نعم ظلت نظرة قريش إلى النبيّ بعد البعثة مشوبة بهذا المنطق المزعوم مستغلين عطف النبي ورحمته صلى الله عليه وآله ، قال الواقدي : فكان سهيل بن عمرو يحدث فيقول : لما دخل محمّد صلى الله عليه وآله مكّة انقمعتُ فدخلتُ بيتي وأغلقته عليَّ ، وقلت لابني عبدالله بن سهيل : اذهب فاطلب لي جواراً من محمّد ، فإنّي لا آمن أن أقتل ، وجعلتُ أتذكّر أثري عنده وعند أصحابه فلا أرى أسوأ أثراً منّي ؛ فإنّي لقيته يوم الحديبية بما لم يلقه أحد به ، وكنت الذي كاتبه ، مع حضوري بدراً وأُحداً ، وكلّما تحركّت قريش كنت فيها.
     فذهب عبدالله بن سهيل إلى رسول الله ، فقال : يا رسول الله ، أبي تؤمّنه ؟
     قال : نعم ، هو آمن بأمان الله ، فليظهر ، ثمّ التفتَ إلى مَن حوله فقال : مَن لقي سهيل بن عمرو فلا يشدنّ النظر إليه ، ثمّ قال : قل له : فليخرج ، فلعمري إنّ سهيلاً له عقل وشرف ، وما مثل سهيل جهل الإسلام ، ولقد رأى ما كان يُوضَعُ فيه إن لم يكن له تتابع ، فخرج عبدالله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله صلى الله عليه وآله .
     فقال سهيل : كان والله برّاً صغيراً وكبيراً.
     وكان سهيل يقبل ويدبر غير خائف ، وخرج إلى خيبر مع النبيّ وهو على شركه حتّى أسلم بالجعرانة(1)...
     هكذا تعامل رسول الله مع المشركين والطلقاء ، لكنّهم أضمروا النفاق للرسول والرسالة فانضووا تحت لوائه كي يغدروا بالإسلام ، بل سعوا بكل قواهم لطمسه ودفنه.
     فقد جاء عن المغيرة أنّه طلب من معاوية ترك إيذاء بني هاشم ـ لمّا استقرّ له الأمر ـ لأنّه أبقى لذكره!!... فقال معاوية للمغيرة : هيهات! هيهات! أيّ ذكر
____________
(1) شرح نهج البلاغة 17 : 284.

( 107 )

أرجو بقاءه ؟! مَلَك أخو تيم فعدل ، وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل : أبو بكر.
     ثمَّ ملك أخو عديّ ، فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل : عمر.
     وإنَّ ابن أبي كبشة لَيصاح به كلّ يوم خمس مرَّات : « أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله » ، فأيّ عمل يبقى ؟ وأيّ ذكر يدوم بعد هذا! لا أباً لك! لا والله إلاّ دفناً دفناً(1).
     وجاء عن معاوية أنّه قال لما سمع المؤذّن يقول « أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله » : لله أبوك يا بن عبدالله! لقد كنتَ عالي الهمَّة ، ما رضيتَ لنفسك إلاّ أن يُقرَنَ اسمك باسم ربِّ العالمين(2)!
     ولا يستبعد هذا من معاوية وهو ابن أبي سفيان القائل لله درّ أخي بني هاشم . انظروا أين وضع اسمه ، والقائل : فوالذي يحلف به أبو سفيان.. لا جنَّة ولا نار(3) ، وهو الذي مرّ بقبر حمزة وضربه برجله ؛ وقال : يا أبا عمارة! إنَّ الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعّبون به(4)!
____________
(1) الأخبار الموفّقيّات للزبير بن بكّار : 576 ـ 577 ؛ مروج الذهب 4 : 41 ؛ النصائح الكافية : 123 ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5 : 130.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10 : 101. وفي المعمرين للسجستاني كما في النصائح الكافية : 126 سأل معاوية بن أبي سفيان يوماً امد بن لبد المعمر : فهل رايت محمداً . قال : من محمد ؟ قال معاوية : رسول الله . قال امد : ويحك افلا فخمته كما فخمه الله فقلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانظر كذلك كنز الفوائد : 261 وبحار الأنوار 33 : 276 .
(3) الاستيعاب 4 : 1679 ؛ الأغاني 6 : 371 ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 : 45 والنصّ عنه.
(4) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 16 : 136.

( 108 )

