المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: 181 ـ 195
(181)
    لما اختار الله تعالى للإمام أبي محمد الحسن السبط عليه السلام دار كرامته ومأوى أصفيائه ، كتب الشيعة في العراق إلى الحسين عليه السلام يعرضون عليه البيعة (1) ويبذلون له النصرة فأبى عليهم ، وذكر أن بينهم عليه السلام وبين معاوية هدنة لا يجوز لهم نقضها ، فلما هلك معاوية وذلك للنصف من رجب سن ستين (2) قام من بعده ولي عهده يزيد المتهتّك ، وسكيره المفضوح ، وهو صبي يشرب الشراب ، ويلعب بالكلاب ، ولا يعرف من الدين موطئ قدمه ، ولا يرقب الاولا ذمّة.
    فكتب إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة (3) ـ وكان والياً على المدينة ـ يأمره بأخذ البيعة له من الناس عامّة ، ومن الحسين خاصة ، ويقول له : « إن أبى عليك الحسين فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه (4).
1 ـ ارشاد المفيد : 200 ، المهلوف : 96.
2 ـ انظر : تاريخ الطبري 6 : 180 ، تاريخ ابن الاثير 4 : 2 ، البدء والتاريخ 6 : 5 ، الأعلام 7 : 261 ـ 262.
3 ـ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ابن حرب الاموي ، أمير من رجالات بني اميّة ، ولي المدينة سنة 57 هـ أيام معاوية ، ومات معاوية فكتب إليه يزيد أن يأخذ له البيعة ، عزله يزيد سنة 60 هـ واستقدمه إليه ، فكان من رجال مشورته بدمشق ، ثمّ أعاده سنة 61 هـ وثورة عبد الله بن الزبير في أبانها بمكّة ، وظلّ في المدينة إلى أن توفي بالطاعون سنة 64 هـ.
انظر : مرآة الجنان 1 : 140 ، نسب قريش : 133 و 433 ، الأعلام 8 : 12.
4 ـ الملهوف : 97.


(182)
    فاستشار الوليد مروان (1) في ذلك ، فقال له : إنّه لا يبايع ، ولو كنت مكانك لضربت عنقه.
    ثم بعث إلى الحسين عليه السلام ، فجاءه ـ بأبي وامّي ـ في ثلاثين رجلا من أهل بيته ومواليه ، فنعى [ الوليد ] إليه معاوية ، وكلّفه بالبيعة (2).
    فقال له عليه السلام : إنّ البيعة لا تكون سرّاً ، فإذا دعوتَ الناس غداً فادعنا معهم.
    فقال مروان : لا تقبل أيّها الأمير عذره ، فان بايع الآن والا فاضرب عنقه.
    فغضب الحسين عليه السلام ثم قال : ويل بك يا بن الزرقاء ، أنت تقتلني أم هو ؟ كذبتَ والله وأثمت.
    ثم أقبل على الوليد فقال : « إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، وبنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل [ فاسق ] شارب الخمور ، قاتل النفس المحرّمة ، معلنٌ بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله » ، ثمّ خرج عليه السلام ، فقال مروان للوليد : عصيتني.
    فقال : ويحك أنّك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي ، والله ما اُحبّ أنّ الدنيا بأسرها تكون لي وأنّني قتلتُ حسيناً أن قال : لا ابايع ، والله ما أظنّ أن
1 ـ مروان بن الحكم بن أبي العاص ، ولد بمكّة وسكن المدينة ، جعله عثمان من خاصّته واتّخذه كاتباً له ، وبعد قتل عثمان خرج مروان مع عائشة إلى البصرة ، وشهد صفين مع معاوية ، ولي المدينة سنة في ولاية معاوية ، وهو أوّل مَن ملك من بني الحكم بن أبي العاص ( طريد رسول الله ) ، ماتسنة 65 بالطاعون ؛ وقيل : قتلته زوجته اُمّ خالد.
انظر : أسد الغابة 4 : 348 ، تاريخ ابن الأثير 4 : 74 ، تاريخ الطبري 7 : 34.
2 ـ أي البيعة ليزيد.


