المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: 196 ـ 210
(196)
أوافق الواقع أم لا ، والتفسير بهذا المعنى واقع في القرآن الكريم ، ولا يمسُّ بكرامته أبداً ، فإنّ الفرق الإسلامية ـ جمع اللّه شملهم ـ عامة يصدرون عن القرآن ويستندون إليه ، فكلّ صاحب هوى ، يتظاهر بالأخذ بالقرآن لكن بتفسير يُدْعِمُ عقيدته ، فهو يأخذ بعنان الآية ، ويميل بها إلى جانب هواه ، ومن أوضح مصاديق هذا النوع من التفسير ، تفاسير الباطنية حيث وضعوا من عند أنفسهم لكلّ ظاهر ، باطناً ، نسبته إلى الثاني ، كنسبة القشر إلى اللبّ وأنّ باطنه يؤدّي إلى ترك العمل بظاهره ، فقد فسّروا الاحتلام بإفشاء سرّ من أسرارهم ، والغسلَ بتجديد العهد لمن أفشاه من غير قصد ، والزكاة بتزكية النفس ، والصلاة بالرسول الناطق لقوله سبحانه : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَر ) (1). (2)
    2. النقص والزيادة في الحركة والحرف مع حفظ القرآن وصيانته ، مثاله قراءة « يطهرن » حيث قُرِئ بالتخفيف والتشديد ؛ فلو صحّ تواتر القراءات عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ـ و لن يصحَّ أبداً ـ وانّ النبي هو الذي قرأ القـرآن بها ، فيكون الجميع قرآناً بلا تحريف ، وإن قلنا : إنّه نزل برواية واحد ، فهي القرآن وغيرها كلّها تحريف اخترعتها عقول القرّاء وزيّنوا قرآنهم بالحجج التي ذكروها بعد كلّ قراءة ، وعلى هذا ينحصر القرآن بواحدة منها وغيرها لا صلة لها بالقرآن ، والدليل الواضح على أنّهما من اختراعات القرّاء إقامتهم الحجّة على قراءتهم ولو كان الجميع من صميم القرآن لما احتاجوا إلى إقامة الحجّة ، ويكفيهم ذكر سند القراءة إلى النبي.
    ومع ذلك فالقرآن مصون عن هذا النوع من التحريف ، لأنّ القراءة المتواترة ، هي القراءة المتداولة في كلّ عصر ، أعني : قراءة عاصم برواية حفص ، القراءة الموصولة إلى علي ( عليه السَّلام ) وغيرها اجتهادات مبتدعة ، لم يكن منها أثر في عصر
1 ـ العنكبوت : 45.
2 ـ المواقف : 8 / 390. وقد مرّ تفصيلاً ص : 117 ـ 124.


(197)
النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، و لذاك صارت متروكة لا وجود لها إلاّ في بطون كتب القراءات ، وأحياناً في ألسن بعض القرّاء ، لغاية إظهار التبحّر فيها.
    روى الكليني عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) قال : « إنّ القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة » (1) ولذلك لا نجيز القراءة غير المعروفة منها في الصلاة.
    3. تبديل كلمة مكان كلمة مرادفة ، كوضع « اسرعوا » مكان ( امضوا ) في قوله سبحانه : ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ). (2)
    وقد نسب ذلك إلى عبد اللّه بن مسعود وكان يقول : ليس الخطأ أن يقرأ مكان « العليم » ، « الحكيم ».
    لكن أُجلّ ذلك الصحابي الجليل عن هذه التهمة ، وأي غاية عقلائية يترتب على ذاك التبديل ؟!
    4. التحريف في لهجة التعبير ، انّ لهجات القبائل كانت تختلف عند النطق بالحرف أو الكلمة من حيث الحركات والأداء ، كما هو كذلك في سائر اللغات ، فإنّ « قاف » العربية ، يتلفّظ بها في إيران الإسلامية العزيزة على أربعة أوجه ، فكيف المفردات من حيث الحركات والحروف ؟! قال سبحانه : ( وَمَنْ أَرادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ). (3)
    فكان بعض القرّاء تبعاً لبعض اللهجات يقرأ ( وسعي ) بالياء مكان الألف.
    وهذا النوع من التحريف لم يتطرّق إلى القرآن ، لأنّ المسلمين في عهد الخليفة
1 ـ الكافي : 2 / 630 ، الحديث 12.
2 ـ الحجر : 65.
3 ـ الإسراء : 19.


