بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله ذي القدرة والجلال ، والرفعة والكال ، الذي عٌم عباده بالفضل والاحسان ، وميّزهم بالعقول والأذهان ، وشرّفهم بالعلوم ومكّن لهم الدليل والبرهان ، وهداهم إلى معرفة الحق والصواب ، بمانزّل من الوحي والكتاب ، الذي جاء به أفضل أوولي العزم الكرام ، مولانا وسيدنا محمد بن عبداللّه خاتم النبيين وأشرف العالمين صلّى اللهّ عليه وعلى الأطايب من عترته ، ذوي الفضائل والمناقب ، حجج اللّه على كافة المسلمين ، الهادين المهديين ، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون .
يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه (الحسن بن أبي الحسن الديلمي) أعانه الله على طاعته ، وتغمّده برأفته ورحمته : انني حيث بليت بدارالغربة، وفقدت الأنيس الصالح في الوحشة، وحملتني معرفة الناس على الوحدة، خفت على ما عساه حفظته من الاداب الدينية والعلوم العلوية- وهو قليل من كثير، ويسيرمن كبير- أن يشذ عن خاطري ، ويزول عن ناظري - لعدم المذاكر- اثبت ما سنح لي إيراده ، وسهل علي اسناده ، ليكون لي تذكرة وعدة، ولمن يقف عليه بعدي تبصرة وعبرة وفق اللّه المراعاة له والعمل به ، وجعله خالصآَ لوجهه الكريم ، وموجباً لثوابه الجزيل العظيم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
فأول ما أبدأ به ذكر المعارف باللّه تعالى وبرسوله صلى، اللّه عليه وآله وحججه من بعده ، وما يجوزعليه وعليهم وما لا يجوز.
(34)
ثم اثني بذكرفضل العالم والعلوم ، وما يتبع ذلك من العلوم الدينية والآداب الدنيائية، ولم ألتزم ذكر سندها، لشهرتها عند العلماء في كتبها ألمصنفة المروية عن مشايخنا- رحمهم الله تعالى - وأحلْتُ في ذلك على كتبهم وأسانيدهم ،إلاّ ما شذ عني من ذلك فلم أذكر إلآ فص (1) القول .
وسميت هذا الكتاب كتاب (أعلام الدين في صفات المؤمنين وكنزعلوم العارفين) فحق على ، من وقف عليه ، واستفاد به ، أن يدعو لمصنفه ، ويترحّم عليه ، ويدع الهوى والميل في إعابة شيء منه ، فإنه يشتمل على ترك الدنيا والرغبة في الآخرة، حسب ما يأتي ذكره وتفصيله .
____________
1 - فص الأمر: حقيقته ، يقال : أنا آتيك بالأمر من فصه ، يعني من مخرجه الذي قد خرج منه (لسان العرب - فصص -7: 66).
(35)
فصل
«في الدليل على حدث الإنسان وإثبات محدثه»
أقرب ما يستدل به الإنسان على حدثه وإثبات محدثه ، ما يراه من حاله وتغيره الواقع بغير اختياره وقصده ، كالزيادة والنقص المعترضين في جسمه وحسه ، و[ما](1) يتعاقب عليه من صحته وسقمه ، وينتقل إليه من شيبته وهرمه ، وأنه لايدفع فيه من ذلك طارئاً موجودا ولايعيد ماضيها مفقوداً، لو نقصت منه جارحة لم يقدرعلى التعويض منها، ولا يستطيع الاستغناء في الادراك بغيرها عنها، لا يعلم غيب أمره ، ولايتحقق مبلغ عمره ، وقُدَر(2) متناهية، وبنية ضعيفة واهية.
فيعلم بذلك أن له مصوراً صوّره ، ومدبرا دبّره لأن التصوير والتدبيرفعلان لم يحدثهما الانسان لنفسه ، ولا كانا بقدرته ، والفعل فلابد له من فاعل ، كما أن الكتابة لاغنى بها عن كاتب .
ثم يعلم ان مصوّره صانعه ومحدثه ، وأن مدبره خالقه وموجده ، لأنه لايصح وجوده إلاّ مصوراً مدبراً .
ثم يعلم أيضاً ان محدثه قادر، إذ كان لايصح الفعل من عاجز.
ويعلم أنه حكيم عالم ، لأن الأفعال المحكمة لاتقع إلاّ من عالم .
ثم يعلم أنه واحد، إذ لوكان اثنين لجاز اختلاف مراديهما فيه ، بأن يريد أحدهما أن يميته ، ويريد الاخر أن يحييه ، فيؤدي ذلك إلى وجود المحال ، وكونه ميتاً حيا في حال ، أوإلى انتفاء الحالين وتمانع المرادين ، فيبطل ذلك أيضاً ويستحيل ، وهذا يبيّن أن صانعه واحد ليس باثنين .
ويعلم أنه لايجوزعلى محدثه النقص والتغيير، وما هو جائز على المحدثين ، لإن في جوازذلك عليه مشابهة للمصنوعين ، وهو يقتضي وجود صانع له أحدثه وصوّره ودبّره ،إمّا محدث مثله أو قديم ،وفي استحالة تَنقّل ذلك إلى ما لا يتناهى ، دلالة على أن صانعه قديم .
____________
1ـ أثبتناه لضرورة السياق.
2ـ قدٌر : جمع قدرة .