     وهو ابن هند آكلة كبد حمزة سيّد الشهداء(1) ، وهو أبو يزيد الذي هدم الكعبة(2) ، وقتل الحسين بن عليّ(3) وأباح المدينة لثلاثة أيّام(4) ، والذي سمّى المدينة الطيّبة بـ « الخبيثة » إرغاماً لأنوف أهل بيت النبيّ(5)!
     فمعاوية ـ ومن قبله أبوه صخر ـ كانا يتصوّران بأنّ النبيّ هو الذي أدرج اسمه في الأذان ، فقال أبو سفيان : لله در أخي بني هاشم ، انظروا اين وضع اسمه ، وقال ابنه معاوية : لله أبوك يا ابن عبدالله! لقد كنت عالي الهمَّة ، ما رضيت لنفسك إلاّ أن تقرن اسمك باسم ربِّ العالمين(6) ، وهل هذان القولان إلاّ وجهٌ آخر للرواية التي وُضِعت وادَّعت أنّ بلالاً كان يؤذن « أشهد ان لا إله إلاّ الله ، حيّ على الصلاة » فقال عمر : قل في إثرها « أشهد أنّ محمّداً رسول الله » ؟! وعنوا بذلك أنّ ذكر اسمه صلى الله عليه وآله في الأذان لم يكن من الله ، بل كان باقتراحٍ فقط!!
     وبعد هذا فلا يمكن تبرير فعل معاوية والقول بأنّه تعرّف على المصلحة أو
____________
(1) أُسد الغابة 2 : 47 ، الطبقات الكبرى 3 : 12.
(2) سبل الهدى والرشاد 1 : 223 ، مختصر تاريخ دمشق 7 : 191.
(3) تاريخ الطبري 5 : 400 ـ 467 ، وغيره من كتب التاريخ.
(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 259.
(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 : 238.
(6) وقد استمرت هذه الرؤية عند البعض بعد معاوية ، فروى المفضل بن عمر أنه سمع في مسجد الرسول صاحب ابن أبي العوجاء يقول له : ان محمداً استجاب له العقلاء وقد قرن اسمه باسم ناموسه [ أي الله جل وعلا ]..
     فقال ابن أبي العوجاء : دع ذكر محمد فقد تحير فيه عقلي وحدّثني عن الاصل الذي جاء به... « بحار الأنوار 4 : 18 ».
     ومثل ذلك ما حكاه رشاد خليفة عن جماعة ان تكرار الشهادة الثانية « أشهد أن محمداً رسول الله » بجنب الشهادة الاولى « أشهد ان لا إله إلاّ الله » يعد شركاً أكبر « انظر القرآن والحديث والإسلام : 38 ،41 ،43 وكتابه الآخر قران أم حديث : 20 ،33 ».

( 109 )

اجتهد قبال النص ، بل الأمر تجاوز ذلك ، ودخل في إطار تكذيب الرسالة ، وتهرئة أصل من أكبر أصول الشريعة ، وهو الاعتقاد بنبوة محمّد المصطفى.
     ومما يحتمل في الأمر هو أنّ هذه الرؤية تجاه ذكر اسم النبي في الأذان وأمثالها ، هي التي رسّخت فكرة كون الأذان مناماً ، وهي التي أقلقت الرسول المصطفى حتّى جعلته لا يُرى ضاحكاً بعد رؤياه التي رأى فيها الغاصبين ينزون على منبره نزو القردة .
     وليس من الصدفة في شيء الترابط الموجود بين أن يرى رسول الله الشجرة الملعونة في منامه وبين أن يُسفّه الأمويّون مسألة الرؤيا ، ويغرون الإسراء والمعراج إلى رؤيا لا تعدو كونها مناماً!
     الله جلّ وعلا ورفعه لذكر الرسول صلى الله عليه وآله
     هذا ، ونحن نعلم بأنّ الذي رفع ذكرَ الرسول هو الله في محكم كتابه ، وإليك أقوال بعض العلماء والمفّسرين لتقف على المقصود ، وأنّه أمر ربّاني ، وليس كما تصوره أبو سفيان ومعاوية والأمويّون ومن لف لفهم :
     قال الشافعي : أخبرنا ابن عيينة عن ابن نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( ورفَعنا لك ذِكرَك ) قال : لا أُذكَر إلاّ ذُكِرتَ معي « أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله »(1). يعني ـ والله أعلم ـ ذكره عند الإيمان والأذان ، ويحتمل ذكره عند تلاوة الكتاب وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.
____________
(1) الرسالة للإمام الشافعي : 16 ، المسند للإمام الشافعي : 233 ، المجموع 1 : 577 ، تلخيص وانظر : الحبير 3 : 435 ، تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني 3 : 437 ، وفي السنن الكبرى 3 : 209 ( باب ما يستدل به على وجوب ذكر النبيّ في الخطبة ) وبعد ذكره لقول الشافعي قال : ويذكر عن محمد بن كعب القرظي مثل ذلك. وانظر : فيض القدير شرح الجامع الصغير 1 : 28.

( 110 )

