المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: 106 ـ 120
(106)
    موقف المنار من المعاجز والكرامات
    قد تعرّفت على المزايا الإيجابية لتفسير المنار ، وما فيه من اهتمام بالغ بتفسير القرآن وفق المعايير الاجتماعية السائدة على الحياة.
    بيد انّ التفسير المذكور لا يخلو من سلبيات في موارد وأخصّ بالذكر المعاجز والكرامات ، فقد حاول في كثير من الآيات المشتملة على هذا النوع من خوارق العادات ، أن يخرجها عن طابعها الغيبي ويصبغ عليها الطابعَ المادي.
    والذي دفع المصنّف إلى هذا النوع من التفكير هو انبهاره بالحضارة الغربية المادية حينما نفي أوائل القرن الرابع عشر الهجري وألقى رحل الإقامة في منفاه ( باريس ) ، شاهد عن كثب تقدّم العلوم الطبيعية وازدهارها في مختلف المجالات وصار العلم يقين لكلّ ظاهرة علة مادية دون أن ينسبها إلى عوامل غيبية من الجن والملك.
    وقد دفع ذلك ، الأُستاذ إلى محاولة الجمع بين الدين والعلم من خلال تفسير الخوارق بالأسباب الطبيعية على نحو يخرجها عن كونها أمراً خارقاً للعادة ، وقد تأثر بهذا المنهج كثير من تلامذته وهذه المحاولة ـ في الحقيقة ـ إخضاع الوحي للعلوم الطبيعة وتفسير له من هذا المنظار.
    وها نحن نذكر في المقام نماذج من هذه التأويلات ونقتصر من أجزاء المنار على الجزء الأوّل ، كما نقتصر منه على بعض ما ذكره في تفسير سورة البقرة ونحيل الباقي إلى القارئ الكريم.
    1. ( وَلَقَد عَلِمتُمُ الّذِينَ اعتَدَوْا مِنكُم فِي السَّبتِ فَقُلنا لَهُم كُونُوا قِرَدةً خاسئِين * فَجَعَلناها نَكالاً لِما بَينَ يَدَيها وَما خَلفَها وَمَوعِظةً للمتَّقين ) (1).
1 ـ البقرة : 65 ـ 66.

(107)
    كتب ما يلي :
    « إنّ السلف من المفسّرين ـ إلاّ من شذّ ـ ذهب إلى أنّ معنى قوله : ( كونوا قردة خاسئين ) أنّ صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيّين.
    وإنّما نسب هذا المعنى إلى السلف ، لأنّه يصطدم بالمنهج الذي اختاره الأُستاذ في تفسير القرآن ، حيث لا تصدقه أنصار الحضارة المادية الّذين ينكرون إمكان صيرورة إنسان قرداً حقيقياً دفعة واحدة ، ولأجل ذلك مال الأُستاذ إلى رأي مجاهد الذي قال : ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثّلوا بالقردة كما مثّلوا بالحمار في قوله تعالى :
    ( مَثَلُ الّذِينَ حُمِّلُوا التَّوراة ثمَّ لَم يَحمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أسفاراً ). (1)
    ثم أخذ في نقد قول الجمهور ـ إلى أن قال ـ : فما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة. (2)
    ولا يخفى أنّه إذا صحّ هذا التأويل ، فيصح لكل من ينكر المعاجز والكرامات وخوارق العادات هذا النمط من التأويل ، وعندئذ تبطل المعارف ويكون الكتاب العزيز لعبة بيد المحرّفين.
    2. نقل صاحب المنار عن بعض المفسّرين مذهباً خاصاً في معنى الملائكة وهو أنّ مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات ، وخلقة حيوان ، وحفظ إنسان وغير ذلك ، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة ، وهو أنّ هذا النمو في النبات لم يكن إلاّ بروح خاص نفخه اللّه في
1 ـ الجمعة : 5.
2 ـ تفسير المنار : 1 / 343 ـ 354.