(36)
ويعلم بمشابهة حال غيره لحاله ، أن حكمه كحكمة ، وأنه لابد من الإقرار بوجود صانع للجميع ، لبطلان التثنية حسب ما شهد به الدليل .
فصل : وقد ورد في الحديث (1): ان أبا شاكرالديصاني وقف ذات يوم في مجلس الإمام الصادق - أبي عبداللّه جعفربن محمد صلى الله عليه - فقال له : أبا عبداللّه ، انك لأحد النجوم الزواهر، وكان آباؤك بدورا بواهر، وامهاتك عقيلات طواهر(2)، وعنصرك من أكرم العناصر، وإذا ذكر العلماء فبك (3) تثنى الخناصر، خبٌرنا أيها البحر الزاخر، ما الدليل على حدث (4) العالم ؟
فقال أبوعبد اللّه صلى اللّه عليه واله : «إنّ من أقرب الدليل على ذلك ما أذكره لك ، ثم دعا ببيضة فوضعها في راحته وقال : هذا حصن ملموم ،داخله غرقىء(5) رقيق ، يطيف به كالفضة السائلة، والذهبة المائعة، أشك في ذلك » ؟
قال أبو شاكر : لاشك فيه .
قال الإمام عليه السلام : «ثم إنّه ينفلق عن صورة كالطأووس ، أدخله شيء غير ماعرفت ؟
قال : لا .
قال : «فهذا الدليل على حدث العالم ».
قال أبوشاكر: دللت - أبا عبد اللّه - فأوضحت ، وقلت فأحسنت ، وذكرت فأوجزت ، وقد علمت أنا لانقبل إلاّ ما أدركت أبصارنا ، أو سمعناه بآذاننا، أو ذقناه بأفواهنا ، أو شممناه باُنوفنا، أو لمسناه ببشرنا .
فقال الصادق عليه السلام : ذكرت الحواس (6) وهي لاتنفع في الاستنباط إلاّ بدليل ، كما لاتقطع الظلمة بغيرمصباح ».
قال شيخنا المفيد أبوعبداللّه محمد بن محمد بن النعمان الحارثي رضي اللّه عنه :
____________
1 - رواه الصدوق في الأمالي 288 | 5 والتوحيد 292 ، والمفيد في الإرشاد : 281 .
2 - في الإرشاد: عباهر، والعباهر: جمع عبهرة، وهي الجامعة للحسن (القاموس المحيط - عبهر - 2 : 84) .
3 - في الارشاد: فعليك.
4 - في الارشاد: حدوث .
5 - الغرقىء : قشر البيض الذي تحت القشر الصلب (الصحاح - غرقاً- 1 : 62).
6 - في الإرشاد زيادة : الخمس .