(183)
أحداً يلقي الله بدم الحسين عليه السلام الا وهو خفيف الميزان يوم القيامة ، لا ينظر الله إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم.
    فأقام الحسين عليه السلام في منزله تلك الليلة ، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستّين.
    فما أصبح ـ بأبي واُمّي ـ خرج يستمع الأخبار فلقيه مروان فقال : يا أبا عبد الله إنّي لك ناصح ، فاطعني ترشد.
    فقال الحسين عليه السلام : وما ذاك ؟ قل حتى أسمع.
    فقال : إنّي آمرك ببيعة يزيد فانّه خير لك في دينك ودنياك !
    فقال عليه السلام : إنّا لله وإنّا إليه راجعون على الاسلام السلام إذا قد بليت الاّمّة براع مثل يزيد .. وطال الحديث بينهما حتى ولّى مروان وهو غضبان.
    فلمّا كان آخر يوم السبت بعث الوليد برجاله إلى الحسين ليحضر فيبايع.
    فقال له الحسين عليه السلام : أصبحوا ثمّ ترون ونرى.
    فكفّوا عنه ولم يلحّوا عليه.
    فخرج ـ بأبي واُمّي ـ من تحت ليلته وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجّهاً نحو مكّة ومعه بنوه وبنو أخيه واخوته وجلّ أهل بيته ، سار من المدينة وهو يقرأ : « فخرج منها خائفاً يترقّب قال ربّ نجّني من القوم الظالمين » (1).
    ولزم الطريق الأعظم ، فسئل أن يتنكّب الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقه الطلب فأبى وقال : لا اُفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض ، وكان دخوله
1 ـ سورة القصص : 21.

(184)
مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ : « ولمّا توجّه تلقاء مديَن قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل » (1).
    فأقام فيها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة وثمان ليال من ذي الحجّة ، ثم لم يأمن على نفسه ، ولم يتمكّن من تمام حجّة مخافة أن يقبض عليه بمكّة فينفذ به إلى يزيد بن معاوية فأحل من احرامه وجعلها عمرة مفردة وخرج من مكّة وهي حرم الله الذي يأمن فيه الوحش والطير ، كما خرج من المدينة وهي حرم جدّه رسول الله خائفاً يترقّب ...
    فوالهفتاه وواجزعاه عليك يا وديعة المصطفى ، وريحانته من الدنيا.
    وواحرّ قلباه لك يا خامس أصحاب الكساء ، وقرّة عين سيّدة النساء.
    يا بن مكّة ومنى ، وابن زمزم والصفا ، خفت على نفسك في الحرم ، وأنت أمن الخائفين ، وفررت منهم لما خفتهم بأطفالك وعيالك ، وأنت ملجأ الهاربين.
    فيا لله من هذه الفادحة التي أثكلت جبرائيل ، ووامصيبتاه من هذه النازلة إذ عظمت على الربّ الجليل.
مثل ابـن فاطمـة يبيت مشرّداً ويضيق الدنيا علـى ابن محمد خرج الحسين من المدينة خائفاً وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها لم يدر أين يريح بدون ركابه فمشت تؤم به العراق نجائب ويزيد في لذّاتـه متنـعـّم حتى تقاذفه الفضاء الأعظم كخروج موسى خائفاً يتكتّم وبه تشرّفت الحطيم وزمزم فكأنّما المأوى عليـه محرّم مثل النعم به تخب وتـرسم

1 ـ سورة القصص : 22.