     وقال النووي في شرحه على مسلم ـ بعد ذكره المشهورَ عن الشافعي في رسالته ومسنده في تفسير قوله تعالى ( ورفعنا لك ذكرَك ) ـ : « وروينا هذا التفسير مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله عن جبرئيل عن ربّ العالمين... »(1).
     وفي مصنف ابن أبي شيبة الكوفي : حدّثنا ابن عيينة ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ( وإنّه لَذِكرٌ لكَ ولِقَومك وسوف تُسألون ) يقال : ممن هذا الرجل ؟
     فيقول : من العرب.
     فيقال : من أيّ العرب ؟
     فيقول : من قريش.
     ( ورفَعنا لك ذِكرَك ) لا أُذكرُ إلاّ ذكرتَ « أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله »(2).
     حدّثنا شريك بن عبدالله ، عن ابن شبرمة ، عن الحسن في قوله ( ألم نشرح لك صدرَك ) : أي مُلِئ حكماً وعلماً ( ووضعنا عنك وِزرَك * الذي أنقَضَ ظهَرك ) قال : ما أثقل الحمل الظهر ( ورفعنا لك ذِكرَك ) بلى لا يذكر إلاّ ذكرت معه...(3).
     وفي دفع الشبه عن الرسول للحصني الدمشقي في قوله تعالى : ( ورفعنا لك ذكرك ) قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : المراد الأذان والاقامة والتشهّد والخطبة على المنابر ، فلو أنّ عبداً عَبَد الله وصدّقه في كلّ شيء ولم يشهد أن محمّداً رسول الله لم يسمع منه ولم ينتفع بشيء وكان كافراً.
     وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : ثمّ إنّ النبيّ سأل جبرئيل عليه السلام
____________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 1 : 160 باب مقدّمة الصحيح.
(2) المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي 6 : 315 ، كتاب الفضائل ـ الحديث 31680.
(3) المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي 6 : 315 ، كتاب الفضائل ـ الحديث 31681.

( 111 )

عن هذه الآية(1) ، فقال : قال الله عزّوجلّ : اذا ذكرتُ ذُكِرتَ معي.
     وقال قتادة رضي الله عنه : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، وقيل : رفع ذكره بأخذ الميثاق على النبيين وألزمهم الإيمان به والإقرار به.
     وقيل ( ورفعنا لك ذِكرَك ) ليعرف المذنبون قدر رتبتك لديَّ ليتوسّلوا بك إليَّ فلا أردّ أحداً عن مسألته ، فأعطيه أياها إمّا عاجلاً وإمّا آجلاً ، ولا أخيّب من توسّل بك وإن كان كافراً(2).
     وقال ابن كثير في البداية والنهاية : ( ورفعنا لك ذكرك ) ، فليس خطيب ولاشفيع ولا صاحب صلاة إلاّ ينادي بها : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، فقرن الله اسمه باسمه في مشارق الأرض ومغاربها ، وذلك مفتاحاً للصلاة المفروضة ، ثمّ أورد حديث ابن لهيعة ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله في قوله ( ورفعنا لك ذكرك ) قال : قال جبرئيل : قال الله : إذا ذكرتُ ذكرتَ(3).
     وفي جامع البيان للطبري : حدّثنا ابن عبدالأعلى ، قال : حدّثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله ( ورفعنا لك ذِكرَك ) قال النبيّ صلى الله عليه وآله : ابدؤوا بالعبوديّة وثنّوا بالرسالة ، فقلت لمعمر : قال « أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده » فهو العبودية ، « ورسوله » أن تقول : عبده ورسوله.
     حدّثنا بشر ، قال : حدّثنا يزيد ، قال : حدّثنا سعيد ، عن قتادة ( ورفعنا لك ذكرَك ) : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا متشهّد ولا صاحب صلاة إلاّ ينادي بها : « أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشهد أن محمّداً رسول الله ».
____________
(1) آية ( ورفعنا لك ذكرك ).
(2) دفع الشبه عن الرسول للحصني الدمشقي : 134.
(3) البداية والنهاية 6 : 288 باب القول فيما أُعطي إدريس عليه السلام .

( 112 )

     حدّثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحرث ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله أنّه قال : أتاني جبرئيل فقال : إنّ ربّي وربّك يقول : كيف رفعت لك ذِكرك ؟ قال : الله أعلم.
     قال : إذا ذُكِرتُ ذُكِرتَ معي(1).
     وفي زاد المسير لابن الجوزي : قوله عزّوجلّ ( ورفعنا لك ذِكرَك ) فيه خمسة أقوال :
     أحدها : ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله أنّه سأل جبرئيل عن هذه الآية فقال : قال الله عزّوجلّ : إذا ذُكرتُ ذكرتَ معي ؛ قال قتادة : فليس خطيب ولا متشهّد ولا صاحب صلاة إلاّ يقول : « أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله » ، وهذا قول الجمهور.
     والثاني : رفعنا لك ذكرك بالنبوّة ؛ قاله يحيى بن سلام.
     والثالث : رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا ؛ حكاه الماوردي.
     والرابع : رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء.
     والخامس : بأخذ الميثاق لك على الأنبياء وإلزامهم الإيمان بك والإقرار بفضلك ؛ حكاهما الثعلبي(2).
     أهل البيت ورفع ذكر رسول الله
     ومن هذا المنطلق كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام يشيدون بهذه المفخرة ، ويجعلونها أكبر إرغام لأعداء النبيّ صلى الله عليه وآله وأعدائهم ، الذين أرادوا تحريف هذا الرفع للذكر وحطّه إلى مرتبة الأحلام والاقتراحات ، وأرادوا أن يطفئوا نور الله
____________
(1) تفسير الطبري 30 : 151.
(2) زاد المسير لابن الجوزي 8 : 272.

