على خير العمل » بدعة ، وأكثر ما توصّلوا إليه أن يقولوا عنها : إنّ ذلك الأمر لم يثبت ، و : ما لم يثبت فمن الأولى تركه وعدم الإتيان به!
     ولكن ، هل مال جميع المسلمين إلى ذلك ؟
     أبداً ، فكثير من الصحابة وكل أهل البيت وعدّة من التابعين أصرّوا إصراراً شديداً على التمسّك بالإتيان بـ « حيّ على خير العمل » في أذانهم والتأكيد الحازم الجازم على شرعيّة الإتيان بها ، وأن ليس من عامل شرعيّ قطعيّ دعا إلى طرحها وإسقاطها.. وقد مرّت في مطاوي البحوث شواهد كثيرة تؤيِّد صحّة ذلك بموضوعية ، وقد كان هذا الفصل هو الموضّح لكيفية « تحوّل هذا الأصل الشرعيّ » إلى شعار يميّز الشيعة عن غيرهم ، وقد اتّضحت بين ثناياه الدوافع التي دعت أهل السنّة لأن يتّخذوا من ( الصلاة خير من النوم ) شعاراً لهم ، حيث كانت لهذه الجملة أبعادٌ متصلة باجتهاد الخليفة عمر!! لا سنة رسول الله.
     لقد تجسدت شعاريّة هذا الموضوع بوضوح في العصور المتأخِّرة ، ويمكن القول بأنّها تجلّت واضحة في العصر العبّاسيّ الأوّل(1) ، وعلى الخصوص في زمن أبي جعفر المنصور الدوانيقيّ ، كما وتجسّدت معالم شعاريّة « حيّ على خير العمل » بوضوح أيضاً بعد وفاة المنصور بعد أن صار جلياً وجود تيّارين متباينين ، أحدهما يصرّ بإلحاح جادّ على الإتيان بـ « حيّ على خير العمل » ، بينما يحاول الآخر منع ذلك بشتى الطرق ولا يرضى بالإتيان بها.
____________
(1) هي الفترة السياسيّة لخلافة بني العبّاس ؛ من خلافة أبي العبّاس السفّاح إلى خلافة الواثق بالله ، أي خلافة : أبي العبّاس السفّاح ، والمنصور الدوانيقيّ ، والمهدي العبّاسيّ ، والهادي العباسيّ ، وهارون الرشيد ، والأمين ، والمأمون ، والمعتصم ، وآخرهم الواثق بالله ، ومن بعد وفاته إلى الغزو المغوليّ لبغداد ، اصطلح عليه بين المؤرّخين بالعصر العبّاسيّ الثاني.
( 421 )

     وانطلاقاً من هذا الأساس المتشنّج كانت جميع الحركات الشيعيّة ودُولها في حال استلامها لزمام أُمور السياسة لا تتردّد في إعلاء « حيّ على خير العمل » من على المآذن في الأذان إعلاناً عن هويّتهم الحقيقيّة ، بل كان المدّ الجماهيري الشيعي في أحايين قوته يراهن على شرعيتها ، ولا يتنازل عن الهوية المحمدية العلوية.
     نعم ، يمكن القول بذلك على أساس اتّخاذ الشيعة « حيّ على خير العمل » شعاراً لهم ، وإن كانت هذه الحيعلة الثالثة جزءاً من الأذان النبوي ، فشرعيتها أقدم من تاريخ شعاريتها بكثير ، حيث هي مسألة شرعيّة ثابتة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد بيّنّا ذلك بما فيه الكفاية.
     وأمّا فيما يخصّ ذِكر أذان الإمام زين العابدين عليه السلام الثابت للجميع وليس ثمّة منكر له ، فله ميزة خاصّة ، وذلك لمكانته بين المسلمين عموماً ، فالإماميّة والزيديّة ، بل مختلف فرق الشيعة ـ باستثناء الكيسانية المنقرضة ـ تذعن له وتستسلم لأوامره ونواهيه الشرعيّة ، ويقرّون له عليه السلام بأنّه إمام للمسلمين وحجّة لله على خلقه ، وبالنسبة لباقي الفرق فهم يتعاملون معه كأحد علماء المدينة على أقل ما يقال .. فإتيان الإمام زين العابدين عليه السلام بـ « حيّ على خير العمل » يمثِّل ـ بلا ريب ـ شرعيّتها وامتداد جذورها إلى عصر الرسالة الأوّل ، وخصوصاً بعد وقوفنا على قوله عليه السلام « إنّه الأذان الأول » والذي يوضّح بأنّ الأذان شرّع في الإسراء والمعراج ، وأن « حيّ على خير العمل » ، إشارة إلى ولاية الإمام عليّ وولده ، والذي كتب على ساق العرش.
     وكذا الحال بالنسبة إلى فعل ابن عمر ، فإنّ إتيانه بها في أذانه ـ وهو فقيه أهل السنة والجماعة ـ ليؤكد شرعيتها ، ونحن لو أضفنا هذين الموردين إلى ما أورده الدسوقيّ في حاشيته عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأنّه كان يأتي بها ،


