بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 71 ـ 80
(71)
ينفي صلاحية من في السماوات والأرض لأن يكون معبوداً لأجل أنهم عباد الرَّحمن ، قال : ( إن كُلّ مَنْ في السّمواتِ والأرْضِ إلاّ آتي الرّحمنِ عَبْداً ) (1) ، فليسوا أرباباً ليدبّروا أُمورهم ، ولا خالقين ليخلقوهم.
    نعم ، الاعتقاد بالربوبية ينحل إلى الاعتقاد بأنه يملك شؤون العابد ، إمّا في جميع الجهات كما هو الحال في إله العالم عندن الموحدين ، أو بعض الشؤون كالشفاعة والمغفرة ، أو قضاء الحوائج ورفع النوازل ، كما هو الحال في الآلهة الكاذبة عند المشركين ، ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه ينفي عن معبوداتهم كونهم مالكين لكشف الضر. قال : ( لاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِم نَفْعاً وَ لا ضرّاً ) (2) ، وقال تعالى : ( لا يَمْلِكُونَ كَشْف الضُّرّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْويلا ) (3) وقال : ( لا يَمْلُكون عَنِ الشّفاعة إلاّ مَنِ اتّخَذَ عِنْدَ الرّحْمنِ عَهْداً ) (4).
    وقال : ( إنّ الذينَ تَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُم رِزْقاً ) (5) إلى غير ذلك من الآيات الّتي بتاتاً ، تملّك معبوداتهم المدعاة شيئاً من شؤونه سبحانه.
    وهذا يعرب عن أنّ وجه اتّصاف خضوعهم بالعبادة ودعائهم لها ، هو اعتقادهم بأنهم أرباب يملكون ما ينفع في حياتهم عاجلا أو آجلا ، ويؤيد ذلك ما كانوا يرددون في ألسنتهم حين الطواف والسعي ويقولون : لبّيك اللّهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك ، تملكه وما ملك.
     وأما الثالث : وهو الاعتقاد بكون المخضوع له مستقلا إمّا في ذاته وفعله ، أو في فعله فقط ، الإلماع إليه في غير موضع من كتاب اللّه العزيز ، وهو توصيفه سبحانه بالقيوم ، قال سبحانه : ( اللّه لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ
1 ـ سورة مريم : الآية 93.
2 ـ سورة الرعد : الآية 16.
3 ـ سورة الإسراء : الآية 56.
4 ـ سورة مريم : الآية 87.
5 ـ سورة العنكبوت : الآية 17.


(72)
القَيُّومُ ) (1) وقال : ( وَعَنَتِ الوُجوهُ للحيِّ القَيُّومِ ) (2) والمراد منه هو الموجود القائم بنفسه ، ليس فيه شائبة من الفقر والحاجة ، وأنّ كل ما سواه قائم به ، ومن المعلوم أن القائم بنفسه والغني في ذاته ، غني في فعله عن غيره ، فلو استغثنا بأحد باعتقاد أنه يملك كشف الضر عنّا فقد طلبنا فعل اللّه سبحانه من غيره ، لأنه تعالى وحده الّذي يملك كشف الضر لا غيره ، والغني في الفعل هو اللّه سبحانه ، فلو أقمنا موجوداً آخر مكان اللّه سبحانه في مجال الإيجاد ، وزعمنا أنه يخلق ويرزق ويدبّر الأُمور ، أو أنه يغفر الذنوب ويقضي الحاجات من عند نفسه ، أو بتفويض من اللّه سبحانه واعتزاله عن الساحة ، فقد وصفناه بالربوبية أولا ( التعريف الثاني ) ولو زعمنا أنه قائم بنفس الفعل الّذي يقوم به سبحانه ثانياً فكأننا أعطينا غيره صفة من صفاته سبحانه ، وهي القيومية ولو في مجال الإيجاد ( التعريف الثالث ) .
    هذا وللتفويض شؤون واسعة :
    منها تفويض اللّه تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء ، ويسمى بالتفويض التكويني.
    ومنها تفويض الشؤون الإلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع والمغفرة والشفاعة ويسمى بالتفويض التشريعي.
    وهذا هو الذكر الحكيم يصف أهل الكتاب بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه يقول : ( اتّخَذوا أحْبَارَهُم وَ رُهْبانَهُم أرباباً مَنْ دُون اللّه والمَسيحَ ابنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِروا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلهاً واحِداً لا إله هُوَ سُبْحانَهُ عمّا يُشرِكُون ) (3).
    إنّ أهل الكتاب لم يعبدوهم من طريق الصلاة والصوم لها ، وإنما
1 ـ سورة البقرة : الآية 255.
2 ـ سورة طه : الآية 111.
3 ـ سورة التوبة : الآية 31.


