المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: 1 ـ 15

    في علوم القرآن
المناهج التفسيرية
في علوم القرآن
تأليف
العلامة الفقيه
الشيخ جعفر السبحاني
نشر مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السلام )


(5)
    المقدّمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد للّه الذي نزّل الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً للعالمين.
    والصلاة والسلام على من نزل الكتاب على قلبه ليكون من المنذرين ، وعلى العترة الطاهرة أعدال الكتاب وقرناؤه.
    أمّا بعد ؛ فهذه رسالة موجزة تتكفّل ببيان المناهج التفسيرية صحيحها وسقيمها ، وتُبيّن الفرق بين المنهج التفسيري والاهتمام التفسيري ، فأُصول المنهج لا تتعدّى عن أصلين :
    أ. التفسير بالعقل.
    ب. التفسير بالنقل.
    لكنّ لكلّ صوراً :
    أمّا الأوّل فصوره عبارة عن :
    1. التفسير بالعقل الصريح.
    2. التفسير على ضوء المدارس الكلامية.
    3. التفسير على ضوء السنن الاجتماعية.
    4. التفسير على ضوء العلم الحديث.


(6)
    5. التفسير حسب تأويلات الباطنية.
    6. التفسير حسب تأويلات الصوفية.
    أمّا الثاني فصوره عبارة عن :
    أ. تفسير القرآن بالقرآن.
    ب. التفسير البياني للقرآن.
    ج. تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية.
    د. تفسير القرآن بالمأثور عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والأئمّة ( عليهم السَّلام ).
    فهذه الصور العشر من فروع المنهجين الأصليّين ، وفي ثنايا البحث نشير إلى ما لا غنى للباحث المفسر عنه ، وأرجو منه سبحانه أن تكون الرسالة بإيجازها نافعة لقارئها الكريم بإذن منه.
    وما ذكرناه من تقسيم منهج التفسير إلى التفسير بالعقل والنقل أمر ذائع.
    وفي مقدّمة معالم التنزيل للإمام البغوي ( المتوفّى عام 516 هـ ) ما هذا لفظه :
    التفسير بالمنقول : هو التفسير بالمأثور الذي رواه الصحابة والتابعون عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، أو ما روى علماء الأثر عن الصحابة والتابعين أيضاً ممّا يتعلّق بالقرآن الكريم من كلّ الوجوه ، هو من التفسير بالأُمور.
    ومصادره القراءات القرآنية سواء منها المتواتر والمشهور والشاذ ، والأحاديث النبوية ، وأقوال الصحابة والتابعين ، والأئمّة المجتهدين.
    التفسير بالمعقول : هو التفسير العقلي الذي يعتمد فيه علم الفهم العميق ، والإدراك المركّز لمعاني الألفاظ القرآنية ، بعد إدراك مدلول العبارات القرآنية التي تنظم في سلكها تلك الألفاظ الكريمة وفهم دلالاتها فهماً دقيقاً.


(7)
    وهذا القسم من التفسير يقوم على الاجتهاد في فهم النصوص القرآنية وإدراك مقاصدها ومعرفة مدلولها ، عن طريق معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول وأساليبهم في التعبير ، ومعرفة دلالة الألفاظ ووجوهها ، وآلة هذا النوع من التفسير علوم الاستنباط وأُصول التشريع. (1)
    وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نقدّم مباحث تمهيدية لها أهمّيتها الخاصّة في عالم التفسير ، كما أنّ لها صلة وثيقة بالمناهج التفسيرية.
جعفر السبحاني
قم ـ مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السَّلام )
تحريراً في 27 رجب المرجّب من شهور عام 1409





1 ـ مقدّمة معالم التنزيل : 1 / 10 ـ 11.

(8)

(9)
    مباحث تمهيدية
1. حاجة القرآن إلى التفسير
2. مؤهلات المفسّر أو شروط المفسّر
3. القرآن قطعيُّ الدلالة
4. التفسير بالرأي







(10)

(11)
    التفسير مأخوذ من « فسَّر » بمعنى : أبان و كشف.
    قال الراغب : الفَسْر ، والسَفْر متقاربا المعنى كتقارب لفظيهما ، والفرق بينهما انّ الأوّل يستعمل في إظهار المعنى المعقول ، كقوله سبحانه : ( وَلا يَأتُونَكَ بِمَثَل إلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا ) (1) أي أحسن تبييناً.
    والثاني يُستعمل في إبراز الأعيان للأبصار ، يقال : أسفر الصبحُ ، أو سفرتْ المرأة عن وجهها. (2)
    وأمّا في الاصطلاح فبما انّ التفسير علم كسائر العلوم فله تعريفه وموضوعه ومسائله وغايته.
    أمّا التعريف فقد عرف بوجوه :
    1. هو العلم الباحث عن تبيين دلالات الآيات القرآنية على مراد اللّه سبحانه.
    وبعبارة أُخرى : إزالة الخفاء عن دلالة الآية على المعنى المقصود.
    وهناك تعريفات أُخرى نشير إلى بعضها.
1 ـ الفرقان : 33.
2 ـ مقدمة التفسير : 33.