(37)
إن الصادق عليه السلام أراد الحواس الخمس بغيرعقل لا توصل إلى معرفة الغائبات ، وان الذي أراه من حدوث الصورة معقول ، بني ألعلم به على محسوس (1)،
واعلم- آيدك اللّه - أن الاجسام إذا لم تخل من ألصورة - التي قد ثبت حدثها - فهي محدثة مثلها.
دليل آخرعلى حدث العالم: الذي يدلنا على ذلك ، أنّا نرى أجسامنا لاتخلو من الحوادث المتعاقبة عليها، ولا يتصورفي العقل أنها كانت خالية منها، وهذا يوضح أنها ، محدثه مثلها، لشهادة العقل بأن مالم يوجد عارياً من المحدث فإنه يجب أن يكون مثله محدثاً .
وهذه الحوادث هي : الاجتماع والافتراق ، والحركة والسكون ، والألوان وا لروائح والطعوم ، ونحو ذلك من صفات الأجسام .
والذي يدل على أنها أشياء غير الجسم ، مانراه من تعاقبها عليه ، وهو موجود مع كل واحد منها .
وهذا يبين أيضاً حدثها، لأن الضدين المتعاقبين لايجوزأن يكونا مجتمعين في ألجسم ، ولا يتصور اجتماعهما في العقل ، وإنما وجد أحدهما وعدم الآخر، فالذي طرأ ووجد هو المحدث ، لأنه كائن بعد أن لم يكن ، والذي انعدم أيضاً محدث ، لأنه لوكان غير محدث لم يجزأن ينعدم ، ولأن مثله أيضاً نراه قد تجدد وحدث .
والذي يشهد بأن الأجسام لم تخل من هذه الحوادث بَدائه العقول وأوائل العلوأ، إذ كان لايتصورفها وجود الجسم مع عدم هذه الاُمور، ولوجازأن يخلو الجسم منها فيما مضى، لجازأن يخلومنها الآن فيما يستقبل من الزمان .
فالذيَ يدل على أن حكم الجسم كحكمها في الحدوث ، أن المحدث هو الذي لوجوده أول ، والقديم هو المتقدم على كل محدث وليس لوجوده أول ، فلوكان الجسم قديما لكان موجوداً قبل الحوادث كلها خالياً منها، وفيما قدّمناه من استحالة خلوّه منها دلالة على أنه محدث مثلها، فالحمد للّه .

***

____________
1 - ارشاد المفيد: 381.
(38)
فصل من السؤال والبيان (1)
إن سألك سائل عن أول ما فرض عليك؟
فقل: النظر المؤدي إلى معرفة الله.
فإن قال :لم زعمت ذلك ؟
فقل : لأنه - سبحانه - أوجب معرفته ، ولا سبيل إلى معرفته إلاّ بالنظر في الأدلة المؤدية إليها .
فإن قال : فإذا كانت المعرفة باللّه - جل وعز- لاتدرك إلا بالنظر، فقد حصل (2) المقلد غير عارف باللّه .
فقل : هو كذاك .
فإن قال : فيجب أن يكون جميع المقلدين في النار.
فقل : إن العاقل المستطيع إذا أهمل النظر والإعتبار ، واقتصر على تقليد الناس ، فقد خالف اللّه تعالى وانصرف عن (3) أمره ومراده ، ولم يكفه تقليده في أداء فرضه ، واستحق العقاب على مخالفته وتفريطه .
غير انّا نرجو العفو عمّن قلد المحق والتفضل عليه ، ولا نرجوه لمن قلد المبطل ولانعتقده فيه .
وكلّ مكلف يلزمه من النظر بحسب طاقته ونهاية إدراكه وفطنته ، وأما المقصّرالضعيف الذي ليس له استنباط صحيح ، فإنه يجزيه التمسك - في الجملة- بظاهر ما عليه المسلمون .
فإن قال : كيف يكون التقليد قبيحاً من العقلاء المميزين ، وقد قلد الناس رسول الله صلّى اللّه عليه وآله فيما أخبر به عن رب العالمين ، ورضي بذلك عنهم ، ولم يكلفهم ما تدعون ؟
____________
1 - أورد الكراجكي في كنزالفوائد : 98 - 101 ، هذا الفصل إلى بداية كتاب «البرهان على ثبوت الإيمان» الآتي .
2 - حصل : ِصار .
3 - في الأصل : على ، ما أثبتناه من الكنز.