(73)
أشركوهم في تفويض أمر التشريع والتقنين إليهم ، وزعموا أنهم يملكون شأناً من شؤونه سبحانه.
    قال الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : « واللّه ما صَامُوا لَهُم ، وَ لاَ صَلُّوا لَهُم ، وَلَكِن أحَلُّوا حَرَماً وَ حَرّموا عَلَيْهِم حَلاَلا فاتّبعوهم » (1).
    روى الثعلبي في تفسيره : عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول اللّه وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي : « يا عدي ، اطرح هذا الربق من عنقك » قال : فطرحته ، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ هذه الآية : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ) حتّى فرغ منها ، فقلت : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرّمون ما أحلّه اللّه ، فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ قال : فقلت : بلى. قال : فتلك عبادة (2).
    وفي ضوء هذا البحث الضافي تستطيع أن تميّز العبادة عن غيرها ، والتعبّد عن التكريم ، والخضوع العبادي عن التعظيم العرفي وتقف على أنّ سجود الملائكة لآدم ، ويعقوب وزوجته وأبنائه ليوسف ، لم تكن عبادة قط ، وما هذا إلاّ لأن خضوعهم لم يكن نابعاً عن الاعتقاد بألوهيتهما أو ربوبيتهما ، أو أنهما يملكان شؤون اللّه سبحانه ، كلها أو بعضها ، ويقومان بحاجة المستنجد بنفسهما وذاتهما.
    ومما يؤيد أنّ خضوع المشركين أمام أوثانهم وأصنامهم كان ممزوجاً بالاعتقاد بكونهم آلهة صغيرة ، أو أرباباً ، وموجودات تملك شؤون الرب أو بعضها ، أنهم كانوا يصفونها بأنها أنداد للّه سبحانه. قال سبحانه : ( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونَ اللّه أنْداداً يُحِبُّونَهُم كَحُبّ اللّه ) (3) ولما زعموا أن معبوداتهم المصطنعة ، تستجيب دعاءهم وتشفع لهم مثله ، عادوا يحبّونها كحب اللّه ، ويذكر في آية أُخرى أنّ المشركين كانوا يسوّون آلهتهم بربّ العالمين.
1 ـ الكافي ج 1 ص 53 .
2 ـ مجمع البيان ج 3 ص 23 والبرهان في تفسير القرآن ج 2 ص 120.
3 ـ سورة البقرة : الآية 165.


