المدرسة الاسلامية ::: 181 ـ 195
(181)
الإسلام اقتصاداً ، يبادرون قائلين : وكيف يمكن أن يكون في الإسلام اقتصاد ؟ ونحن لا نجد فيه بحوثاً ، كالبحوث التي نجدها عند علماء الاقتصاد ، كآدم سميث ، وريكاردو ، وغيرهما. فالإسلام لم يحدثنا عن قانون الغلة المتناقصة ، ولا عن قوانين العرض والطلب ، ولم يأت بقانون ، يناظر القانون الحديدي للأجور ، ولم تؤثر عنه فكرة ، عن تحليل القيمة ودرسها علمياً كما درسها علماء الاقتصاد. وكيف يطلب منا أن نصدق بالاقتصاد الإسلامي ، ونحن جميعاً نعلم بأن بحوث علم الاقتصاد انما نشأت وتكاملت خلال القرون الاربعة الاخيرة على يد رواد الفكر الاقتصادي الاوائل كآدم سميث ، ومن سبقه من التجاريين والطبيعيين.
    يقول المنكرون للاقتصاد الإسلامي كل هذا ، ظناً منهم بأنا ندعي قيام الإسلام ، بالبحث العلمي في الاقتصاد.
    واما بعد ان نعرف الفرق ، بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي ، وان الاقتصاد الإسلامي ، مذهب وليس علماً. فلا يبقى موضع لكل ذلك القول ، لان وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام ، لا يعني تحدث الإسلام الى الناس ، عن قوانين العرض والطلب ، بل يعني ان الإسلام ، دعا الى تنظيم متميز للحياة الاقتصادية ، وحدد ما ينبغي ان تقام عليه تلك الحياة من أسس ودعائم.


(182)
    ويبدو الايمان ، بوجود الاقتصاد الإسلامي ، على هذا الضوء أمراً معقولا ، ولا غرابة فيه.
    وسوف لن نبدأ في هذه الحلقة ، بدراسة تفاصيل الاقتصاد الإسلامي وحين أخذ التفاصيل بالبحث والدرس في الحلقات المقبلة ، سوف نقدم لك ، من الكتاب والسنة ، الدليل المادي المحسوس ، على وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام. فانه لا أدل على وجود الشيء ، من ابرازه للحس. وهذا ما تقوم به الحلقات المقبلة ، باذن الله تعالى.
    والآن ، وقبل أن نستدل على وجود المذهب الإقتصادي في الإسلام ، بابرازه ، والتعرف على مواطن استخلاصه ، من الكتاب والسنة. نريد أن نقيم الدليل على وجوده ، من طبيعة الشريعة الإسلامية ، ومفاهيمنا المسبقة عنها ، كما سنرى.

    ان شمول الشريعة واستيعابها ، لجميع مجالات الحياة ، من الخصائص الثابتة لها ، لا عن طريق تتبع احكامها ، في كل تلك المجالات فحسب ، بل عن طريق التأكيد على ذلك ، في مصادرها العامة أيضاً. فنحن نستطيع ، ان نجد في هذه المصادر نصوصاً تؤكد بوضوح ، على استيعاب الشريعة ، وامتدادها الى جميع الحقول ، التي يعيشها الإنسان ، واغتنائها بالحلول لجميع


(183)
المشاكل التي تعترضه في شتى المجالات.
    لاحظوا على سبيل المثال ، النصوص التالية :
    1 ـ روى أبو بصير ، عن الإمام الصادق (ع) ، انه تحدث عن الشريعة الإسلامية ، واستيعابها ، واحاطة أئمة أهل البيت بكل تفاصيلها. فقال : فيها كل حلال وحرام ، وكل شيء يحتاج الناس اليه ، حتى الارش في الخدش. وضرب بيده الى أبي بصير ، فقال : أتأذن لي يا أبا محمد ؟ فقال له أبو بصير : جعلت فداك ، انما أنا لك ، فاصنع ما شئت. فغمزه الإمام بيده وقال : حتى أرش هذا!
    2 ـ وعن الإمام الصادق (ع) ، في نص آخر ، انه قال : فيها كل ما يحتاج الناس اليه ، وليس من قضية ، إلا وهي فيها حتى ارش الخدش. ( أي الغرامة التي يدفعها الشخص الى آخر اذا خدشه ).
    3 ـ وفي نهج البلاغة ، ان امير المؤمنين علياً عليه السلام قال يصف الرسول (ص) ، والقرآن الكريم :
    أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هجعة من الامم وانتقاص من المبرم. فجاءهم بتصديق الذي بين يديه ، والنور المقتدى به ، ذلك القرآن ، فاستنطقوه ، ولن ينطق ؛ ولكن أخبركم عنه ، الا ان فيه ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم؛ ونظم ما بينكم.


