الرمية ، وانهم شر الخلق والخليقة ، وانهم ليسوا من الله في شيء وان طوبى لمن قتلهم أو قتلوه. وإذا كان هؤلاء مسلمين بالاجماع فما ظنك بمن دخل باب حطة ، وركب سفينة النجاة ، واعتصم بحبل الله ، وتمسك بثقلي رسول الله ، ودخل مدينة علمه من بابها ، ولجأ الى أمان أمته من اختلافها وعذابها. وإذا كان الخوارج مسلمين فمن غيرهم من أهل القبلة يكون كافرا ، وأي ذي نحلة من أهل الإسلام ليس له كشبهتهم.
    ورأيت كلاما في هذا المعنى ناجعا لشيخ السادة الحنفية محمد أمين المعروف بابن عابدين في باب المرتد من كتاب الجهاد في صفحة 302 من الجزء الثالث من رد المحتار ، يحكم قاطعا باسلام من يتأول في سب الصحابة مصرحا بأن القول بتكفير المتأولين بذلك مخالف لاجماع الفقهاء ، مناقض لما في متونهم وشروحهم ، وأن ما وقع في كلام أهل المذهب من تكفيرهم ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون ، بل من غيرهم قال : ولا عبرة بغير الفقهاء ، والمنقول عن الفقهاء ما ذكرناه.. الى آخر كلامه ، وقد اشتمل على أدلة وافية ، وشواهد كافية ، فليطلبه من أراده ، وله كلام آخر في هذا المعنى أبسط مما أشرنا اليه ، نلفت الطالبين له الى كتابه تنبيه الولاة والحكام. على أن ما في رد المحتار مقنع لأُولي الأبصار.
    وقد ألف العلامة الكبير الملا علي القاري الحنفي رسالة في الرد على من يكفر المتأولين بذلك ، كما نص عليه ابن عابدين فيما تقدمت اليه الاشارة من كلامه.
    وقال ابن حزم في صفحة 257 من أواخر الجزء الثالث من فصله ما هذا لفظه : وأما من سبّ أحدا من الصحابة رضي الله عنهم فان كان جاهلا فمعذور وان قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق كمن زنى أو سرق ، وان عاند الله تعالى في ذلك ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو كافر. قال : وقد


( 42 )

قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حاطب ـ وحاطب مهاجري بدري ـ : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فما كان عمر بتكفيره حاطبا كافرا ، بل كان مخطئا متأولا .
    قلت : لا يخفى انه جعل الملاك في التكفير إنما هو العناد لله ورسوله ، وهذا لا وجود له فيمن ينتحل دين الاسلام. نعم قد يكون الساب ( والعياذ بالله ) جاهلا أو ذا شبهة أوردته ذلك المورد ، فيكون معذورا.
    ويدل على عدم كفر المسلم به اطلاق الأحاديث التي سمعتها في كل من الثاني والثالث والرابع والخامس من هذه الفصول فرجع.
    وأيضا يدل على عدم الكفر مضافا الى ذلك ما أورده القاضي عياض في الباب الأول من القسم الرابع من كتاب الشفا نقلا عن القاضي اسماعيل وغير واحد من الأئمة أن رجلا سب أبا بكر بمحضر منه رضي الله عنه ، فقال له أبو برزة الأسلمي : يا خليفة رسول الله دعني أضرب عنقه. فقال : اجلس ليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (11).
    وفي ذلك الباب من الشفا أيضا ان عامل عمر بن عبد العزيز بالكوفة استشاره في قتل رجل سب عمر رضي الله عنه ، فكتب اليه : لا يحل قتل امرء مسلم بسب أحد من الناس إلا رجلا سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن سبه فقد حل دمه .
    قلت : أفضى بنا الكلام الى ما هو غير مقصود بالذات ، وليس الغرض إلا
____________
(11) وروى النسائي بالاسناد الى أبي برزة الاسلمي قال : أتيت ابا بكر وقد أغلظ لرجل فرد عليه ، فقلت : يا خليفة رسول الله دعني أضرب عنقه. فقال : اجلس فليس ذلك لاحد الا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
( 43 )

