الفصل الحادي عشر (1)
كنا نظن العصبية العمياء تقلصت
وايامها الوحشية تصرمت.




    وان المسلمين أحسوا اليوم بما حل بهم من المنابذات والمشاغبات التي تركتهم طعمة الوحوش والحشرات ، وكنا نقول بزغت الحقائق بفضل المطابع وانتشار كتب الشيعة فلا أفاك ولا بهات ولا رامي لهم بعدها بهنات ، لكن النواصب ابوا الا ايقاظ الفتنة النائمة وايقاد الحرب العوان « تفريقا بين المؤمنين وارصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن ان اردنا الا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون ».
    قام في سوريا من حثالة الأمويين طغام دأبهم العهر والخمر يدعون الى سلفهم الفاجر يريدون ليعيدوها أموية يزيدية هياما في مجاهل ضلالهم وتسكعا في مفاوز محالهم ، ركبوا في ذلك رؤوسهم وارخوا فيه أعنة اقلامهم فالحقوا بالشيعة كل مستهجن وبهتوهم بكل عائبة « وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ».
____________
(1) انما عقدنا هذا الفصل وزدناه فيما في هذه الطبعة ( أعني الطبعة الثانية ) تأثرا من هؤلاء النواصب الكذبة ، ولئن لم ينتهوا لنعذرن الى الله عز وجل بهم.
( 173 )

    خط قرد يزيد في خطته وفي مجلة الأمويين قوارص ترتعد منها الفرائص لكن فتيان المؤمنين خصموه فخطموه وقذعوه فقمعوه لا شلت ايمانهم.
    ونشب النشاشيبي منشب سوء فلم ينشب ان ابكم فأفحم وانكبح فافتضح ، والحمد لله رب العالمين.
    وصوب النصولي نصوله على الامام فنصل بذلك من دين الاسلام ، وقد طاش سهمه وسفه رأيه وخولط في عقله فهو في ( كتابه ) احمق دالع (2) ومن شك فليراجع.
    ومع ذلك فقد كال الكيالي بصاعه وانتظم في سلك اتباعه فأثار ثائر هوجه وهبت عواصف رعنه ، فبرهن بما كتب على اطفاء شعلة ذهنه وفلول شباة عقله « وخسر هنالك المبطلون ». « ومن يضلل الله فما له من هاد ».
    ما لهؤلاء السفهاء والتطوع في هذا الجيش الوهمي ، وما كان أغناهم عن ذلك الارجاف والاجحاف ، وما هذا الهوس الحزبي الذي اماتته السنون يبعثه هؤلاء العادون ليشقوا عصا المسلمين ويلقوا بأسهم بينهم.
    وان من عصب برأسه العار وخطم انفه بالشنار وعاقر المدام وعانق الغلام وأضاع الصلاة واتبع الشهوات لجدير بالموبقات ، وحقيق بالمنديات المخزيات.

ولو أني بليت بهاشمــي * خــؤولته بنو عبد المدان
لهان عليّ ما ألقى ولكــن * تعالوا وانظروا بمن ابتلاني

    ولقد اسرف منار الخوارج بما أرجف واجحف وبغى وطغى وبهت الشيعة بهتانا عظيما « ومن يكسب خطيئة او اثما ثم يرمي به بريئا فقد احتمل بهتانا واثما مبينا » شنها في مجلده التاسع والعشرين غارة ملحاحا أوسعت قلب الدين
____________
(2) وهو الذي لا يزال دالع اللسان وذلك غاية الحمق.
( 174 )