( 422 )

وإلى ما ذُكر عن الإمامين الباقر والصادق عليهم السلام ، لاتّضح لنا ولغيرنا بأنّ هذه المسألة لها أصل أصيل في الدين ، بل هناك أصل لما نقول به في كتب أهل السنة والجماعة مستقى عن رسول الله صلى الله عليه وآله بيقين.
     فـ « حيّ على خير العمل » أصلٌ من الأُصول الثابتة ، ذو جذور عريقة وراسخة تعود إلى عهد رسول الله ، وقد أتى بها الصحابة أيضاً ، إلاّ أنَّه قد دبّ الخلاف فيها منذ عهد عمر بن الخطّاب ، وهذا هو ما تثبته الأدلة والشواهد التاريخيّة والروائيّة ، إلاّ أنَّ التعصّب الأعمى دفع بالبعض دفاعاً عن اجتهاد عمر قبال السنّة النبويّة المباركة لأن يدّعي أنَّ الشيعة هم الذين أدخلوا هذه الروايات في كتبهم ، بل ودفع ذلك التعصب المقيت بالبعض الآخر لأن يدّعي ويزعم أنَّ كتبهم المعتبرة خالية من مثل هذه الروايات ، ولا ندري ما نقول لمن يريد إخفاء عين الشمس بغربال!
     ونحن لو دققنا النظر في مسألة نهي عمر بن الخطاب عن متعة الحج ومتعة النساء وحيّ على خير العمل ـ على ما أورده القوشجي في « شرح التجريد » ـ لانكشف لنا الترابط فيما بين هذه المسائل الثلاث ، وأنّ مسألة « حيّ على خير العمل » تعني ارتباطها بمسألة هامة ترتبط بصميم الخلافة والإمامة ، وهذا ما أثبتناه بالأرقام في الصفحات السابقة(1) ، وقد عرفت كيف تحوّلت الحيعلة الثالثة إلى شعار للطالبيين ولشيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ومحبّي الزهراء البتول عليها السلام عبر القرون ، وأنّ ثبات الشيعة عليها وتمسّكهم بها يمثّل بحثا استراتيجيّاً بين الفريقين وحدّاً فاصلاً بينهما ، ولعلّ ما روي عن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه السلام عن تبيان علّتي النهي الظاهرة والخفية ـ التي مرّ ذكرها ـ جاء للكشف عن النوايا والتوجّهات الحكومية التي أرادت أن تطمس أنَّ خير العمل
____________
(1) انظر : الفصل الثالث ( حيّ على خير العمل ، دعوة للولاية وبيان لاسباب حذفها ).
( 423 )