تأليف المسلمين وإعلامهم بأنهم اخوان في الدين ، ولا نرتاب في ان سب رجل من عرض المؤمنين ـ فضلا عن سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ـ موبقة وفسق ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سباب المسلم فسق وقتاله كفر.
    ولنرجع الى ما كنا فيه فنقول : نقل علي بن حزم الظاهري عن الأشاعرة ما لا يتسنى معه القول بتكفير أحد أصلا ، وإليك عبارته بحروفها ، قال في أثناء شنع المرجئة في ص 206 من الجزء الرابع من فصله : وأما الأشعرية فقالوا : إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم ، وإعلان التكذيب لهما باللسان بلا تقية ولا حكاية ، والاقرار بأنه يدين بذلك ليس شيء من ذلك كفرا .
    وفي صفحة 204 من الجزء الرابع من الفصل ايضا : نسب الى الامام أبي الحسن الأشعري وجميع أصحابه القول بأن الايمان عقد بالقلب ، وأن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية ، وعبد الاوثان أو لزم اليهودية او النصرانية في دار الاسلام ، وعبد الصليث واعلن التثليث في دار الاسلام ، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الايمان عند الله عز وجل من أهل الجنة .
    ولا يخفى انه إذا ثبت هذا عن الامام الأشعري وأصحابه ـ وهم جميع اخواننا السنيين في هذه الاعصر ـ هان الأمر في مسألتنا ، إذ لا يمكنهم حينئذ تكفير من يجاهرهم بصريح الكفر ، فكيف يتسنى لهم تكفير من انطوى ضيمره على تقديس الله عز وجل ، وانعقد قلبه على تنزيهه ، ونبضت شرايينه بتسبيحه ، ونبت لحمه واشتد عظمه على توحيده ، وخالط الايمان مخه ودمه وامتزج بجميع عناصره ، فشهد به لسانه ، وبخعت له أركانه ، واعترفت به حركاته ، وأقرت به سكناته ، مؤمنا برسوله ، موقنا بجميع ما جاء به من عند الله عز وجل ، يحيي ما أحياه الكتاب والسنة ، ويميت ما أماتاه ، لكن


( 44 )

منينا بقوم همهم تفريق المسلمين ودأبهم بث العداوة بين الموحدين ( وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ).
    وعن الأوزاعي : والله لئن نشرت لا أقول بتكفير أحد من أهل الشهادتين.
    وعن ابن سيرين : أهل القبلة كلهم ناجون.
    وسئل الحسن البصري عن أهل الأهواء ؟ فقال : جميع أهل التوحيد من أمة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يدخلون الجنة البتة.
    وسئل الزهري عمن لابس الفتن وقاتل فيها ؟ فقال : القاتل والمقتول في الجنة ، لانهم من أهل لا إله إلا الله.
    وعن سفيان الثوري : لاثل عداوة موحد وإن مال به الهوى عن الحق لأنه لا يهلك بذلك.
    وعن سعيد بن المسيب : لا تعاد منتحلا لدين الاسلام وان أخطأ ، فكل مسلم مغفور له.
    وعن ابن عيينة : لأن تأكل السباع لحمي أحب إليّ من أن ألقى الله تعالى بعداوة من يدين له بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة.
    قلت : أي حكمة في عداوته الا اعلانه فيما يسيئك ومجاهرته فيما يخالفك ، وحرية بالمذاهب والأديان تخول ذلك ، ولو تحببت اليه ثم ناظرته فعسى ان يتبين له صوابك فيتبعك ، أو يريك الحق فتوافقه. على أنه ما صار الى خلافك عنادا للحق ، أو رغبة في الباطل ، ضرورة ان ذلك لا يفعله ـ في مقام التقرب الى الله تعالى ـ عاقل.
    أجل سيق قسرا الى مخالفتك في بعض ما تتبره من الفروع بسياط الأدلة


( 45 )

القاطعة ، ومقارع الحجج الساطعة ، وهبها شبها ( كما تزعم ) لكنها توجب العذر لمن غلبت عليه ( لأنها مع كونها من الكتاب والسنة ) افادته افادة القطع بما قادته اليه ، فإن كان مصيبا فله أجران وإلا فقد أجمع المسلمون على معذرة من تأول ( في غير اصول الدين ) وإن أخطأ كما تشهد به أخبارهم وتفصح عنه أسفارهم وتعلنه أفعالهم وأقوالهم.


( 46 )

الفصل السابع
في بشائر السنة للشيعــة ، وهي صحاح
متظافرة من طريق العترة الطاهرة ، وإليك
منها ما أخرجه محدثـوا أهــل السنــة
بأسانيدهم وطرقهم.