(39)
فقل: معاذ اللّه أن نقول ذلك أونذهب إليه ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لم يرض من الناس التقليد دون الاعتبار، وما دعاهم إلا إلى اللّه بالاستدلال ، ونبههم عليه بآيات ألقرآن من قوله سبحانه : ( أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق اللّه من شيء )(1).
وقوله : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لايات لأوُلي الألباب )(2) .
وقوله :( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون )(3) .
وقوله : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) (4).
ونحن نعلم أنه مما أراد بذلك إلا نظر الاعتبار.
فلو كان عليه السلام إنما دعا الناس إلى التقليد، ولم يرد (منهم الاستدلال)(5)،
لم يكن معنى لنزول هذه الآيات .
ولو كان أراد أن يصدقوه ويقبلوا قوله تقليداً بغيرتأمل واعتبار، لم يحتج إلى أن يكون على يده ما ظهرمن الايات والمعجزات .
فأما قبول قوله صلى اللّه عليه وآله بعد قيام الدلالة على صدقه ، فهو تسليم وليس بتقليد.
وكذلك قبولنا لما أتت به أئمتنا عليهم السلام ، ورجوعنا إلى فتأويهم في [شريعة ](6) الاسلام .
فإن قال قائل : فأبن لنا ما التقليد في الحقيقة، وما التسليم ؟ ليقع الفرق .
فقل : التقليد: قبول [قول ] (7) من لم يثبت صدقه ، ومأخوذ من القلادة .
والتسليم : هو قبول من ثبت صدقه ، وهذا لايكون إلا ببينة وحجة، والحمد للّه .
____________
1 - الاعراف 7 : 185
2 -آل عمران 3 : 190
3 - الذاريات 51: 20 ، 21
4 ـ الغاشية 88 : 17 .
5 ـ في الأصل: الإستدلال عنهم، وما أثبتناه من كنز الفوائد.
6 ـ أثبتناه من الكنز.

(40)
فصل
«من كلام جعفربن محمد عليه السلام»
قال : «وجدت علم الناس في أربع : أحدها : أن تعرف ربك ، والثاني : أن تعرف ما صنع بك ، والثالث : أن تعرف ما يخرجك عن دينك ، والرابع : أن تعرف ما أراد منك».
قال شيخنا المفيد رحمه اللّه : هذه أقسام تحيط بالمفروض من المعارف ، لأنه أول ما يجب على العبد معرفة ربه جل جلاله ، فإذا علم أن له إلهاً وجب أن يعرف صنعه اليه ، فإذا عرف صنعه عرف نعمته ، فإذا عرف نعمته وجب عليه شكره ، فإذا أراد تأدية شكره وجب عليه معرفة مراده ليطيعه بفعله ، وإذا وجبت عليه طاعته وجب عليه معرفة ما يخرجه من دينه ليجتنبه ، فتصح (1) به طاعة ربه وشكرإنعامه (2).
ولقد أحسن بعض أهل الفضل والعلم ، في قوله في المعرفة باللّه تعالى، وذم التقليد وبالغ :

إن كان جسما فما ينفك عن عرض * أو جوهراً فبذي الأقطار موجود
أو كان متصــلاً بالشيء فهو به * أو كان منفصلاً فالكل محــدود
لاتطلبنّ إلى التكـــييف من سبب * إن السبيل إلى التكييف مـسدود
واستعمل الحبل حبل العقل تحظ به * فالعقل حبل إلى باريك ممــدود
والــزم من الدين ماقام الدليل به * فإنّ أكثردين الناس تــقلــيـد
وكلما وافـــــق التقليد مختلق * زور وإن كثرت فيه الأسـانـيد
وكلما نقل الاحـــــاد من خبر * مخالــف لكتاب اللّه مـردود