(108)
البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة ، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان ، فكل أمر كلّي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنّما قوامه بروح إلهي ، سُمِّي في لسان الشرع ملكاً ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمّي هذه المعاني القوى الطبيعية إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلاّ ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة.
    وقال الإمام عبده بعد نقل نظير هذه التأويلات : ولو أنّ نفساً مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك ، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس على ما أبصرت من الحق. (1)
    ولا يخفى أنّ هذا التأويل لو صحّ في بعض الأحاديث لما صحّ في الملائكة الواردة في قصة آدم وغيرها ، وما هذا التأويل إلاّ للخضوع للمنهج الخاص الذي اختاره الأُستاذ في تفسير القرآن.
    3. يقول سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللّه جَهْرَة فَأَخَذتكُمُ الصاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ). (2)
    المتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت ، والخطاب لليهود المعاصرين للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) باعتبار أحوال أسلافهم ، ولا يفهم أيّ عربي صميم من لفظة ( ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوتِكُمْ ) ، غير هذا إلاّ أنّ صاحب المنار ذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النسل ، أي أنّه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن أنّهم سينقرضون ، بارك اللّه في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحقّ
1 ـ المنار : 1 / 273.
2 ـ البقرة : 55 ـ 56.


(109)
الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها. (1)
    ولم يكن هذا التفسير من الأُستاذ إلاّ لأجل انّ الاعتراف بالإحياء بعد الموت في الظروف المادية ممّا لا يصدقه العلم الحسي والتجربة ، فلأجل ذلك التجأ إلى تفسيره بما ترى ، وما أظن انّ الأُستاذ يتفوّه بهذا التفسير في نظائر الآية في القرآن الكريم.
    4. أمر سبحانه بني إسرائيل بذبح البقرة ، وقال : ( وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَومِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُركُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة قالُوا أَتَتَّخذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ باللّهِ أَنْ أَكُون مِنَ الجاهلين ) إلى أن قال : ( وإِذْ قَتَلتُمْ نَفْساً فَادّارءتُمْ فيها وَاللّه مُخرج ما كُنْتُمْ تَكْتُمُون * فَقُلْنا اضْربُوه ببَعضِها كَذلك يحيى اللّه المُوتى ويُريكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ). (2)
    ومجمل القصة هو انّ رجلاً قتل قريباً له غنياً ليرثه ، واختفى قتله له ، فرغب اليهود في معرفة قاتله ، فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض المقتول ببعض البقرة فانّه يحيى ، ويخبر عن قاتله.
    وهذا هو ما اختاره الجمهور في تفسير الآية ، وهو صريح قوله سبحانه :
    ( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحيى اللّه المَوتى ).
    وأمّا الأُستاذ فقد سلك طريقاً آخر تحت تأثير موقفه المسبق من المعاجز والكرامات وخوارق العادة ، فهو بعد ان نقل رأي الجمهور ، قال : قالوا : إنّهم ضربوه فعادت إلى المقتول الحياة ، وقال : قتلني أخي ، أو ابن أخي فلان ، قال : والآية ليست نصاً في مجمله فكيف بتفصيله ؟
1 ـ تفسير المنار : 1 / 322.
2 ـ البقرة : 67 ـ 73.


(110)
    ثمّ فسر الآية بما ورد في التوراة من أنّه إذا قتل قتيل ولم يعرف قاتله ، فالواجب أن تذبح بقرة في واد دائم السيلان ويغسل جميع أفراد القبيلة أيديهم على البقرة المكسورة العنق في الوادي ، ويقولون : انّ أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل ، ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل ، ومن لم يفعل يتبين أنّه القاتل ، ويراد بذلك حقن الدماء.
    ثمّ قال : وهذا الإحياء على حد قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي القِصاص حَياة ) (1) ومعناه حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قاتل تلك النفس. (2)
    وأنت ترى أنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله ( فقُلنا اضرِبُوهُ بِبَعضِها ) أي اضربوا النفس المقتولة ببعض جسم البقرة ( كَذلِكَ يُحيى اللّه المَوتى ) ، فهل كان في غسل الأيدي على البقرة المكسورة العنق ، ضرب المقتول ببعض البقرة ؟! هذا أوّلاً.
    وأمّا ثانياً : كيف استند الأُستاذ ـ في تفسير الآية الحاضرة ـ بما ورد في التوراة ، مع أنّ المشهور منه انّه يستوحش كثيراً من بعض الروايات التي ربما توافق ما ورد في الكتب المقدسة ، ويصفها بالإسرائيليات والمسيحيات ، ومع ذلك عدل عن مسلكه واستند في تفسير الذكر الحكيم بالكلم المحرفة ؟!
    وليس هذا التفسير ـ في حقيقته ـ إلاّ لأجل ما اتخذه الأُستاذ من موقف مسبق تجاه المعاجز والكرامات ، وخوارق العادة ، وغير ذلك ممّا يرجع إلى عالم الغيب.
1 ـ البقرة : 179.
2 ـ تفسير المنار : 1 / 345 ـ 350.