(185)
    ولما نزل الحسين عليه السلام مكّة أقبل أهلها ومن كان فيها من المعتمرين وأهل الآفاق يختلفون إليه ، وجاءه ابن عبّاس وابن الزبير فأشارا عليه بالامساك فقال : « ان رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني بأمر وأنا ماض فيه ».
    فخرج ابن عباس وهو يقول : « واحسيناه » (1).
    وجاءه ابن عمر فأشار عليه بالصلح.
    فقال عليه السلام : « يا أبا عبد الرحمن أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا اُهدي الى بغي من بغايا بني إسرائيل ، أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوعي الفجر والشمس سبعين نبيّاً ، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يصنعوا شيئاً فلم يعجّل الله عليهم ثم أخذهم أخذ عزيز ذي انتقام ، اتّق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي » (2).
    وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية فأرجفوا بيزيد ، وعرفوا بامتناع الحسين من بيعته ، ومجيئه إلى مكّة (3).
1 ـ الملهوف : 101 ، أنساب الأشراف للبلاذري ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام : 166.
2 ـ أنساب الأشراف ( ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ) : 166 ـ 167.
3 ـ الإرشاد للمفيد : 206.


(186)
    فاجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي (1) ، فلمّا تكاملوا قام سليمان فقال : إن معاوية قد هلك ، وان حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته ، وخرج إلى مكّة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فان كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدوا عدوّه ، ونقتل انفسنا دونه فاكتبوا إليه ، وان خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل.
    قالوا : لا ، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه.
    قال : فاكتبوا إذاً إليه. فكتبوا إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم
    للحسين بن علي عليهما السلام.
1 ـ أبو مطرّف سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون عبد العزّى بن منقذ السلولي الخزاعي ، صحابي ، كان اسمه في الجاهلية « يسار » وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله باسم « سليمان » ، شهد الجمل وصفّين مع أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو من أوائل من سكن الكوفة من المسلمين ، كان من وجهاء الشيعة فيها ، وله مكانة جليلة عندهم ، قاد ثورة التوابين التي انطلقت من الكوفة للمطالبة بدم الحسين عليه السلام.
بعد موت معاوية كان من جملة من كتب إلى الحسين يدعوه للقدوم إلى الكوفة ، وقف إلى جانب مسلم بن عقيل عند وثوبه فيها ، لكن ابن زياد ألقاه في السجن ؛ ولهذا لم يحظ بالمشاركة في معركة الطف.
وبعد واقعة كربلاء ، حين استشعر أهل الكوفة الندم لنكولهم عن نصرة الحسين ، اضطلع هو بقيادة ثورة التوابين الذين أعلنوا ثورتهم عام 65 للهجرة ، وكان شعارهم « يا لثارات الحسين » ، حيث اشتبكوا مع جيش ابن زياد في موضع يُقال له « عين الوردة » واستشهد في هذه المعركة هو وعدّة من أصحابه ، قتله الحصين بن نمير ؛ وقيل : انّه استشهد اثناء الاشتباك مع القوات التي كانت موفدة من الشام إلى الحجاز. كان عمر سليمان بن صرد عند استشهاده 93 سنة ، وبعد استشهاده أرسلوا رأسه إلى مروان بن الحكم في الشام ، انظر : الإصابة ترجمة رقم 3450 ، أسد الغابة 2 : 449 ، تاريخ الاسلام 3 : 17 ، الأعلام 3 : 127.