***

____________
1 - في الكنز: فتخلص
2 - إرشاد المفيد: 282

(41)
فصل آخر في السؤال والبيان
إن سألك سائل فقال : ما أول نعمة الله تعالى عليك ؟
فقل : خلقه إياي حيا لينفعني .
فأن قال : ولم زعمت أن خلقه إياكُ حياً أول النعم ؟
فقل : لأنه خلقني لينفعني ، ولا طريق إلى نيل النفع إلا بالحياة التي يصح معها الإدراك .
فإن قال : ما النعمة؟
فقل : هي المنفعة إذا كان فاعلها قاصداً لها.
فإن قال : فما المنفعة؟
قل : هي اللذة الحسنة، أو ما يؤدي إليها.
فإن قال : لم اشترطت أن تكون اللذة حسنة به (1)؟
فقل : لأن من اللذات ما يكون قاتلاً، فلايكون حسنا.
فإن قال : لم قلت : أو ما يؤدي إليها؟
فقل : لأن كثيراً من المنافع لايتوصل إليها إلاّ بالمشاق ، كشرب الدواء الكريه ، والفصد، ونحوذلك من الاُمور المؤدية إلى السلامة واللذات ، فتكون . هذه المشاق منافع لما تؤدي إليه في عاقبة الحال .
ولذلك قلنا: إن التكليف نعمة حسنة، لأن به ينال مستحق النعيم الدائم واللذات .
فإن قال : فما كمال نعم اللّه تعالى؟
فقل : إن نعمه تتجدد علينا في كل حال ، ولايستطاع لها الإحصاء.
فإن قال : فما تقولون في شكر المنعم ؟
فقل : هو واجب .
فإن قال : فمن أين عرفت وجوبه ؟
____________
1- ليست في المصدر، والظاهر أنها زائدة.
(42)
** فقل : من العقل وشهادته ، وأوضخ (1) حجته ودلالته ، ووجوب شكر المنعم على نعمته ، مما تتفق العقول عليه ولا تختلف فيه .
فإن قال : فما الشكر اللازم على النعمة؟
فقل : هو الاعتراف بها، مع تعظيم منعمها.
فإن قال : فهل أحد من الخلق يكافىء نعم اللّه تعالى بشكر، أو يوفي حقها بعمل ؟
فقل :لايستطيع ذلك أحد من العباد، من قبل أن الشيء إنما يكون كفواً لغيره ، إذا سد مسده ، وناب منابه ، وقابله في قدره ، وماثله في وزنه .
وقد علمنا أنه ليس من أفعال الخلق ما يسد مسد نعم اللّه عليهم ، لاستحالة الوصف للّه تعالى بالإنتفاع ، أو تعلق الحوائج به إلى المجازاة .
وفساد مقال من زعم أن الخلق يحيطون علماً بغاية الانعام من اللّه تعالى عليهم والافضال ، فيتمكنون من مقابلتها بالشكرعلى الاستيفاء للواجب والاتمام .
فنعلم بهذا تقصير العباد عن مكافاة نعم اللّه تعالى عليهم ، ولوبذلوا في الشكر والطاعات غاية المستطاع ، وحصل ثوابهم في الاخرة تفضلاً من اللّه تعالى عليهم وإحساناً إليهم ، وإنما سميناه استحقاقاً في بعض الكلام ، لأنه وعد به على الطاعات ، وهو الموجب له على نفسه بصادق وعده ، وإن لم يتنأول شرط الاستحقاق على الأعمال ، وهذا خلاف ماذهبت إليه المعتزلة، إلاّ أبوالقاسم البلخي فإنه يوافق في هذا المقال ، وقد تناصرت به مع قيام الأدلة العقلية عليه الأخبار.
روى أبرعبيدة الحذاء عن أبي جعفرعليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : «قال الله تعالى: لايتكل العاملون على أعمالهم التي يعطونها لثوابي ، فإنهم لو اجتهدوا واتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي ، كانوا مقصرين غير بالغين [في عبادتهم كنه عبادتي ، فيما يطلبون ](2) من كرامتي ، والنعيم في جناتي ، و(3) رفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فليثقوا، وفضلي فليرجوا، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا فإن
____________
1 - في الكنز: وواضح .
2 - ما بين المعقوفبن أثتناه من الكنز.
3 - في الأصل: من ، وما أثبتناه من الكنز.