(111)
    5. قال اللّه تعالى : ( أَلَمْ تَر إِلَى الّذينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوت فَقالَ لَهُمُ اللّه مُوتُوا ثُمَّ أَحياهُمْ إِنَّ اللّه لَذُو فَضْل عَلَى النّاس ولكِنْ أَكْثَر النّاس لا يشكُرون ). (1)
    ذهب الجمهور إلى أنّهم قوم من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون أو من الجهاد فأرسل عليهم الموت ، فلمّا رأوا انّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً منه ، فأماتهم اللّه جميعاً وأمات دوابّهم ثمّ أحياهم لمصالح وغايات أشير إليها في الآية.
    لكن الأُستاذ أنكر ذلك واختار كون الآية مسوقة سوق المثل ، وانّ المراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم فلم يدافعوا عن استقلالهم وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف ، فقال لهم اللّه موتوا موت الخزي والجهل ، والخزي موت والعلم وإباء الضيم حياة ، فهؤلاء ماتوا بالخزي ثمّ أحياهم بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ ، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلّوا في أمرهم.
    يلاحظ عليه : أنّه لو كانت الآية مسوقة سوق المثل وجب أن تذكر فيه لفظة « المثل » كما هو دأبه سبحانه في الأمثال القرآنية ، مثل قوله : ( كَمَثَل الَّذي اسْتَوقَدَ ناراً ). (2)
    وقوله تعالى : ( إِنّما مَثَلُ الحَياة الدُّنْيا كَماء أَنْزَلْناهُ ). (3)
    وقوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذينَ حمِّلُوا التَّوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمار يَحْمِلُ أَسفاراً ). (4)
    فحمل الآية على المثل وإخراجها عن كونها وردت لبيان قصة حقيقية ،
1 ـ البقرة : 243.
2 ـ البقرة : 17.
3 ـ يونس : 24.
4 ـ الجمعة : 5.


(112)
تفسير بلا شاهد ، وتأويل بلا دليل.
    وكم للأُستاذ رشيد رضا في تفسيره هذا زلاّت وغفلات أجملنا الكلام فيه ونذكر منها أمرين :
    الأوّل : توغّله في التوهّب ودفاعه العنيف عن ابن تيمية وتعريفه بشيخ الإسلام على وجه أصبح من دعاة الوهابية ، وناشري أفكارها.
    الثاني : تحامله على الشيعة في غير واحد من المواضع على وجه دعا السيد محسن الأمين العاملي على إفراد كتاب أسماه « الحصون المنيعة في رد ما أورده صاحب المنار في حقّ الشيعة » وقد أغرق فيه نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعاً.


(113)
    المنهج الأوّل / 4     ومن المولعين بهذا النمط من التفسير الشيخ طنطاوي جوهري ( 1287 ـ 1358 هـ ) في كتابه المعروف « الجواهر في تفسير القرآن » وهو يهتم بهذا النمط ، قائلاً بأنّ في القرآن من آيات العلوم ما يربو على 750 آية في حين انّ علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على 150 آية.
    ثمّ إنّه يهيب بالمسلمين أن يتأمّلو في آيات القرآن التي ترشد إلى علوم الكون ويحثّهم على العمل بما فيها ويندد بمن يغفل عن هذه الآيات على كثرتها ، وينعى على من أغفلها من السابقين الأوّلين ووقف عند آيات الأحكام وغيرها ممّا يتعلق بأُمور العقيدة.
    ثمّ إنّ الشيخ الذهبي قد ذكر نماذج من هذا النوع من التفسير استخرجها من دراسة هذا التفسير وقال : إنّا لنجد المؤلف ( رحمه الله ) يفسر آيات القرآن تفسيراً علمياً يقوم على نظريات حديثة وعلوم جديدة لم يكن للعرب عهد بها من قبل ثمّ قال : وإليك بعض ما جاء في هذا التفسير.
    1. يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتهُمْ وَأَيديهِم وَأَرجُلهُمْ بِما كانُوا