(12)
    وعرّفه الزركشي بقوله : علم يعرف به فهم كتاب اللّه تعالى المنزل على نبيه محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه. (1)
    وأمّا موضوعه فهو كلام اللّه سبحانه المسمّى بالقرآن الكريم.
    وأّمّا مسائله فهي ما يستظهر من الآيات بما انّه مراده سبحانه.
    وأمّا الغرض منه فهو الوقوف على مراده سبحانه في مجالي المعارف والمغازي والقصص واستنباط الأحكام الشرعية منه.
    ثمّ إنّ الرأي السائد بين المسلمين انّ القرآن غير غني عن التفسير ، إمّا من جانب نفسه كتبيين معنى آية بأُختها ، أو تبيينه بكلام من نزل على قلبه.
    يقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُون ) (2) ولم يقل « لتقرأ » بل قال : ( لتُبيّن ) إشارة إلى أنّ القرآن يحتاج وراء قراءة النبي ، إلى تبيين ، فلو لم نقل أنّ جميع الآيات بحاجة إليه ، فلا أقل أنّ هناك قسماً منها يحتاج إليه بأحد الطريقين : تفسير الآية بالآية ، أو تفسيرها بكلام النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    والذي يكشف عن حاجة القرآن إلى التبيين أُمور ، نذكر منها ما يلي :
    1. إنّ أسباب النزول ، للآيات القرآنية ، كقرائن حالية اعتمد المتكلم عليها في إلقاء كلامه بحيث لو قطع النظر عنها ، وقُصِّـر إلى نفس الآية ، لصارت الآية مجملة غير مفهومة ، ولو ضمّت إليها تكون واضحة شأن كل قرينة منفصلة عن الكلام ، وإن شئت لاحظ قوله سبحانه : ( وَعَلى الثّلاثَةِ الّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيهِمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَيهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أنْ
1 ـ البرهان في علوم القرآن : 1 / 33.
2 ـ النحل : 44.


(13)
لا مَلجَأَ مِنَ اللّهِ إلاّ إليهِ ثُمَّ تابَ عَلَيهِم لَيَتُوبوا إنّ اللّهَ هُوَ التَّوابُ الرَّحيم ) (1).
    ترى أنّ الآية تحكي عن أشخاص ثلاثة تخلّفوا عن الجهاد حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فعند ذلك يسأل الإنسان نفسه ، مَن هم هؤلاء الثلاثة ؟ ولماذا تخلّفوا ؟ ولأيّ سبب ضاقت الأرض والأنفس عليهم ؟
    وما المراد من هذا الضيق؟ ثم ماذا حدث حتى انقلبوا وظنّوا أنّه لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المتراكمة حول الآية ، لكن بالرجوع إلى أسباب النزول تتخذ الآية لنفسها معنى واضحاً لا إبهام فيه. (2)
    وهذا هو دور أسباب النزول في جميع الآيات ، فإنّه يُلقي ضوءاً على الآية ويوضح إبهامها ، فلا غنىً للمفسّر من الرجوع إلى أسباب النزول قبل تفسير الآية كما سيوافيك تفصيله في مؤهلات المفسر.
    2. إنّ القرآن مشتمل على مجملات كالصلاة والصوم والحجّ لايفهم منها إلاّ معاني مجملة ، غير أنّ السنّة كافلة لشرحها ، فلاغنىً للمفسّر عن الرجوع إليها في تفسير المجملات.
    3. إنّ القرآن يشتمل على آيات متشابهة غير واضحة المراد في بدء النظر ، وربما يكون المتبادر منها في بدء الأمر ، غير ما أراد اللّه سبحانه ، وإنّما يعلم المراد بإرجاعها إلى المحكمات حتى تفسّر بها ، غير أنّ الذين في قلوبهم زيغ يتبعون الظهور البدائي للآية لإيجاد الفتنة وتشويش الأذهان ويجعلونه تأويل الآية أي مرجعها وم آلها ، وأمّا الراسخون في العلم فيتّبعون مراده سبحانه بعدما يظهر من سائر الآيات التي هي أُم الكتاب.
1 ـ التوبة : 118.
2 ـ سيوافيك الكلام في الآية أيضاً عند البحث عن مؤهلات المفسر لاحظ : 39.