(43)
رحمتي عند ذلك تدركهم ، وبمنّي ابلغهم رضوان [ومغفرتي وألبسهم عفوي ](1) » وبعفوي اُدخلهم جنتي ، فإني أنا اللّه الرحمن الرحيم ، بذلك تسميت».
** وعن عطا بن يسار، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : «يوقف العبد ، بين يدي اللّه ، فيقول لملائكته : قيسوا بين نعمي عليه وبين عمله . فتستغرق النعم العمل ، فيقول : هبوا له النعم ، وقيسوا بين الخير والشرمنه ، فإن استوى العملان أذهب اللّه الشر بالخير وأدخله الجنة، وإن كان له فضل أعطاه اللّه بفضله ، وإن كان عليه فضل - وهو من أهل التقوى، ولم يشرك باللّه تعالى- فهو من أهل المغفرة، يغفراللّه له برحمته إن (2) شاء ويتفضل عليه بعفوه ».
وعن سعد(3) بن خلف ، عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال له : «عليك بالجد والاجتهاد في طاعة اللّه ، ولا تخرج نفسك من حد التقصيرفي عبادة اللّه وطاعته ، فإن الله تعالى لايعبد حق عبادته».

* * *

____________
1 - أثبثناه من الكنز.
2 ـ في الاصل : لمن وما اثبتناه من الكنز.
3 - في الاصل : سعيد، وما أثبتناه من الكنز ومعاجم الرجال هو الصواب ، فقد عده الشيخ في رجاله من أصحاب الكاظم عليه السلام، وقال : واقفي ، أُنظر «رجال الشيخ : 350 رقم 2 ، تنقيح المقال 2: 12، معجم رجال الحديث 8 :5025/58».

(44)
كتاب
(البرهان على ثبوت الايمان)
لأبي الصلاح التقي بن نجم بن عبيدالله الحلبي

بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه رب العالمين ، وصلواته على خيرة النبيين محمد وآله الطاهرين وسلم وكرم.
أول فعل مقصود يجب على العاقل، مما لايخلومنه عنك (1) كمال عقله ، من وجوب النظر المؤدي إلى المعرفة، لأن الحي عند كمال عقله يجد عليه آثارَ نفع ، من كونه حياً سميعاً بصيراً عاقلا مميزاً قادراً متمكناً، مدركاً للمدركات منتفعاً بها، ويجوزأن يكون ذلك نعمة لمنعم .
ويعلم أنها إن كانت كذلك ، فهي أعظم نعمة لانغماركل نعمة في جنبها ، ويجد في عقله وجوب شكر المنعم ، واستحقاق المدح على فعل الواجب والذم على الإخلال به ، ويجوز أن يستحق من موجده والمنعم عليه مع المدح ثواباَ ومع الذم عقاباً، ويجد في عقله وجوب التحرزمن الضرراليسيروتحصيل النفع العظيم .
فتجب عليه معرفة من خلقه والنفع له ، ليعلم قصده فيشكره ان كان منعماً، ولا سبيل إلى معرفته إلا بالنظرفي آثارصنعته لوقوعها بحسبها، ولوكانت لها سبب غيره ، لجاز حصول جميعها لمن لم ينظر وانتفاؤها عن الناظر، فوجب فعله لوجوب مالايتم الواجب إلا به .
والواجب من المعرفة شيئان : توحيد وعدل ، وللتوحيد إثبات ونفي .
فالا ثبات : اثبات صانع للعالم - سبحانه - قادر، عالم ، حي ، قديم ، مدرك ، مريد .
____________
1ـ كذا، والظاهر أن الصواب : عند.
(45)
** والنفي: نفي صفة زائدة على هذه الصفات ، ونفي التشبيه ، ونفي ألادراك عنه - تعالى - بشيء من الحواس ، ونفي الحاجة، ونفي قديم ثان شارك في استحقاق هذه الصفات.
والعدل : تنزيه أفعاله عن القبيح ، والحكم لها بالحسن .