(198)
الثالث لمّا رأوا اختلاف المسلمين في التلفّظ ببعض الكلمات ، مثل ما ذكرناه ( أو تغيير بعضه ببعض مع عدم التغيّر في المعنى ، مثل امض ، عجل ، اسرع على فرض الصحة ) قاموا بتوحيد المصاحف وغسل غير ما جمعوه ، فارتفع بذلك التحريف بالمعنى المذكور فاتفقوا على لهجة قريش.
    5. التحريف بالزيادة لكنّه مجمع على خلافه ، نعم نسب إلى ابن مسعود أنّه قال : إنّ المعوذتين ليستا من القرآن ، انّـهما تعويذان ، و انّـهما ليستا من القرآن. (1) كما نسب إلى العجاردة من الخوارج أنّهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن ، وكانوا يرون أنّها قصة عشق لا يجوز أن يكون من الوحي. (2) ولكن النسبتين غير ثابتتين ، ولو صحّ ما ذكره ابن مسعود لبطل تحدّي القرآن بالسورة ، حيث أتى الإنسان غير الموحى إليه بسورتين مثل سور القرآن القصار.
    6. التحريف بالنقص والإسقاط عن عمد أو نسيان ، سواء كان الساقط حرفاً ، أو كلمة ، أو جملة ، أو آية ، أو سورة ، وهذا هو الذي دعانا إلى استعراض ذلك البحث فنقول : إنّ ادّعاء النقص في القرآن الكريم بالوجوه التي مرّ ذكرها أمر يكذبه العقل والنقل ، وإليك بيانهما :

    1. امتناع تطرّق التحريف إلى القرآن
    إنّ القرآن الكريم كان موضع عناية المسلمين من أوّل يوم آمنوا به ، فقد كان المرجعَ الأوّل لهم ، فيهتمون به قراءة وحفظاً ، كتابة وضبطاً ، فتطرّق التحريف إلى مثل هذا الكتاب لا يمكن إلاّبقدرة قاهرة حتى تتلاعب بالقرآن بالنقص ، ولم يكن
1 ـ فتح الباري بشرح البخاري : 8 / 571.
2 ـ الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 128.


(199)
للأُمويّين ولا للعباسيين تلك القدرة القاهرة ، لأنّ انتشار القرآن بين القرّاء والحفّاظ ، وانتشار نسخه على صعيد هائل قد جعل هذه الأُمنية الخبيثة في عداد المحال.
    إنّ للسيد الشريف المرتضى بياناً في المقام نأتي بنصِّه ، يقول : إنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار ، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإنّ العناية اشتدت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه ( غيره ) فيما ذكرناه ، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعية ، والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتى عرفُوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّـراً ومنقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد ؟!
    قال : والعلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمُزَني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما ، ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء. (1)
    وهناك نكتة أُخرى جديرة بالإشارة ، وهي إنّ تطرّق التحريف إلى المصحف الشريف يعدُّ من أفظع الجرائم التي لا يصحّ السكوت عنها ، فكيف سكت الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) وخاصّته نظير سلمان و المقداد وأبي ذر وغيرهم مع انّا نرى أنّ الإمام وريحانة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد اعترضا على غصب فدك مع أنّه لا يبلغ عُشْرَ ما
1 ـ مجمع البيان : 1 / 15 ، قسم الفن الخامس ، طبعة صيدا.

(200)
للقرآن من العظمة والأهمية ؟!
    ويرشدك إلى صدق المقال أنّه قد اختلف أُبيّ بن كعب والخليفة الثالث في قراءة قوله سبحانه : ( والّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) (1) فأصرّ أُبيّ انّه سمع عن النبي ( بالواو ) وكان نظر الخليفة إلى انّه خال منها ، فتشاجرا عند كتابة المصحف الواحد وإرساله إلى العواصم ، فهدّده أُبيّ وقال : لابد وأن تكتب الآية بالواو وإلاّ لأضع سيفي على عاتقي فألحقوها. (2)
    كما نجد أنّ الإمام ( عليه السَّلام ) أمر بردّ قطائع عثمان إلى بيت المال ، وقال : « واللّه لو وجدته قد تُزوِّج به النساء ، ومُلِكَ به الإماء ، لرددته ، فإنّ في العدل سعة ، و من ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق ». (3)
    فلو كان هناك تحريف كان ردّ الآيات المزعوم حذفها من القرآن إلى محالِّها أوجب وألزم.
    نرى أنّ علياً ( عليه السَّلام ) بعدما تقلّد الخلافة الظاهرية اعترض على إقامة صلاة التراويح جماعة كما اعترض على قراءة البسملة سرّاً في الصلوات الجهرية إلى غير ذلك من البدع المحدثة ، فعارضها الإمام وشدّد النكير عليها بحماس ، فلو صدر أيّام الخلفاء شيء من هذا القبيل حول القرآن لقام الإمام بمواجهته ، وردّ ما حذف بلا واهمة.
    والحاصل : من قرأ سيرة المسلمين في الصدر الأوّل يقف على أنّ نظرية التحريف بصورة النقص كان أمراً ممتنعاً عادة.
1 ـ التوبة : 34.
2 ـ الدر المنثور : 4 / 179.
3 ـ نهج البلاغة : الخطبة 15 ، تحقيق صبحي الصالح.