(187)
    من سليمان بن صرد والمسيّب بن نجبة (1) ورفاعة بن شداد (2) وحبيب بن مظاهر (3) وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.
1 ـ هو : المسيّب بن نجبة ( نجية ) بن ربيعة بن رياح الفزاري ، تابعي ، كان من وجوه أصحاب علي عليه السلام واشرك معه في مشاهده كلّها ، شهد القادسية وفتوح العراق ، شارك في ثورة التوابين الذين خرجوا للمطالبة بدم الحسين وشهداء كربلاء ، بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي ولمّا قتل سليمان ، أخذ الراية وقاتل بشجاعة حتّى قتل.
كان المسيّب من أشد الناس حسرة على عدم شهادته بين يدي ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد أعلن ندمه في خطابه الذي ألقاه على جموع التوابين ، وقد أسف كثيراً على عدم نصرته له بعدما وصله كتاب الإمام ومبعوثه. انظر : الإصابة ترجمة رقم 8424 ، مروج الذهب 3 : 94 ، تاريخ الاسلام للذهبي 5 : 248 ، الأعلام 7 : 225 ـ 226.
2 ـ رفاعة بن شدّاد البجلي ، قارئ من الشجعان المقدّمين ، من أهل الكوفة ، من شيعة علي عليه السلام ، قتل سنة 66 هـ. انظر : الأعلام 3 : 29.
3 ـ حبيب بن مظاهر ـ أو مظهّر أو مطهّر ـ بن رئاب بن الأشتر بن حجون الأسدي الكندي ثمّ الفقعسي ، تابعي ، من القوّاد الشجعان ، نزل الكوفة ، صحب عليّ عليه السلام في حروبه كلّها.
قال أصحاب السير : انّ حبيباً نزل الكوفة وصحب علياً عليه السلام وكان من خاصّته وحملة علومه ، وكان من « شرطة الخميس » التي أوجدها الإمام علي عليه السلام في الكوفة ، وكان ممّن سعى لأخذ البيعة لمسلم بن عقيل عند دخوله الكوفة ، وهو أحد الزعماء الكوفيين الذين كتبوا إلى الحسين عليه السلام ، وكان معظّماً عند الحسين عليه السلام.
وعند التعبئة للقتال جعله الحسين على ميسرة أصحابه ، وكان قد بذل محاولة لاستقدام أنصاراً من بني أسد ، وحال الجيش الأموي دون وصولهم معسكر الحسين عليه السلام.
أمّا قصّة حواره مع ميثم التمّار فهي مشهورة ، وذلك انّهما مرّا في مجلس لبني أسد قبل عاشوراء بسنوات ، وتحدّث كلّ منهما عن الكيفية التي سيستشهد بها الآخر ، وكان ذلك مدعاة لتعجّب الحاضرين. كان يرتجز يوم الطفّ ويقول :
أنا حبيب وأبي مُظهّر فارس هيجاء وحربٍ تَسعر
في كربلاء كان حبيب بن مظاهر مستبشراً بقرب استشهاده ورواحه الجنّة ، فكان يمزح مع برير بن خضير ، ولمّا قتل حبيب هدّ ذلك حسيناً فقال عليه السلام : أحتسب نفسي وحماة أصحابي. قتله بديل بن صريم الغفقاني ، وكان عمره آنذاك 75 سنة ، وطافوا برأسه أيضاً بالكوفة مع سائر رؤوس الشهداء.


(188)
    سلام عليك ، فانّا نحمد إليك الله الذي لا إله الاهو.
    أما بعد : فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد ، الذي انتزى على هذه الامّة فابتزّها أمرها ، وغصبها فيئها ، وتأمّر عليها بغير رضاً منها ، ثمّ قتل خيارها ، واستبقي شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود ، وإنه ليس علينا إمام ، فاقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ : والنعمان بن بشير (1) في قصر الامارة ، ولسنا نجتمع معه في جمعة [ ولا جماعة ] ، ولانهرج معه إلى عيد ، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى ، والسلام عليك يا بن رسول الله وعلى أبيك من قبلك ولا حول ولا قوّة الابالله العلي العظيم.
    ثمّ سرّحوا الكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمداني ، وعبد الله بن وال ، وأمروهما بالنجاء (2) ، فخرجا مسرعين حتى قدما على الإمام عليه السلام بمكّة لعشر مضين من شهر رمضان.
    وبعد يومين من تسريحهم بالكتاب (3) أنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي ، وعمارة بن عبد الله السلولي ، ومعهم نحو مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة.
انظر : تاريخ الطبري 5 : 352 ـ 440 ، لسان الميزان 2 : 173 ، الأعلام 2 : 166.
1 ـ النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري أبو عبد الله أمير شاعر ، من أهل المدينة ، وجّهته نائلة ـ زوجة عثمان ـ بقميص عثمان إلى معاوية ، فنزل الشام وشهد صفين مع معاوية ، وولي القضاء بدمشق ، وولي بعده اليمن لمعاوية ، ثمّ استعمله على الكوفة ، وعزل عنها وصارت له ولاية حمص ، واستمر فيها إلى أن مات يزيد ، فبايع النعمان لابن الزبير ، وتمرّد أهل حمص فخرج هارباً ، فأتبعه خالد بن خليّ الكلاعي فقتله سنة 65 هـ.
انظر : جمهرة الأنساب : 345 ، أسد الغابة 5 : 22 ، الأعلام 8 : 36.
2 ـ النجاء : الاسراع والسبق.
3 ـ الارشاد : 203 ، الملهوف : 65.


