن والله لا نحب من قتل الأحبة أبداً ، ولقد كان جاء أبي الذي جاء محمّداً من النبوة ، فردّها ، ولم يُرِدْ خلاف

____________
(1) انظر : المبسوط للسرخسي 10 : 39.
(2) سنن أبي داود 3 : 162 كتاب الخراج باب ما جاء في خبر مكّة ، السنن الكبرى للبيهقي 9 : 118 كتاب السير ، باب فتح مكة.
(3) المبسوط للسرخسي 10 : 40.

( 104 )

قومه.
وقال خالد بن سعيد بن العاص : الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يدرك هذا اليوم.
وقال الحارث بن هشام : واثكلاه ، ليتني متّ قبل هذا اليوم ، قبل أن أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة !
وقال الحكم بن أبي العاص : هذا والله الحدث العظيم ، أن يصيح عبد بني جُمحَ ، يصيح بما يصيح به على بيت أبي طلحة.
وقال سهيل بن عمرو : إن كان هذا سخطاً من الله تعالى فسيغيره وإن كان لله رضا فسيقرّه.
وقال أبو سفيان : أمّا أنا فلا أقول شيئاً ، لو قلت شيئاً لأخبَرَتْه هذه الحصباء ، قال : فأتى جبرئيل عليه السلام فأخبره مقالة القوم(1).
     ولو تأملت في ما رواه لنا العبّاس في كيفية إسلام أبي سفيان لعرفت أنّه لم يسلم عن قناعة وإيمان ، إذ قال العباس : غدوت به على رسول الله فلما راه قال : ويحك يا أبا سفيان!! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلاّ الله ؟
     قال : بلى ، بأبي أنت وأمي ، لو كان مع الله غيره لقد اغنى عني شيئاً.
     فقال : ويحك! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟!
     فقال : بأبي أنت وأمي ، أما هذه ففي النفس منها شيء.
     قال العباس : فقلت له : ويحك! تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك.
     قال : فتشهد(2).

____________
(1) شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 17 : 283 عن الواقدي ، وانظر : سبل الهدى والرشاد 5/193 رواه عن البيهقي.
(2) الكامل في التاريخ 2 : 245.

( 105 )

     فهنا يبدو واضحاً أن أبا سفيان كان أكثر بطئاً في قبول الشهادة الثانية من الاولى ، لأنّه كان يتصور بأن في الثانية تحطيم غروره وجبروته وموقعه السياسي والاجتماعي ، وذلك ما لا تعنيه كثيراً الشهادة الاولى بالنسبة له.
     وقد ثبت عن أبي سفيان أنّه قال للعباس لما رأى نيران المسلمين وكثرة عددهم : لقد اصبح ملك ابن أخيك عظيماً.
     فقال له العباس : ويحك! إنها النبوة.
     فقال : نعم إذن.
     وظل منظّر الفكر القرشي على هذه الوتيرة حتّى بعد وفاة النبي وخلافة الشيخين بل إن أبا محذورة كان يستحيي من الإباحة باسم رسول الله صلى الله عليه وآله من أهل مكّة ، إذ جاء في المبسوط للسرخسي ـ عند بيانه لسبب الترجيع في الأذان ـ قوله : ... وقيل أن أبا محذورة كان مؤذّن مكّة ، فلما انتهى إلى ذكر رسول الله خفض صوته استحياءً من أهل مكّة لأنّهم لم يعهدوا ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وآله بينهم جهراً ، ففرك رسول الله صلى الله عليه وآله أذنَهُ وأمره أن يعود فيرفع صوته ليكون تاديباً له..(1)
     فقد روي عن ابن عباس أنه قال : ... ولقد كنا في محفل فيه أبو سفيان وقد كف بصره وفينا علي صلوات الله عليه فأذن المؤذن فلما قال : أشهد ان محمداً رسول الله ، قال أبو سفيان : ها هنا من يحتشم ؟ قال واحد من القوم : لا . فقال : لله در أخي بني هاشم ، انظروا اين وضع اسمه ؟ فقال عليّ : أسخن الله عينك يا أبا سفيان ، الله فعل ذلك بقوله عز من قائل ( ورفعنا لك ذكرك ) فقال أبو سفيان : اسخن الله عين من قال لي ليس ها هنا من يحتشم (2) .
____________
(1) المبسوط للسرخسي 1 : 128.
(2) بحار الأنوار 18 : 107 ، 31 : 523 عن قصص الأنبياء بإسناده إلى الصدوق .