* * *

(46)
فصل
«في الكلام في التوحيد»
طريق العلم باثبات الصانع- سبحانه - أن يعلم الناظر: أن هاهنا حوادث يستحيل حدوثها عن غير محدث .
وجهة ذلك : أن يعلم نفسه وغيره من الأجسام ، متحركاً ساكناً، ثم مجتمعاً مفترقآَ، أو ضحه ذلك .
فيعلم بتغايرهذه الصفات على الأجسام، أنها أعيان لها، لأنها لوكانت صفات لذواتها ، لم يجزتغيرها .
ويعلم بتجددها عن عدم ، وبطلانها عن وجود، أنها محدثة، لاستحالة الإنتقال عليها، من حيث لم تقم بأنفسها، والكمون المعقول راجع به إلى الانتقال .
فإذا علم استحالة ذلك على هذه الصفات ، علم أن المتجدد منها إنما يجدد عن عدم ، وهذه حقيقة المحدث والمنتفي ، وأن ما انتفى عن الوجود والعدم يستحيل على القديم لوجوب وجوده ، وما ليس بقديم محدث .
فإذا علم حدوث هذه المعاني المغايرة للجسم ، وعلم أنه لابد في الوجود من مكان يختصه مجأوراً لغيره أو مبايناً ، وقتا واحداً أو وقتين ، لابثا فيه أو منتقلاً عنه - وقد تقدم له العلم : انه إنما كان كذلك لمعان غيره محدثة علم أنه محدث ، لأنه لو كان قديماً لوجب أن يكون سابقا للحوادث بما لانهاية له .
فإذا علم أنه لاينفك من الحوادث ، علم كونه محدثا، لعلمه ضرورة بحدوث مالم يسبق المحدث ، ولأنه إذا فكرفي نفسه - وغيرها - فوجدها كانت نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظماً، ثم جنيناً، ثم حيا، ثم طفلاً، ثم يافعا، ثم صبيا، ثم غلاما، ثم بالغاً، ثم شاباً قوياً، ثم شيخاً ضعيفاً، ثم ميتاَ.
وأنه لم يكن كذلك إلا بتجدد معان فيه : حرارات ، وبرودات ، ورطوبات ، ويبوسا ت ،وطعوم ، وألوان ، وأراييح مخصوصة ، وقدر، وعلوم ، وحيا ة .
وعلم بطلان كل صفة من هذه الاغيار بعد وجود، وتجددها عن عدم ، والجواهر التي تركب منها الجسم باقية، علم أنها صفات مغايرة لها وأنها محدثه ، لاستحالة الكون
(47)
والانتقال عليها بما قدمناه .
وإذا علم حدوث جواهره - وغيره من الجواهر- بالاعتبار الأول ، وصفاته بهذه وصفات غيره بالاعتبار الثاني ، ولأنها لا تنفك من المحل المحدث .
وعلم أن في الشاهد حوادث - كالبناء والكتابة- وأن لها كاتباً وبانياً، هو من وقعت منه بحسب غيرها، وانما ذلك مختص بما يجوزحصوله وانتفاؤه ، فلا يحصل إلا بمقتض .
فأما ما وجب فمستغن بوجوبه عن مؤثر منفصل عن الذات ، كتحيز الجوهر ، وحكم السواد .
ولا يجوز خروجه تعالى عن هذه الصفات ، لوجوب الوجود له تعالى في حق كونه قديماً لنفسه ، يجب له وجوده تعالى في كل حال ، وكونها صفات نفسه يجب ثبوتها للموصوف ويستحيل خروجه عنها كل ما وجد، لكون المقتضي ثانيا(1) وهو النفس ، واستحالة حصول المقتضي وانتفاء مقتضاه .
وبعلمه سبحانه مدركاً إذا وجدت المدركات ، لكونه تعالى يستحيل فيه الآفات والموانع ، بدليل حصول هذا الحكم لكل حي لاآفة به متى وجد المدرك ، وارتفعت الموانع .
وبعلمه سبحانه مريداً لوقوع أفعاله على وجه دون وجه وفي حال دون اخرى، وذلك مفتقرإلى أمر زائد على كون الحي قادراً عالما، لكونه صفة للفعل زائدة على مجرد الحدوث والاحكام ، وارادته فعله إذ كونه مريداً لنفسه ، أو معنى قديم يقتضي قدم المرادات ، أو كونه عازما، وكلا الأمرين مستحيل فيه سبحانه .
والمحدَث لا يقدرعلى فعل الإرادة في غيره ، وقديم ثان نرد(2) برهان نفيه ، فثبت سبحانه مريداً بإرادة يفعلها إلا(3) في محل لاستحالة حلولها فيه أو في غيره ، ولا صفة له سبحانه زائدة على ما علمناه ، لأنه لاحكم لهما ولا برهان بثبوتهما، واثبات مالا حكم له ولا برهان عليه مفض إلى الجهالات .
وبعلمه سبحانه لايشبه شيئاَ من الأجسام والاعراض ، لقدمه تعالى وحدوث
____________
1 - كذا، والظاهر أن الصواب : ثابتاً .
2 - كذا، ولعل الصواب : مرّ.
3 - كذا، والظاهر أن الصواب : لا.