هو : « بر فاطمة وولدها ».
     وبعد أن بينا تعاريف « خير العمل » في روايات أهل البيت عليهم السلام سابقاً ، وانها تعني : « الولاية » و « بر فاطمة وولدها » ، نصل إلى أنّ نهي الخليفة يمثّل إعلاناً عن عدم الاعتناء ببر فاطمة ، وهو ما يعود بالنتيجة إلى الولاية والخلافة وأن عمر بن الخطاب لا يريد الإشارة إلى خلافة غيره ، بل إنه لا يريد الإشارة إلى كلّ ما يتعلق بها.
     وممّا يدعم هذا المعنى ما تنطوي عليه العقوبة التي فرضها عمر بن الخطاب على القائل بها ، فقوله ( أنهى عنها ) أو ( أُعاقِبُ عليها ) بمثابة اعتراف مبدئيّ منه بشرعيّة « حيّ على خير العمل » ، واعتراف ضمني على ما يجول في دواخله ، ولذلك فقد ربط نهيه عن « حيّ على خير العمل » بنهييه عن متعتَي النساء والحجّ ، اللَّذَيْنِ أكد الإمام عليّ وابن عبّاس ورعيل من الصحابة على شرعيتها ، بخلاف عمر والنهج الحاكم اللذين دعيا إلى تركها ، فترك هذه الثلاث عُمَرِيٌّ ، وأمّا لزوم الإتيان بها أو جوازه فهو علوي ، إذاً الأمر لم يكن اعتباطاً ، بل جاء لوجود رابطة وعلاقة متينة بين كلّ الأمور المنهيّ عنها.
     لقد ، بلغ النزاع حول المسألة المبحوثة أوجه في القرنين الرابع والخامس الهجريّين ، حيث إنّ الصراع الفكريّ والاعتقاديّ في تلك الفترة الزمنيّة قد اشتدّ كثيراً ، فسيطر على الشارع العامّ جوٌّ من الخلاف الحادّ بين الشيعة والسنّة ، كلٌّ يدّعي أنَّ الحقّ في جانبه ، ولم يصلا لقاسم مشترك يرضي الطرفين في محاولة للعودة إلى حالة الألفة وعدم التنازع ، فكلٌّ منهما متمسِّك بصلابة بما توصّل إليه ؛ هؤلاء بأئمتهم ، وأولئك بحكوماتهم.
     ولو ألقينا نظرة فاحصة على النصوص التي مرت في حوادث سنة 350 ـ 443هـ ، ودرسنا وضع شدّة النعرة الطائفية واستفحالها ، لشاهدنا بوضوح دور


( 424 )

مسألة « حيّ على خير العمل » الذي تزامن طرحها مع مسائل اعتقاديّة أُخرى بشكل لا يمكنك التفكيك بينها ، مثل مسألة الغدير ، ولبس السواد وما إلى ذلك. فلماذا يمنع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح ؟ ولماذا تقع الفتنة يوم الغدير ؟
     قال الذهبيّ في أحداث سنة 389هـ : ( كانت قد جرت عادة الشيعة في الكرخ وباب الطاق بنصب القباب وإظهار الزينة يوم الغدير ، والوقيد(1)في ليلته ، فأرادت السنّة أن تعمل في مقابلة هذا أشياء ، فادّعت أنَّ اليوم الثامن من يوم الغدير كان اليوم الذي حصل فيه النبيّ وأبو بكر في الغار ، فعملت فيه ما تعمل الشيعة في يوم الغدير ، وجعلت بإزاء يوم عاشوراء يوماً بعده بثمانية أيّام إلى مقتل مصعب ... )(2).
     فانظر إلى الأصالة والتحريف معاً ، وكيف تُغيّر الوقائع والأحداث عن مجرياتها وتحرّف عن أصالتها وتوضع باسم الآخرين!
     ومن الحوادث التاريخيّة التي برزت فيها شعاريّة « حيّ على خير العمل » كرمز للشيعة والتشيّع ما أورده ابن الجوزيّ في « المنتظم » في أحداث سنة 417 هـ ، وما جاء في « مرآة الجنان » في أحداث سنة 420هـ ، حيث ذكرا بإنّ الصراع والصدامات بين الشيعة والسنّة في بغداد كانت على أشدّها ، وقد حاول السنّة بشتّى الأساليب التجرُّؤ على مكانة الإمام عليّ عليه السلام الرفيعة السامية ، وبذلوا كلّ ما باستطاعتهم من النيل منه ومحاولة إسقاط مقامه الشامخ أمام أنظار العوامّ ، وعلى هذا الغرار فقد بعث القادر العبّاسيّ ظاهراً ـ أحد وعّاظه ـ إلى مسجد
____________
(1) أي إيقاد الشموع والقناديل والإضاءة.
(2) تاريخ الاسلام : 25 حوادث سنة 381 ـ 400هـ .