(189)
    ثمّ لبثوا يومين آخرين وسرّحوا اليه عليه السلام هاني بن هاني السبيعي (1) وسعيد بن عبد الله الحنفي (2) وكتبوا إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم
    للحسين بن علي عليهما السلام :
    من شيعته من المؤمنين والمسلمين.
    أما بعد : فحيّ هلا فانّ الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل ثم العجل العجل.
    ثمّ كتب شبث بن ربعي (3) ، وحجّار بن أبجر (4) ، ويزيد بن الحارث (5) ،
1 ـ هانئ بن هانئ الهمداني الكوفي ، روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهنه أبو إسحاق السبيعي. انظر : تهذيب التهذيب 11 : 22 ـ 23.
ولم ينعته كلّ من ترجمه بالسبيعي ، والسبيعي بطن من بطون همدان.
2 ـ وروي كذلك باسم سعد ، وهو من بني حنيفة بن لجيم من بكر بن وائل ، وهو أحد الرسل الذين حملوا رسائل الكوفيّين إلى الحسين عليه السلام ، من أعظم الثوار تحمّساً.
انظر : تاريخ الطبري 5 : 419 ، مقتل الحسين للخوارزمي 1 : 195.
3 ـ شبث بن ربعي التميمي اليربوعي أبو عبد القدّوس ، شيخ مصر وأهل الكوفة في أيامه ، أدرك عصر النبوّة ، ولحق بسجاح المتنبّئة ، ثم عاد إلى الاسلام ، ثار على عثمان ، قاتل الحسين عليه السلام بعد أن كتب إليه يدعوه إلى المجيء ، مات بالكوفة نحو سنة 70 هـ.
وقيل : إنّه لمّا قبض على شبث قال له إبراهيم : أصدقني ما عملت يوم الطف ؟ قال : ضربت وجهه الشريف بالسيف !! فقال له : ويلك يا ملعون ، ما خفت من الله تعالى ولا من جدّه رسول الله ، ثمّ جعل يشرح أفخاذه حتى مات.
انظر : الاصابة ترجمة رقم 3950 ، تهذيب التهذيب 4 : 303 ، ميزان الاعتدال 1 : 440.
4 ـ حجّار ـ ككتان وككتاب ـ بن أبجر الكوفي ، يقال فيه م يروي عن أمير المؤمنين ، روى عن السمّاك بن حرب. انظر : الرجال في تاج العروس 2 : 25.
5 ـ يزيد بن حارث بن رويم الشيباني ، أدرك عصر النبوّة ، وأسلم على يد أمير المؤمين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وشهد اليمامة ، ونزل بالبصرة ، قتل في الري سنة 68 هـ.


