المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: 226 ـ 240
(226)
    2. آية الفراش
    قال عمر بن الخطاب مخاطباً لأُبيَّ بن كعب : أو ليس كنّا نقرأ « الولد للفراش وللعاهر الحجر » فيما فقدنا من كتاب اللّه ؛ فقال أُبيّ : بلى. (1) واللفظ مع فصاحته أيضاً يأبى أن يكون من القرآن ، لكن الخليفة زعم انّ العبارة من القرآن.

    3. آية الرغبة
    روى البخاري أنّ عمر قال : « إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو أن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ». (2)

    4. آية الجهاد
    روى السيوطي أنّ عمر قال لابن عوف : ألم تجد فيما أُنزل علينا وإن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرة ؟ قال : أُسقطت فيما أُسقط من القرآن ». (3)

    5. آية الرضعات
    روى مالك ـ في الموطأ ـ عن عائشة كانت فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثمّ نسخن ب‍ « خمس معلومات » فتوفّـي رسول اللّه وهنّ فيما يقرأ من القرآن. (4)
1 ـ الدر المنثور : 1 / 106.
2 ـ البخاري : الصحيح : 8 / 208 ـ 211 ؛ مسلم : الصحيح : 4 / 167 و ج 5 / 116.
3 ـ الدر المنثور : 1 / 106.
4 ـ تنوير الحوالك : 2 / 118 ، آخر كتاب الرضاع.


(227)
    إنّ آيتها نظير آيات الخليفة تأبى أن تكون من صميم القرآن ، ولو كان لكتب في المصاحف ، ولا وجه لإسقاطها.

    روايات التحريف في كتب الحديث
    وقد جمعها المحدّث النوري في كتابه « فصل الخطاب في تحريف الكتاب » ، والاستدلال بهذه الروايات موهون من جهات :
    الأُولى : أنّها ليست متواترة ، وليست الكثرة آية التواتر إلاّ إذا اشتركت في أحد المداليل الثلاثة من المطابقة ، والتضمّن ، والالتزام ، وهذه الروايات فاقدة لهذه الجهة ، ولا تهدف إلى جهة خاصة ، فتارة ناظرة إلى بيان تنزيلها ، وأُخرى إلى بيان تأويلها ، وثالثة إلى بيان قراءتها ، ورابعة إلى تفسيرها ، وهذا هو الكثير ، فحسب البعض انّه جزء من الآية ، مثلاً قال سبحانه : ( وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (1) رواه في « الكافي » أنّه قال : وإن تلووا « الأمر » أو تعرضوا « عمّا أُمرتم به ».
    روى علي بن إبراهيم بسند صحيح عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : وقرأت عند أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ ) (2) فقال أبو عبد اللّه ( عليه السَّلام ) : خير أُمّة تقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين ابني علي ( عليهم السَّلام ) ؟! فقال القارئ : جعلت فداك كيف ؟ قال : نزلت « كُنْتُمْ خَيْرَ أئمَّة أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ » ألا ترى مدح اللّه لهم ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ). (3)
    والاستدلال دلّ على أنّ المراد ليس كلّ الأُمّة بل بعضها بشهادة قوله
1 ـ النساء : 135.
2 ـ آل عمران : 110.
3 ـ آل عمران : 110.


(228)
سبحانه : ( ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (1) وأراد الإمام تنبيه القارئ على أن لا يغتر بإطلاق الآية ، بل يتدبّر ويقف على مصاديقها الواقعية ، وانّ خير الأُمّة هم الأئمّة وهم الأُسوة ، وأولياء الدين ، والمخلصون من العلماء الأتقياء ، لا كلّ الأُمّة بشهادة أنّ كثيراً منهم ارتكبوا أعمالاً إجرامية مشهودة.
    ويقرب من ذلك قوله سبحانه : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ). (2) فإنّ ظاهر الآية أنّ كلّ الأُمّة : هم الأُمّة الوسطى ، والشعب الأمثل ، مع أنّا نجد بين الأُمّة من لا تقبل شهادته على باقة بقل في الدنيا ، فكيف تقبل شهادته في الآخرة على سائر الأُمم ؟! وهذا يهدينا إلى أن نتأمل في الآية ، ونقف على أنّ الاسناد إلى الكل مجاز بعلاقة كونها راجعة إلى أصفياء الأُمّة وكامليها.
    يقول الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) في هذا الشأن : « فإن ظننت أنّ اللّه عنى بهذه الآية ، جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر ، يطلب اللّه شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة الأُمم الماضية ؟! كلا : لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه ». (3)
    وأنت إذا تدبّرت كتاب « فصل الخطاب » الذي جمع هذه الروايات ، تقف على أنّ الأكثر فالأكثر من قبيل التفسير.
    مثلاً روى العياشي عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) قال : « نزل جبرئيل على رسول
1 ـ آل عمران : 104.
2 ـ البقرة : 143.
3 ـ تفسير العياشي : 1 / 63 ويؤيد ذلك أنّه سبحانه قال في حقّ بني إسرائيل : ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) ( المائدة / 20 ) مع أنّ بعضهم كانوا ملوكاً لا كلّهم.