    روى الحافظ جمال الدين الزرندي عن ابن عباس ـ كما في صفحة 96 من الصواعق المحرقة لابن حجر (1) ـ انه قال : لما أنزل الله تعالى « ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنهم ذلك لمن خشي ربه » قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي : وهم أنت وشيعتك ، وتأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، ويأتي عدوك غضابى مقمحين.
    واخرج الحاكم في شواهد التنزيل عن ابن عباس أيضا : قال نزلت هذه الآية « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية » في علي وأهل البيت ، وعدها ابن حجر في الفصل الأول من الباب 11 من صواعقه في جملة
____________
(1) راجع النسخة المطبوعة بالمطبعة الميمنية بمصر سنة 1324 هـ ، وكل ما ننقله عن الصواعق فانما ننقله عن هذه النسخة.
( 47 )

الآيات النازلة فيهم عليهم السلام ـ فراجع الآية الحادية عشرة من الآيات التي أوردناها هناك (2).
    واخرج الحاكم في كتابه شواهد التنزيل بالاسناد الى علي قال : قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانا مسنده الى صدري ، فقال : يا علي ألم تسمع قول الله تعالى « إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية » هم شيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض ، يُدعَون غرا محجلين.
    واخرج الديلمي ـ كما في ص 96 من الصواعق المحرقة ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي إن الله قد غفر لك ولولدك ولذريتك ولأهلك ولشيعتك ولمحبي شيعتك ، فابشر فإنك الأنزع البطين.
    وأخرج الطبراني وغير واحد من المحدثين ان عليا اتي يوم البصرة بذهب وفضة ، فقال : أبيضاء وصفراء غري غيري ، غري أهل الشام غدا إذا ظهروا عليك ، فشق قوله هذا على الناس فذكر ذلك له ، فاذن في الناس فدخلوا عليه ، فقال : ان خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا علي إنك ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه عدوك غضابى مقمحين. قال : ثم جمع علي يده الى عنقه يريهم الاقماح .
    وقد أورد ابن حجر هذا الحديث في صفحة 92 من صواعقه وعلق عليه كلاما يضحك الثكلى ، ونحن نأخذ بما روى ونعرض عما رأى.
    واخرج الطبراني ـ كما في صفحة 96 من الصواعق أيضا ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي : اول اربعة يدخلون الجنة انا وانت والحسن والحسين ، وذريتنا خلف ظهورنا ، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا.
____________
(2) في صفحة 96 من الصواعق.
( 48 )

    واخرج احمد بن حنبل في المناقب ـ كما في صفحة 96 من الصواعق أيضا ـ ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي : اما ترضى انك معي في الجنة والحسن والحسين وشيعتنا عن ايماننا وشمائلنا.
    واخرج الحاكم ـ كما في تفسير آية المودة في القربى من مجمع البيان ـ بالاسناد الى ابي الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أن الله تعالى خلق الأنبياء من اشجار شتى ، وخلقت انا وعلي من شجرة واحدة ، فأنا اصلها وعلي فرعها وفاطمة لقاحها والحسن والحسين ثمارها واشياعنا اوراقها ، فمن تعلق بغصن من اغصانها نجا ، ومن زاغ عنها هوى ، ولو ان عبدا عبدالله الف عام ثم الف عام ثم الف عام حتى يصير كالشن البالي وهو لا يحبنا كبّه الله على منخريه في النار ، ثم تلا : « قل لا اسألكم عليه اجرا إلا المودة في القربى ».

    تنبيه :
    لا يخفى ان شيعة علي وأهل البيت هم أتباعهم في الدين وأشياعهم من المسلمين ، ونحن والحمد لله قد انقطعنا اليهم في فروع الدين وعقائده وأصول الفقه وقواعده وعلوم السنة والكتاب وفنون الاخلاق والسلوك والآداب بخوعا لامامتهم واقراراً بولايتهم ، وقد والينا أوليائهم وجانبنا أعداءهم ، عملا بقواعد المحبة وطبقا لاصول الاخلاق في المودة ، فكنا بذلك لهم شيعة وكانوا لنا وسيلة وذريعة. والحمد لله على هدايته لدينه والتوفيق لما دعا اليه الرسول من التمسك بثقليه والاعتصام بحبليه ودخول مدينة علمه من بابها ، باب حطة وأمان أهل الأرض وسفينة نجاة هذه الأمة ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
    واخرج ابن سعد ( كما في صفحة 91 من الصواعق ) عن علي : اخبرني


( 49 )