(114)
يَعْمَلُون ) (1) وقوله سبحانه : ( اَلْيَومَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيديهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُون ) (2) والشيخ طنطاوي يفسر الآيتين ونظائرهما بما اثبته العلم.
    يقول : « أو ليس الاستدلال بآثار الاقدام ، وآثار أصابع الأيدي في آياتنا الحاضرة ، هو نفس الذي صرح به القرآن ، وإذا كان اللّه يعلم ما في البواطن بل هو القائل للإنسان : ( كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوم عَلَيْكَ حَسيباً ) (3) والقائل : ( بَل الإِنْسانُ عَلى نَفْسهِ بَصيرة ) (4) أفلا يكون ذكر الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أنّ من الدلائل ما ليس بالبينات المشهورة عند المسلمين ؟ وانّ هناك ما هو أفضل منها ؟ وهي التي يحكم بها اللّه فاحكموا بها. ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا انّ الأيدي فيها أسرار ، وفي الأرجل أسرار ، وفي النفوس أسرار ، فالأيدي لا تشتبه ، والأرجل لا تشتبه ، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم أو ليس في الحق أن أقول : إنّ هذا من معجزات القرآن وغرائبه ؟ وإلاّ فلماذا هذه المسائل التي ظهرت في هذا العصر تظهر في القرآن بنصها وفصها. (5)
    2. يقول سبحانه : ( أَوَ لَمْ يَر الَّذين كَفَرُوا انّ السَّماوات وَالأرْض كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلّ شَيء حَيّ أَفلا يُؤمِنُون ). (6)
    فقد فسر القدماء فتق السماء بنزول المطر وفتق الأرض بخروج النبات غير انّ الشيخ طنطاوي يفسره بما يوحي إليه العلم الحديث ، يقول : ها أنت قد اطّلعت
1 ـ النور : 34.
2 ـ يس : 65.
3 ـ الاسراء : 14.
4 ـ القيامة : 14.
5 ـ الجواهر : 3 / 9.
6 ـ الأنبياء : 30.


(115)
على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين ، من أنّ السماوات و الأرض أي الشمس والكواكب وما هي فيه من العوالم ، كانت ملتحمة فصلها اللّه تعالى ، وقلنا : انّ هذه معجزة ، لأنّ هذا العلم لم يعرفه الناس إلاّ في هذه العصور ، ـ إلى أن قال : ـ كأنّه يقول : سيرى الذين كفروا انّ السماوات والأرض كانت مرتوقة ففصلنا بينهما ، فهو و ان ذكرها بلفظ الماضي فقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى : أتى أمر اللّه وهذه معجزة تامة للقرآن ، وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس في هذه الحياة الدنيا. (1)
    3. يذكر في تفسير قوله سبحانه : ( وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِج مِنْ نار ) (2) قوله : والمارج المختلط بعضه ببعض ، فيكون اللهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات ، وكما انّ الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواع من اللهب مختلطات ، ولقد ظهر في الكشف الحديث انّ الضوء مركب من ألوان سبعة غير ما لم يعلموه. فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة ، وإلى انّ اللهب مضطرب دائماً ، وإنّما خلق الجن من ذلك المارج المضطرب ، إشارة إلى انّ نفوس الجان لا تزال في حاجة إلى التهذيب والتكميل. تأمل في مقال علماء الأرواح الذين استحضروها إذ أفادتهم إنّ الروح الكاملة تكون عند استحضارها ساكنة هادئة ، أمّا الروح الناقصة فانّها تكون قلقة مضطربة. (3)
    هذه النماذج ونظائرها استخرجها الأُستاذ الذهبي من تفسير الشيخ طنطاوي ، وأعقبها بقوله :
    والكتاب ـ كما ترى ـ موسوعة علمية ، ضربت في كلّ فن من فنون العلم بسهم وافر ، ممّا جعل هذا التفسير يوصف بما يوصف به تفسير الفخر الرازي ،
1 ـ الجواهر : 10 / 199.
2 ـ الرحمن : 15.
3 ـ الجواهر : 24 / 17.