واهله جرحا ايقادا للفتنة وتمسكا بقرن الشيطان وتزلفا لخوارج القرن الرابع عشر وابتغاء لعرض الدنيا « فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ».
    وتبا وترحا لمن يتلون كالحرباء ويدين بالسياسة كيف تشاء ، فيوما بحزوى ويوما بالعقيق وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء.
    نشر المنار (3) دعايته الى النصب والخرافات والتفريق بين المسلمين بالتمويه والترهات ، وادرج لذلك الناصب الكاذب رسالة خالية الوطاب إلا من الافك والسباب ، فأين النهضة التي يزعم المنار قيامه بها على أساس الوحدة الاسلامية وأين ما يدعيه من مجاهدة البدع والخرافات ؟ ! هيهات هيهات ( لقد حن قدح ليس منها وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ) ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، ونعوذ بك من طغوى نفسهم وسفه أحلامهم وعمه بصائرهم وبغي طغامهم ، ونبرأ اليك من نعرتهم الممقوتة الملعونة ، فقد شقوا بها عصا المسلمين وكان بسببها من الفشل وذهاب ريح الاسلام ما يفري المرائر ويمزق لفائف القلوب.
    وهناك أفاضل نحملهم على الصحة في سوء ظنهم بالشيعي ونبزهم إياه بالرفض ونسبتهم الاباطيل اليه ، حيث أنسوا بناحية من تقدمهم ممن رأوه ينبز الشيعة ويلمزهم فنحوا نحوه وتلوا في ذلك تلوه إخلادا اليه بثقتهم واعتمادا عليه في كل ما يقول ، فلا تثريب اذن على الوحيد الرافعي إذا قال (4) ان الرافضة شكوا في نص القرآن وقالوا انه وقع نقص وزيادة وتغيير وتبديل .
    ولا جناح علينا إذا سألناه فقلنا له من تعني هنا بالرافضة ، أتعني الامامية
____________
(3) في الجزء 6 وما بعده من المجلد 29 تباعا.
(4) في صفحة 161 من كتابه ( تحت راية القرآن ).

( 175 )

أم غيرهم ، فإن عنيتهم فقد كذبك من أغراك بهم وكل من نسب اليهم تحريف القرآن فإنه مفتر عليهم ظالم لهم ، لأن قداسة القرآن الحكيم من ضروريات دينهم الاسلامي ومذهبهم الامامي ، ومن شك فيها من المسلمين فهو مرتد باجماع الامامية ، فإذا ثبت عليه ذلك قتل ثم لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين. وظواهر القرآن فضلا عن نصوصه من أبلغ حجج الله تعالى واقوى ادلة أهل الحق بحكم البداهة الاولية من مذهب الامامية ، ولذلك تراهم يضربون بظواهر الاحاديث المخالفة للقرآن عرض الجدار ولا يأبهون بها وان كانت صحيحة ، وتلك كتبهم في الحديث والفقه والاصول صريحة بما نقول.
    والقرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنما هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ، ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة ولا لحرف بحرف ، وكل حرف من حروفه متواتر في كل جيل تواتراً قطعياً الى عهد الوحي والنبوة ، وكان مجموعا على ذلك العهد الأقدس مؤلفا على ما هو عليه الآن ، وكان جبرائيل عليه السلام يعارض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن في كل عام مرة وقد عارضه به عام وفاته مرتين.
    والصحابة كانوا يعرضونه ويتلونه على النبي حتى ختموه عليه صلى الله عليه وآله وسلم مرارا عديدة ، وهذا كله من الامور المعلومة الضرورية لدى المحققين من علماء الامامية ، ولا عبرة بالحشوية فإنهم لا يفقهون.
    والباحثون من اهل السنة يعلمون أن شأن القرآن العزيز عند الامامية ليس إلا ما ذكرناه والمنصفون منهم يصرخون بذلك.
    قال الامام الهمام الباحث المتتبع رحمة الله الهندي رضي الله عنه في صفحة 89 من النصف الثاني من كتابه النفيس ( اظهار الحق ) ما هذا لفظه : القرآن الكريم عند جمهور علماء الشيعة الامامية الاثني عشرية محفوظ عن التغيير


( 176 )