(201)
    2. شهادة القرآن على عدم تحريفه :
    آية الحفظ

    إنّ القرآن هو الكتاب النازل من عند اللّه سبحانه ، وهو سبحانه تكفّل صيانة القرآن وحفظه عن أيِّ تلاعب ، قال سبحانه : ( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقينَ * ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاّ بِالحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ * إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ ). (1)
    إنّ المراد من الذكر في كلا الموردين هو القرآن الكريم بقرينة ( نُزِّلَ ) و ( نَزَّلْنا ) والضمير في ( لَهُ ) يرجع إلى القرآن ، وقد أورد المشركون اعتراضات ثلاثة على النبي ، أشار إليها القرآن مع نقدها ، وهي :
    1. أنّ محمّداً ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يتلقّى القرآن من لدن شخص مجهول ، ويشير إلى هذا الاعتراض قولهم : ( يا أَيُّهَا الّذي نزّلَ عَلَيْهِ الذِكْر ) بصيغة المجهول.
    2. انّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مختل الحواس لا اعتبار بما يتلقّاه من القرآن وينقله ، فلا نُؤمن من تصرّف مخيّلته وعقليّته في القرآن.
    3. لو صحّ قوله : بأنّه ينزل عليه الملك ويأتي بالوحي ف‍ : ( لَوما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقين ).
    فقد أجاب الوحي عن الاعتراضات الثلاثة ، ونقدّم الجواب عن الثاني والثالث بوجه موجز ، ثمّ نعطف النظر إلى الاعتراض الأوّل لأهميته.
1 ـ الحجر : 6 ـ 9.

(202)
    أمّا الثاني ، فقد ردّه بالتصريح بأنّه سبحانه هو المنزِّل دون غيره وقال : ( إِنّا نَحْنُ ).
    كما رد الثالث بأنّ نزول الملائكة موجب لهلاكهم وإبادتهم ، وهو يخالف هدف البعثة ، حيث قال : ( وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرين ).
    وأمّا الأوّل ، فقد صرّح سبحانه بأنّه الحافظ لذكره عن تطرق أيّ خلل وتحريف فيه ، وهو لا تُغلب إرادته.
    وبذلك ظهر عدم تمامية بعض الاحتمالات في تفسير الحفظ حيث قالوا المراد :
    1. حفظه من قدح القادحين.
    2. حفظه في اللوح المحفوظ.
    3. حفظه في صدر النبي والإمام بعده.
    فإنّ قدح القادحين ليس مطروحاً في الآية حتى تجيب عنه الآية ، كما أنّ حفظه في اللوح المحفوظ أو في صدر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا يرتبط باعتراض المشركين ، فإنّ اعتراضهم كان مبنيّاً على اتهام النبي بالجنون الذي لا ينفك عن الخلط في إبلاغ الوحي ، فالإجابة بأنّه محفوظ في اللوح المحفوظ أو ما أشبهه لا يكون قالعاً للإشكال ، فالحقّ الذي لا ريب فيه انّه سبحانه يخبر عن تعهده بحفظ القرآن وصيانته في عامّة المراحل ، فالقول بالنقصان يضاد مع تعهده سبحانه.
    فإن قلت : إنّ مدّعي التحريف يدّعي التحريف في نفس هذه الآية ، لأنّها بعض القرآن ، فلا يكون الاستدلال بها صحيحاً ، لاستلزامه الدور الواضح.
    قلت : إنّ مصبّ التحريف ـ على فرض طروئه ـ عبارة عن الآيات الراجعة إلى الخلافة والزعامة لأئمّة أهل البيت ، أو ما يرجع إلى آيات الأحكام ، كآية


(203)
الرجم ، وآية الرضعات ، وأمثالهما ؛ وأمّا هذه الآية ونحوها فلم يتطرّق التحريف إليها باتّفاق المسلمين.