(229)
اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعرفات يوم الجمعة فقال له : يا محمد إنّ اللّه يقرؤك السلام ، ويقول لك : ( اَلْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ ـ بولاية علي بن أبي طالب ـ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ) (1). (2) فلا شكّ أنّه بيان لسبب إكمال الدين وإتمام النعمة لا أنّه جزء من القرآن.
    مع أنّ قسماً كبيراً منها يرجع إلى الاختلاف في القراءة ، المنقولة إمّا من الأئمّة بالآحاد لا بالتواتر ، فلا حجية فيها أوّلاً ولا مساس لها بالتحريف ثانياً ، أو من غيرهم من القرّاء وقد أخذ قراءتهم المختلفة من مجمع البيان وهو أخذها من كتب أهل السنّة في القراءة ، وكلّها مراسيل أوّلاً ، و الاختلاف في القراءة غير التحريف ثانياً ، لما عرفت من أنّها على وجه ، غير موصولة إلى النبي ، وعلى فرض صحّة النسبة ، لا صلة لها بالقرآن.
    وهناك روايات ناظرة إلى تأويلها وبيان مصاديقها الواقعية ، وهي أيضاً كثيرة ، أو ناظرة إلى بيان شأن نزولها ، إلى غير ذلك وبعد إخراج هذه الأقسام ، تبقى روايات آحاد لا تفيد العلم ولا العمل.
    الثانية : أنّ أكثر هذه الروايات التي يبلغ عددها 1122حديثاً منقول من كتب ثلاثة :
    1. كتاب « القراءات » لأحمد بن محمد السياري ( المتوفّـى 286 هـ ) ، الذي اتّفق الرجاليون على فساد مذهبه.
    قال الشيخ : أحمد بن محمد السياري الكاتب كان من كتاب آل طاهر ،
1 ـ المائدة : 3.
2 ـ المصدر نفسه : 1 / 293 برقم 21.


(230)
ضعيف الحديث ، فاسد المذهب ، مجفو الرواية ، كثير المراسيل. (1)
    2. كتاب علي بن أحمد الكوفي ( المتوفّـى 352 هـ ) الذي نص الرجاليون بأنّه كذّاب مبطل.
    قال النجاشي : رجل من أهل الكوفة كان يقول : إنّه من آل أبي طالب ، وغلا في آخر أمره وفسد مذهبه وصنّف كتباً كثيرة ، أكثرها على الفساد ، ثمّ يقول : هذا الرجل ، تدّعي له الغلاة منازل عظيمة. (2)
    3. كتاب « تفسير القمي » الذي أوضحنا حاله في محلّه ، وقلنا : إنّه ليس للقمي ، بل قسم منه من إملاءاته على تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن العلوي ، وقسم منه مأخوذ من تفسير أبي الجارود ، ضمه إليها تلميذه ، (3) وهو من المجاهيل ، لأنّ العباس بن محمد غير معنون في الكتب الرجالية فهو مجهول ، كما أنّ الراوي عنه في أوّل الكتاب يقول : « حدّثني أبو الفضل بن العباس ، مجهول أيضاً ، وأسوأ حالاً منهما أبو الجارود المعروف ب‍ « زياد المنذر » فهو زيدي بتري وردت الرواية في ذمّه في رجال الكشي ، (4) أفيمكن الاعتماد على روايات هذا الكتاب ؟!
    وقس على ذلك ، سائر مصادره ومنابعه التي لا يعبأ ولا يعتمد عليه.
    الثالثة : انّ هذه الروايات معارضة بأكثر منها وأوضح منها ، من حديث الثقلين وأخبار العرض وما عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إذا التبست عليكم الفتن فعليكم
1 ـ فهرست الشيخ : 47 برقم 70 ؛ رجال النجاشي : 1 / 211 برقم 190.
2 ـ رجال النجاشي : 2 / 96 برقم 689.
3 ـ لاحظ كتاب « كليات في علم الرجال » حول تقييم تفسير القمي.
4 ـ رجال الكشي : 199.