والتبديل ، ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه فقوله مردود غير مقبول عندهم.
    قال : قال الشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه الذي هو من أعظم علماء الامامية الاثني عشرية في رسالته (5) الاعتقادية : « اعتقادنا في القرآن ان القرآن الذي أنزل الله تعالى على نبيه هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ، ومبلغ سوره عند الله مائة وأربع عشر سورة ، وعندنا والضحى وألم نشرح سورة واحدة ، ولايلاف وألم تر سورة واحدة ، ومن نسب الينا أنا نقول انه اكثر من ذلك فهو كاذب » انتهى.
    قال الامام الهندي : وفي تفسير مجمع البيان (6) الذي هو تفسير معتبر عند الشيعة ذكر السيد الاجل المرتضى علم الدين ذو المجد ابو القاسم علي بن الحسين الموسوي : ان القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو الآن ، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنه كان يعرض على النبي ( ص ) ويتلى عليه ، وان جماعة من الصحابة كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة ختمات ، وكل ذلك بأدنى تأمل يدل على انه كان مجموعا مرتبا غير مبتور ولا مبثوث.
    قال الهندي : وذكر ان من خالف من الامامية والحشوية لا يعتد بخلافهم ، فإن الخلاف مضاف الى قوم من أصحاب الحديث نقلوا اخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته ـ انتهى.
    قال الامام الهندي : وقال السيد المرتضى أيضا : ان العلم بصحة القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام المشهورة وأشعار العرب
____________
(5) المطبوعة المنتشرة.
(6) المطبوعة مرارا في ايران.

( 177 )

المسطورة ، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وبلغت الى حد لم تبلغ اليه فيما ذكرناه ، لأن القرآن معجزة النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وعنايته الغاية حتى عرفوا كل شيء فيه اعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد ـ انتهى.
    قال الامام الهندي : وقال القاضي نور الله التوستري الذي هو من علمائهم المشهورين في كتابه المسمى بمصائب النواصب : ما نسب الى الشيعة الامامية من وقوع التغيير في القرآن ليس مما قال به جمهور الامامية ، إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم ـ انتهى.
    قال الامام الهندي : وقال الملا صادق في شرح الكليني : « يظهر القرآن بهذا الترتيب عند ظهور الامام الثاني عشر ويشهر به » انتهى.
    قال الامام الهندي : وقال محمد بن الحسن الحر العاملي الذي هو من كبار المحدثين في الفرقة الامامية في رسالة كتبها في رد بعض معاصريه « هر كسيكة تتبع أخبار وتفحص تواريخ وآثار نموده بعلم يقيني ميداند كه قرآن در غايت وأعلى درجة تواتر بوده وآلاف صحابة حفظ ونقل ميكردند آن راودر عهد رسول خدا صلى الله عليه وآله وسلم مجموع ومؤلف بود » انتهى.
    قال الامام الهندي : فظهر أن المذهب المحقق عند علماء الفرقة الامامية الاثني عشرية أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ، وانه كان مجموعا مؤلفا في عهد رسول الله صلى الله وآله وسلم وحفظه ونقله ألوف من الصحابة ، وجماعة من الصحابة كعبدالله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدة ختمات ، ويظهر القرآن ويشهر بهذا الترتيب عند ظهور الامام الثاني عشر رضي الله عنه.


( 178 )