    آية نفي الباطل
    يصف سبحانه كتابه بأنّه المقتدر الذي لا يُغْلَب ولا يأتيه الباطل من أي جانب ، قال : ( إِنَّ الّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد ). (1)
    ودلالة الآية رهن بيان أُمور :
    الأوّل : المراد من الذكر هو القرآن ، ويشهد عليه قوله : ( وَإِنّهُ لَكتابٌ عَزيز ) مضافاً إلى إطلاقه على القرآن في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُون ). (2) وقال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَومِكَ وَسَوفَ تُسْئَلُونَ ). (3)
    الثاني : انّ خبر « انّ » محذوف مقدّر وهو : سوف نجزيهم وما شابهه.
    الثالث : الباطل يقابل الحق ، فالحق ثابت لا يُغْلب ؛ والباطل له جولة ، لكنّه سوف يُغلب ، مثلهما كمثل الماء والزبد ، فالماء يمكث في الأرض والزبد يذهب جفاء ، قال سبحانه : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثال ). (4)
    فالقرآن حقّ في مداليله ومفاهيمه ، وأحكامه خالدة ، ومعارفه وأُصوله مطابقة للفطرة ، وأخباره الغيبية حق لا زيغ فيه ، كما أنّه نزيه عن التناقض بين
1 ـ فصلت : 41 ـ 42.
2 ـ الحجر : 6.
3 ـ الزخرف : 44.
4 ـ الرعد : 17.


(204)
دساتيره وأخباره ( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ). (1)
    فكما أنّه حقّ من حيث المادة والمعنى ، حقّ من حيث الصورة واللفظ أيضاً ، فلا يتطرّق إليه التحريف ، ونعم ما قاله الطبرسي : لا تناقض في ألفاظه ، ولا كذب في أخباره ، ولا يعارض ، ولا يزداد ، ولا ينقص. (2)
    ويؤيّده قوله قبل هذه الآيات : ( وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ). (3) ولعلّه إشارة إلى ما كان يدخله في نفسه من إمكان إبطال شريعته بعد مماته ، فأمره بالاستعاذة باللّه السميع العليم.
    و الحاصل أنّ تخصيص مفاد الآية ( نفي الباطل ) بطروء التناقض في أحكامه وتكاذب أخباره لا وجه له ، فالقرآن مصون عن أيّ باطل يبطله ، أو فاسد يفسده ، بل هو غضّ طريّ لا يُبْلى وَلا يُفنى.

    آية الجمع
    رُوي أنّه إذا نزل القرآن ، عجل النبي بقراءته ، حرصاً منه على ضبطه ، فوافاه الوحي ونهاه عنه ، وقال : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ علَيْنا بَيانَهُ ). (4) فعلى اللّه سبحانه الجمع والحفظ والبيان. كما ضمن في آية أُخرى عدم نسيانه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) القرآن وقال : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَما يَخْفى ). (5)
    هذا بعض ما يمكن أن يستدلّ به ، على صيانة القرآن من التحريف
1 ـ النساء : 82.
2 ـ مجمع البيان : 9 / 15 ، ط صيدا.
3 ـ فصّلت : 36.
4 ـ القيامة : 16 ـ 19.
5 ـ الأعلى : 6 ـ 7.


(205)
بالقرآن ، والاستثناء في الآية الأخيرة نظير الاستثناء في قوله : ( وَأَمّا الّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الأَْرضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذ ). (1) و من المعلوم انّ أهل السعادة محكومون بالخلود في الجنة ويشهد له ذيل الآية ، أعني : قوله : ( عَطاءً غَيْرَمَجْذُوذ ) أي غير مقطوع ، ومع ذلك فليس التقدير على وجه يخرج الأمر من يده سبحانه ، فهو في كلّ حين قادر على نقض الخلود.
    وأمّا الروايات الدالّة على كونه مصوناً منه ، فنقتصر منها بما يلي :

    1. أخبار العرض
    قد تضافرت الروايات عن الأئمّة ( عليهم السَّلام ) بعرض الروايات على القرآن والأخذ بموافقه وردّ مخالفه ، وقد جمعها الشيخ الحر العاملي في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي.
    روى الكليني عن السكوني ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدعوه ». (2)
    وروى أيّوب بن راشد ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ». (3)
1 ـ هود : 108.
2 ـ الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 10.
3 ـ الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 12 ، 15 وغيرها.