(184)
    ان هذه النصوص ، تؤكد بوضوح ، استيعاب الشريعة لمختلف مجالات الحياة.
    واذا كانت الشريعة ، تضمن الحلول حتى لأتفه المشاكل وحتى لارش الخدش ، ـ أي الغرامة التي يجب على الإنسان دفعها الى الآخر ، اذا خدشه ـ ، فمن الضروري ، حتماً ، بمنطق تلك النصوص ، أن تكون في الشريعة ، حلول للمشاكل الإقتصادية وطريقة لتنظيم الحياة ، في الحقل الإقتصادي. والا فأي معنى لاستيعاب الشريعة وشمولها ، اذا كانت تغفل جانباً من أهم جوانب الحياة ، وأوسعها ، وأكثرها أهمية وتعقيداً.
    هل تتصور أن الشريعة ، تحدد الغرامة التي من حقك الحصول عليها ، اذا خدشك شخص خدشاً بسيطاً ، ولا تحدد حقك في الثروة المنتجة ، ولا تنظم طريقة اتفاقك مع عمالك او مع الرأسماليين ، في مختلف الوان العمل ، التي تحتاج فيها الى عامل ، أو رأسمالي.
    وهل من المعقول ، ان تحدد الشريعة ، حقك حين تخدش ولا تحدد حقك ، حين تحيي أرضاً ، او تستخرج معدناً ، أو تستنبط عين ماء ، أو تستولي على غابة.
    وهكذا نعرف ان من يؤمن بالشريعة ومصادرها ، ونصوصها يستنتج من تلك النصوص ، علاج الشريعة ، للمشاكل الإقتصادية وتنظيمها للحقل الإقتصادي ، وبالتالي وجود اقتصاد اسلامي


(185)
يمكن استخلاصه من الكتاب والسنة.
    وفي ضوء تلك النصوص ، يعرف القارئ ، خطأ القول الشائع ، عند البعض ، بأن الشريعة تنظم سلوك الفرد ، لا المجتمع ، والمذهب الإقتصادي ، تنظيم اجتماعي ، فهو خارج عن نطاق الشريعة ، التي تقتصر في تشريعها ، على تنظيم سلوك الفرد فحسب.
    ان النصوص السابقة ، تبرهن على خطأ هذا القول ، لأنها تكشف ، عن امتداد الشريعة ، الى كل ميادين الحياة ، وتنظيمها للمجتمع والفرد على السواء.
    والحقيقة ، أن القول بأن الشريعة ، تنظم سلوك الفرد لا المجتمع ، يتناقض مع نفسه ، اضافة الى اصطدامه بتلك النصوص لأنه حين يفصل سلوك الفرد ، وتنظيمه ، عن تنظيم المجتمع يقع في خطأ كبير ، من ناحية ، ان النظام الإجتماعي ، لأي جانب من الجوانب العامة في المجتمع ، سواء كان اقتصادياً ، أم سياسياً ، أم غير ذلك ، يتجسد في سلوك الفرد ، فلا يمكن تنظيم سلوك الفرد ، بصورة منعزلة عن تنظيم المجتمع.
    خذ اليك النظام الرأسمالي ، بوصفه تنظيماً اجتماعياً ، فانه ينظم الحياة الإقتصادية ، على أساس مبدأ الحرية الإقتصادية وهذا المبدأ يتجسد في سلوك الرأسمالي ، مع العامل ، وطريقة ابرامه معه عقد العمل ، وفي سلوك المرابي ، مع زبائنه ، الذين