(231)
بالقرآن فإنّه شافع مشفع ، وما حل مصدق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، و من جعله خلفه ساقه إلى النار ». (1)
    وما في النهج (2) حول القرآن من كلمات بديعة لا تصدر إلاّ من سيد البشر أو وصيه ، وعند التعارض يؤخذ بالموافق لكتابه والمطابق للذكر الحكيم ، وهي الطائفة الثانية.
1 ـ الكافي : 2 / 599.
2 ـ نهج البلاغة : الخطبة 81 و 110 و 147.


(232)
    ختامه مسك
    لمّا وقع كتاب « فصل الخطاب » ذريعة لكل من يحاول اتّـهام الشيعة الإمامية بالتحريف ، وهم منه بُرآء براءة يوسف مما اتُّهم به ، استدعيت من فضيلة شيخنا الجليل « محمد هادي معرفة » (1) أمدَّ اللّه في حياته الكريمة ، أن يوضِّح لنا واقع هذا الكتاب وقيمتـه في سوق العلم ، و المصـادر التي اعتمد المؤلّف عليها ، فتفضّل بمقال قيّم ننشره على صفحـات كتابنـا مشفوعاً بالشكر والتقدير.
    هو : الشيخ الحسين بن محمد تقي النوري. ولد في قرية « نور » من ضواحي بلدة « آمل » في مقاطعة « مازندران » ، في 18 ، شوال سنة 1254. وهاجر إلى العراق سنة 1278 ليواصل دراسته العلمية في حوزة النجف الأشرف حتى سنة 1284 فرجع إلى إيران ، ولم يلبث أن عاد إلى العراق عام 1286 وتشرّف بزيارة بيت اللّه الحرام ، وبعد مدّة ارتحل إلى سامّراء ، حيث كان محطّ رحل زعيم الأُمّة الميرزا محمد حسن الشيرازي ، الذي توفّي سنة 1312 وبعده بمدة وفي سنة 1314 قفل محدّثنا النوري من سامراء ، ليأخذ من النجف الأشرف مقرّه الأخير ، حتى
1 ـ وشيخنا العلاّمة « معرفة » أحد العلماء المحقّقين في علوم القرآن تشهد بذلك موسوعته « التمهيد في علوم القرآن » و قد خرجت منها سبعة أجزاء ، وله كتاب « التفسير والمفسّـرون » ، نسأله سبحانه أن يمدَّ في حياته الكريمة.

(233)
توفّاه اللّه سنة 1320 هـ. ق.
    كان محدّثنا النوري مولَعاً بجمع الأخبار وتتبّع الآثار ، وله في ذلك مواقف مشهودة ، ومصنّفاته في هذا الشأن معروفة.
    غير أنّ شغفه بذلك ، ربّما حاد به عن منهج الإتقان في النقل والتحديث ، ممّا أوجب سلبَ الثقة به أحياناً و في بعض ما يرويه. ولا سيّما عند أهل التحقيق وأرباب النظر من فقهائنا الأعلام والعلماء العظام.
    يقول عنه الإمام الخميني ( قدَّس سرَّه ) : « وهو ـ أي الشيخ النوري ـ شخص صالح متتبّع ، إلاّ أن اشتياقه بجمع الضعاف والغرائب و العجائب ، وما لا يقبله العقل السليم والرأي المستقيم ، أكثر من الكلام النافع ... ». (1)
    ويقول عنه العلاّمة البلاغي ـ شيخ العَلَمَين السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان ، و الإمام الخوئي صاحب كتاب البيان ـ : « وإنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ ... ». (2)
    وتساهله هذا في جمع شوارد الأخبار ، قد حطّ من قيمة تتبّعاته الواسعة واضطلاعه بمعرفة أحاديث آل البيت ( عليهم السَّلام ) والتي كان مشغوفاً بها طيلة حياته العلميّة.
    وقد غرّته ظواهر بعض النقول غير المعتمدة ، المأثورة عن طرق الفريقين ، مما حسبها تعني تحريفاً في كتاب اللّه العزيز الحميد. فكان ذلك مما أثار رغبته في جمعها وترصيفها ، غير مكترث بضعف الأسانيد ، أو نكارة المتون ، على غِرار أهل الحشو في الحديث.
1 ـ راجع : تعليقته الكريمة على كفاية الأُصول « أنوار الهداية » ، ج 1 ، ص 245.
2 ـ راجع : مقدمة تفسيره آلاء الرحمن ، ص 25.