(14)
    قال سبحانه : ( مِنهُ آياتٌ مُحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فأمّا الّذِينَ في قُلوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وابتغاءَ تأويلِه ) (1).
    وعلى هذا لا غنى من تفسير المتشابهات بفضل المحكمات ، وهذا يرجع إلى تفسير القرآن نفسه بنفسه ، والآية بأُختها.
    4. إنّ القرآن المجيد نزل نجوماً ، لغاية تثبيت قلب النبي طيلة عهد الرسالة.
    قال سبحانه : ( وقالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرآنُ جُملَةً واحِدةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلناهُ تَرتيلا ) (2) فمقتضى النزول التدريجي تفرق الآيات الباحثة عن موضوع واحد في سور مختلفة ، ومن المعلوم أنّ القضاء في موضوع واحد يتوقف على جمع الآيات المربوطة به في مكان واحد حتى يستنطق بعضها ببعض ، ويستوضح بعضها ببعض آخر ، وهذا ما يشير إليه الحديث النبوي المعروف : « القرآن يفسّر بعضه بعضاً » (3).
    وقال الإمام علي ( عليه السَّلام ) : « كتاب اللّه تبصرون به ، وتنطقون وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، ولا يختلف في اللّه ولا يخالف بصاحبه عن اللّه » (4).
    وفي كلامه ( عليه السَّلام ) ما يعرب عن كون الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) هو المفسر الأوّل للقرآن الكريم يقول : « خلّف فيكم ( أي رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ) كتابَ رَبِّكم ، مبيّناً حلالَه وحرامَه ، وفرائضَه ، وفضائلَه وناسخَه ومنسوخَه ، ورُخَصَه وَعَزَائمَه ، وخاصَّه
1 ـ آل عمران : 7.
2 ـ الفرقان : 32.
3 ـ حديث معروف مذكور في التفاسير ولم نقف على سنده. و لكن يوجد مضمونه في كلام الإمام علي ( عليه السَّلام ) التالي.
4 ـ نهج البلاغة : الخطبة رقم 133.


(15)
وعامَّه ، وعِبَره وأمثالَه ، ومُرسَلَه وَمَحْدوده ، ومُحْكَمه ومتشابهه ، مفسِّـراً مجمله ، ومبِّيناً غوامضه » (1).
    وهذه الوجوه ونظائرها تثبت أنّ القرآن لايستغني عن التفسير.
    سؤال وإجابة
    أمّا السؤال : فربما يتصور أنّ حاجة القرآن إلى التفسير ينافي قوله سبحانه : ( وَلَقَد يَسَّرنا القرآنَ لِلذِّكرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِر ) (2).
    ونظيره قوله سبحانه في موارد مختلفة : ( بِلسان عَربىّ مُبين ) (3) فإنَّ تَوصيف القرآن باليسر وَكَونِه بِلسان عَرَبي مُبين يهدفان إلى غناه عن أيّ إيضاح وتبيين ؟
    وأمّا الإجابة : فإنّ وصفه باليسر ، أو بأنّه نزل بلغة عربية واضحة يهدفان إلى أمر آخر ، وهو أنّ القرآن ليس ككلمات الكهنة المركّبة من الأسجاع والكلمات الغريبة ، ولامن قبيل الأحاجي والألغاز ، وإنّما هو كتاب سهل واضح ، من أراد فهمه ، فالطريق مفتوح أمامه ؛ وهذا نظير ما إذا أراد رجل وصف كتاب أُلّف في علم الرياضيات أو في الفيزياء أو الكيمياء فيقول : أُلّف الكتاب بلغة واضحة وتعابير سهلة ، فلا يهدف قوله هذا إلى استغناء الطالب عن المعلِّم ليوضح له المطالب ويفسر له القواعد.
    ولأجل ذلك قام المسلمون بعد عهد الرسالة بتدوين ما أُثر عن النبي أو الصحابة والتابعين أو أئمة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) في مجال كشف المراد وتبيين الآيات ، ولم تكن الآيات المتقدّمة رادعة لهم عن القيام بهذا الجهد الكبير.
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة رقم1. والظاهر أنّ قوله : مبيِّناً ، بيان لوصف النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، والضمائر ترجع إلى القرآن الكريم لا إلى اللّه سبحانه.
2 ـ القمر : 17.
3 ـ الشعراء : 195. وفي النحل : 103 ( وهذا لسان عربيٌّ مبين ).
المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: فهرس