(74)
قال سبحانه : ( تاللّه إنْ كُنّا لَفِي ضَلال مُبين * إذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العَالمين ) (1).
    والمراد هو التسوية في شؤونه سبحانه جميعها أوبعضها ، وأمّا التسوية في العبادة فكانت من شؤون ذلك الاعتقاد ، فإنّ العبادة خضوع من الإنسان للمعبود ، فلا تتحقق إلاّ أن يكون هناك إحساس من صميم ذاته بأن للمعبود سيطرة غيبية عليه ، يملك شؤونه في حياته ، وكان المشركون في ظل هذه العقيدة يسوّون أوثانهم برب العالمين. وبالتالي يعبدونهم. وليس المراد من التسوية هو التسوية في خصوص توجيه العبادة ، إذ لم يعهد من المشركين المتواجدين في عصر الرسول توجيه العبادة إلى اللّه ، ويؤيد ذلك : أنّ الوثنية دخلت مكة ونواحيها أول ما دخلت بصورة الشرك في الربوبية ، وفي ذلك يكتب ابن هشام :
    كان عمرو بن لحي أول من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها ، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان ، وعندما سألهم عما يفعلون بقوله : « ما هذه الأصنام الّتي أراكم تعبدونها؟ » قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم : أفلا تعطونني منه فأسير به إلى أرض العرب فيعبدون؟!.
    ثم إنّه استصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم ( هبل ) ، ووضعه على سطح الكعبة المشرفة ودعا الناس إلى عبادتها (2) ، فطلب المطر من هذه الأوثان يكشف عن اعتقادهم بأن لهذه الأوثان دخلا في تدبير شؤون الكون وحياة الإنسان.

الوهابيون وملاكات التوحيد و الشرك
    ثم إنّ الوهابيين لما لم يضعوا للعبادة حدّاً منطقياً تتميّز به عن غيرها ،
1 ـ سورة الشعراء : الآية 97 ـ 98.
2 ـ سيرة ابن هشام ج 1 ص 79.


(75)
عمدوا إلى وضع ملاكات للعبادة ، عجيبة جداً ، وهي مبثوثة في كتبهم وثنايا دعاياتهم وهي :
    1 ـ الاعتقاد بالسلطة الغيبية.
    2 ـ الاعتقاد بأن المدعو يقضي حاجته بسبب غير عادي.
    3 ـ طلب الحاجة من الميت.
    4 ـ طلب الحاجة مع كون المطلوب منه عاجزاً.
    إلى غير ذلك من المعايير الّتي لا تمت إلى التوحيد والشرك بصلة أبداً ولكون هذه الملاكات تدور على ألسنتهم و تتكرر في كتبهم ، نركّز على هذه المعايير وأشباهها لنخرج بنتيجة قطعية ، وهي أنّ الملاك في تمييز التوحيد عن الشرك أمر واحد وهو الاعتقاد بالألوهية والربوبية ، أو كون الفاعل مستقلا ومفوضاً إليه الأمر ، وأمّا هذه المعايير فكلها معايير عرضية ، بل لا تمت إلى مسألة العبادة بصلة أصلا ، بل كل منها يوصف بالتوحيد على وجه ، وبالشرك على آخر ، وإليك البيان :

1 ـ هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية معيار للشرك ؟
     « إنّ هناك من يتصور أن الاعتقاد بالسلطة الغيبية في المدعو يلازم الاعتقاد بكونه إلهاً. يقول الكاتب المودودي : « إنّ التصوّر الّذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرّع إليه هو ـ لا جرم ـ تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على الطبيعة ، وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة » (1) وهذا الكلام صريح في أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطة ملازماً للاعتقاد بالألوهية ، وعلى ضوء ذلك فكل من اعتقد في واحد من الصالحين بأنّ له تلك السلطة فهو معتقد بألوهيته ، فيصبح دعاؤه عبادة ، والداعي عابداً له.
    وهو مردود من وجهين :
1 ـ المصلطحات الأربعة ص 17.