(234)
    أضف إلى ذلك زعمه : أنّه لابدّ من تنويه الكتاب بشأن الولاية صريحاً ، التي هي أهم الفرائض متغافلاً عن تصريح الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) بأنّ ذلك قد تُرك إلى تبيين الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كما في سائر الفرائض وغيره من أحاديث تنفي وجود أيّ تصريح في كتاب اللّه باسم الأئمّة ( عليهم السَّلام ) (1).
    لكن محدّثنا النوري لم يُعر سمعه لأمثال هذه الأحاديث المضيئة ، التي تنزّه ساحة قدس القرآن عن شبهة احتمال التحريف ، وذهب في غياهب أوهامه ، راكضاً وراء شوارد الأخبار وغرائب الآثار ، ناشداً عن وثائق تربطه بمزعومته الكاسدة.
    وقد وصف الإمام البلاغي ، مساعي المحدث النوري هذه بأنّه جَهَد في جمع الروايات وكثّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل وفي جملة ما أورده ما لا يتيسّـر احتمال صدقه ، ومنها ما يؤول إلى التنافي والتعارض ، وإنّ قسماً وافراً منها ترجع إلى عدة أنفار ، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم ، إمّا بأنّه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفوّ الرواية ، وإمّا بأنّه مضطرب الحديث والمذهب ، يعرف حديثه وينكر و يروي عن الضعفاء ، وإمّا بأنّه كذّاب متّهم لا يستحل أن يُروى من تفسيره حديث و احد ، وربما كان معروفاً بالوقف شديد العداوة للإمام علي بن موسى الرضا عليمها السَّلام ، و إمّا بأنّه كان غالياً كذّاباً ، و إمّا بأنّه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعوّل عليه و من الكذابين ، وإمّا بأنّه فاسد الرواية يُرمى بالغلوّ.
    قال ( رحمه الله ) : ومن الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدى كثرتهم شيئاً. (2)
    وهكذا تشبّث محدّثنا النوري بكل حشيش ، ونسج منواله نسجَ العنكبوت.
1 ـ راجع صحيحة أبي بصير ( اصول الكافي : ج 1 ، ص 286 ).
2 ـ مقدّمة تفسيره « آلاء الرحمن » ، ج 1 ، ص 26.


(235)
    أمّا كتابه الذي جمع فيه هذه الشوارد والغرائب ، وأسماه : « فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب » ، فقد وضعه على مقدّمات ثلاث ، واثني عشر فصلاً ، وخاتمة.
    ذكر في المقدّمة الأُولى ، ما ورد بشأن جمع القرآن و نظمه وتأليفه ، مما يشي ـ بزعمه ـ على ورود نقص أو تغيير في نصّه الكريم.
    وفي الثانية : بيّن أنحاء التغيير الممكن حصوله في المصحف الشريف.
    وفي الثالثة : في سرد أقوال العلماء في ذلك ، إثباتاً أو رفضاً.
    أمّا الفصول الاثنا عشر ، فقد جعلها دلائل على وقوع التحريف ، بالترتيب التالي :
    1. قد وقع التحريف في كتب السالفين ، فلابدّ أن يقع مثله في الإسلام ، حيث تشابه الأحداث في الغابر والحاضر.
    2. إنّ أساليب جمع القرآن في عهد متأخر عن حياة الرسول ، لتستدعي بطبيعة الحال أن يقع تغيير في نصّه الشريف.
    3. محاولة علماء السنَّة توجيه روايات التحريف لديهم ، بالإنساء أو نسخ التلاوة غير سديدة.
    4. مغايرة مصحف الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) مع المصحف الحاضر.
    5. مغايرة مصحف الصحابي عبد اللّه بن مسعود مع المصحف الراهن.
    6. مغايرة مصحف الصحابي أُبيّ بن كعب مع المصحف الرائج.
    7. تلاعب عثمان بنصوص الآيات عند جمع المصاحف وتوحيدها.
    8. روايات عامّيّة رواها أهل الحشو من محدثي العامّة ، ناصّة على التحريف.