(186)
يقرضهم بفائدة ، وطريقة ابرامه معهم عقد القرض. وهكذا كل تنظيم اجتماعي ، فانه يتصل بسلوك الفرد ، وينعكس عليه ويتجسد فيه.
    فاذا كانت الشريعة ، تنظم سلوك الفرد ، فلها طريقتها اذن ، في تنظيم سلوكه ، حين يقترض مالاً ، او حين يستأجر عاملاً ، او حين يؤجر نفسه ، وهذا يرتبط حتماً ، بالتنظيم الاجتماعي.
    فكل فصل بين سلوك الفرد والمجتمع في التنظيم ، يحتوي على تناقض.
    فما دمنا نعترف ، بأن الشريعة ، تنظم سلوك الفرد ، وان كل فعل من أفعال الإنسان ، له حكمه الخاص ، في الشريعة. ما دمنا نعترف بذلك ، فلا بد ان ننساق مع اعترافنا الى النهاية ونؤمن بوجود التنظيم الاجتماعي في الشريعة.

    ولا أدري ، ماذا يقول هؤلاء الذين يشكون في وجود اقتصاد اسلامي ، او علاج للمشاكل الاقتصادية في الإسلام. ماذا يقولون عن عصر التطبيق في صدر الإسلام ؟
    أفلم يكن المسلمون ، يعيشون في صدر الإسلام ، بوصفهم مجتمعاً له حياته الاقتصادية ، وحياته في كل الميادين الاجتماعية ؟


(187)
    أفلم تكن قيادة هذا المجتمع الإسلامي ، بيد النبي والإسلام.
    أفلم تكن هناك حلول محددة ، لدى هذه القيادة ، يعالج بها المجتمع ، قضايا الانتاج والتوزيع ، ومختلف مشاكله الاقتصادية ؟
    فماذا لو ادعينا ، أن هذه الحلول ، تعبر عن طريقة الإسلام في تنظيم الحياة الاقتصادية ، وبالتالي عن مذهب اقتصادي في الإسلام ؟.
    نحن اذا تصورنا ، المجتمع الإسلامي على عهد النبي (ص) فلا يمكن أن نتصوره ، بدون نظم اقتصادي ، اذ لا يمكن أن يوجد مجتمع ، بدون طريقة يتبناها ، في تنظيم حياته الاقتصادية وتوزيع الثروة بين أفراده.
    ولا يمكن ان نتصور النظام الاقتصادي ، في مجتمع عصر النبوة ، منفصلاً عن الإسلام ، وعن النبي ، بوصفه صاحب الرسالة الذي يتولي تطبيقها. فلا بد ان يكون النظام الاقتصادي ، مأخوذاً منه ، قولاً او فعلاً او تقريراً ، أي مأخوذاً من نصوصه وأقواله أو من أفعاله ، وطريقته للعمل الاجتماعي بوصفه رئيساً للدولة أو من تقريره لعرف سائد وقبوله به. وكل ذلك يسبغ على النظام الطابع الإسلامي.

    ونحن حين نقول ، بوجود اقتصاد اسلامي ، او مذهب


(188)
اقتصادي في الإسلام ، لا نريد بذلك ، اننا سوف نجد في النصوص بصورة مباشرة نفس النظريات الاساسية في المذهب الاقتصادي الإسلامي ، بصيغها العامة. بل ان النصوص ومصادر التشريع ، تتحفنا بمجموعة كبيرة من التشريعات ، التي تنظم الحياة الاقتصادية وعلاقات الإنسان ، بأخيه الإنسان ، في مجالات انتاج الثروة وتوزيعها ، وتداولها. كأحكام الإسلام ، في احياء الاراضي والمعادن ، وأحكامه في الاجارة والمضاربة والربا ، وأحكامه في الزكاة والخمس ، والخراج وبيت المال. وهذه المجموعة من الاحكام والتشريعات ، اذا نسقت ودرست دراسة مقارنة بعضها ببعض ، أمكن الوصول إلى أصولها والنظريات العامة التي تعبر عنها ، ومن تلك النظريات نستخلص المذهب الاقتصادي في الإسلام.
    فليس من الضروري ، مثلاً ، أن نجد في النصوص ومصادر الشريعة ، صيغة عامة لتحديد مبدأ يقابل مبدأ الحرية الاقتصادية في المذهب الرأسمالي ، أو يماثله. ولكننا نجد في تلك النصوص والمصادر ، عدداً من التشريعات ، التي يستنتج منها ، موقف الإسلام من مبدأ الحرية الاقتصادية. ويعرف عن طريقها : ما هو المبدأ البديل له ، من وجهة النظر الإسلامية.
    فتحريم الإسلام للاستثمار الرأسمالي الربوي ، وتحريمه تملك الارض بدون احياء وعمل ، واعطاء ولي الأمر صلاحية الاشراف