    قال والشرذمة القليلة التي قالت بوقوع التغيير فقولهم مردود عندهم ولا اعتداد به فيما بينهم.
    قال : وبعض الأخبار الضعيفة التي رويت في مذهبهم لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته.
    قال : وهو حق لأن خبر الواحد إذا اقتضى علما ولم يوجد في الادلة القاطعة ما يدل عليه وجب رده ، على ما صرح به ابن المطهر الحلي في كتابه المسمى بمبادىء الوصول الى علم الاصول ، وقد قال الله تعالى : « إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون ».
    قال : ففي تفسير الصراط المستقيم الذي هو تفسير معتبر عند علماء الشيعة « أي إنا لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان » انتهى...
    هذا كلام الامام الهندي عينا ، وانما اكتفينا بما نقله من كلام أعلام الشيعة الامامية المسطور في كتبهم المعتبرة لأن الاستقصاء يوجب الخروج عما أخذناه على أنفسنا من اجتناب الاطناب الممل.
    ومن أراد النقل عن الطوائف والامم فليقتف أثر هذا الامام في الاستناد الى الكتب المعتبرة عند تلك الامة أو الطائفة ، ولا يعول في النقل عنها على المرجفين من خصمائها والالداء من أعدائها.
    وأنا اكبر السفر الجليل « تحت راية القرآن » واقدر قدر مؤلفه « المصطفى الصادق » واعلم انه بعيد الغاية رزين الحصاة ، وكنت أربأ به وبسفره الثمين المؤلف لعموم المسلمين عن جرح عواطف الشيعة وهم ركن الدين وشطر المسلمين ، وفيهم الملوك والامراء والعلماء والأدباء والكتبة والشعراء والساسة المفكرون والدهاة المدبرون وأهل الحمية الاسلامية والنفوس العبقرية والشمم والكرم


( 179 )

والعزائم والهمم ، وقد انبثوا في الانحاء وانتشروا في الأرض انتشار الكواكب في السماء ، فليس من الحكمة ولا من العقل أن يستهان بهم ، وهم أهل حول وقوة وغنى وثروة وأموال مبذولة في سبيل الدين وانفس تتمنى أن تكون فداء المسلمين.
    وليس من التثبت أن يعتمد في مقام النقل عنهم على إرجاف المرجفين واجحاف المجحفين « يا ايها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ».


( 180 )

الفصل الثاني عشر
نوضـح فيـه سبب التباعد بين الطائفتين
ونكشف عن مكنـون السر في تنافرهما ،
زيادة على ما سمعت في الفصول السابقة.




    والغرض تشخيص الداء لنصف الناجع فيه من الدواء ، فهنا مقصدان :

المقصد الاول
    في الأمور التي ينفر منها الشيعي ولا يكاد يمتزج بسببها مع السني ، وأهمها شيئان :
    ( الأول ) ما سمعته في الفصول السابقة (1) من التكفير والتحقير والشتم والتزوير.
    ( الثاني ) اعراض اخواننا أهل السنة عن مذهب الأئمة من أهل البيت ، وعدم الاعتناء بأقوالهم في أصول الدين وفروعه بالمرة ، وعدم الرجوع اليهم في تفسير القرآن العزيز ( وهو شقيقهم ) الا دون ما يرجعون فيه الى مقاتل
____________
(1) ولا سيما التاسع والعاشر والحادي عشر.
( 181 )

ابن سليمان المجسم المرجىء الدجال ، وعدم الاحتجاج بحديثهم الا دون ما يحتجون بدعاة الخوارج والمشبهة والمرجئة والقدرية ، ولو أحصيت جميع ما في كتبهم من حديث ذرية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ما كان إلا دون ما أخرجه البخاري وحده عن عكرمة البربري الخارجي المكذب.
    وأنكى من هذا كله عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمة أهل البيت النبوي ، اذ لم يرو شيئا عن الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي العسكري وكان معاصرا له ، ولا روى عن الحسن (2) بن الحسن ولا عن زيد بن علي بن الحسين ، ولا عن يحيى بن زيد ، ولا عن النفس الزكية محمد بن عبدالله الكامل ابن الحسن الرضا ابن الحسن السبط ، ولا عن أخيه ابراهيم بن عبدالله ، ولا عن الحسين الفخي بن علي بن الحسن بن الحسن ، ولا عن يحيى بن عبدالله بن الحسن ، ولا عن أخيه ادريس بن عبدالله ولا عن محمد بن جعفر الصادق ، ولا عن محمد بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا ، ولا عن أخيه القاسم الرسي ، ولا عن محمد بن محمد بن زيد بن علي ، ولا عن محمد ابن القاسم بن علي بن عمر الأشرف ابن زين العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري (3) ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة وأغصان الشجرة الزاهرة كعبدالله بن الحسن وعلي بن جعفر العريضي وغيرهما من ثقل رسول الله ، وبقيته في أمته صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنه لم يرو شيئا من حديث سبطه الأكبر وريحانته من الدنيا أبي محمد الحسن المجتبى سيد شباب أهل الجنة ، مع احتجاجه بداعية الخوارج وأشدهم عداوة لأهل البيت عمران بن حطان القائل في ابن ملجم وضربته لأمير المؤمنين عليه السلام :
____________
(2) الحسن بن الحسن هو الامام بعد عمه الحسين السبط على رأي الشيعة الزيدية وبعده زيد ثم من ذكرناهم بعد زيد ، وترتيبهم في الامامة على حسب ما رتبناهم في الذكر عليهم السلام.
(3) قتل في العراق سنة 250 قبل وفاة البخاري بست سنوات.