(76)
أولا : إنّ التصور الّذي لأجله يدعو الإنسان الإله ، لا ينحصر في تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة ، بل يكفي الاعتقاد بكونه مالكاً للشفاعة والمغفرة ، كما كان عليه فريق من عرب الجاهلية ، إذ كانوا يعتقدون في شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم لأنّها تملك الشفاعة والمغفرة ، وهو غير القول بوجود السلطة على عالم التكوين ، وبذلك يظهر الضعف في كلام آخر له ، حيث يقول :
     « إنّ كلا من السلطة والألوهية تستلزم الأُخرى » (1).
    والحال أنّ الإعتقاد بالألوهية أعمّ من الاعتقاد بالسلطة ، فلو افترضنا أن الاعتقاد بالسلطة يستلزم الألوهية ، ولكن الاعتقاد بالألوهية لا يستلزم الاعتقاد بالسلطة ، بل يكفي أن يعتقد أنّ المدعو يملك مقام الشفاعة والمغفرة ، أو شأناً من شؤونه سبحانه.
    وثانياً : إنّ الاعتقاد بالسلطة إنّما يستلزم الاعتقاد بالألوهية إذا كان ينطوي على الاعتقاد بأنّه فوّضت إليه تلك السلطة تفويضاً ، بحيث يقوم بأعمالها باختياره من دون استئذان من اللّه سبحانه واعتماد عليه ، وعلى ضوء ذلك لا يكون الاعتقاد بها ـ إذا كان إعمال تلك السلطة بإذن اللّه ـ ملازماً للاعتقاد بالألوهية ، وإلاّ وجب أن لا نسجّل أحداً من المسلمين المعتقدين بالقرآن في ديوان الموحدين ، فإنّه يثبت ليوسف وموسى وسليمان والمسيح ، بل لأناس آخرين ليسوا بأنبياء سلطة غيبية. هذا قوله سبحانه في قصة سليمان : ( قال يَا أيُّها المَلأ أيُّكُم يَأتِيني بِعَرْشِها قَبْلَ أن يَأتُوني مُسلِمينَ * قال عِفْريتٌ مِنَ الجنّ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أن تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أمينُ * قَالَ الّذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْك طَرْفُكَ فَلَمّا رَآه مُستَقرّاً عَندَهُ قَالَ هَذَا مَنْ فَضلَ رَبّي لِيَبْلُوني أأشْكُرُ أم أكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ رَبَّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ ) (2).
1 ـ المصلطحات الأربعة ص 30.
2 ـ سورة النمل : الآية 38 ـ 40.


(77)
    ولا يرتاب أحد في أنّ سليمان سأل ما سأل بعد اعتقاده بكونهم أصحاب السلطة الغيبية ، أفيصح للمودودي أن يرمي ذلك النبي العظيم بما لا يليق بساحته ، بل لا يحتمل في حقه؟.
    إنّ الذكر الحكيم يثبت ـ لسليمان ـ نفسه سلطة غيبية ، وأنّه كان له سلطة على الجن والطير حتّى أصبحا من جنوده ، كما يقول : ( وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنودُهُ مِنَ الجِنّ وَ الإنسِ وَ الطّيرِ ... ) (1).
    وكانت له السلطة على عالم الحيوانات حتّى أنّه كان يخاطبهم ويطلب منهم تنفيذ أوامره ، كما يقول : ( وَ تَفَقَّدَ الطّيرَ فَقالَ مَاليَ لا أرَى الهُدْهُدَ أم كَانَ مِنَ الغَائَبينَ * لاُعذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَديداً أو لأَذْبَحَنَّهُ أوْ لَيَأتِيَنىّ بِسُلطان مُبين ) (2) ، وكانت له السلطة على الجن ، فكانوا يعملون بأمره وإرادته ، كما يقول :
     ( وَ مِنَ الجنّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بَإذْنِ رَبَّهِ ... يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ ... ) (3) ، وكانت له السلطة على الريح أيما تسليط كما يقول : ( وَ لِسُلَيَْمانَ الرّيحَ عاصَفَةً تَجْرِيَ بأَمْرِهِ ) (4).
    وعلى أىّ تقدير فايّة سلطة أعظم وأوضح من هذه السلطة الّتي كانت لسليمان؟ والجدير بالذكر أنّ بعض الآيات صرحت بأنّ كل هذه الأُمور غير العادية كانت تتحقق بأمره.
    هذا ما ذكره القرآن في حق سليمان ، وقد ذكر نظيره في حق غير واحد من الأنبياء ، لاحظ الآيات (5) فكيف يكون الاعتقاد بالسلطة الغيبية المهيمنة على الطبيعة على وجه الإطلاق ملازماً للاعتقاد بالألوهية ؟
1 ـ سورة النمل : الآية 17.
2 ـ سورة النمل : الآية 20 ـ 21.
3 ـ سورة سبأ : الآية 12 ـ 13.
4 ـ سورة الأنبياء : الآية 81.
5 ـ سورة يوسف : الآية 93 ـ 96 ، سورة الشعراء : الآية 63 ، سورة البقرة : الآية 60 ( في حق موسى ) ، سورة آل عمران : الآية 49 ( في حق المسيح ) ، سورة المائدة : الآية 110 ( في حقه أيضاً ) .