(189)
على أثمان السلع ، مثلاً كل ذلك ، يكون فكرتنا ، عن موقف الإسلام ، من الحرية الاقتصادية ، ويعكس المبدأ الإسلامي العام.

    قد يقال : ان الاقتصاد الذي تزعمون وجوده في الإسلام ليس مذهباً اقتصادياً ، وانما هو في الحقيقة ، تعاليم اخلاقية من شأن الدين ان يتقدم بها الى الناس ، ويرغبهم في اتباعها. فالإسلام ، كما أمر بالصدق والأمانة ، وحث على الصبر وحسن الخلق ، ونهى عن الغش والنميمة ، كذلك ، أمر بمعونة الفقراء ونهى عن الظلم ، ورغب الأغنياء في مواساة البائسين ، ونهاهم عن سلب حقوق الآخرين ، وحذرهم من اكتساب الثروة ، بطرق غير مشروعة ، وفرض عبادة مالية ، في جملة ما فرض من عبادات وهي الزكاة. اذ شرعها الى صف الصلاة والحج والصيام ، تنويعاً لاساليب العبادة ، وتأكيداً على ضرورة اعانة الفقير والإحسان اليه.
    كل ذلك ، قام به الإسلام ، وفقاً لمنهج أخلاقي عام ، ولا تعدو تلك الاوامر والنصائح والإرشادات ، عن كونها تعاليم أخلاقية ، تستهدف ، تنمية الطاقات الخيرة في نفس الفرد المسلم والمزيد من شده الى ربه ، والى أخيه الإنسان ، ولا يعني ذلك


(190)
مذهباً اقتصادياً ، على مستوى تنظيم شامل للمجتمع.
    وبكلمة أخرى ، أن التعاليم السابقة ، ذات طابع فردي أخلاقي ، هدفها اصلاح الفرد ، وتنمية الخير فيه ، وليست ذات طابع اجتماعي ، تنظيمي ، فالفرق بين تلك التعاليم ، والمذهب الإقتصادي ، هو الفرق بين واعظ يعتلي المنبر ، فينصح الناس بالتراحم والتعاطف ، ويحذرهم من الظلم والاساءة ، والاعتداء على حقوق الآخرين ، وبين مصلح اجتماعي ، يضع تخطيطاً لنوع العلاقات ، التي يجب أن تقام بين الناس ، ويحدد الحقوق والواجبات.
    وجوابنا على هذا كله : ان واقع الإسلام ، وواقع الاقتصاد الإسلامي ، لا يتفق اطلاقاً مع هذا التفسير ، الذي ينزل بالاقتصاد الإسلامي عن مستوى مذهب ، الى مستوى نصائح واوامر أخلاقية.
    صحيح ، ان الإتجاه الاخلاقي واضح ، في كل التعاليم الإسلامية.
    وصحيح ، ان الإسلام ، يحتوي على مجموعة ضخمة ، من التعاليم والأوامر الاخلاقية ، في كل مجالات الحياة ، والسلوك البشري وفي المجال الإقتصادي خاصة.
    وصحيح ، ان الإسلام ، حشد أروع الأساليب ، لتنشئة الفرد المسلم على القيم الخلقية ، وتنمية طاقاته الخيرة ، وتحقيق المثل الكامل فيه.