(190)
وعروة بن قيس (1) ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، ومحمد بن عمرو التميمي (2) :
    أما بعد : فقد اخضرّ الجناب (3) ، وأينعت الثمار ، [ وأعشبت الأرض ، وأورقت الأشجار ، ] فإذا شئت فاقبل على جند لك مجنّدة والسلام.
    وتواترت عليه الكتب حتى اجتمع عنده في نوب متفرّقة اثنا عشر الف كتاب ، وهو مع ذلك يتأنّي ولا يجبهم.
    فورد عليه في يوم واحد ست مائة كتاب ، وتلاقت الرسل كلّها عنده فسألهم عن الناس ، وقال لهاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي : خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب ؟
    فذكرا له وجوه أهل الكوفة ، واولي الرأي منهم.
    فقام ـ بأبي وامّي ـ عند ذلك فصلّى ركعتين بين الركن والمقام ، ثمّ كتب مع هاني وسعيد :
بسم الله الرحمن الرحيم
    من الحسين بن علي.
    إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين :
    أمّا بعد : فان هانياً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليَّ من
الإصابة ترجمة رقم 9398 ، تهذيب التهذيب 8 : 163 ، جمهرة الانساب : 305.
1 ـ ظاهراً الصحيح : عزرة بن قيس. راجع : تاريخ الطبري 5 : 353 ، أنساب الأشراف 3 : 158.
2 ـ محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي الدارمي ، من أهل الكوفة ، له مع الحجاج وغيره من اُمرائها أخبار ، كان أحد اُمراء الجند في صفّين مع عليّ عليه السلام ، توفي نحو 85 هـ. أنظر : المحبر : 154 و 338 و 339 ، لسان الميزان 5 : 330.
3 ـ في بعض المصادر : اخضرت الجنّات ، والجَناب : الفناء ، وما قرب من محلّة القوم.


(191)
رسلكم ، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم : « إنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ والهدى ».
    وإني باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل.
    فان كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأى ملئكم ، وذوي الحجي والفضل منكم على ما قدمت به رسلكم ، وقرأت في كتبكم ، فانّي أقدم إليكم وشيكاً ان شاء الله تعالى فلعمري ما الإمام الاالحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الداين بدين الحقّ ، الحابس نفسه على ذات الله ، والسلام.
    ودعا سلام الله عليه مسلم بن عقيل فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الله وعبد الرحمن الأرحبيّين ، وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف ، فان رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك.
    فأقبل مسلم رضوان الله عليه حتى أتى المدينة فصلّى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وودع أهله ومن يحب.
    وسار حتى وصل الكوفة فنزل في دار المختار بن [ أبي ] عبيدة الثقفي (1) ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، وكلّما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام وهم يبكون.
1 ـ المختار بن أبي عبيدة ابن مسعود الثقفي أبو إسحاق ، من زعماء الثائرين على بني اُميّة ، من أهل الطائف ، انتقل إلى المدينة مع أبيه ، وبقي المختار في المدينة منقطعاً إلى بني هاشم ، تزوج عبد الله بن عمر بن الخطاب أخت المختار صفية ، وكان المختار مع علي عليه السلام بالعراق ، وسكن البصرة بعد علي عليه السلام ، قبض عليه عبيد الله بن زياد في البصرة وحبسه ونفاه بشفاعة ابن عمر إلى الطائف ، ذهب إلى الكوفة بعد موت يزيد لأخذ الثأر من قتلة الحسين ، واستولى على الكوفة والموصل وتتبع قتلة الحسين عليه السلام ، قتله مصعب بن الزبير بعد حرب بينهما سنة 67 هـ.
انظر : الاصابة ترجمة رقم 8545 ، الفرق بين الفرق : 31 ـ 37 ، الكامل في التاريخ 4 : 82 ـ 108 ، تاريخ الطبري 7 : 146.