(116)
فقيل عنه ( فيه كلّ شيء إلاّ التفسير ) بل هو أحقّ من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به ، وإذا دلّ الكتاب على شيء ، فهو انّ المؤلف كان كثيراً ما يسبح في ملكوت السماوات والأرض بفكره ، ويطوف في نواح شتى من العلم بعقله وقلبه ، ليجلي للناس آيات اللّه في الآفاق وفي أنفسهم ، ثمّ ليظهر لهم بعد هذا كلّه انّ القرآن قد جاء متضمناً لكلّ ما جاء به الإنسان من علوم ونظريات ، ولكلّ ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث ، تحقيقاً لقول اللّه تعالى في كتابه : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده ، وانحراف به عن هدفه. (1)
    ويلاحظ على ذيل ما ذكره الذهبي انّ المراد من « الكتاب » في الآية هو الكتاب التكويني للّه سبحانه ، لا التدويني ، يظهر ذلك لمن أمعن في الآية وسياقها.
1 ـ التفسير والمفسرون : 2 / 517.

(117)
    المنهج الأوّل / 5     تطلق الباطنية ويراد بها الإسماعيلية الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق ( عليه السَّلام ) بعد رحيل أبيه ، وعرفوا بالباطنية لأخذهم باطن القرآن دون ظاهره.
    وقد أشبعنا البحث حول عقائد الإسماعيلية في كتابنا « بحوث في الملل والنحل » و قلنا بأنّ إسماعيل بن جعفر ( عليه السَّلام ) بريء من هذه الوصمة ، وإنّما هي أفكار موروثة من محمد بن مقلاص المعروف بأبي الخطاب الأسدي وزملائه ، نظراء : المغيرة بن سعيد ، وبشار الشعيري ، وعبد اللّه بن ميمون القداح ، إلى غير ذلك من رؤساء الباطنية ، وقد تبرّأ الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) والأئمّة المعصومون من هذه الفرقة في بلاغات وخطابات خاصة إلى أتباعهم ، ولعنوا الخطابية ، ولم نعثر لهم على كتاب تفسيري يفسر القرآن برمته ، وإنّما حاولوا تفسير الموضوعات الواردة في القرآن والأحاديث وأسموها بباطن القرآن.
    إنّ الباطنية وضعوا لتفسير المفاهيم الإسلامية ضابطة ما دلّ عليها من الشرع شيء وهو أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة ، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر ، وإنّ باطنه يؤدي إلى ترك


(118)
العمل بظاهره ، واستدلّوا على ذلك بقوله سبحانه :
    ( فَضَرَب بَيْنَهُمْ بِسُور لَهُ باب باطنه فيهِ الرّحمة وظاهرهُ مِنْ قبله العَذاب ). (1)
    وعلى ضوء ذلك فقد أوّلوا المفاهيم الإسلامية بالنحو التالي :
    1. الوضوء عبارة عن موالاة الإمام.
    2. التيمم هو الأخذ المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة.
    3. والصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى في الآية 45 من سورة العنكبوت : ( إِنَّ الصَّلاة تَنْهى عَنِ الفَحْشاء وَالْمُنْكر ).
    4. والغسل تجديد العهد فمن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد ، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى الاحتلام.
    5. والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين.
    6. والكعبة النبي.
    7. والباب علي.
    8. والصفا هو النبي.
    9. والمروة علي.
    10. والميقات الايناس.
    11. والتلبية إجابة الدعوة.
    12. والطواف بالبيت سبعاً موالاة الأئمة السبعة.
    13. والجنة راحة الأبدان من التكاليف.
    14. والنار مشقّتها بمزاولة التكاليف. (2)
1 ـ انظر الفرق بين الفرق : 18 ، والآية 13 من سورة الحديد.
2 ـ المواقف : 8 / 390.