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان اول من يدخل الجنة انا وفاطمة والحسن والحسين. قلت يا رسول الله فمحبونا ؟ قال : من ورائكم.
    وأخرج الديلمي ( كما في الصواعق ايضا ) مرفوعا : إنما سميت ابنتي فاطمة لأن الله فطمها ومحبيها عن النار (1).
    واخرج ابن حنبل والترمذي ( كما في صفحة 91 من الصواعق ) انه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد الحسنين وقال : من أحبني واحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة (2).
    واخرج الثعلبي في تفسيره الكبير بالاسناد الى جرير بن عبدالله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من مات على حب آل محمد (3) مات
____________
(1) واخرج النسائي نحوه كما في صفحة 96 من الصواعق.
(2) وأخرجه ايضا أبو داوود ( كما في صفحة 103 من الصواعق ) وزاد فيه : « ومات متبعا لسنتي » ، وبها يعلم ان اتباع سنته لا يكون الا بمحبتهم (عليهم السلام ).
(3) المراد من آل محمد في هذا الحديث ونحوه مجموعهم من حيث المجموع ، باعتبار ائمتهم الذين هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوصياؤه. ووارثوا حكمه وأولياؤه ، وهم الثقل الذي قرنه بالقرأن ونص على انهما لا يفترقان ، فلا يضل من تمسك بهما ولا يهتدي من تخلى عنهما ، وليس المراد هنا من الآل جميعهم على سبيل الاستغراق والشمول لكل فرد فرد ، لان هذه المرتبة السامية ليست الا لأولياء الله القوامين بأمره ، لخاصة بحكم الصحاح المتواترة من طريق العترة الطاهرة.
    نعم تجب محبة جميع أهل بيته وذريته كافة لتفرعهم من شجرته الطاهرة صلى الله عليه وآله وسلم ، وبذلك تحصل الزلفى لله تعالى والشفاعة من جدهم بأبي هو وأمي ، وكنت أوصيت اولادي ان يكتبوا هذا الحديث على كفني بعد الشهادتين لألقى الله تعالى بذلك ، والآن اكرر وصيتي هذه اليهم ولتكن الكتابة على العمامة.

( 50 )

شهيدا ، الا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له ، الا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا ، الا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الايمان ، الا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير ، الا ومن مات على حب آل محمد يزف الى الجنة كما تزف العروس الى بيت زوجها ، الا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان الى الجنة ، الا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، الا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، الا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ـ الحديث.
    وقد ارسله الزمخشري في تفسير آية المودة في القربى من سورة الشورى من كشافه ارسال المسلمات ، ورواه المؤلفون في المناقب والفضائل مرسلا مرة ومسندا تارات. وانت تعلم ان هذه المنزلة السامية إنما ثبتت لهم لأنهم حجج الله البالغة ، ومناهل ، شرائعه السائغة وأمناؤه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وحيه ، وسفراؤه في أمره ونهيه ، فالمحب لهم بسبب ذلك محب لله والمبغض لهم مبغض لله. ومن هنا قال فيهم الفرزدق.

من معشر حبهم دين وبغضهم * كفــر وقربهــم منجى ومعتصم
إن عُد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

    واخرج احمد « كما في أواخر الفصل الثاني من الباب 9 من الصواعق (4) » عن علي قال : طلبني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدني في حائط فقال : قم والله لأرضينك ، أنت اخي وابو ولدي تقاتل على سنتي ، من مات على عهدي فهو في كنز الجنة ومن مات على عهدك فقد قضى نحبه ، ومن مات يحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن والايمان ما طلعت شمس أوغربت.
____________
(4) صفحة 75.
( 51 )

    وأورد ابن حجر في اوائل المقصد الثاني من المقاصد التي ذكرها في آية المودة في القربى من صواعقه حديثا هذا لفظه (5) ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه ذات يوم ووجهه مشرق كدائرة القمر ، فساله عبدالرحمن بن عوف عن ذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم : بشارة اتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي ، بأن الله زوّج عليا من فاطمة ، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى فحملت رقاقا ـ يعني صكوكا ـ بعدد محبي أهل بيتي ، وأنشأ تحتها ملائكة من نور دفع الى كل ملك صكا ، فإذا استوت القيامة بأهلها نادت الملائكة في الخلائق فلا يبقى محب لأهل البيت إلا دفعت اليه صكا فيه فكاكا من النار ، فصار أخي وابن عمي وابنتي فكّاك رقاب رجال ونساء من أمتي من النار والأخبار في هذا لا يحتملها هذا الاملاء ، وفي هذا القدر كفاية لمن كانت لله تعالى فيه عناية.
    فعسى أن يعرف الشيعي بعد هذا ان أهل السنة قد انصفوا واعترفوا ، وعسى أن يعرف السني ان لا وجه بعد هذه المبشرات لشيء من الضغائن أو الهناة. والسلام على من اتبع السنن وجانب الفتن ورحمة الله وبركاته.
____________
(5) راجعه في صفحة 103 من الصواعق ورواه غير واحد ممن كتب في المناقب والفضائل.
( 52 )

الفصل الثامن
نضمنه طائفة ممن تأولوا من السلف
فخالفوا الجمهور ولم يقدح ذلك في
عدالتهم.