(236)
    9. إنّ أسامي أوصياء النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كانت مذكورة في التوراة ـ على ما رواه كعب الأحبار اليهودي ـ فلابدّ أنّها كانت مذكورة في القرآن ، لمسيس الحاجة إلى ذكرها في القرآن ، أكثر مما في كتب السالفين.
    10. إنّ اختلاف القراءات ، خير شاهد على التلاعب بنصوص الكتاب.
    11. روايات خاصّة ، تدل دلالة بالعموم على وقوع التحريف.
    12. روايات ناصّة على مواضع التحريف في الكتاب.
    أمّا الخاتمة ، فجعلها ردّاً على دلائل القائلين بصيانة القرآن من التحريف.
    أمّا الرّوايات الخاصة ، والتي استند إليها لإثبات التحريف ، سواء أكانت دالّة بالعموم على وقوع التحريف ، أم ناصّة على مواضع التحريف ، فهي تربو على الألف ومائة حديث ، ( 1122 ). منها ( 61 ) رواية دالة بالعموم. و ( 1061 ) ناصة بالخصوص ، حسبما زعمه.
    لكن أكثريّتها الساحقة نقلها من أُصول لا إسناد لها ولا اعتبار ، من كتب و رسائل ، إمّا مجهولة أو مبتورة أو هي موضوعة لا أساس لها رأساً.
    والمنقول من هذه الكتب تربو على الثمانمائة حديث ( 815 ) وبقي الباقي ( 307 ). وكثرة من هذا العدد ، ترجع إلى اختلاف القراءات ، مما لا مساس لها بمسألة التحريف ، وهي ( 107 ) روايات ، و البقية الباقية ( 200 ) رواية ، رواها من كتب معتمدة ، وهي صالحة للتأويل إلى وجه مقبول ، أو هي غير دالة على التحريف ، وإنّما أقحمها النوري إقحاماً في أدلة التحريف.
    وقد عالجنا هذه الروايات بالذات في كتابنا « صيانة القرآن من التحريف » فراجع.


(237)
    وقد تمّ تأليف « فصل الخطاب » على يد مؤلفه النوري سنة 1292 ، وطبع سنة 1298 ، و قد وَجَدَ المحدّث النوري ـ منذ نشر كتابه ـ نفسه في وحشة العزلة و في ضوضاء من نفرة العلماء والطلبة في حوزة سامراء العلمية آنذاك. وقد قامت ضدّه نعرات ، تتبعها شتائم و سبّات من نبهاء الأُمّة في جميع أرجاء البلاد الشيعيّة ، ونهض في وجهه أصحاب الأقلام من ذوي الحميّة على الإسلام ، ولا يزال في متناوش أهل الإيمان ، يسلقونه بألسنة حداد ، على ما جاء في وصف العلاّمة السيد هبة الدين الشهرستاني ، عن موضع هذا الكتاب ومؤلفه و ناشره ، يوم كان طالباً شابّاً في حوزة سامراء.
    يقول في رسالة بعثها تقريظاً على رسالة « البرهان » التي كتبها الميرزا مهدي البروجردي بقم المقدّسة 1373 هـ.
    يقول فيها : كم أنت شاكر مولاك إذ أولاك بنعمة هذا التأليف المنيف ، لعصمة المصحف الشريف عن وصمة التحريف. تلك العقيدة الصحيحة التي آنستُ بها منذ الصغر أيّام مكوثي في سامرّاء ، مسقط رأسي ، حيث تمركز العلم والدين تحت لواء الإمام الشيرازي الكبير ، فكنت أراها تموج ثائرة على نزيلها المحدّث النوري ، بشأن تأليفه كتاب « فصل الخطاب » فلا ندخل مجلساً في الحوزة العلمية إلاّ ونسمع الضجّة والعجّة ضدّ الكتاب و مؤلّفه وناشره ، يسلقونه بألسنة حداد ... (1)
    وهكذا هبّ أرباب القلم يسارعون في الردّ عليه ونقض كتابه بأقسى كلمات وأعنف تعابير لاذعة ، لم يدعوا لبثّ آرائه ونشر عقائده مجالاً ولا قيد شعرة.
    وممّن كتب في الردّ عليه من معاصريه ، الفقيه المحقّق الشيخ محمود بن أبي
1 ـ البرهان ، ص 143 ـ 144.