(206)
    وفي رواية أيوب بن الحر ، قال : سمعت أبا عبد اللّه ( عليه السَّلام ) يقول : « كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف ». (1)
    وجه الدلالة من وجهين :
    ألف. انّ المتبادر من أخبار العرض انّ القرآن مقياس سالم لم تنلـه يد التبديل و التحريف والتصرف ، والقول بالتحريف لا يلائم القول بسلامة المقيس عليه.
    ب. انّ الإمعان في مجموع روايات العرض يثبت انّ الشرط اللازم هو عدم المخالفة ، لا وجود الموافقة ، وإلاّ لزم ردّأخبار كثيرة لعدم تعرض القرآن إليها بالإثبات والنفي ، ولا تعلم المخالفة وعدمها إلاّإذا كان المقيس ( القرآن ) بعامة سوره وأجزائه موجوداً عندنا ، وإلاّ فيمكن أن يكون الخبر مخالفاً لما سقط وحرّف.

    2. حديث الثقلين
    إنّ حديث الثقلين يأمر بالتمسّك بالقرآن ، مثل التمسّك بأقوال العترة ، حيث قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا » ويستفاد منه عدم التحريف ، وذلك :
    ألف. انّ الأمر بالتمسّك بالقرآن ، فرع وجود القرآن بين المتمسّكين.
    ب. انّ القول بسقوط قسم من آياته وسُوَره ، يوجب عدم الاطمئنان فيما يستفاد من القرآن الموجود ، إذ من المحتمل أن يكون المحذوف قرينة على المراد من الموجود.

    أهل البيت وصيانة القرآن
    إنّ الإمعان في خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) وكلمات أوصيائه المعصومين ( عليهم السَّلام ) يعرب عن اعتبارهم القرآن الموجود بين ظهراني المسلمين ، هو
1 ـ الوسائل : الجزء 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 12 ، 15 وغيرها.

(207)
كتاب اللّه المنزل على رسوله بلا زيادة ولا نقيصة ، ويعرف ذلك من تصريحاتهم تارة ، وإشاراتهم أُخرى ، ونذكر شيئاً قليلاً من ذلك :
    1. قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « أنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء ، وعمّر فيكم نبيّه أزماناً ، حتى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الذي رضي لنفسه ». (1)
    والخطبة صريحة في إكمال الدين تحت ظل كتابه ، فكيف يكون الدين كاملاً و مصدره محرّفاً غير كامل ؟! ويوضح ذلك انّ الإمام يحثّ على التمسّك بالدين الكامل بعد رحيل الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وهو فرع كمال مصدره وسنده.
    2. وقال ( عليه السَّلام ) : « وكتاب اللّه بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعزٌّ لا تهزم أعوانه ». (2)
    3. وقال ( عليه السَّلام ) : « كأنّهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ». (3)
    وفي رسالة الإمام الجواد إلى سعد الخير (4) : « وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ». (5)
    وفي هذا تصريح ببقاء القرآن بلفظه ، وانّ التحريف في تطبيقه على الحياة حيث لم يطبقوا أحكامه في حياتهم ، ومن أوضح مظاهره منع بنت المصطفى ( عليها السَّلام ) من إرث والدها مع أنّه سبحانه يقول : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَولادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة86.
2 ـ نهج البلاغة : الخطبة 133.
3 ـ نهج البلاغة : الخطبة : 147.
4 ـ هو من أولاد عمر بن عبد العزيز ، وقد بكى عند أبي جعفر الجواد لاعتقاده انّه من الشجرة الملعونة في القرآن ، فقال الإمام ( عليه السَّلام ) له : « لست منهم وأنت منّا ، أما سمعت قوله تعالى : ( فَمَنْ تَبعَني فَهُوَ مِنّي ). ( لاحظ قاموس الرجال : 5 / 35 ) ومنه يعلم وجه تسميته بالخير.
5 ـ الكافي : 8 / 53 ح16.


(208)
الأُنْثَيَيْنِ ). (1)
    وقال سبحانه : ( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داود ). (2)
    وقال سبحانه عن لسان زكريا : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُني وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب ). (3)
    ولعلّ فيما ذكرنا كفاية ، فلنستعرض كلمات علمائنا.