    وغرضنا الذي نرمي اليه إنما هو إيضاح معذرة المتأولين من المسلمين ، وذلك انك إذا رأيت صالح سلفك ومن اخذت عنه دينك واتخذته واسطة بينك وبين نبيك صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخالفك مجتهدا وينحو غير نحوك متأولا فلا جرم انك تقطع حينئذ بمعذرة من يتأول من معاصريك نحو تأوله أو يخالفك مثل خلافه.
    وانا أرجوا ممن خدمتهم من إخواني المسلمين بهذه الرسالة أن ينظروا بعين الانصاف هل كان بين الله عز وجل وبين أحد من الناس قرابة فيحابيه ؟ كلا ! ما كان الله ليعاقب قوما بأمر يثيب به آخرين ، وإن حكمه في الأولين والآخرين لواحد ، وما بين الله تعالى وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين.
    إن المتأولين بما يخالف الجمهور من الصحابة والتابعين وتابعيهم كثيرون لا يسعنا استقصاؤهم وإنما نذكر منهم ما يحصل به الغرض :


( 53 )

    هذا أبو ثابت سعد بن عبادة العقبي البدري سيد الخزرج ونقيبهم وجواد الانصار وعظيمهم ، تخلف عن بيعة الخليفتين ، وخرج مغاضبا الى الشام فقتل غيلة بحوران سنه 15 للهجرة ، وله كلام يوم السقيفة وبعده نلفت الطالبين له الى كتاب الامامة والسياسة لابن قتيبة أو الى تاريخ الطبري أو كامل ابن الأثير أو غيرها من كتب السير والأخبار ، فاني لا اظنه يخلو من كتاب يشتمل على ذكر السقيفة ، وكل من ذكر سعدا من أهل التراجم ذكر تخلفه عن البيعة ، ومع ذلك لم يرتابوا في كونه من أفضل المسلمين وعدول المؤمنين ، وما ذاك إلا لكونه متأولا ، فهو معذور عندهم وان كان مخطئا.
    وهذا حباب بن المنذر بن الجموح الانصاري البدري الاحدي ، تخلف عن البيعة أيضا كما هو معلوم بحكم الضرورة من تاريخ السلف ، فلم يقدح ذلك في عدالته ولا انقص من فضله ، وهوالقائل : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب (1) انا أبو شبل في عرينة الأسد ، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة. وله كلام آخر رأينا الاعراض عنه أولى ، ولولا معذرة المتأولين ما كان أهل السنة ليقطعوا بأن هذا الرجل من أفاضل أهل الجنة ، ومع مكاشفته للخليفتين بما هو مبسوط في كتب الفريقين.
    وهذا أمير المؤمنين عليه السلام ، وعمه العباس وبنوه ، وعتبة بن أبي لهب ، وسائر بني هاشم ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر ، والمقداد ، وعمار ، والزبير ، وخزيمة بن ثابت ، واُبي بن كعب ، وفروة بن عمرو بن ودقة الانصاري ، وخالد ابن سعد بن العاص ، والبراء بن عازب ، ونفر غيرهم تخلفوا عن البيعة أيضا بحكم ما تواتر من الأخبار واتضح اتضاح الشمس في رائعة النهار ، وقد نص الشيخان
____________
(1) الجذيل مصغر جذل : عود ينصب للجرباء لتحتك به. والعذيق مصغر عذق : قنو النخلة. والمرجب : المبجل ، والتصغير هنا للتعظيم.
( 54 )

البخاري ومسلم في صحيحيهما (2) على تخلف علي عن البيعة حتى لحقت سيدة النساء بأبيها صلى الله عليه وآله وسلم وانصرفت عنه وجوه الناس.
    وصرح بتخلفه المؤرخون كابن جرير الطبري في موضعين من احداث السنة الحادية عشرة من تاريخه المشهور ، وابن عبد ربه المالكي في حديث السقيفة من الجزء الثاني من العقد الفريد (3) وابن قتيبة في أوائل كتابه الامامة والسياسة وابن الشحنة حيث ذكر بيعة السقيفة في كتابه « روضة المناظر » (4) وأبي الفداء حيث اتى على ذكر أخبار أبي بكر وخلافته في تاريخه الموسوم بالمختصر اخبار البشر ونقله المسعودي في مروج الذهب عن عروة بن الزبير في مقام الاعتذار عن أخيه عبدالله (5) إذ هم بتحريق بيوت بني هاشم عليهم حين تخلفوا عن بيعته ، ورواه الشهرستاني عن النظام عند ذكره للفرقة النظامية في كتابه
____________
(2) راجع أواخر باب غزوة خيبر في صفحة 36 من الجزء الثالث من صحيح البخاري المطبوع في مصر سنة 1309 وفي هامشه تعليقة السدي ، أو باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نورث ما تركنا فهو صدقة من كتاب الجهاد والسير من صحيح مسلم في صفحة 72 من الجزء الثاني طبع مصر سنة 1327 تجد التصريح بتخلفه عن البيعة مسندا الى ام المؤمنين عائشة ( رض ).
(3) في ص 197 من النسخة المطبوعة في مصر سنة 1305 وفي هامشها زهر الآداب.
(4) هذا الكتاب ومروج الذهب مطبوعان في الهامش من كامل ابن الأثير ، أما مروج الذهب فمطبوع مع الخمس الاول من مجلدات الكامل ، وهذا الكتاب ـ أعني تاريخ ابن الشحنة ـ في هامش المجلد الأخير المشتمل على جزء 11 وجزء 12 ، وما نقلناه عنه هنا موجود في صفحة 112 من الجزء الحادي عشر فراجع.
(5) عرفت ان مروج الذهب مطبوع في هامش ابن الاثير ، وما نقلناه الآن عنه موجود في آخر صفحة 259 من الجزء السادس فراجع.

( 55 )

الملل والنحل ، وأورده ابن ابي الحديد المعتزلي الحنفي في اوائل الجزء السادس من شرح النهج (6) ، ونقله العلامة في نهج الصدق عن كتاب المحاسن وانفاس الجواهر وغرر ابن خزابة وغيرها من الكتب المعتبرة ، وأفرد أبو مخنف لبيعة السقيفة كتابا على حدة فيه تفصيل ما أجملناه من تخلف علي عن البيعة وعدم اقراره لهم بالطاعة.
    وهذا من أدل الأمور على معذرة المتأولين ، ومن يجتريء على أخي النبي ووليه ووارثه ووصيه ( وانه في ام الكتاب لدينا لعلي حكيم ) فيقول إنه كان حينئذ عاصيا لله سبحانه ، وهو أول من آمن به وأطاعه من هذه الامة ، أو يقول انه كان مخالفا للسنة ، وهو قيمها ووارثها وصاحب العناء بتأييدها ، وقد انتهى اليه ميراثها ، أو يزعم ابمه كان مفارقا لشقيقه القرآن وقد نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على انهما لا يفترقان (7) او يتوهم انه كان مجانب للصواب ، وقد اذهب عنه الرجس وطهره نص الكتاب ، أو يقول انه كان متنكبا عن الحق ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « علي مع الحق والحق مع علي يدور معه كيف دار » او يقول انه قعد به الجهل بحكم هذه البيعة ، وهو اقضى الأمة وباب مدينة العلم ( ومن عنده علم الكتاب ).
    وهذا ابو سفيان صخر بن حرب تخلف عن البيعة أيضا وهو القائل يومئذ (8) اني أرى غبرة لا يطفئها إلا دم ، وجعل يطوف في أزقة المدينة ويقول :
____________
(6) في اوائل الصفحة الخامسة من المجلد الثاني من الشرح طبع مصر.
(7) أخرج الطبراني في الاوسط « كما في الفصل الثاني من الباب التاسع من الصواعق صفحة 74 » عن ام سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض.
(8) هذا وما بعده حتى البيتان موجود في حديث السقيفة من العقد الفريد فراجع.

( 56 )

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم * ولا سيما تيم بن مرة أو عـدي
فما الامــر فيكــم واليكـم * وليس لهــا إلا أبو حسن علي

    وقال (9) فما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ، ثم قال لعلي : ابسط يديك أبايعك ، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجلا ، فأبى أمير المؤمنين عليه السلام ، فتمثل بقول المتلمس :

ولن يقيم على خسـف يراد بـه * إلا الاذلان عيـر الحـي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته * وذا يشـج فلا يبكـي لـه أحـد

    هذا بعض ما كان منه يومئذ ، ونحن ( الامامية ) لا نحمل فعله هذا إلا على إرادة الفتنة ، وشق عصا المسلمين ، ولذا زجره أمير المؤمنين عليه السلام وقال له (10) والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة ، وانك والله طالما بغيت للاسلام شرا.
    وإنما ذكرناه في عداد المتأولين مجاراة لمن يحمل أفعاله على الصحة ، لتتم حجتنا عليهم به في معذرة المتأولين ، ضرورة انه لا يمكن أن يكون معذورا عندهم في هذا التخلف إلا بناء على ذلك الأصل.
    وهذه سيدة نساء العالمين ، وبضعة خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ، قد علم الناس ما كان بينها وبين أبي بكر إذ هجرته فلم تكلمه حتى ماتت ودفنها أمير المؤمنين ليلا ، ولم يؤذن بها إلا نفرا من شيعته لئلا يصلي
____________
(9) هذا وما بعده حتى البيتان الاخيران موجود في حديث السقيفة من كامل ابن الاثير.
(10) نقلناه عن كامل ابن الاثير.

( 57 )

عليها غيرهم ، وهذا من المسلمات اخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين (11) ورواه الامام احمد من حديث أبي بكر في آواخر صفحة 6 من الجزء الأول من مسنده ، وذكره أهل الأخبار ، ونص عليه ارباب السير ، وحسبك من ذلك ما اودعه الامام ابن قتيبة كتابه في كتابه الامامة والسياسة ونقله العلامة المعتزلي عن ثقاة المؤرخين في شرحه لنهج البلاغة.
    ولها خطبتان تفرغ فيهما عن لسان أبيها صلى الله عليه وآله وسلم ، احداهما في ميراثها والثانية في امر الخلافة ، أوردهما احمد بن عبدالعزيز الجوهري في كتابه والعلامة المعتزلي في الجزء 16 من شرح النهج (12) واليكهما في كتاب بلاغات النساء (13) والاحتجاج والبحار وغيرها من كتب الفريقين ، لتكون على يقين من معذرة المتاولين.
    وهذا ابو سليمان خالد بن الوليد المخزومي ، قتل يوم البطاح مالك بن نويرة ابن حمزة بن شداد بن عبد بن ثعلبة بن يربوع التميمي ، ونكح زوجته أم تميم بنت المنهال وكانت من اجمل النساء ، ثم رجع الى المدينة وقد غرز في عمامته اسهما فقام اليه عمر (رض) فنزعها وحطمها ، وقال له ( كما في تاريخ ابن الأثير وغيره ) قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته ، والله لأرجمنك بأحجارك. ثم قال لأبي بكر ( كما في ترجمة ثمية بن موسى من وفيات ابن خلكان ) إن خالدا
____________
(11) راجع أواخر باب غزوة خيبر في صفحة 36 من الجزء 3 من صحيح البخاري أول كتاب الفرائض في صفحة 105 من الجزء الرابع من صحيحه ايضا أو باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نورث ما تركنا فهو صدقة من كتاب الجهاد في صفحة 72 من الجزء 2 من صحيح مسلم.
(12) اما الاولى فموجودة في صفحة 79 والثانية في صفحة 87 من المجلد الرابع من شرح النهج طبع مصر.
(13) لمؤلفه أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المتوفى سنة 280 فراجع منه صفحة 16 و 23.

( 58 )

قد زنى فارجمه. قال : ما كنت لأرجمه ، فانه تأول فاخطأ. قال : إنه قتل مسلما فاقتله به. قال : ما كنت لاقتله به ، إنه تأول فأخطأ. فلما أكثر عليه قال : ما كنت لأشيتم سيفا سلّه الله تعالى ، وودى مالكا من بيت المال وفك الأسرى والسبايا من آله. وهذه واقعة من المسلمات ، لا ريب في صدورها من خالد (14) وقد ذكرها محمد بن جرير الطبري في تاريخه وابن الأثير في كامله ، ووثيمة بن موسى بن الفرات والواقدي في كتابيهما ، وسيف بن عمر في كتاب الردة والفتوح ، والزبير بن بكار في الموفقيات ، وثابت بن قاسم في الدلائل ، وابن حجر العسقلاني في ترجمة مالك من إصابته ، وابن الشحنة في روضة المناظر ، وأبو الفداء في المختصر ، وخلق كثير من المتقدمين والمتأخرين ،
____________
(14) وله واقعة اخرى ايام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك انه بعثه الى بني جذيمة داعيا ولم يبعثه مقاتلا ، وكانت جذيمة قتلت في الجاهلية عمه الفاكه بن المغيرة ، فلما ورد عليهم قال لهم : ضعوا سلاحكم فان الناس قد اسلموا ، فوضعوا سلاحهم فأمر بهم فكتفوا ثم عرضهم على السيف وقتل منهم مقتلة عظيمة ، فلما انتهى الخبر الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع يده الى السماء فقال « كما في باب بعث خالد بن الوليد الى جذيمة من كتاب المغازي من صحيح البخاري في صفحة 47 من جزئه الثالث » : اللهم اني ابرأ اليك مما صنع خالد ـ مرتين.
    ثم أرسل عليا « كما في كامل ابن الاثير وغيره » ومعه مال ، وأمره ان ينظر في أمرهم فودى لهم الدماء والاموال حتى انه ودى ميلغة الكلب ، وبقي معه من المال فضلة ، فقال لهم : هل بقي لكم مال أو دم لم يود ؟ قالوا : لا. قال : فاني أعطيكم هذه البقية احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعل ثم رجع فاخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال اصبت واحسنت.
    هذا ما نقله جميع المؤرخين وكل من ترجم خالدا ، حتى قال ابن عبد البر بعد ان ذكر هذا الخبر عنه في ترجمته من الاستيعاب ، ما هذا لفظه : وخبره في ذلك من صحيح الاثر .

( 59 )

والكل ذكروا اعتذار أبي بكر عن خالد بأنه تأول فأخطأ.
    وإذا كان ابو بكر أو من نص على معذرة المتأولين ، فمن ذا يرتاب في ذلك من جمهور المسلمين.
    وليت شعري متى كان التأول في الفروع شيئا نكرا أم كيف لا يكون عند الله والمؤمنين عذرا ، وقد تأول السلف كثيرا من ظواهر الأدلة لأمور ظنوا فيها صلاح الملة ، فبخع لتأولهم جمهور المسلمين ، وانقطع اليهم في كل ما يتعلق بالدين ، تقديسا لتأولهم واجتهادهم وتنزيها لغرضهم ومرادهم ، واليك مضافا الى ما تلوناه تلميحا الى بعض تأويلهم وإشارة الى اليسير من اجتهاداتهم ، وذكر ذلك مختصرا في العبارة والحر تكفيه الاشارة.
    فمنها تأولهم في الطلاق الثلاث وحكمهم فيه بخلاف ما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر كما هو مقرر معلوم.
    ففي باب طلاق الثلاث من كتاب الطلاق من صحيح مسلم في صفحة 574 من جزئه الأول عن ابن عباس بطرق مختلفة قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. قال : فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضينا عليهم. قال : فأمضاه عليهم .
    ونقله قاسم بك أمين في صفحة 173 من كتابه « تحرير المرأة » عن صحيح البخاري ونقله الفاضل الرشيد في صفحة 210 من المجلد الرابع من مناره عن أبي داوود والنسائي والحاكم والبيهقي ثم قال ما هذا لفظه : ومن قضاء النبي بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس (15) قال : طلق ركانة امرأته ثلاثا
____________
(15) وذكره ابن اسحاق في صفحة 191 من الجزء 2.
( 60 )

في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا ، فساله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف طلقتها ؟ قال : ثلاثا. قال في مجلس واحد ؟ قال : نعم. قال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت .
    قلت : وهذا مذهبنا في المسألة ، ويدل عليه مضافا الى ما سمعت (16) وكونه مقتضى الأصل قوله تعالى « الطلاق » الذي تحل المطلقة من بعده إنما هو « مرتان » فإن طلقها مرتين فالواجب عليه بعد ذلك ما أشار إليه سبحانه بقوله « فامساك » بعد التطليقتين المتفرقتين « بمعروف أو تسريح » حينئذ « باحسان » الى أن قال عز اسمه: « فإن طلقها » أي مرة ثالثة بعد المرتين المتفرقتين « فلا تحل له من بعد » ذلك التطليق الثالث « حتى تنكح زوجا غيره ».
    وعلى هذا فلو قال لزوجته « أنت طالق ثلاثا » ولم يكن طلقها من قبل أصلا ، أو كان قد طلقها مرة واحدة فلا مانع لهما ان يتراجعا وان لم ينكحها غيره ، لأن المنفي في الولاية إنما هو حل ارجاعها من بعد التطليق الثالث المسبوق بتطليقتين كما لا يخفى. بيد أن أبا حفص (رض) تأول الآية وسائر
____________
(16) ويدل عليه ايضا ما نقله قاسم بك امين في صفحة 172 من كتابه تحرير المرأة عن النسائي والقرطبي والزيلعي بالاسناد الى ابن عباس قال : اخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل طلق امراته ثالثا جمعا ، فقام غضبان ثم قال أتلعبون بكتاب الله وانا بين أظهركم ، قلت : وفي تفسير سورة الطلاق من الكشاف نحوه ، وربما قيل ان هذا الحديث دال على فساد الطلاق الثلاث بالمرة لكونه لعبا ، وبذلك قال سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين ، لكن الحق ان اللعب انما هو في قوله ثلاثا فيلغى واما قوله انت طالق فيؤثر اثره اذا لا لعب فيه كما هو واضح.
( 61 )

ادلة المسألة (17) عقوبة للمستعجلين وردعا لأهل الطيش والجاهلين ، وهذا كاف لك في معذرة المتأولين. فتدبر ولا تكن من الغافلين.
    ومنها تأولهم في متعة الحج ومتعة النساء وحكمهم فيهما بخلاف ما كانتا عليه ايام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هو مقرر معلوم ، وبيان ذلك على التفصيل يستوجب مباحث :
____________
(17) وفي الصفحة 212 من المجلد 4 من المنار تصريح بأن عمر قد اجتهد في هذه المسألة.