( 113 )

فأبى الله إلاّ أنّ يتمّ نوره.
يريد الجاحدون ليطفؤوه      ويأبى الله إلا أن يتمه
     ففي الندبة الرائعة ـ التي وجّهها إمام البلاغة عليّ بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة الزهراء إلى ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وآله ، حيث أرسل دموعه على خدّيه وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله ـ قال فيما قال :
سلامٌ عليك يا رسول الله سلام مودّعٍ لا سَئمٍ ولا قالٍ ، فإنْ أنصرف فلا عن مَلالة ، وإن أقِم فلا عن سوء ظنٍّ بما وَعَد الله الصابرين ، والصبرُ أيمنُ وأجمل ، ولو لا غلبة المستولين علينا لجعلتُ المقام عند قبرك لِزاماً ، واللَّبثَ عنده معكوفاً ، ولأَعولتُ إعوالَ الثكلى على جليل الرزيّة ، فبعينِ الله تُدفَنُ ابنتُك سرّاً... ولم يَطُل العهد ، ولم يخل منك الذّكر ، فإلى الله يا رسول الله المشتكى ، وفيك أجمل العزاء ، وصلوات الله عليك وعليها ورحمة الله وبركاته(1).
     وفي هذه الندبة التصريح بأنّ المستولين قلّلوا أو حاولوا التقليل من شأن الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته ، وذلك بعد وفاته مباشرة ولمّا يخلق الذكر ، وأنّ أمير المؤمنين علياً لو استطاع لجعل مقام رسول الله في محلّه الرفيع الذي وضعه الله فيه ، لكنّ الظروف القاسية التي كانت محيطة به لم تتح له الفرصة ، فقلّ ذكر النبيّ عند مَن اشتغلوا بمشاغل الدنيا وتركوا النبيّ وذكره أو كادوا ، وهذا ممّا جعل الإمام يقول : لجعلتُ المقام عند قبرك لزاماً ، واللبث عنده معكوفاً.
     وقد أشارت فاطمة الزهراء في خطبتها التي خطبتها في مسجد رسول
____________
(1) مصنّفات الشيخ المفيد 13 : 281 ـ 282 المجلس 33 ، ح 7 ، أمالي الطوسي : 110 ، الكافي 1 : 459 ، دلائل الإمامة 138.

( 114 )

الله صلى الله عليه وآله إلى هذه المسألة نفسها ، وأنّ هناك قوماً حاولوا إطفاء نور الله وخفض منزلة النبيّ صلى الله عليه وآله مع قرب العهد وحَداثة ارتحال النبيّ صلى الله عليه وآله ، فقالت :
فلمّا اختارَ اللهُ لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين... هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يُقبَر.... ثمّ أخذتم تورون وقدتَها ، وتهيجون جمرتَها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء أنوار الدين الجَليّ ، وإهمال سُنَن النبيّ الصفيّ(1)...
     ولذلك كانت تبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتقول : لقد أصبت بخير الآباء رسول الله صلى الله عليه وآله ، واشوقاه إلى رسول الله ، ثمّ انشأت تقول :
إذا مات يوماً ميّت قلّ ذكرُهُ      وذكر أبي مذ مات والله أكثر(2)
     وأشارت بذلك إلى أنّ الله سبحانه وتعالى رفع ذكر نبيّه في حياته ، وقدّر له أن يرفع بعد وفاته ، وإن ظنّ من ظَنَّ أنّه أبترُ إذا مات انقطع ذكره ، وارتدّ مَن ارتدّ لعروجه ومقارنة اسمه باسم ربّ العالمين ، وغضب من غضب وحاول عزو ذلك إلى أنّه من اقتراح عمر أو من النبيّ نفسه وأراد له السحق والدفن ، كلّ تلك المحاولات التحريفية باءت بالفشل وخلد ذكر النبيّ في الأذان والتشهد وفي كلّ موطن يذكر فيه اسم رب العالمين.
     ولو قرأت مقولة الإمام الحسن لمعاوية لما استنقص عليّاً وحاول الحطّ من ذكره لرأيت الأمر كذلك ؛ إذ قال له :
____________
(1) الاحتجاج : 101 ـ 102 والنصّ عنه. وانظرها في دلائل الإمامة : 114 ـ 118 ، وشرح نهج البلاغة 16 : 251.
(2) كفاية الأثر : 198 (باب ما جاء عن فاطمة من النصوص).

( 115 )