(119)
    هذا ما نقلناه عن كتاب « المواقف » ، وإن كنت في شك ممّا ذكره فنحن ننقل شيئاً من تأويلاتهم من كتاب « تأويل الدعائم » للقاضي النعمان الذي كان قاضي قضاة الخليفة الفاطمي المعز لدين اللّه منشئ القاهرة وجامعة الأزهر ، وهذا الكتاب يضم في طياته تأويل الأحكام الشرعية بدأً بالطهارة والصلاة وانتهاءً بكتاب الجهاد ، فقد أوّل كلّ ما جاء في هذه الأبواب من العناوين والأحكام ، وطبع الكتاب في مطبعة دار المعارف في مصر ، وإليك نزراً من هذه التأويلات.
    جاء في كتاب « تأويل الدعائم » : عن الباقر ( عليه السَّلام ) : « بني الإسلام على سبع دعائم : (1) الولاية : وهي أفضل و بها و بالوليّ يُنتهى إلى معرفتها ، و الطهارة ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، و الحج ، و الجهاد » ، فهذه كما قال ( عليه السَّلام ) : دعائم الإسلام قواعده ، و أُصوله التي افترضها اللّه على عباده.
    ولها في التأويل الباطن أمثال ، فالولاية مَثلُها مَثلُ آدم (ص) لأنّه أوّل من افترض اللّهُ عزّوجلّ ولايته ، و أمر الملائكة بالسجود له ، و السجود : الطاعة ، وهي الولاية ، و لم يكلّفهم غير ذلك فسجدوا إلاّ إبليس ، كما أخبر تعالى ، فكانت المحنةُ بآدم (ص) الولاية ، وكان آدمُ مثلَها ، ولابدَّ لجميع الخلق من اعتقاد ولايته ، و من لم يتولّه ، لم تنفعْهُ ولاية من تولاّه من بَعده ، إذا لم يدُن بولايته ويعترف بحقّه ، و بأنّه أصل مَنْ أوجب اللّهُ ولايتَه من رسله و أنبيائه وأئمّة دينه ، و هو أوّلهم وأبوهم.
    والطهارة : مَثَلُها مَثَلُ نوح ( عليه السَّلام ) ، وهو أوّل مبعوث و مرسل من قبل اللّه ـ لتطهير العباد من المعاصي والذنوب التي اقترفوها ، ووقعوا فيها من بعد آدم (ص) ، و هو أوّل ناطق من بعده ، وأوّلُ أُولي العزم من الرسل ، أصحاب الشرائع ، وجعلَ اللّه آياته التي جاء بها ، الماء ، الذي جعله للطهارة و سمّاه طهوراً.
1 ـ المرويّ عن طرقنا : بني الإسلام على خمس.

(120)
    والصلاة : مَثَلُها مَثَلُ إبراهيم (ص) وهو الذي بَنى البيتَ الحرام ، ونصبَ المقام ، فجعل اللّه البيت قبلة ، والمقامَ مصلّى.
    والزكاة : مثلها مثل موسى ، وهو أوّل من دعا إليها ، و أُرسل بها ، قال تعالى : ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ المُقَدَّسِ طُوى * اذْهَبْ إِلى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ). (1)
    والصوم : مَثَلُه مثل عيسى ( عليه السَّلام ) وهو (2) أوّل ما خاطب به أُمّه ، أن تقولَ لِمَنْ رأته من البشر ، وهو قوله الذي حكاه تعالى عنه لها : ( فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَومَ إِنْسِيّاً ). (3) وكان هو كذلك يصوم دهره ، و لم يكن يأتي النساء ، كما لا يَجوز للصائم أن يأتيهنّ في حال صومه.
    والحج : مَثَلُه مَثَلُ محمّد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، و هو أوّل من أقام مناسك الحج ، و سنَّ سنته ، وكانت العرب و غيرها من الأُمم ، تحجّ البيت في الجاهليّة و لا تقيم شيئاً من مناسكه ، كما أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله : ( وما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً ). (4)
    وكانوا يطوفون به عُراة ، فكان أوّلُ شيء نهاهم عنه ذلك فقال ، في العُمرة التي اعتمرها ، قبل فتح مكة ، بعد أن وادعَ أهلَها ، وهم مشركون : « لا يطوفنّ بعد هذا بالبيت عريان ، ولا عريانة » ، وكانوا قد نصبوا حول البيت أصناماً لهم يعبدونها ، فلمّا فتح اللّهُ مكّة كسّرها ، وأزالها ، وسنَّ لهم سُنن الحجّ ، و مناسكه ، وأقام لهم بأمر اللّهِ معالمه. وافترض فرائضه. و كان الحجّ خاتمة الأعمال المفروضة ، وكان
1 ـ النازعات : 15 ـ 18.
2 ـ الظاهر أنّ ضمير الفاعل يرجع إلى روح الأمين.
3 ـ مريم : 26.
4 ـ الأنفال : 35.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: فهرس