( 182 )

يا ضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
انـي لاذكـره يومـا فأحسبه * أوفــى البـريـة عند الله ميزنا

    أما ورب الكعبة وباعث النبيين لقد وقفت هنا وقفة المدهوش وقمت مقام المذعور ، وما كنت أحسب ان الأمر يبلغ هذه الغاية ، وقد باح العلامة ابن خلدون بسرها المكنون حيث قال في الفصل الذي عقده لعلم الفقه وما يتبعه من مقدمته الشهيرة بعد ذكر مذاهب أهل السنة ما هذا لفظه : وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به ، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة (4) بالقدح وعلى قولهم بعصمة الأئمة ، ورفع الخلاف عن أقوالهم ، وهي كلها أصول واهية (5).
    قال : وشذ بمثل ذلك الخوارج (6) ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم ، بل
____________
(4) ما أدري كيف يمكن ان تبنى المذاهب الفقهية على تناول بعض الصحابة بالقدح ، وما عرفت كيف تستنبط الاحكام الشرعية الفرعية من تناول احد من الناس ، وابن خلدون يعد من الفلاسفة ، فما هذا الهذيان منه يا أولي الالباب ؟.
(5) ان أصحابنا « الامامية » اثبتوا في كتبهم الكلامية عصمة أئمتهم بالادلة العقلية والنقلية ، والمقام لا يسع بيانها ولو تصدينا لها لخرجنا عن موضوع هذه الرسالة ، وحسبك دليلا على عصمتهم ، كونهم بمنزلة الكتاب الذي لا يأتيه الباطل وكونهم أمان هذه الامة من الاختلاف ، فاذا خالفتهم قبيلة من العرب كانت حزب ابليس ، وكونهم سفينة النجاة وباب حطة هذه الامة ، وكونهم النافين عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(6) انظر كيف جعل أهل البيت ( الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) شذاذ مارقة كالخوارج نعوذ بالله.

( 183 )

أوسعوها جانب الانكار والقدح ، فلا نعرف شيئا من مذاهبهم (7) ولا نروي كتبهم ولا أثر لشيء منها إلا في مواطنهم ، فكتب الشيعة في بلادهم ، وحيث كانت دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن والخوارج كذلك ولكل منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة. هذا كلامه فتأمله واعجب.
    ثم رجع الى مذاهب أهل السنة فذكر انتشار مذهب أبي حنيفة في العراق ومذهب مالك في الحجاز ، ومذهب أحمد في الشام وفي بغداد ، ومذهب الشافعي في مصر ، وهنا قال ما هذا لفظه : ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر بظهور دولة الرافضة ، وتداول بها فقه أهل البيت (8) وتلاشى من سواهم ، الى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب ، ورجع اليهم فقه الشافعي الخ.
    وقال ابن خلدون وأمثاله انهم على الهدى والسنة وان أهل البيت شذاذ مبتدعة وضلال رافضة.