(48)
هذه الأجناس ، لتعذر هذه الأجناس على غيره .
وإذا علمه تعالى فكذلك علم استحالة ادراكه بشيء من الحواس ، لأن الادراك المعقول مختص بالمحدثات .
وعلم كذلك استحالة الاختصاص بالجهات والنقل فيها والمجأوزة والحلول وايجاب الاحكام والاحوال عليه سبحانه ، لكون ذلك من صفات الأجسام والأعراض المباينة له تعالى .
وبعلمه (1) عنها يستحيل عليه الحاجة لاختصاصها باجتلاب النفع ودفع الضرر واختصاص النفع والضر بمن يصح أن يألم ويكد(2)، واختصاص اللذة والألم بذي شهوة ونفار، وكونهما معنيين يفتقران إلى فعل ، وذلك لايجوز عليه لحدوث المحل وقدومه (3) سبحانه ، ولخلو الفعل من دليل على اثباته مسهيا(4) أو نافراً .
وإذا علم تخصصه تعالى بهذه الصفات من سائر الموجودات ، علمه(5) تعالى واحدا، لانهما لوكانا اثنين لوجب اشتراكهما في جميع الصفات الواجبة والجائزة، وذلك يوجب كون مقدورهما ومرادهما واحداً، مع حصول العلم الضروري بصحة إرادة أحد المتحيزين ما يكره الاخر أو لايريده ولايكرهه ، وقيام البرهان على استحالة تعلق مقدور واحد بقادرين ، وتقديرقديم ثان يقتضي نقض هذا المعلوم .
فثبت أنه تعالى واحدا لا ثاني له ، ولانه لادليل من جهة العقل على إثبات ثان ، وقد ورد السمع المقطوع بإضافته إليه سبحانه بنفي قديم ثان ، فوجب له القطع على كونه واحد .

* * *

____________
1 - كذا، ولعل الصواب : وبغناه .
2 - كذا، والظاهر أن الصواب : ويلذ.
3 - كذا، والظاهر أن الصواب : وقدمه .
4 - كذا، والظاهر أن الصواب : مشتهياً .
5 - كذا ، والظاهر أن الصواب : علم .