أيها الذاكر علياً ، انا الحسن وأبي عليّ وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند ، وجدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وجدّك حرب ، وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة ؛ فلعن الله أخمَلَنا ذِكراً ، وألأمنا حَسَباً ، وشَرّنا قدماً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً.
     فقال طوائف من أهل المسجد : آمين.
     قال فضل : فقال يحيى بن معين : ونحن نقول : آمين ، قال أبو عبيد : ونحن أيضاً نقول : آمين ، قال أبو الفرج : وأنا أقول : آمين(1).
     هذا وإن ماسأة كربلاء وقضية الإمام الحسين تؤكّد ما قلناه وأن الإمام خرج للإصلاح في أمة جدّه لما رأى التحريفات الواحدة تلو الآخرى تلصق بالدين ، وعرف بأنّهم يريدون ليطفئوا نور الله ورسوله.
     والعقيلة زينب قد أشارت إلى هذه الحقيقة عندما خاطبت يزيد بقولها :
« كد كيدك ، واسْعَ سعَيك ، واجهَد جهدك ، فوالله الذي شرّفنا بالوحي والكتاب والنبوّة والانتخاب لا تُدرِك أمدَنا ، ولا تَبلُغ غايتنا ، ولا تمحو ذكرنا ، ولا تُميتَ وحينا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فَنَد ، وأيامك إلاّ عَدَد ، وجمعك إلاّ بَدَد ، يوم ينادي المنادي : ألا لعنةُ الله على الظالم العادي... »(2)
     وكأنّ الإمام السجّاد عليّ بن الحسين أراد الإلماح إلى قضية الاختلافات الأذانيّة ، وعداء معاوية مع ذكر اسم النبيّ محمّد في الأذان ، حين عرّض بيزيد
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 70 والنص عنه ، الارشاد للمفيد 2 : 15 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 36 ، شرح نهج البلاغة 16 : 47 ، كشف الغمة 1 : 542.
(2) الاحتجاج 309 ، بحار الأنوار 45 : 135 ، اللهوف لابن طاووس ومثير الأحزان وغيرها.

( 116 )

لمّا أمرَ المؤذن أن يؤذّن ليقطع خطبة الإمام عليّ بن الحسين في مسجد دمشق..
     قالوا : قال الإمام عليّ بن الحسين : يا يزيد ، ائذَن لي حتّى أصعد هذه الأعواد... فأبى يزيد ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، ائذن له ليصعد فلعلّنا نسمع منه شيئاً ، فقال لهم : إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ، فقالوا : وما قَدرُ ما يُحسِن هذا ؟! فلم يزالوا به فإذن له بالصعود ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال :
أيّها الناس ، أُعطينا سِتّاً وفُضّلنا بسبع ، أُعطينا العلم والحلم... وفُضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّد ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأمّة وسيّدا شباب أهل الجنة ، فمَن عَرَفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي : انا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ... أنا ابن من حمِلَ على البراق في الهوا ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى ، أنا ابن من بَلَغ به جبرئيل إلى سِدرة المنتهى ، أنا ابن مَن دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمّد المصطفى...(1)
     قال : ولم يزل يقول : أنا أنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن تكون فتنة ، فأمر المؤذن أن يؤذّن فقطع عليه الكلام وسكت.
     فلمّا قال المؤذّن : « الله أكبر » قال علي بن الحسين : كبّرتَ كبيراً لا يقاس ،
____________
(1) كفاية الأثر 198.

( 117 )

ولا يُدرَك بالحواس ، ولا شيء أكبر من الله.
     فلما قال : « أشهد أن لا إله إلا الله » قال علي بن الحسين : شهد بها شعري وبَشري ولحمي ودمي ومخّي وعظمي.
     فلما قال : « أشهد أن محمداً رسول الله » التفت علي بن الحسين من أعلى المنبر إلى يزيد وقال : يا يزيد! محمدٌ هذا جدّي أم جدّك ؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت ، وإن قلت أنّه جدّي فلم قتلتَ عِترته(1) ؟
     وها هنا ثلاث ركائز مهمة في هذه الخطبة :
     أولّها : إن يزيد خاف أن يذكر الإمامُ السجّادُ فضائحَ يزيد ومعاوية وآل أبي سفيان ، مع أنّ الإمام في خطبته هذه لم يذكر صريحاً شرك أبي سفيان ولا معاوية ولا كونهما ملعونين ، كما لم يذكر هنداً وما كان منها في الجاهلية من سوء السيرة ، ولا ما كان من بقرها بطن حمزة ولا ولا... فكانت الفضيحة لهم ببيان الحقائق النيّرة ، وما حرّفه المحرّفون ، وبيان مقامات النبيّ وعترته.
     وثانيها : إنّ قسطاً مهمّاً من الخطبة انصبَّ على حقيقة الإسراء والمعراج ؛ إذ فيها العناية المتزايدة ببعض تفاصيلهما ، والتأكيد على أنّهما حقيقة عيانيّة بدنيّة كانت للنبيّ صلى الله عليه وآله ، لا أنّها رؤيا وحُلُم كما يدّعيه الأمويّون ، فكان الإسراء والمعراج فيهما رفع ذكر النبيّ وتشريع الأذان والصلاة ، وفيهما رفع ذكر آل النبيّ صلى الله عليه وآله تبعاً له.
     كما أنّ في الخطبة حقيقة أنّ عليّاً هو الصدّيق لا غيره ، وأنّ فاطمة سيّدة نساء العالمين ، لا كما حرّفوا من أنّ الصدّيق هو أبو بكر ، وأنّ اسمه على قائمة العرش ، مع أنّ الحقيقة هي أنّ عليّاً هو الصديق وأن اسمه مكتوب على العرش ـ كما سيأتيك بيانه لاحقاً ـ وأن الصدّيقة فاطمة الزهراء قد كذَّبت أبا بكر
____________
(1) مقتل الحسين للخوارزمي 69 ـ 71 ، والفتوح لابن أعثم 3 : 155.