إذا وصف الطائي بالبخل ما در * وعيـر قسـا بالفهامـة باقــل
وقال السهى للشمس أنت ضئيلة * وقال الدجى للصبح لونك حائـل
وطاولت الأرض السماء سفاهة * وكاثرت الشهب الحصى والجنادل

____________
(7) كذب ابن خلدون نفسه في هذه الكلمة ، فانه اذا كان لا يعرف شيئا من مذاهبهم ولا يروى كتبهم ولا أثر لشيء منها عنده فمن أين عرف انهم شذاذ ضلال مبتدعون ومن أين عرف أصولهم واهية « قتل الخراصون ».
(8) انظر كيف اعترف بأن الرافضة يدينون الله بمذهب اهل البيت.

لكم ذخركم ان النبي ورهطــه * وجيلهم ذخري اذا التمس الذخــر
جعلت هواي الفاطميين زلفــة * الى خالقي ما دمت أو دام لي العمر
وكوفني ديني على أن منصبـي * شئــام ونجري أية ذكــر النجر

( 184 )

فيا موت زر ان الحياة ذميمة * ويا نفس جدي ان سبقك هازل

    ولا غرو ان قام المسلم عند سماع هذه الكلمة وقعد ، بل لا عجب أن مات أسفا على الإسلام وأهله ، إذ بلغ الأمر هذه الغاية ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
    أيقول ابن خلدون ان أهل البيت شذاذ ضلال مبتدعون ، وهم الذي أذهب الله عنهم الرجس بنص التنزيل (9) وهبط بتطهيرهم جبرائيل وباهل (10) بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر ربه الجليل ، وقد فرض القرآن مودتهم (11) وأوجب الرحمن ولايتهم (12) وهم سفينة النجاة (13) إذا طغت لجج النفاق ،
____________
(9) اشارة الى قوله تعالى « انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا » فراجع ما علقناه على هذه الآية في الفصل الثاني من المطلب الاول من كلمتنا الغراء.
(10) اشارة الى قوله تعالى « فقل تعالوا ندعوا ابناءنا وأبنائكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل »الآية فراجع ما علقناه عليها في الفصل الاول من الكلمة الغراء ايضا.
(11) اشارة الى قوله تعالى « قل لا اسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى » فراجع ما علقناه عليها في الفصل الثالث من الكلمة الغراء.
(12) اشارة الى ما أخرجه الديلمي وغيره ـ كما في الصواعق وغيرهما ـ عن أبي سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال « وقفوهم انهم مسئولون » عن ولاية علي. وقال الامام الواحدي ـ كما في تفسير هذه الآية من الصواعق أيضا ـ انهم مسئولون عن ولاية علي وأهل البيت.
(13) وقال ابن حجر في صفحة 93 من صواعقه حيث تكلم في تفسير الآية 7 من الآيات التي أوردها في الباب 11 من الصواعق ما هذا لفظه : وجاء من طرق عديدة يقوي بعضها بعضا : انما مثل أهل بيتي فيكم كمثل

=


( 185 )