(191)
    ولكن هذا لا يعني ، ان الإسلام ، اقتصر على تربية الفرد خلقياً ، وترك تنظيم المجتمع. ولا ان الإسلام ، كان واعظاً للفرد ، فحسب ، ولم يكن الى جانب ذلك ، مذهباً ونظاماً للمجتمع ، في مختلف مجالات حياته ، بما فيها حياته الإقتصادية.
    ان الإسلام ، لم ينه عن الظلم ، ولم ينصح الناس بالعدل ولم يحذرهم من التجاوز على حقوق الآخرين ، بدون ان يحدد مفاهيم الظلم والعدل ، من وجهة نظره ، ويحدد تلك الحقوق التي نهى عن تجاوزها.
    ان الإسلام ، لم يترك تلك المفاهيم ، مفاهيم العدل والظلم والحق ، غائمة غامضة ، ولم يدع تفسيرها لغيره ، كما يصنع الوعاظ الاخلاقيون. بل انه جاء بصورة محددة ، للعدالة وقواعد عامة للتعايش بين الناس ، في مجالات انتاج الثروة وتوزيعها وتداولها ، واعتبر كل شذوذ وانحراف ، عن هذه القواعد ، وتلك الصورة ، التي حددها للعدالة ، ظلماً ، وتجاوزاً على حقوق الآخرين.
    وهذا هو الفارق ، بين موقف الواعظ ، وموقف المذهب الإقتصادي. فان الواعظ ، ينصح بالعدل ، ويحذر من الظلم ولكنه لا يضع مقاييس العدل والظلم ، وانما يدع هذه المقاييس الى العرف العام المتبع ، لدى الواعظ وسامعيه. واما المذهب الاقتصادي ، فهو يحاول أن يضع هذه المقاييس ، ويجسدها في


(192)
نظام اقتصادي ، مخطط ، ينظم مختلف الحقول الاقتصادية.
    فلو ان الإسلام ، جاء ليقول للناس ، اتركو الظلم ، وطبقوا العدل ، ولا تعتدوا على الآخرين ، وترك للناس ، ان يحددوا معنى الظلم ، ويضعوا الصورة التي تجسد العدل ، ويتفقوا على نوع الحقوق التي يتطلبها العدل ، وفقاً لظروفهم ، وثقافتهم ، وما يؤمنون به من قيم ، وما يدركونه من مصالح وحاجات. لو أن الإسلام ترك كل هذا للناس ، واقتصر على الامر بالعدل والترغيب فيه ، والنهي عن الظلم والتحذير منه ، بالاساليب التي يملكها الدين للاغراء والتخويف ، لكان واعظاً فحسب.
    ولكن الإسلام ، حين قال للناس ، اتركوا الظلم ، وطبقوا العدل ، قدم لهم في نفس الوقت ، مفاهيمه عن العدل والظلم وميز بنفسه ، الطريقة العادلة ، في التوزيع والتداول والانتاج عن الطريقة الظالمة. فذكر مثلاً ، ان تملك الارض بالقوة ، وبدون احياء ، ظلم ، وان الاختصاص بها ، على أساس العمل والاحياء ، حق ، وأن حصول رأس المال ، على نصيب من الثروة المنتجة باسم فائدة ، ظلم ، وحصوله على ربح ، عدل. الى كثير من الوان العلاقات ، والسلوك ، التي ميز فيها الإسلام بين الظلم والعدل.
    وأما حث الإسلام للاغنياء ، على مساعدة اخوانهم ، وجيرانهم من الفقراء ، فهو صحيح ، ولكن الإسلام ، لم يكتف بهذا الحث


(193)
وهذه التربية الخلقية ، للاغنياء. بل فرض ، على الدولة ، ضمان المعوزين ، وتوفير الحياة الكريمة لهم ، فرضاً يدخل في صلب النظام ، الذي ينظم العلاقات ، بين الراعي والرعية. ففي الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ، انه ذكر ، وهو يحدد مسؤولية الوالي في أموال الزكاة : ان الوالي ، يأخذ المال ، فيوجهه الوجه الذي وجه الله على ثمانية أسهم ، للفقراء والمساكين ... يقسمها بينهم ، بقدر ما يستغنون في سنتهم ، بلا ضيق ولا تقية. فان فضل من ذلك شيء ، رد الى الوالي ، وان نقص من ذلك شيء ، ولم يكتفوا به ، كان على الوالي ان يمونهم من عنده ، بقدر سعتهم ، حتى يستغنوا.
    وواضح ، في هذا النص ، ان فكرة الضمان ، وضرورة توفير الحياة الكريمة للجميع ، ليست هنا فكرة وعظية ، وانما هي ، من مسؤوليات الوالي في الإسلام. وبذلك ، تدخل في صلب تنظيم المجتمع ، وتعبر عن جانب ، من جوانب ، التصميم الإسلامي للحياة الاقتصادية.
    ان هناك ، فرقاً كبيراً بين النص المأثور ، القائل ، ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع وهذا النص الذي يقول : كان على الوالي ، أن يمونهم من عنده ، بقدر سعتهم حتى يستغنوا. فالأول ذو طابع وعظي ، وهو يبرز الجانب الاخلاقي ، من التعاليم الإسلامية. واما الثاني ، فطابعه تنظيمي