( 118 )

الصديق!!! وقالت له : لقد جئت شيئاً فَريا (1) وكذا الإمام عليّ فانه كذب من ادعى الصدّيقية في أبي بكر بقوله : أنا عبدَالله وأخو رسوله ، وأنا الصدّيق الاكبر ، لا يقولها بعدي إلاّ كذاب مفتري ، لقد صليت قبل الناس بسبع سنين(2).
     وقال في آخر : أنا الصدّيق الأكبر ، والفاروق الأول ، أسلمت قبل إسلام أبي بكر ، وصليت قبل صلاته(3).
     وعن معاذة قالت : سمعت عليّاً وهو يخطب على منبر البصرة يقول : أنا الصدّيق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم [ أبو بكر ](4) ، فلا يعرفُ بعد هذا من هو الصادق ومن هو الكاذب ومن هو الصدّيق ومن هي الصدّيقة في قاموس القوم ؟ وقد مرّ عليك أنّ معاوية حرّف كلّ فضيلة لعليّ وجعلها في غيره.
     وثالثها : أنّ يزيد لمّا أمر المؤذّن بالأذان ليقطع كلام الإمام ، كان الإمام السجّاد يوضّح كلّ فقرة من فقرات الأذان ، مُعرِّضاً بمن يتلفّظون بألفاظه دون وعي لمفاهيمه ، وهو ما سنقوله لاحقاً من أنّه يحتوي على مفاهيم الإسلام ،
____________
(1) تثبيت الإمامة 30 ، بلاغات النساء 14 ، شرح نهج البلاغة 16 : 212 ،251 ، جواهر المطالب 1 : 161.
(2) مستدرك الحاكم 3 : 112 وقال : صحيح على شرط الشيخين وتلخيصه للذهبي ، وشرح نهج البلاغة 13 : 228 ، 1 : 30 ، سنن ابن ماجه 1 : 44 ح 120 قال في الزوائد : هذا اسناد صحيح ورجاله ثقات ، تاريخ الطبري 2 : 310 ، والآحاد والمثاني 1 : 148وغيرها.
(3) شرح نهج البلاغة 4 : 122 ،13 : 200 ، والمعارف لابن قتيبة 97. وفيه قال عليّ عليه السلام : أنا الصدّيق الأكبر آمنتُ قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر.
(4) شرح نهج البلاغة 13 : 228 ، وأنساب الاشراف بتحقيق المحمودي 146 ، الآحاد والمثاني 1 : 151 ، والمعارف لابن قتيبة 99.

( 119 )

وأنّه وجه الدين ، وأنّه ثبت بالوحي ، لا كما أرادوا تصويره بأنّه مجرّد إعلام قابل للزيادة والنقصان ، وُضع بأحلام واقتراحات من الصحابة!!
     وفي قول السجّاد عليه السلام « يا يزيد! محمّد هذا جدّي أم جدّك » بيان لارتفاع ذكر النبيّ وآله ، وأنّ الأمويّين لم يفلحوا في حذف اسمه من الأذان وإخماد ذكره ، ومحاولة إدراج اسم « أمير المؤمنين »(1)!!! معاوية في آخر الأذان ، وإن نجحوا ظاهريّاً في إخماد ثورة الحسين وقتله وقتل عترة النبيّ صلى الله عليه وآله .
     فالأذان المشرع من الوحي كان مفخرة آل النبيّ ، وبياناً لارتفاع ذكره وذكر آله ، لا كما قيل فيه من أنواع المختلقات.
     ويؤكد ذلك أنّه لمّا قدم عليّ بن الحسين بعد قتل أبيه الحسين عليه السلام إلى المدينة استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيدالله وقال :
يا عليّ بن الحسين ، مَن غَلَب ؟ وذلك على سبيل الشماتة
فقال له عليّ بن الحسين : إذا أردتَ أن تعلم من غَلَب ودخل وقت الصلاة فأذِّن ثمّ أقِم(2).
     وذلك أنّ ذكر الرسول المصطفى خُلّد في الأذان والإقامة رغم نصب الناصبين وعداء المعادين ، وبه خلود ذكر آل النبيّ صلى الله عليه وآله ، فيكونون هم الغالبين لا بنو أميّة ولا من غصبوا الحقوق وحرَّفوا المعالم عن سُنَنها ومجاريها.
     وفي العصر العباسي ، دخل الإمام عليّ الهادي عليه السلام يوماً على المتوكّل فقال له المتوكل : يا أبا الحسن مَن أشعر الناس ؟ ـ وكان قد سأل قبله عليّ بن الجهم ،
____________
(1) مر عليك قبل قليل قول السيوطي في كتاب الوسائل إلى معرفة الأوائل 26 : ان أوّل من أمر المؤذن أن يشعره ويناديه فيقول : السلام على أمير المؤمنين الصلاة يرحمك الله ، معاوية بن أبي سفيان.
(2) أمالي الطوسي 687 ـ 688 ، مجلس يوم الجمعة السابع من شعبان 457هـ .

( 120 )

فذكر شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام ـ فلما سأل الإمامَ قال : عليّ الحماني حيث يقول :
لقد فاخَرَتْنا من قريشٍ عصابةٌ      بمـط خدود  وامتـدادِ أصـابعِ
فلـمّا تَنازَعنا المقالَ قضى لنا      عليهم بمـا نهوى نداءُ الصَّوامعِ

     قال المتوكّل : وما نداء الصوامع يا أبا الحسن ؟ قال : « أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله » جدّي أم جدك ؟ فضحك المتوكل ثم قال : هو جدك لا ندفعك عنه(1).
ترانا سُكوتاً والشـهيدُ بفضلِنا      تراه جهير الصوتِ في كلِّ جامعِ
بانّ رسـولَ اللهِ  أحمـدَ جدُّنا      ونحـن بنوه كالنجومِ الطَّوالعِ(2)
     فكان الأذان وفيه اسم محمّد ، المرفوع ذكره ، المستتبع لرفع ذكر الأئمّة من أولاده(3) ، كان ذلك أكبر مفخرة للمسلم الحقيقي ، كما كان يؤذي أعداء الإسلام الذين ارتدوا بسبب المعراج ، ويؤذي من أرادوا جعل الأذان وفصوله أحلاماً واقتراحات ، ويؤذي معاوية الذي أرّقه ذكر اسم « محمّد » واقترانه باسم ربّ العالمين ، ويؤذي أولاد طلحة وقتلة الحسين عليه السلام ، كما كان يؤرق المتوكّل العباسي ، وكلّ رموز التحريف وأرباب الطموحات السلطويين ، وكلّهم من السلك القرشي المعادي لله وللرسول ولعترة الرسول صلوات الله عليهم أجمعين.
____________
(1) أمالي الطوسي 293.
(2) انظر : ديوان عليّ الحمّاني 81 ، ومناقب ابن شهرآشوب 4 : 406 وفيه : « عليهم »بدل : « تراه ».
(3) لأنّه صلى الله عليه وآله أمر أن لا يصلوا عليه الصلاة البتراء.

( 121 )

     القدرة الإلهيّة وفشل المخطّطات
     إن قريشاً سعت للوقوف أمام الدعوة ودأبت على طمس معالم الإسلام ، لكن الله أبى إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون ( يريدونَ أن يُطفئوا نُورَ اللهِ بأفواهِهم ويأبى اللهُ إلاّ أن يُتِمّ نُورَهُ ولو كَرِهَ الكافرون )(1).
     وقد مرّ عليك قول معاوية بن أبي سفيان : ( إلاّ دفناً دفناً ) في حين أن الله سبحانه وتعالى يقول : ( ورفعنا لك ذِكرَك ).
     وقال السدّي في تفسير قوله : ( إن شانئك هو الأبتر ) : كانت قريش يقولون لمن مات الذكور من أولاده : أبتر ، فلمّا مات ابنه صلى الله عليه وآله : القاسم ، وعبدالله بمكّة ، وإبراهيم بالمدينة ، قالوا : بُتِرَ ، فليس له من يقوم مقامه.
     ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّ عدوّه هو الموصوف بهذه الصفة ، فإنّا نرى أنّ نسل أولئك الكفرة قد انقطع ، ونسله عليه الصلاة والسلام يزداد كلّ يوم وينمو وهكذا إلى يوم القيامة(2).
فقد أشار الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى : ( إنا أعطيناك الكوثر ) إلى أن الكوثر : أولاده صلى الله عليه وآله ، قالوا : لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان.
فانظر كم قُتل من أهل البيت ، ثمّ العالَم ممتلئ منهم ، ولم يبقَ من بني أميّة في الدنيا أحد يُعبأ به.
ثمّ انظر كم فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق

____________
(1) التوبة : 32.
(2) التفسير الكبير 32 : 133.

( 122 )

والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكيّة وأمثالهم(1).
     وكان الأمويون يحسدون آل البيت على ما آتاهم الله من فضله ، وقد جاء في تفسير قوله تعالى : ( أم يحسدون الناسَ على... ) أنّها نزلت في عليّ عليه السلام وما خُصَّ به من العلم(2).
     وعن ابن عبّاس في قوله : ( أم يحسدون الناس ) قال : نحن الناس دون الناس(3).
     وعن محمّد بن جعفر في قوله : ( أم يحسدون الناس ) ، قال : نحن المحسودون ، وعن ابن عبّاس في قوله ( أم يحسدون الناس ) قال : نحن الناس المحسدون و « فضله » النبوة(4).
     فسبحانه جل شأنه رفع ذكرَ محمّد وآل محمّد بآيات التطهير والمودّة والمباهلة وسورة الدهر وبراءة وغيرها من السور والآيات الكثيرة ، ولو تدبّر المطالع في سورة الضحى لعرف نزولها في مدح النبيّ محمّد وأنّه جلّ شأنه ذكره بثلاثة أشياء تتعلق بنبوته ، منها : ( ولسوف يعطيكَ ربُّك فتَرضى ) وفي سورة ألم نشرح شرّفه بثلاثة أشياء أوّلها : ( ألم نشرح لك صدرك ) ، وثانيها : ( ووضعنا عنك وزرك * الذي انقض ظهرك ) ، وثالثها : ( ورفعنا لك ذكرك )(5).
     قال الإمام فخر الدين الرازي : جعل الله تعالى أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله مساوين له في خمسة أشياء :
أحدها : المحبة ؛ قال الله تعالى : ( فاتّبعوني يُحبِبكُم الله ) ، وقال

____________
(1) التفسير الكبير 32 : 124.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7 : 220.
(3) المعجم الكبير 11 : 146 ، مجمع الزوائد 7 : 6 والنص له.
(4) شواهد التنزيل 1 : 183.
(5) التفسير الكبير 32 : 118.