وأمان الأمة (14) إذا عصفت عواصف الشقاق ، وباب حطة (15) يأمن من دخلها ، والعروة الوثقى لا انفصام لها ، وأحد الثقلين (16) لا يضل من تمسك بهما ،
____________
=
سفينة نوح من ركبها نجا ( قال ) وفي رواية مسلم ومن تخلف عنها غرق ( قال ) وفي رواية هلك الخ.
(14) اشارة الى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « النجوم أمان لاهل الارض من الغرق ، واهل بيتي أمان لامتي من الاختلاف ، فاذا خالفتهم قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس » اخرجه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا وصححه على شرط البخاري ومسلم كما في صفحة 93 من الصواعق المحرقة لابن حجر حيث تكلم في الآية 7 من الباب 11 ـ وأخرج ابن أبي شيبة ومسدد في مسنديهما والترمذي في نوادر الاصول ـ وابو يعلى والطبراني والحاكم عن سلمة بن الاكوع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النجوم أمان لاهل السماء وأهل بيتي امان لأمتي ـ وقد نقله الحافظ السيوطي في كتاب احياء الميت بفضائل اهل البيت والنبهاني في اربعينه وغير واحد من العلماء.
(15) اشارة الى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ، ومثل باب حطة في بني اسرائيل » أخرجه الحاكم عن أبي ذر عليه الرحمة ـ وأخرج الطبراني في الصغير والاوسط عن أبي سعيد قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « انما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ، وانما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني اسرائيل من دخله غفر له ».
(16) اشارة الى قوله صلى الله عليه وآله وسلم « اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما » اخرجه الترمذي والحاكم كما في احياء الميت للسيوطي ، وهو من الاحاديث المستفيضة رواه اكثر المحدثين بألفاظ متقاربة وأسانيدهم فيه صحيحة. قال ابن حجر بعد نقله أياه عن الترمذي وغيره في اثناء تفسيره للآية الرابعة من الباب 11 من صواعقه ما هذا لفظه : ثم اعلم ان لحديث التمسك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيف

=


( 186 )

ولا يهتدي الى الله من ضل عن أحدهما وقد أمرنا صلى الله عليه وآله وسلم بأن نجعلهم منا مكان الرأس (17) من الجسد ، بل مكان العينين من الرأس ، ونهانا عن التقدم عليهم (18) والتقصير عنهم ، ونص على انهم القوامون على الدين ، النافون عنه في كل خلف من هذه الأمة (19) تحريف الضالين ، وقد أعلن صلى الله عليه وآله وسلم بأن معرفتهم براءة من
____________
=
وعشرين صحابيا ( قال ) ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه ، وفي بعض تلك الطرق انه قال ذلك بحجة الوداع بغرفة ، وفي اخرى انه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلات الحجرة بأصحابه ، وفي اخرى انه قال ذلك بغدير خم ، وفي اخرى انه قاله لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف ( قال ) ولا تنافي اذ لا مانع من انه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة.. الى آخر كلامه فراجعه في صفحة 92 من الصواعق.
(17) اشارة الى ما نقله غير واحد من الاعلام كالعلامة الصبان في الصفحة 114 من اسعافه المطبوع في هامش نور الابصار حيث قال ما هذا لفظه : وروى جماعة من أهل السنن من عدة من الصحابة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ( قال ) وفي رواية غرق ( قال ) وفي رواية أخرى زج في النار ( قال ) في اخرى عن أبي ذر زيادة وسمعته يقول : اجعلوا اهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد ومان العينين من الرأس.
(18) اشارة الى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث التمسك بالثقلين « فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم » ونقله عن الطبراني غير واحد من العلماء كالامام أبي بكر العلوي في باب 5 من رشفة الصادي وابن حجر حيث تكلم في تفسير الآية الرابعة في الباب 11 من صواعقه.
(19) اشارة الى ما أخرجه الملا في سيرته بسنده الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : في كل خلف من امتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، الا وان ائمتكم وفدكم الى الله فانظروا من توفدون ـ وقد نقله ابن حجر في صفحة 92 من صواعقه.

( 187 )