(192)
    وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر الفاً.
    فكتب مسلم إلى الحسين بذلك ، وطلب منه القدوم عليهم.
    وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل ، حتى علم النعمان بن بشير بذلك ـ وكان والياً على الكوفة من قبل معاوية فأقرّه يزيد عليها ـ وعلم بمكان مسلم فلم يتعرّض له بسوء.
    فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني امية فقال له : إنّه ما يصلح ما ترى أيّها الأمير الا الغشم ـ أيّ الظلم ـ وانّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك لرأي المستضعفين.
    وكتب إلى يزيد كتاباً فيه : أنّ مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعت الشيعة للحسين ، فان يكن لك فيها حاجة فابعث إليها قويّاً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك ، فانّ النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعّف.
    ثم كتب كل من عمارة بن عقبة وعمر بن سعد ينحو من ذلك.
    وبعد وصول كتبهم إلى يزيد كتب إلى عبيد الله بن زياد ـ وكان والياً على البصرة (1) ـ بأنّه قد ولاه الكوفة وضمّها إليه ، وعرّفه أمر مسلم بن عقيل وشدّد عليه في تحصيله وقتله.
    فأسرع اللعين إلى الكوفة ، واستخلف أخاه عثمان على البصرة ، وكان دخوله إلى الكوفة ليلاً ، فظنّ أهلها أنّه الحسين عليه السلام فتباشروا بقدومه ودنوا منه ، فلمّا عرفوا أنّه ابن مرجانة تفرّقوا عنه. فدخل قصر الامارة وبات فيه إلى الغداة ، ثم خرج فأبرق وأرعد ، ووعد وتوعّد.
    فلمّا سمع مسلم بن عقيل بذلك خاف على نفسه ، فقصد هاني بن عروة
1 ـ البصرة بلدة اسلامية بنيت في خالفة عمر في السنة 18 من الهجرة ، سمّيت بذلك لأنّ البصرة الحجارة الرخوة ، وهي كذلك ، فسمّيت بها ، والبصرتان : البصرة والكوفة. مجمع البحرين 3 : 225 ـ 226.

(193)
فآواه وأكرم مثواهه ، وكثر اختلاف أصحابه إليه يبايعونه على السمع والطاعة.
    لكنّهم نقضوا بعد ذلك بيعته ، واخفروا ذمّته ، ولم يثبتوا معه على عهد ، ولا وفوا له بعقد ، وكان ـ بأبي هو وأمّي ـ من اُسود الوقائع ، وسقاة الحتوف ، واُباة الذلّ ، واولي الحفائظ ، وله ـ حين أسلمه أصحابه ، واشتد البأس بينه وبين عدوّه ـ مقام كريم ، وموقف عظيم ، إذ جاء العدو من فوقه ومن تحته ، وأحاط به من جميع نواحيه ، وهو وحيد فريد ، لا ناصر له ولا معين ، فأبلى بلاءً حسناً ، وصبر صبر الأحرار على ضرب سيوفهم ، ورضخ أحجارهم (1) وما ناله من ضياتهم الشحيذة ، وأطنان قصبهم الملتهبة ، التي كانوا يرمونه من فوق البيت عليه ، حتى وقع في أيديهم أسيراً ، بعد أن فتك بهم ، وأذاقهم وبال أمرهم ، ثم قتلوه ظمئاناً ، وهو يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي على رسوله صلى الله عليه وآله ، وصلبوا جثته بالكناسة ، وبعثوا برأسه إلى الشام.
رعـي الله جسمـاً بالكنـائس مُصلباً لقد سامه الأعداء خفضاً فما ارتضي وقفت بمستـنّ الـنـزال فلم تجـد إلى أن وردت المـوت والموت سنّة ولا عيب في الحرّ الكريم إذا قضى ورأسـاً له فـوق السنـان مـركـبـا سوى الـرفـع فـوق السمهرية منصبا سوى الموت في الهيجا من الضيم مهربا لكم عرفـت تحـت الأسـنـّة والضبا بحدّ الضبـا حـرّاً كريـمـاً مهـذّبـا

1 ـ رضخ رأسه بالحجر : رضّه.