( 425 )

براثا(1) ـ مسجد الشيعة ـ في أحد أيّام الجُمَع ، وراح ينال من شخصية الإمام عليّ عليه السلام بكلّ ما لا يليق به لا من قريب ولا من بعيد ، الأمر الذي أثار الشيعة من الذين كانوا حاضرين في ذلك المسجد ، فلم يسكتوا على قباحة ذلك الخطيب ، وحدث لغط وثارت الحميّة الدينيّة ، فلم يكتفوا بالاعتراض اللفظيّ ، بل رموا ذلك الخطيب بكلّ ما كان قريباً من أيديهم فأصابوه وكسروا له أنفه(2) ، فكانت هذه الحادثة بمثابة الشرارة الاولى التي الهبت حالة الصـدامات فيما بين السـنّة والشيعة في بغداد في تلك السـنة ، وعلى أثر ذلك فقد كتب الشيعة على أبواب دورهم هذه العبارة : ( محمّد وعليّ خير البشر ، فَمَن رضى فقد شكر ، ومَن أبى فقد كفر ).
     ومن خلال هذه الحادثة ومثيلاتها التي حدثت في بغداد على مرّ الأيّام يظهر لنا أنَّ « حيّ على خير العمل » أصبحت تُمَثِّل شعاراً للشيعة ، لأنَّ ديدن الجميع هو التأكيد والتركيز عليها ، وعدم التنازل عنها وذلك للاعتقاد الجازم بجزئيّتها ، بخلاف الحكومات التي خافت منها ومن معناها ومغزاها فدأبت على حذفها ، ولهذا يقول صاحب السيرة الحلبيّة : ( إنَّ الرافضة لم يتركوا « حيّ
____________
(1) ومسجد براثا من المساجد العريقة والقديمة جدّاً ، وكان يومذاك بمثابة معقل الشيعة وحصنهم الحصين ، وتخرّج منه الكثير من الرجال الذين دخلوا تاريخ عالَم التشيّع ، حتّى قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية 11 : 271 حوادث سنة 354هـ ، إنّه : ( عشّ الرافضة ) ، وكان ابن عقدة يعطي دروسه فيه ، ونقل عنه أنّه كان حافظاً لستمائة ألف حديث ، ثلاثمائة ألف حديث منها كانت في فضائل أهل البيت عليهم السلام ، هذا مضافاً إلى إيواء المسجد لعدد كبير من علماء الشيعة ، وكانوا على درجة عالية من الوعي والصلابة في الدين ، جعلت من أحد النواصب لأن يسمّيه بغضاً وتعنتاً بـ ( مسجد ضرار ) انظر البداية والنهاية 11 : 173.
(2) البداية والنهاية 12 : 28 ـ 29 حوادث سنة 420هـ .

( 426 )

على خير العمل » أيّام البويهيّين إلى أن تملّك السـلجوقـيّين سـنة 448هـ ، فألزموهـم بالتـرك وإبـدالها بالصـلاة خير من النـوم )(1).
     وقد مرّ عليك تحت عنوان ( مكّة / حلب 462هـ ) كيف أن نقيب النقباء أبو الفوارس لمّا أبلغ القائم بأمر الله بأن محمود بن صالح [ والي حلب ] لبس الخلع القائمية وخطب للقائم.
قال له القائم : أيّ شيء تساوي خطبتهم وهم يؤذنون « حيّ على خير العمل »(2) ؟!
     كما وقفت على المناظرة الطويلة التي ناظرها أبي هاشم أمير مكّة وقوله لهم :
هذا أذان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(3).
     إذَنْ ، فقد قيّد التاريخ بين صفحاته بأنّ « حيّ على خير العمل » كانت شعاراً للشيعة على مرّ العصور ، ومؤشِّراً على تشيِّع حكومات وحركات ثورية عديدة ، مضافاً إلى الإجماع القاطع عليها من قَبِل أهل البيت ، وقد مرّ عليك أنّ حجّة شرعيّتها هو إجماع أهل البيت على الإتيان بها ، وقد نوه الشوكانيّ والأمير الصنعانيّ وغيرهما إلى حجية إجماع أهل البيت.
     ومن المؤثّرات الأُخرى التي يمكن لنا أن نجعلها دليلاً شاخصاً على شعاريّة « حيّ على خير العمل » للشيعة هو ما كُتِب على المساجد والحسينيّات والتكايا القديمة ، التي هي اليوم من المعالَم الأثريّة والحضاريّة للمسلمين في مختلف بقاع العالَم ، وحتّى حديثاً فقد ذكر مؤلف كتاب تاريخ مسجد الكوفة ، بأنَّ أمجد عليّ شاه أمر بكتابة « محمّد وعليّ خير البشر ، فمَن رضى فقد شكر ،
____________
(1) انظر السيرة الحلبيّة 2 : 305.
(2) الكامل 10 : 64.
(3) النجوم الزاهرة 5 : 92.