(194)
ويعكس ، لأجل ذلك ، جانباً من النظام الإسلامي. ولا يمكن أن يفسر ، إلا بوصفه جزءاً من منهج اسلامي ، عام للمجتمع.
    والزكاة هي عبادة ، من أهم العبادات ، الى صف الصلاة والصيام ، لا شك في ذلك. ولكن اطارها العبادي ، لا يكفي للبرهنة على انها ليست ذات مضمون اقتصادي ، وانها لا تعبر عن وجود تنظيم اجتماعي ، للحياة الإقتصادية في الإسلام.
    ان ربط الزكاة ، بولي الامر ، واعتبارها أداة يستعين بها على تحقيق الضمان الإجتماعي ، في المجتمع الإسلامي ، ـ كما رأينا في النص السابق ـ هو وحده ، يكفي ، لتمييز الزكاة ، عن سائر العبادات الشخصية ، والتدليل على انها ليست مجرد عبادة فردية ، وتمرين خلقي ، للغني على الإحسان الى الفقير ، وانما هي على مستوى تنظيم اجتماعي ، لحياة الناس.
    أضف الى ذلك ، أن نفس التصميم التشريعي ، لفريضة الزكاة ، يعبر عن وجهة مذهبية ، عامة للإسلام. فان نصوص الزكاة ، دلت على انها تعطى للمعوزين ، حتى يلتحقوا بالمستوى العام للمعيشة. وهذا يدل ، على ان الزكاة ، جزء من مخطط اسلامي عام ، لايجاد التوازن ، وتحقيق مستوى عام ، موحد من المعيشة ، في المجتمع الإسلامي. ومن الواضح ، ان التخطيط المتوازن ، ليس وعظاً ، وانما هو فكر تنظيمي ، على مستوى مذهب اقتصادي.


(195)
    وأنا لا ادري ، لماذا يسخو المنكرون للاقتصاد الإسلامي بلقب المذهب الإقتصادي ، على الرأسمالية والاشتراكية ، ثمّ لا يمنحون هذا اللقب ، للاقتصاد الإسلامي ، بل يجعلونه مجموعة من التعاليم الاخلاقية.
    فمن حقنا ، أن نتساءل : بم استحقت الرأسمالية او الاشتراكية أن تكون مذهباً اقتصادياً ، دون الإقتصاد الإسلامي ؟.
    اننا نلاحظ ، ان الإسلام ، عالج نفس الموضوعات التي عالجتها الرأسمالية ، مثلاً ، وعلى نفس المستوى ، وأعطى فيها أحكاماً ، من وجهة نظره الخاصة ، تختلف عن وجهة النظر الرأسمالية ، فلا مبرر للتفرقة بينهما ، او للقول ، بأن الرأسمالية مذهب ، وليس في الإسلام ، إلا المواعظ والاخلاق.
    ولنوضح ذلك ، في مثالين ، لنبرهن ، على ان الإسلام أعطى آراءه ، على نفس المستوى الذي عالجته المذاهب الإقتصادية.
    والمثال الاول : يتعلق بالملكية ، وهي المحور الرئيسي للاختلاف بين المذاهب الإقتصادية. فان الرأسمالية ، ترى ان الملكية الخاصة ، هي المبدأ ، وليست الملكية العامة إلا استثناء.
المدرسة الاسلامية ::: فهرس