(194)
    لما جاء عبيد الله بن زياد (1) الى الكوفة (2) ، وضع المراصد ، وبثّ الجواسيس فيها على مسلم ، حتى علم أنّه في دار هاني ، فدعا محمد بن الأشعث (3) وأسماء بن خارجة (4) وعمرو بن الحجاج ، فقال :
    ما يمنع هانياً من إتياننا ؟
    فقالوا : ما ندري ، وقد قيل : إنّه يشتكي.
    فقال : بلغني ذلك ، ثمّ علمت أنّه قد برئ وأنّه يجلس على باب داره ، ولو أعلم أنّه شاكٍ لعُدته ، فألقوه ومروه أن لا يدع ما يجب عليه من حقّنا ، فإنّي لا أحبّ أن يفسد عندي مثله ، [ لأنّه ] من أشراف العرب.
1 ـ عبيد الله بن زياد بن أبيه ، ولد بالبصرة ، وكان مع والده لمّا مات بالعراق ، قصد الشام فولاه عمّه معاوية خراسان سنة 53 هـ وبقي فيها سنتين ، ونقله إلى معاوية إلى البصرة أميراً عليها سنة 55 ، وأقرّه يزيد على امارته سنة 60 هـ ، وكانت فاجعة الطف في أيامه وعلى يده ، وبعد هلاك يزيد بايع أهل البصرة لعبيد الله ، ثمّ لم يلبثوا أن وثبوا عليه ، فهرب متخبّئاً إلى الشام ، ثم عاد يريد العراق ، فلحق به إبراهيم الأشتر فاقتتلا وتفرّق أصحاب عبيد الله فقتله ابن الأشتر في خازر من ارض الموصل ، ويدعى عبيد الله بابن مرجانة ، وهي اُمّه كانت معروفة بالفسق والفجور : انظر : تاريخ الطبري 6 : 166 و 7 : 18 و 144 ، الأعلام 4 : 193.
2 ـ الارشاد : 208 ، الملهوف : 114.
3 ـ محمد بن الأشعث بن قيس الكندي ، أبو القاسم ، من أصحاب مصعب بن الزبير ، قتل سنة 67 هـ انظر ترجمته في الاصابة رقم 8504 ، الأعلام 6 : 39.
4 ـ أسماء بن خارجة بن حصين الفزاري ، تابعي ، من رجال الطبقة الاولى من أهل الكوفة ، توفي سنة 66 هـ انظر ترجمته في تاريخ الاسلام 2 : 372 ، الأعلام 1 : 305.


(195)
    فأتوه ووقفوا عشيةً على باب داره ، فقالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير ، فإنّه ذكرك وقال : لو أعلم أنّه شاكٍ لعُدته ؟
    فقال : الشكوى تمنعني.
    فقالوا : [ إنّه ] قد بلغه جلوسك كلّ عشيّة على باب دارك ، وقد استبطأك ، والإبطاء والجفاء لا يتحمّله السلطان من مثلك ، لانّك سيّد قومك ، ونحن نقسم عليك الاركبت معنا.
    وما زالوا به حتى غلبوه على رأيه ، فدعا بثيابه فلبسها ، ثم دعا ببغلته فركبها ، فلمّا دنا من القصر أحسّ ببغض الذي كان ، فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة :
    يا بن أخي إنّي والله لخائف من هذا الرجل فما ترى ؟
    فقال : والله يا عم ما أتخوّف عليك شيئاً ، فلا تجعل على نفسك سبيلاً ، ولم يكن حسّان يعلم الذي أضمر ابن مرجانة لهاني.
    فجاءه رحمه الله تعالى والقوم معه حتى دخلوا جميعاً على ابن زياد ، فلمّا رأى هانياً قال : أتتك بخائن (1) رجلاه. ثمّ تمثّل فقال :
اُريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد (2)

1 ـ كذا في الأصل والمصادر ، والظاهر أنّ الصحيح : حائن ، وهو الذي حان حينه وهلاكه ، راجع مجمع الأمثال للميداني.
2 ـ هذا البيت لـ « عمرو بن معدي كرب الزبيدي » وهو فارس اليمن وصاحب الغارات المذكورة ، وفد على المدينة سنة 9 هـ في عشرة من بني زبيد فأسلم وأسلموا ، يكنى أبا ثور ، توفي على مقربة من الري سنة 21 هـ ؛ وقيل : قتل عطشاً يوم القادسية. انظر : الاصابة رقم ( 5972 ) ، خزانة الأدب 1 : 425 ـ 246 ، الأعلام 5 : 86.
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ::: فهرس