( 427 )

ومَن أبى فقد كفر » على مأذنة مسجد الكوفة ، وكذا الحال في روضة مسلم بن عقيل(1) ، كما يمكننا ملاحظة شعاريّة « حيّ على خير العمل » في آثار شمال أفريقيّا التاريخيّة في المغرب والجزائر وتونس ، إذ انتشر التشيّع هناك بعد شهادة محمّد بن عبدالله بن الحسن ذي النفس الزكيّة ، وذلك بعد أن تفرّق الشيعة في مختلف أرجاء المعمورة ، وراحوا يتنفسون الصعداء بعيداً عن سطوة الحكومات الجائرة.
     وبهذا فقد ثبت لك مما سبق وجود اتجاهين عند المسلمين :
     أحدهما : يتبع الخلفاء ويتّخذ الاجتهاد والرأي حتى على حساب القرآن والسنة في استنباطه.
     والآخر : يأخذ بكـلام أهل البـيت والنص القـرآني والنبـوي ولا يرتضي الرأي.
     وكان الاتجاهان على تضاد فيما بينهما ، فالذي لا يرتضي خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب وولده لا يحبذ شعارية ( حيّ على خير العمل ).
     أمّا الذي يعتقد بشرعية خلافة الأوصياء ، ويفهم من الحيعلة الثالثة أنّها دعوة إلى بر فاطمة وولدها الذين هم خير البرية بصريح الكتاب العزيز ـ أي
____________
(1) قال الشيخ محمد رضا المظفر في ترجمته لصاحب جواهر الكلام الشيخ محمد حسن النجفي : ومن آثار الشيخ بناء مأذنة مسجد الكوفة وروضة مسلم بن عقيل... وكان ذلك ببذل ملك الهند أمجد علي شاه وقد أرخ الشيخ ابراهيم صادق ذلك من قصيدة مدح بها الشيخ والملك هذا ، فقال مؤرخاً للمأذنة في آخرها : .
واستنار الافق من مأذنه      أذن الله بأن ترقى زحل
لهج الذاكر في تأريخها      علناً حيّ على خير العمل
     جواهر الكلام 1 : 21.

( 428 )

محمّد وعليّ والزهراء والحسن والحسين ـ فيصر على شعاريتها وإن كلفه ذلك الغالي النفيس.
     وليس من الاعتباط أن نجد ارتباطاً تاريخياً بين القول بإمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب والقول بشرعية الحيعلة الثالثة ، وبين رفض إمامة أمير المؤمنين والقول برفع الحيعلة الثالثة ، فهي إذن تمثّل أهمّ المسائل الفارقة بين نهج التعبد المحض ، وبين نهج الاجتهاد والرأي.
     إنّ ما تنطوي عليه الحيعلة الثالثة من حقيقة الإمامة حينما دخلت الصراع يكشف بلا ريب عن أنّ حلبة هذا الصراع أكبر من كونها نزاعاً حول فصل من فصول الأذان ، وما ( حيّ على خير العمل ) إلاّ نافذة من تلك النوافذ الكثيرة المعبرة عن أصالة نهج التعبد المحض ، شأنها في ذلك شأن التكبير على الجنائز خمساً أو أربعاً ، وحكم الأرجل في الوضوء هل هو المسح أو الغسل ، والقول بمشروعية المتعة وعدمه ، والإرسال أو القبض في الصلاة ، والتختم في اليمين أو الشمال ، والجهر بالبسملة أو إخفاتها ، وعدم شرعية صلاة التراويح والضحى أو شرعيتها ، وحرمة شرب الفقاع وأكل السمك الذي لا قشر له أو حليتهما ، وجواز لبس السواد في محرم والاحتفال بيوم الغدير أو بدعيتهما وإجراء أحكام المواريث والمناكح طبق هذا المذهب أو ذاك و...
     فكل هذه المفردات تشير إلى وجود نهج يخالف الحكام وما سنوه من سنن تخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فندرة وجود ما يؤيد هذا النهج في مدرسة الخلفاء لا يخدش في شرعيتها ، بل يؤكّد أصالتها ، وإنّ ثبوتها وبعد أربعة عشر قرناً ـ رغم كلّ الظروف التي مرت بها ـ ليؤكّد ارتباطها واستقاءها من أهل البيت ، وهو الآخر قد وضح لك سر الاختلاف في الوضوء والأذان وغيرها من عشرات المسائل التي اختلف فيها المسلمون والتي لم يذكرها ابن حزم وغيره .