النار (20) وحبهم جواز على الصراط ، والولاية لهم أمان من العذاب ـ وأن الأعمال الصالحة لا تنفع عامليها الا بمعرفة حقهم (21) ولا تزول يوم القيامة قدما أحد من هذه الأمة (22) حتى يسأل عن حبهم ولو أن رجلا أفنى عمره قائما وقاعدا وراكعا وساجدا بين الركن والمقام مات غير موال لهم دخل النار (23).
____________
(20) اشارة الى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « معرفة آل محمد براءة من النار وحب آل محمد جواز على الصراط والولاية لآل محمد أمان من العذاب » رواه القاضي عياض في الفصل الذي عقده لبيان ان من توقيره وبره صلى الله عليه وآله وسلم بر آله وذريته من كتابه « الشفاء » فراجع أول الصفحة 41 من قسمه الثاني طبع الاستانة سنة 1328.
(21) اشارة الى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « الزموا مودتنا أهل البيت فانه من لقى الله وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا ، والذي نفسي بيده لا ينفع عبدا عمله الا بمعرفة حقنا » أخرجه الطبراني في الاوسط ونقله السيوطي في احياء الميت بفضائل أهل البيت والنبهاني في أربعينه.
(22) اشارة الى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما افناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله فيما أنفقه ومن اين اكتسبه ، وعن محبتنا أهل البيت. أخرجه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا ونقله السيوطي في احياء الميت والنبهاني في أربعينه.
(23) اشارة الى قوله صلى الله عليه وآله وسلم من حديث أخرجه الطبراني والحاكم « كما في احياء الميت وأربعين النبهاني وغيرهما » فلو ان رجلا صفن « اي صف قدميه » بين الركن والمقام فصلى وصام وهو مبغض لآل محمد دخل النار . واخرج الحاكم وابن حيان في صحيحه « كما في احياء الميت واربعين النبهاني وغيرهما » عن ابي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده لا يبغضنا اهل البيت رجل الا دخل النار.
وأخرج الطبراني « كما في احياء الميت للسيوطي » عن الحسن السبط انه قال لمعاوية بن خديج : اياك وبغضنا فان رسول الله قال لا يبغضنا احد ولا يحسدنا أحد الا ذيد يوم القيامة عن الحوض بسياط من النار ـ

=


( 188 )

فهل يحسن من الأمة المسلمة بعد هذا أن تجري الا على أسلوبهم ، وهل يتسنى لمسلم يؤمن بالله ورسوله أن يستن بغير سنتهم ، فكيف يعدّهم ابن خلدون في أهل البدع بكل صراحة ووقاحة من غير خجل ولا وجل.
    أبهذا أمرته آية القربى وآية التطهير وأيتا أولي الأمر والاعتصام بحبل الله ، أم بهذا أمره سبحانه حيث يقول « وكونوا مع الصادقين » أم به صدع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نصوصه المجمع على صحتها ؟ وقد استقصيناها بطرقها وأسانيدها في كتابنا سبيل المؤمنين ، واستقصتها علماؤنا الاعلام في مؤلفاتهم فراجعها لتعلم حقيقة أهل البيت ومنزلتهم في دين الاسلام.
    على أنهم لا ذنب لهم يستوجب الجفاء ، ولا قصور بهم يقتضي هذا الأعراض ، فليت أهل المذاهب الأربعة نقلوا في مقام الاختلاف مذهب أهل البيت كما ينقلون سائر المذاهب التي لا يعلمون بها ، ما رأيناهم يعاملون أهل البيت هذه المعاملة في عصر من الأعصار ، وانما يعاملونهم معاملة من لم يخلقه الله عز وجل ، أو من لم يؤثر عنه شيء من العلم والحكمة.
    نعم ربما تعرضوا لشيعتهم فنبزوهم بالرفض ، وسلقوهم بألسنة الافتراء كما سمعت في الفصول السابقة ـ وقد ولى زمن الاعتداء واقبل عصر الاخاء وآن لجميع المسلمين ان يدخلوا مدينة العلم النبوي من بابها ويلجوا من باب حطة ويلجأوا الى أمان أهل الأرض بركوب سفينتهم ومقاربة شيعتهم ، فقد زال سوء التفاهم من البين ، وأسفر الصبح عن توثق الروابط بين الطائفتين ، والحمد لله رب العالمين.
____________
=
وأخرج الطبراني في الاوسط كما في احياء الميت واربعين النبهاني عن جابر قال : خطبنا رسول الله فسمعته وهو يقول : أيها الناس من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهوديا .