المدرسة الاسلامية ::: 76 ـ 90
(76)

(77)
    التعليل الصحيح للمشكلة :
    ولأجل أن نصل إلى الحلقة الأولى في تعليل المشكلة الاجتماعية علينا أن نتساءل : عن تلك المصلحة المادية الخاصة التي أقامها النظام الرأسمالي ، مقياساً ومبرراً وهدفاً وغاية نتساءل : ما هي الفكرة التي صححت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به ؟. فإن تلك الفكرة هي الأساس الحقيقي للبلاء الاجتماعي ، وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته ، وإذا استطعنا أن نقضي على تلك الفكرة ، فقد وضعنا حداً فاصلاً لكل المؤامرات على الرفاه الاجتماعي ، والالتواءات على حقوق المجتمع وحريته الصحيحة ، ووفقنا الى استثمار الملكية الخاصة لخير الإنسانية ورقيها ، وتقدمها في المجالات الصناعية وميادين الانتاج.
    فما هي تلك الفكرة ؟.
    ان تلك الفكرة تتلخص في التفسير المادي المحدود للحياة الذي أشاد عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبار. فإن


(78)
كل فرد في المجتمع إذا آمن بأن ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو حياته المادية الخاصة ، وآمن أيضاً بحريته في التصرف بهذه الحياة واستثمارها ، وانه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلا اللذة التي توفرها له المادة .. وأضاف هذه العقائد المادية إلى حب الذات ، الذي هو من صميم طبيعته ، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليون وينفذ اساليبهم كاملة ما لم تحرمه قوة قاهرة من حريته وتسد عليه السبيل.
    وحب الذات هو : الغريزة التي لا نعرف غريزة أعم منها وأقدم ، فكل الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها ، بما فيها غريزة المعيشة. فان حب الإنسان ذاته ـ الذي يعني حبه للذة والسعاة لنفسه ، وبغضه للالم والشقاء لذاته ـ هو الذي يدفع الإنسان الى كسب معيشته ، وتوفير حاجياته الغذائية والمادية. ولذا قد يضع حداً لحياته بالانتحار ، اذا وجد أن تحمل ألم الموت اسهل عليه من تحمل الآلام التي تزخر بها حياته.
    فالواقع الطبيعي الحقيقي اذن ، الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلها ويوجهها بأصابعه هو : حب الذات ، الذي نعبر عنه بحب اللذة وبغض الالم. ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمل مختاراً مرارة الالم دون شيء من اللذة ، في سبيل أن يلتذ الآخرون ويتنعموا ، إلا اذا سلبت منه انسانيته ، وأعطي طبيعة جديدة لا تتعشق اللذة ولا تكره الالم.


(79)
    وحتى الالوان الرائعة من الايثار ، التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تاريخه .. تخضع في الحقيقة ايضاً لتلك القوة المحركة الرئيسية : ( غريزة حب الذات ). فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه ، وقد يضحي في سبيل بعض المثل والقيم .. ولكنه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحس فيها بلذة خاصة ، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن ايثاره لولده وصديقه ، او تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها.
    وهكذا يمكننا أن نفسر سلوك الإنسان بصورة عامة ، في مجالات الانانية والايثار على حد سواء. ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة : مادية كالالتذاذ بالطعام والشراب والوان المتعة الجنسية وما اليها من اللذائذ المادية. أو معنوية كالالتذاذ الخلقي والعاطفي ، بقيم خلقية أو أليف روحي او عقيدة معينة ، حين يجد الإنسان ان تلك القيم او ذلك الاليف أو هذه العقيدة جزء من كيانه الخاص. وهذه الاستعدادات التي تهيئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوعة ، تختلف في درجاتها عند الاشخاص ، وتتفاوت في مدى فعليتها .. باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثر فيه. فبينما نجد ان بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية ، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً ، نجد ان ألواناً


(80)
اخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان ، وتظل تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتحها. وغريزة حب الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات. فهي تدفع انساناً الى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع ، وهي بنفسها تدفع انساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه. لأن استعداد الإنسان الأول للالتذاذ بالقيم الخلقية والعاطفية الذي يدفعه الى الايثار كان كامناً ، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته. بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية ، فأصبح يلتذ بالقيم الخلقية والعاطفية ، ويضحي بسائر لذاته في سبيلها.
    فمتى أردنا ان نغير من سلوك الإنسان شيئاً ، يجب ان نغير من مفهوم اللذة والمنفعة عنده ، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العام لغريزة حب الذات.
    فاذا كانت غريزة حب الذات بهذه المكانة من دنيا الإنسان وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة : عن طاقه مادية محدودة وكانت اللذة عبارة : عما تهيئه المادة من متع ومسرات .. فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بأن مجال كسبه محدود ، وان شوطه قصير وان غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذة المادية. وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادية وهو المال ، الذي يفتح امام الإنسان السبيل الى تحقيق كل


(81)
أغراضه وشهواته.
    هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادية ، الذي يؤدي إلى عقلية رأسمالية كاملة.
    أفترى أن المشكلة تحل حلاً حاسماً إذا رفضنا مبدأ الملكية الخاصة ، وأبقينا تلك المفاهيم المادية عن الحياة ، كما حاول اولئك المفكرون ؟!. وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم بالقضاء على الملكية الخاصة فقط ، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره ؟! ، مع ان ضمان سعادته واستقراره يتوقف الى حد بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الاصلاحية ، في ميدان العمل والتنفيذ. والمفروض في هؤلاء المسؤولين أنهم يعتنقون نفس المفاهيم المادية الخالصة ، عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية ، وانما الفرق أن هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة ، ومن الفرض المعقول الذي يتفق في كثير من الأحايين ، أن تقف المصلحة الخاصة في وجه مصلحة المجموع ، وأن يكون الفرد ، بين خسارة وألم يتحملهما لحساب الآخرين ، وبين ربح ولذة يتمتع بهما على حسابهم ، فماذا تقدر للامة وحقوقها ، وللمذهب وأهدافه ، من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة ، التي تمر على الحاكمين ؟!. والمصلحة الذاتية لا تتمثل فقط في الملكية الفردية ، ليقضى على هذا الفرض الذي أفترضناه ، بالغاء مبدأ الملكية الخاصة ، بل هي


(82)
تتمثل في أساليب وتتلون بألوان شتى. ودليل ذلك ما أخذ يكشف عنه زعماء الشيوعية اليوم من خيانات الحاكمين السابقين والتوائهم على ما يتبنون من أهداف.
    ان الثروة التي تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظل الاقتصاد المطلق ، والحريات الفردية ، وتتصرف فيها بعقليتها المادية .. تسلم ـ عند تأميم الدولة لجميع الثروات ، وإلغاء الملكية الخاصة ـ الى نفس جهاز الدولة ، المكون من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادية عن الحياة ، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حب الذات ، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذة ومصلحة بلا عوض. وما دامت المصلحة المادية هي القوة المسيطرة ، بحكم مفاهيم الحياة المادية ، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس ، وسوف يعرض المجتمع لأشكال من الخطر والاستغلال.
    فالخطر على الإنسانية يكمن كله في تلك المفاهيم المادية وما ينبثق عنها من مقاييس للاهداف والأعمال. وتوحيد الثروات الرأسمالية ـ الصغيرة أو الكبيرة ـ في ثروة كبرى يسلم امرها للدولة ، من دون تطوير جديد للذهنية الإنسانية .. لا يدفع ذلك الخطر ، بل يجعل من الأمة جميعاً عمال شركة واحدة ، ويربط حياتهم وكرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها.
    نعم ان هذه الشركة تختلف عن الشركة الرأسمالية. في أن


(83)
أصحاب تلك الشركة الرأسمالية هم الذين يملكون أرباحها ويصرفونها في أهوائهم الخاصة. وأما أصحاب هذه الشركة فهم لايملكون شيئاً من ذلك ، في مفروض النظام ، غير أن ميادين المصلحة الشخصية لا تزال مفتوحة ، والفهم المادي للحياة ـ الذي يجعل من تلك المصلحة هدفاً ومبرراً ـ لا يزال قائماً.

    والعالم أمامه سبيلان إلى دفع الخطر ، وإقامة دعائم المجتمع المستقر :
    أحدهما : أن يبدل الإنسان غير الإنسان ، أو تخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحي بمصالحه الخاصة ، ومكاسب حياته المادية المحدودة .. في سبيل المجتمع ومصالحه ، مع ايمانه بأنه لا قيم إلا قيم تلك المصالح المادية ، ولا مكاسب إلا مكاسب هذه الحياة المحدودة. وهذا إنما يتم إذا انتزع من صميم طبيعته حب الذات ، وأبدل بحب الجماعة ، فيولد الإنسان وهو لا يحب ذاته ، إلا باعتبار كونه جزءاً من المجتمع ، ولا يلتذ لسعادته ومصالحه ، إلا بما انها تمثل جانباً من السعادة العامة ومصلحة المجموع. فان غريزة حب الجماعة تكون ضامنة حينئذ للسعي وراء مصالحها وتحقيق متطلباتها ، بطريقة ميكانيكية واسلوب آلي.
    والسبيل الآخر ، الذي يمكن للعالم سلوكه لدرء الخطر عن


(84)
حاضر الإنسانية ومستقبلها هو : أن يطور المفهوم المادي للإنسان عن الحياة ، وبتطويره تتطور طبيعياً أهدافها وما ييسها وتتحقق المعجزة حينئذ من أيسر طريق.
    والسبيل الأول هو الذي يحلم أقطاب الشيوعيين بتحقيقه للإنسانية في مستقبلها ، ويعدون العالم بأنهم سوف ينشؤونها انشاءاً جديداً ، يجعلها تتحرك ميكانيكياً إلى خدمة الجماعة ومصالحها. ولأجل أن يتم هذا العمل الجبار ، يجب أن نوكل قيادة العالم اليهم ، كما يوكل أمر المريض إلى الجراح ، ويفوض اليه تطبيقه وقطع الأجزاء الفاسدة منه ، وتعديل المعوج منها. ولا يعلم أحد كم تطول هذه العملية الجراحية التي تجعل الإنسانية تحت مبضع جراح. وإن استسلام الإنسانية لذلك لهو أكبر دليل على مدى الظلم الذي قاسته في النظام الديمقراطي الرأسمالي الذي خدعها بالحريات المزعومة ، وسلب منها أخيراً كرامتها وامتص دماءها ، ليقدمها شراباً سائغاً للفئة المدللة التي يمثلها الحاكمون.
    والفكرة في هذا الرأي ، القائل : بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الإنسانية وانشائها من جديد .. ترتكز على مفهوم الماركسية عن حب الذات. فان الماركسية تعتقد : ان حب الذات ليس ميلا طبيعياً وظاهرة غريزة في كيان الإنسان ، وانما هو نتيجة للوضع الإجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية ، فإن


(85)
الحالة الإجتماعية للملكية الخاصة هي التي تكون المحتوى الروحي والداخلي للإنسان ، وتخلق في الفرد حبه لمصالحه الخاصة ومنافعه الفردية. فاذا حدثت ثورة في الأسس التي يقوم عليها الكيان الإجتماعي وحلت الملكية الجماعية والإشتراكية محل الملكية الخاصة .. فسوف تنعكس الثورة في كل أرجاء المجتمع وفي المحتوى الداخلي للإنسان ، فتنقلب مشاعره الفردية الى مشاعر جماعية ، ويتحول حبه لمصالحه ومنافعه الخاصة الى حب لمنافع الجماعة ومصالحها ، وفقاً لقانون التوافق : بين حالة الملكية الإسلاسية ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيف بموجبها.
    والواقع أن هذا المفهوم الماركسي لحب الذات ، يقدر العلاقة بين الواقع الذاتي ( غريزة حب الذات ) ، وبين الأوضاع الإجتماعية بشكل مقلوب. وإلا فكيف نستطيع أن نؤمن : بأن الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصة ، والتناقضات الطبقية التي تنجم عنها ؟!. فان الإنسان لو لم يكن يملك سلفاً الدافع الذاتي لما أوجد هذه التناقضات ، ولا فكر في الملكية الخاصة والاستئثار الفردي. ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين ، ما دام لا يحس بالدافع الذاتي في أعماق نفسه ؟!. فالحقيقة أن المظاهر الإجتماعية للانانية في الحقل الإقتصادي والسياسي .. لم تكن إلا نتيجة للدافع الذاتي ، لغريزة حب الذات. فهذا


(86)
الدافع أعمق منها في كيان الإنسان ، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بازالة تلك الآثار ، فان عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالاً لآثار بأخرى قد تختلف في الشكل والصورة ، لكنها معها في الجوهر والحقيقة.
    أضف إلى ذلك : أنا لو فسرنا الدافع الذاتي : ( غريزة حب الذات ) تفسيراً موضوعياً ، بوصفه انعكاساً لظواهر الفردية في النظام الإجتماعي ، كظاهرة الملكية الخاصة ـ كما صنعت الماركسية. فلا يعني هذا أن الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الإجتماعي ، بإزالة الملكية الخاصة لأنها وان كانت ظاهرة ذات طابع فردي ، ولكنها ليست هي الوحيدة من نوعها ـ فهناك ـ مثلاً ـ ظاهرة الادارة الخاصة التي يحتفظ بها حتى النظام الإشتراكي. فان النظام الاشتراكي وان كان يلغي الملكية الخاصة لوسائل الانتاج ، غير أنه لا يلغي إدارتها الخاصة من قبل هيئات الجهاز الحاكم ، الذي يمارس دكتاتورية البروليتاريا ويحتكر الاشراف على جميع وسائل الإنتاج وإدارتها. إذ ليس من المعقول أن تدار وسائل الإنتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية إشتراكية ، من قبل أفراد المجتمع كافة. فالنظام الإشتراكي يحتفظ إذن بظواهر فردية بارزة ومن الطبيعي لهذه الظواهرالفردية أن تحافظ على الدافع الذاتي وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار ، كما كانت تصنع


(87)
ظاهرة الملكية الخاصة.
    وهكذا نعرف قيمة السبيل الاول لحل المشكلة : السبيل الشيوعي الذي يعتبر الغاء تشريع الملكية الخاصة ومحورها من سجل القانون .. كفيلاً وحده بحل المشكلة وتطوير الإنسان.
    واما السبيل الثاني ـ الذي مر بنا ـ فهو الذي سلكه الإسلام ، ايماناً منه بأن الحل الوحيد للمشكلة تطوير المفهوم المادي للإنسان عن الحياة. فلم يبتدر الى مبدأ الملكية الخاصة ليبطله ، وانما غزا المفهوم المادي عن الحياة ووضع للحياة مفهوماً جديداً ، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي ، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد ، بل وضع لكل منهما حقوقه ، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادية معاً. فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية ، وما اليه من أنظمة .. فمحاها محواً ينسجم مع الطبيعة الإنسانية. فان نقطة الارتكاز الاساسية لما ضجت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء والوان المآسي .. هي النظرة المادية الى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في : افتراض حياة الإنسان في هذه الدنيا هي كل ما في الحساب من شيء ، وإقامة المصلحة الشخصية مقياساً لكل فعالية ونشاط.
    إن الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار


(88)
والفشل المحقق في نظر الإسلام ، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته ، وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصة في ذاتها ، لان الإسلام يختلف في طريقته المنطقية ، واقتصاده السياسي ، وفلسفته الاجتماعية .. عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدلية ـ كما اوضحنا ذلك في كتابي : « فلسفتنا » و « اقتصادنا » ـ ويضمن وضع الملكية الفردية في تصميم اجتماعي ، خال من تلك التناقضات المزعومة.
    بل مراد الفشل والوضع الفاجع ، الذي منيت به الديمقراطية الرأسمالية في عقيدة الإسلام .. الى مفاهيمها المادية الخالصة ، التي لا يمكن أن يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها ، ويستمد خطوطه العامة من روحها وتوجيهها.
    فلابد إذن من معين آخر ـ غير المفاهيم المادية عن الكون ـ يستقي منه النظام الاجتماعي ، ولا بد من وعي سياسي صحيح ينبثق عن مفاهيم حقيقية للحياة ، ويتبنى القضية الإنسانية الكبرى ، ويسعى الى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم ، ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية. وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالم ، واكتساحه لكل وعي سياسي آخر ، وغزوه لكل مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية .. يمكن ان يدخل العالم في حياة جديدة ، مشرقة بالنور عامرة بالسعادة.
    ان هذا الوعي السياسي العميق هو رسالة السلام الحقيقي


(89)
في العالم ، وأن هذه الرسالة المنقذة لهي رسالة الإسلام الخالدة التي استمدت نظامها الاجتماعي ـ المختلف عن كل ما عرضناه من أنظمة ـ من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون.
    وقد أوجد الإسلام بتلك القاعدة الفكرية النظرة الصحيحة للإنسان الى حياته. فجعله يؤمن : بأن حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال ، وانها اعداد للإنسان الى عالم لا عناء فيه ولا شقاء ، ونصب له مقياساً خلقياً جديداً في كل خطواته وأدواره ، وهو : رضا الله تعالى. فليس كل ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز ، وكل ما يؤدي الى خسارة شخصية فهو محرم غير مستساغ .. بل الهدف الذي رسمه الإسلام للإنسان في حياته هو الرضا الإلهي والمقياس الخلقي الذي توزن به جميع الأعمال انما هو مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدس والإنسان المستقيم هو الإنسان الذي يحقق هذا الهدف ، والشخصية الإسلامية الكاملة هي الشخصية التي سارت في شتى أشواطها على هدى هذا الهدف ، وضوء هذا المقياس ، وضمن إطاره العام.
    وليس هذا التحويل في مفاهيم الإنسان الخلقية وموازينه وأغراضه .. يعني تغيير الطبيعة الإنسانية ، وانشاءها انشاءاً جديداً كما كانت تعني الفكرة الشيوعية. فحب الذات ـ : أي حب الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصة ـ طبيعي في الإنسان ، ولا نعرف استقراءاً في ميدان تجريبي ، أوضح من


(90)
استقراء الإنسانية في تاريخها الطويل ، الذي يبرهن على ذاتية حب الذات. بل لو لم يكن حب الذات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأول قبل كل تكوينة اجتماعية ـ الى تحقيق حاجاته ، ودفع الأخطار عن ذاته ، والسعي وراء مشتهياته .. بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده وبالتالي خوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين ، تحقيقاً لتلك الحاجات ودفعاً لتلك الأخطار ، ولما كان حب الذات يحتل هذا الموضع من طبيعة الإنسان. فأي علاج حاسم للمشكلة الإنسانية الكبرى يجب ان يقوم على اساس الإيمان بهذه الحقيقة. وإذا قام على فكرة تطويرها أو التغلب عليها ، فهو علاج مثالي لا ميدان له في واقع الحياة العملية التي يعيشها الإنسان.

    ويقوم الدين هنا برسالته الكبرى التي لا يمكن أن يضطلع بأعبائها غيره ، ولا ان تحقق أهدافها البناءة واغراضها الرشيدة إلا على اسسه وقواعده ، فيربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان ، وحب الذات المرتكزة في فطرته.
    وفي تعبير آخر : ان الدين يوحد بين المقياس الفطري للعمل والحياة ، وهو حب الذات ، والمقياس الذي ينبغي أن يقام للعمل والحياة ، ليضمن السعادة والرفاه والعدالة.
المدرسة الاسلامية ::: فهرس