( 429 )

     هذا ومما يجب التأكيد عليه هنا هو : أننا حينما نتخذ بعض الحكّام فاطميين كانوا أم عباسيين كنماذج للنهجين لا نريد أن نعتبرهم القدوة والأسوة ، مادحين هذا أو ماسّين بذاك ، فلا يحق لنا أن نسقط تصوّراتنا على هذا المذهب أو ذاك طبق ما عرفناه من أعمال هذا الحاكم أو ذاك ، فهؤلاء أناس لهم سلوكياتهم وتصرفاتهم ، وكلّ ما في الأمر أنهم يلتزمون نهجاً خاصاً ، فقد يكونون متعبدين بما عرفوه من ذلك النهج ، وقد يكونون متجاوزين على أصوله غير عاملين بأوامره ، فلا يمكن القول بأنّ كلّ حكام هذا الفريق كذا ، وحكام ذاك الفريق كذا ، لأن بعض هؤلاء تخطَّوا الموازين ، كما تخطى الطـرف الآخر كذلك ، لكنّ ما نريد بيانه في هذا الفصل هو وجود اتجاه ـ ين عند المسـلمين دون النظر إلى سلوكيات الأفراد والحكومات.


( 430 )



( 431 )

     الخلاصة

     تلخص ممّا سبق عدة اُمور :
     أحدها : شرعية « حيّ على خير العمل » ؛ وذلك لاتفاق الفريقين على اصل مشروعيتها ، وانفراد أهل السنة والجماعة بدعوى النسخ ، وقد اثبتنا عدم وقوع النسخ ، ناقلين كلامَ السيد المرتضى :
وقد روت العامة أنّ ذلك ممّا كان يقال في بعض أيام النبيّ صلى الله عليه وآله ، وإنّما ادّعي أنّ ذلك نسخ ورفع ، وعلى من ادعى النسخ الدلالة له ، وما يجدها(1).
     وتأذينَ أكثر من ثلاثين رجل من أهل البيت والصحابة بها ، بل وضّحنا إجماع العترة على ذلك ، حاكين في البين ما نقل عن الشافعي وبعض ائمّة المذاهب الأربعة من القول بجزئيتها.
     ثمّ عرجنا في الفصل الثاني لبيان سقوطها على عهد عمر بن الخطّاب ، متسائلين عن موقف بلال الحبشي في الحيعلة الثالثة والصلاة خير من النوم ، وهل أنّه أذن للشيخين أم لا ؟ بل ما هو موقفه اتجاه أهل البيت ، وما موقف أهل البيت اتجاهه ؟ وقد توصلنا إلى كونه لم يؤذن إلاّ للزهراء والحسنين ، وأنّ
____________
(1) الانتصار : 39.
( 432 )

خروجه إلى الشام كان اعتراضاً على السياسة الحاكمة.
     هذا وقد تكلمنا في الفصل الثالث عن معنى « حيّ على خير العمل » وأنّها دعوة إلى الولاية ، مبينين الأسباب التي دعت عمر بن الخطاب لحذفها ، مشيرين إلى بعض العلل الخفية في هذا الأمر ، موضحين ذلك من خلال القرآن المجيد والسنة المطهرة وكلام الإمام الكاظم عليه السلام .
     أمّا الكلام في الفصل الرابع فكان عن تاريخها العقائدي والسياسي وما حدث في بغداد وغيرها من الفتن ، مشيرين إلى التأذين بها في حلب ، وبغداد ، ومصر ، وحمص ، والاندلس ، والهند ، وإيران ، ومكّة ، والمدينة ، واليمامة ، والقطيف ، و... على مر العصور والأيّام.
     كلّ ذلك ضمن بياننا للسير التاريخي للأحداث ، والدول التي حكمت البلدان ، فاطمية كانت أم عباسية ، بويهية كانت أم سلجوقية و.. مؤكدين بأن الحيعلة الثالثة ما هي إلاّ نافذة من النوافذ الكثيرة في التاريخ والشريعة كالجهر بالبسملة والجمع بين الصلاتين وعدم جواز المسح على الخفين و... والمشيرة إلى وجود اتجاهين بعد رسول الله : أحدهما أتباع أهل البيت ، والآخر أتباع الخلفاء ، وأن « حيّ على خير العمل » كانت شعار الشيعة والطالبيين على مر الدهور ، وكان حذفها وإبدالها بـ « الصلاة خير من النوم » شعار أهل السنة والجماعة.
     وبهذا فقد انتهينا من بيان الباب الأول من هذه الدراسة على أمل أن نلتقي بالقارئ الكريم عند البابين الآخرين منها :
     الباب الثاني : « الصلاة خير من النوم ، شرعة أم بدعة ».
     والباب الثالث : « أشهد أن عليّاً ولي الله ، بين الشرعية والابتداع ».
     نسأل الله أن يوفقنا لإكمالهما وإتمامهما بفضله ومنّه ، آمين رب العالمين.