( 123 )

لأهل بيته ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ).
والثانية : تحريم الصدقة ؛ قال صلى الله عليه وآله : لا تحل الصدقة لمحمّد ولا لآل محمّد ، إنّما هي أوساخ الناس.
والثالثة : الطهارة ؛ قال الله تعالى : ( طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) أي يا طاهر ، وقال لأهل بيته : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ).
والرابعة : في السلام ؛ قال : « السلام عليك أيّها النبيّ » ، وقال لأهل بيته ( سلام على آل يس )(1).
والخامسة : في الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وعلى الآل في التشهّد(2).
     وبهذا فقد عرفنا ـ وعلى ضوء الصفحات السابقة ـ بأن المجتهدين كانوا وراء فكرة الرؤيا ، وأنّ رأسها الأمويون ، استغلوا ما طرح في عهد الصحابة لما يريدون القول به لاحقاً.
     فإنّ النصوص السابقة وضّحت لنا بأنّ الصحابة اقترحوا على رسول الله بأن يتخذ ناقوساً مثل ناقوس النصارى أو بوقاً مثل قرن اليهود ورسول الله لم يرضَ بذلك حتّى أُري عبدالله بن زيد أو غيره الأذان.
     وجاء في كتاب ( من لا يحضره الفقيه ) عن الإمام عليه السلام أنّه قال : كان اسم
____________
(1) قرأ نافع وابن عامر ويعقوب هذه الآية بفتح الهمزة ومدّها وقطع اللام من الياء كما في آل يعقوب ، « النشر في القراءات العشر 2 : 360 وتحبير التيسير : 170 » وللتأكيد أقر في مصحف المدينة النبوية برواية ورش عن نافع المدني والمطبوع في المملكة العربية السعودية صفحه 407 الآية : 130 من سورة الصافّات.
(2) انظر : نقل كلام الفخر الرازي في : نظم درر السمطين 240 ، والصواعق المحرقة 233 ـ 234 ، وينابيع المودّة 1 : 130 ـ 131 ، وجواهر العقدين 2 : 166.

( 124 )

النبيّ صلى الله عليه وآله يكرّر في الأذان ، فأوّل مَن حذفه ابن أروى(1). وهو عثمان بن عفّان.
     وهذا يتّفق مع ما قاله محمّد بن عليّ بن إبراهيم بن هاشم في كتاب العلل وهو يذكر علل فصول الأذان حتّى يقول : .... وقوله : ( حيّ على خير العمل ) أي حث على الولاية ، وعلّة أنّها خير العمل أن الأعمال كلّها بها تقبل.
     الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ، فألقى معاويةُ من آخر الأذان ( محمّد رسول الله ) فقال : أما يرضى محمّد أن يذكر في أوّل الأذان حتّى يذكر في آخره(2) »ِ.
     وقد مر عليك ما رواه عبدالرزاق عن إبراهيم من أنّ أوّل من أفرد الاقامة معاوية ، وقال مجاهد : كانت الاقامة مثنى كالأذان حتّى استخفه بعض أمراء الجور فافرده لحاجة لهم(3).
     بعد ذلك لا غرابة عليك في تصريح الصادق عليه السلام بأن الحكومات والنواصب
____________
(1) من لا يحضره الفقيه 1 : 299 ، كتاب الصلاة باب الأذان والإقامة.
(2) بحار الأنوار 81 : 170 ، عن العلل لابن هاشم ، وقد علّق المجلسي على كلامه بقوله : ... وكون الشهادة بالرسالة في آخر الأذان غريب ، ولم أره في غير هذا الكتاب.
     أقول : قد يكون المراد من الشهادة بالرسالة في آخر الأذان هو ما جاء في بعض الروايات من استحباب ذكر الرسول وجعله الوسيلة إلى الله في آخر الأذان ، وكلما سمع المسلم الشهادة بالنبوة في الأذان وغيره . وهذا ما حذفه معاوية ، قال الشرواني في حواشيه 3 : 54 (.. وصريح كلامهم أنّه لا يندب الصلاة على النبيّ بعد التكبير ، لكن العادة جارية بين الناس بإتيانها بها بعد تمام التكبير ، ولو قيل باستحبابها عملاً بظاهر ( ورفعنا لكَ ذِكرَك ) وعملاً بقولهم : إنّ معناه « لا أذكر إلاّ وتذكر معي » لم يكن بعيداً ، فتأمل.
(3) أبو الوفاء الأفغاني في تعليقته على كتاب الآثار 1 : 107 ، وانظر : المصنّف لعبد الرزاق 1 : 463/1793.