(238)
القاسم الشهير بالمعرّب الطهراني ( المتوفّـى 1313 هـ ) في رسالة قيّمة أسماها « كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب » فرغ منها في ( 17ج 2 ـ 1302 هـ ) تقرب من أربعة آلاف بيت في 300 صفحة. وفيها من الاستدلالات المتينة والبراهين القاطعة ، ما ألجأ الشيخ النوري إلى التراجع عن رأيه بعض الشيء ، وتأثّر كثيراً بهذا الكتاب.
    وأيضاً كتب في الردّ عليه معاصره العلاّمة السيد محمد حسين الشهرستاني ( المتوفّـى 1315 هـ ) في رسالة أسماها « حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف ». و قد أحسن الكلام في الدلالة على صيانة القرآن عن التحريف و ردّ شبهات المخالف ببيان واف شاف. والرسالة في واقعها ردّ على فصل الخطاب ، ولكن في أُسلوب ظريف بعيد عن التعسّف و التحمّس المقيت. (1)
    وهكذا كتب في الردّ عليه كلّ من كتب في شؤون القرآن أو في التفسير ، كالحجّة البلاغي ( المتوفّـى 1352 هـ ) في مقدّمة تفسيره ( آلاء الرحمن ) قال تشنيعاً عليه : وإنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ وإنّه ليعدّ هذا المنقول من « دبستان المذاهب » ضالّته المنشودة ، مع اعترافه بأنّه لم يجد لهذا المنقول أثراً في كتب الشيعة. (2)
1 ـ راجع البرهان : ص 142.
2 ـ آلاء الرحمن : 1 / 25.


(239)
    النسخ في اللغة : إبطال شيء وإقامة آخر مقامه ، وفي التنزيل ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْر مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (1) والآية الثانية ناسخة والأُولى منسوخة. (2)
    وفي الاصطلاح : رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخّر على وجه لولاه لكاد سائداً. (3)
    والفرق بين النسخ والتخصيص هو انّ الأوّل تخصيص في الأزمان ، أي مانع من استمرار الحكم بعد النسخ لا عن ثبوته قبله ؛ بخلاف التخصيص ، فانّه مانع عن شمول الحكم لبعض الأفراد من أوّل الأمر.
    ولذلك يشترط في التخصيص وروده قبل حضور العمل بالحكم ، بخلاف النسخ فيشترط فيه وروده بعد حضور العمل به فترة قصيرة أو طويلة.
    وإليك توضيحه ضمن مثالين :
    قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون * أَيّاماً مَعْدُودات فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْ عَلى
1 ـ البقرة : 106.
2 ـ لسان العرب : 14 ، مادة نسخ.
3 ـ القوانين : 2 / 91.


(240)
سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخَر وَعَلَى الَّذِينَ يُطيقُونَهُ فديةٌ طَعامُ مِسْكِين ). (1)
    فالآية الأُولى تفرض على المؤمنين عامّة ، صيام الشهر ، سواء أكان سليماً أم سقيماً ، حاضراً أم مسافراً ، مطيقاً أم غير مطيق ؛ غير انّه سبحانه في الآية الثانية يخرج أصنافاً ثلاثة من تحت الحكم ، أعني : المريض والمسافر والمطيق ، ويفرض عليهم أحكاماً خاصة.
    وأمّا النسخ فقد عرفت أنّه تخصيص في الأزمان ومانع من استمرار الحكم ، يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيم ). (2)
    فرض اللّه سبحانه على المؤمنين إذا حاولوا أن يناجوا الرسول أن يقدِّموا قبل المناجاة صدقة ، فلمّا نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا ، ضَنّ كثير من الناس من تقديم الصدقة ، فكفّوا عن المسألة فلم يناجه إلاّ علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ، ثمّ نسخت الآية بما بعدها : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقات فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ) (3) ، أي لما بخلتم وخفتم الفاقة بالصدقة بين يدي نجواكم ، تاب اللّه على تقصيركم فيه.
    هذا هو النسخ وذلك هو التخصيص.
    وبذلك يعلم أنّه يشترط في النسخ ورود الناسخ بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ ومرور فترة من تشريع الحكم.
    وأمّا التخصيص ، فهو إخراج فرد أو عنوان عن كونه محكوماً بحكم العام فيشترط وروده ، قبل حضور وقت العمل بالعام ، لئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت
1 ـ البقرة : 183 ـ 184
2 ـ المجادلة : 12.
3 ـ المجادلة : 13.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن ::: فهرس