( 433 )

     وفي الختام

     لابد لي أن أشكر كلّ من سايرني في هذه الرحلة الفكرية العقائدية المضنية ، سواء قرأ لي ، أو أشار عليّ بنكتة علمية ، أو لفتة أدبية ، أو ملاحظة فنية ، أو تخريجة ما ، وأخص بالذكر الباحثين الجليلين : الاستاذ الشاعر الشيخ قيس العطار ، والاخ الفاضل إبراهيم رفاعة لقرائتهما الكتاب وابدائهما بعض الملاحظات القيمة.
     وكذلك اشكر الأخ الفاضل سمير الكرماني الذي ضبط لي النصوص ووحّد المصادر وطبعاتها ، ثمّ اعداده الفهرس النهائي للكتاب. فللَّه درهم وعليه أجرهم.
     وأخيراً آمل من إخواني العلماء ومن يعنيه أمر الفكر والعقيدة أن يتحفوني بآرائهم حول الكتاب سلباً أو إيجاباً وصحّة أو سقماً ، ولهم منّا الشكر في كلتي الحالتين ، فإن وافقونا فسنستمد العزم لمواصلة الطريق ، وإن خالفونا فسنستفيد من آرائهم ونجعلها نصب أعيننا في بحوثنا المقبلة إن شاء الله تعالى.

اللّهم أرنا الحقَّ حقّاً فنتّبعه ، والباطل باطلاً فنجتنبه ، واجعل هوانا في طاعتك وطاعة نبيك وأوليائك المخلَصين ، واهدنا لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللّهم عرّفنا ما نجهل من كتابك ، وعلّمنا ما لا نعلم من سنّة نبيّك ، وبصّرنا بما لا نبصر من أسرار حكمك ، واجعلنا أبراراً أتقياء برحمتك يا أرحم الراحمين ، آمين ربَّ العالمين.


( 434 )



( 435 )

ثبت المصادر

     1 ـ القرآن الكريم
     2 ـ اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمّة الفاطميين الخلفاء 1/3 ( رحلي )
     للمقريزي ، أحمد بن عليّ ، تقي الدين أبي العبّاس ( ت 845هـ )
     تحقيق : الدكتور محمّد حلمي محمّد أحمد ، والدكتور جمال الدين الشيال
     نشر : لجنة إحياء التراث الإسلامي ، المجلس الاعلى للشئون الامية / مصر
     3 ـ الآثار 1/2
     للشيباني ، محمّد بن الحسن ، أبي عبدالله ( ت 189هـ )
     صحّحه وعلق عليه : أبو الوفاء الافغاني
     نشر : دار الكتب العلمية ـ بيروت
     الطبعة الثانية 1413هـ ـ 1993 م
     4 ـ الآحاد والمثاني
     لابن أبي عاصم ( ت 287هـ )
     تحقيق : باسم فيصل أحمد الجوابرة
     نشر : دار الدراية
     الطبعة الأولى 1411هـ ـ 1991 م


( 436 )

     5 ـ الاحاديث المختارة
     للمقدسي الحنبلي ، محمّد بن عبدالواحد بن أحمد ، أبي عبدالله ( ت 643هـ )
     تحقيق : عبدالملك بن عبدالله بن دهيش
     نشر : مكتبة النهضة الحديثة ـ مكّة المكرمة
     الطبعة الأولى 1410هـ
     6 ـ الاحتجاج 1/2 ( في مجلد )
     للطبرسي ، أحمد بن عليّ بن أبي طالب ، أبي منصور ( من اعلام القرن السادس الهجري )
     تعليق وملاحظات : السيّد محمّد باقر الموسوي الخرسان
     منشورات : مؤسسة الأعلمي للمطبوعات / بيروت
     الطبعة الثانية 1403هـ ـ 1983 م
     7 ـ أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم
     للمقدسـي ، محمـد بن أحمـد بن أبي بكـر ، شـمس الديـن ، أبي عبدالله ( ت 414 هـ )
     طبع في مدينة ليدن بمطبعة بريل سنة 1904 م
     اُوفسيت دار صادر ـ بيروت
     8 ـ احقاق الحق وازهاق الباطل 1/32
     للتستري ، القاضي نور الله الحسيني المرعشي ( ت 1019هـ )
     مع ملحقات السيّد المرعشي النجفي
     نشر : مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي ، قم ـ إيران