    الشيعة وصيانة القرآن
    إنّ التتبع في كلمات علمائنا الكبار الذين كانوا هم القدوة والأُسوة في جميع الأجيال ، يعرب عن أنّهم كانوا يتبرّأون من القول بالتحريف ، وينسبون فكرة التحريف إلى روايات الآحاد ، ولا يمكننا نقل كلمات علمائنا عبر القرون ، بل نشير إلى كلمات بعضهم :
    1. قال الشيخ الأجل الفضل بن شاذان الأزدي النيسابوري ( المتوفّى 260 هـ ) ـ في ضمن نقده مذهب أهـل السنّـة ـ : إنّ عمر بن الخطاب قال : إنّي أخاف أن يقال زاد عمر في القرآن ثبتَ هذه الآية ، فانّا كنّا نقرؤها على عهد رسول اللّه : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من الشهوة نكالاً من اللّه واللّه عزيز حكيم. (4)
    فلو كان التحريف من عقائد الشيعة ، لما كان له التحامل على السنّة بالقول بالتحريف لاشتراكهما في ذلك القول.
1 ـ النساء : 11.
2 ـ النمل : 16.
3 ـ مريم : 5 ـ 6.
4 ـ الإيضاح : 217. روى البخاري آية الرجم في صحيحه : 8 / 208 باب رجم الحبلى.


(209)
    2. قال أبو جعفر الصدوق ( المتوفّـى 381 هـ ) : اعتقادنا أنّه كلام اللّه ووحيه تنزيلاً ، وقوله في كتابه : ( إِنَّهُ لَكتابٌ عَزيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكيم حَميد ) وانّه القصص الحق ، وانّه لحقّ فصل ، وما هو بالهزل ، وانّ اللّه تبارك و تعالى مُحْدثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلّم به. (1)
    3. قال الشيخ المفيد ( المتوفّـى 413 هـ ) : وقد قال جماعة من أهل الإمامة انّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) من تأويل وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام اللّه الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وعندي انّ هذا القول أشبه بالحقّ من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل وإليه أميل. (2)
    وقال أيضاً في أجوبة « المسائل السروية » في جواب من احتج على التحريف بالروايات الواردة حيث ورد فيها « كنتم خير أئمّة أُخرجت للناس » مكان ( أُمّة ) ، وورد كذلك « جعلناكم أئمة وسطاً » مكان ( أُمّة ) وورد « يسألونك الأنفال » مكان ( يسألونك عن الأنفال ) ، فأجاب : انّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على اللّه تعالى بصحتها ، فلذلك وقفنا فيها ، ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر. (3)
    4. قال الشريف المرتضى ( المتوفّى 436 هـ ) : مضافاً إلى من نقلنا عنه في الدليل الأوّل ، انّ جماعة من الصحابة ، مثل عبد اللّه بن مسعود و أُبّي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه
1 ـ اعتقادات الصدوق : 93.
2 ـ أوائل المقالات : 53 ـ 54.
3 ـ مجموعة الرسائل للمفيد : 366.


(210)
كان مجموعاً مرتباً غير مستور ولا مبثوث. (1)
    5. قال الشيخ الطوسي ( المتوفّـى 460 هـ ) : أمّا الكلام في زيادة القرآن ونقصه فما لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر من الرواية ، ثمّ وصف الروايات المخالفة بالآحاد.
    6. قال أبو علي الطـبرسي ( المتـوفّـى 548 هـ ) الكلام في زيادة القـرآن ونقصانه ؛ أمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة انّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه. (2)
    7. قال السيد علي بن طاووس الحلّي ( المتوفّى 664 هـ ) : إنّ رأي الإمامية هو عدم التحريف. (3)
    8. قال العلاّمة الحلّي ( المتوفّى 726 هـ ) في جواب السيد الجليل المهنّا : الحق انّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم ، وانّه لم يزد ولم يُنْقَص ، ونعوذ باللّه من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك ، فإنّه يوجب تطرّق الشك إلى معجزة الرسول المنقولة بالتواتر. (4)
    9. قال المحقّق الأردبيلي ( المتوفّى 993 هـ ) في مسألة لزوم تحصيل العلم : بأنّ ما يقرأه هو القرآن ، فينبغي تحصيله من التواتر الموجب للعلم ، وعدم جواز الاكتفاء بالسماع حتى من عدل واحد ـ إلى أن قال : ـ ولما ثبت تواتره فهو مأمون
1 ـ مجمع البيان : 1 / 10 ، نقلاً عن جواب المسائل الطرابلسية للسيد المرتضى.
2 ـ مجمع البيان : 1 / 10.
3 ـ سعد السعود : 144.
4 ـ أجوبة المسائل المهنائية : 121.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: فهرس