( 437 )

     9 ـ الإحكام في أصول الأحكام 1/8 ( في مجلدين )
     لابن حزم الاندلسي الظاهري ، عليّ بن أحمد بن سعيد ، أبي محمّد ( ت 456هـ )
     تحقيق : لجنة من العلماء
     نشر : دار الجيل ، بيروت ـ لبنان
     الطبعة الثانية 1407هـ ـ 1987 م
     10 ـ الاحكام في الحلال والحرام
     للإمام الهادي إلى الحق ، يحيى بن الحسين الحسيني الحسني ( ت 566هـ )
     نشر : دار التراث اليمني
     الطبعة الأولى
     11 ـ الأخبار الموفقيات
     للزبير بن بكار ( ت 256هـ )
     تحقيق : الدكتور سامي مكي العاني
     نشر : منشورات الشريف الرضي
     طبع : مطبعة أمير ـ قم ـ إيران
     الطبعة الاولى 1416هـ
     12 ـ أخبار بني عبيد = أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم
     لابن حماد ، محمّد بن عليّ بن حماد ، أبي عبدالله ( ت 628هـ )
     تحقيق : التهامي نقرة ـ عبدالحليم عويس
     نشر : دار الصحوة ـ القاهرة
     الطبعة الاولى 1401هـ


( 438 )

     13 ـ الاختصاص
     للمفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي ، أبي عبدالله ( ت 413هـ )
     تحقيق : الأستاذ عليّ أكبر غفاري
     نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ، قم ـ إيران
     14 ـ الأذان بحي على خير العمل
     للعلوي ، محمّد بن عليّ بن الحسن ، أبي عبدالله (ت 445هـ )
     تحقيق : محمّد يحيى سالم عزان
     نشر : مركز النور للدراسات والبحوث والتحقيق ـ صعدة ـ اليمن
     الطبعة الثانية 1416هـ ـ 1995 م
     وطبعة ثانية :
     بتحقيق : يحيى عبدالكريم الفضيل
     نشر : المكتبة الوطنية
     الطبعة الأولى 1399هـ ـ 1979 م
     15 ـ الاربعون حديثاً في إثبات إمامة أمير المؤمنين
     للبحراني ، سليمان بن عبدالله الماحوزي ( ت 1121هـ )
     تحقيق : السيّد مهدي الرجائي
     نشر : المحقق ـ قم ـ إيران
     الطبعة الاولى 1417هـ
     16 ـ ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري
     للقسطلاني ، أحمد بن محمّد ، شهاب الدين ، أبي العبّاس (ت 923هـ )


( 439 )

     اوفسيت دار إحياء التراث العربي ـ بيروت
     17 ـ الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1/2
     للمفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي ، أبي عبدالله ( ت 413هـ )
     تحقيق : مؤسسة آل البيت
     الطبعة الثانية 1416هـ قم ـ إيران
     18 ـ إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل
     للألباني ، محمّد ناصر ( معاصر )
     تحقيق : زهير الشاويش
     نشر : المكتب الإسلامي ـ بيروت
     الطبعة الثانية 1405هـ ـ 1985 م
     19 ـ الاستبصار 1/4
     للطوسي : محمّد بن الحسن ، أبي جعفر ( ت 460هـ )
     تحقيق : السيّد حسن الموسوي
     نشر : دار الكتب الإسلاميّة ـ طهران
     الطبعة الرابعة
     20 ـ الاستيعاب في معرفة الاصحاب 1/4
     لابن عبدالبر ، يوسف بن عبدالله بن محمّد بن عبدالبر ، أبي عمر ( ت 368 ـ 463هـ )
     تحقيق : عليّ محمّد البجاوي
     نشر : دار نهضة مصر للطبع والنشر ـ القاهرة ـ مصر