(78)
2 ـ هل طلب قضاء الحاجة بأسباب غير طبيعية معيار للشرك ؟
    يرى المودودي ان التوسل بالأسباب الطبيعية ليس بشرك ، أمّا طلب الحاجة وإنجازها بأسباب غيرها فهو يلازم الشرك. يقول : فالمرء إذا كان أصابه العطش فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء ، لا يطلق عليه حكم الدعاء ، ولا أن الرجل اتخذ إلهاً ، وذلك أنّ كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب ، ولكن إذا استغاث بولىّ في هذا الحال فلا شك أنّه دعاه لتفريج الكربة واتّخذه إلهاً ، فكأنّي به يراه سميعاً بصيراً ، ويزعم أنّ له نوعاً من السلطة على عالم الأسباب مما يجعله قادراً على أن يقوم بإبلاغه الماء ، أو شفائه من المرض (1).
    أقول : إنّ ما ذكره صورة أُخرى للمعيار الأول ، وكلاهما وجهان لعملة واحدة ، فإنّ طلب التوسل بالأسباب غير الطبيعية لا ينفك عن الاعتقاد بكونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة.
    يلاحظ عليه : أنّ المودودي تصوّر أنّ طلب التوسل بالأسباب الطبيعية ليس بشرك ، وإنّما الشرك هو طلب التوسل بغيرها. والحال أنّ كلا منهما على وجهين : فلو تصوّر أنّ القائم بعمل على وفق الأُصول الطبيعية ، إنّما يقوم به عند نفسه وباقتدار مستقل من دون اعتماد على اقداره سبحانه واستئذان منه ، فقد اعتقد بألوهيته وطلب فعل الإله من غيره ، وأمّا إذا اعتقد أنّ الخادم يحضر الماء بقدرة مكتسبة واستئذان منه فهو نفس التوحيد. ومثله الكلام في الأسباب غير الطبيعية ، فلا شك أنّ أُمة المسيح كانوا يعتقدون في حقه ـ بعدما رأوا الآيات والمعجزات منه ـ أنّ له سلطة غيبية ، وكانوا يسألونه إبراء مرضاهم وإحياء موتاهم ، أفهل يتصوّر أنّ سؤالهم هذا كان شركاً؟ وأنّ المسيح كان مجيباً لدعوتهم الشركية؟! فمن ذا الّذي يسمع قول المسيح بين بني إسرائيل : ( أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيئَةِ الطّيرِ فَأنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُونُ طَيراً بإذنِ اللّهِ و أُبْرَىءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ و أُحيِ المَوْتى بِإذنِ اللّهِ وأُنَبِّئُكُم بِما تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي
1 ـ المصطلحات الأربعة ص 30.

(79)
بُيُوتِكُم إنَّ في ذَلِكَ لآيةً لَكُمْ إنْ كُنْتُم مُؤمِنينَ ) (1).
    فَمَنْ ذا الّذي يسمع كلامه هذا ـ ولا يعتقد بسلطته الغيبية؟ ولا يسأله كشف الكرب والملمات بإذنه سبحانه؟ أفيصح للمودودي أن يتّهم أُمة المسيح وفيهم الحواريون الذين أُنزلت عليهم مائدة من السماء ومدحهم سبحانه في الذكر الحيكم (2)بالشرك ؟
    هذا هو الذكر الحكيم ينقل عن السامري قوله : ( بَصُرْتُ بِما لَمْ يِبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لي نَفْسي ) (3).
    وهو يعطي أنّ السامري توسّل بالتراب المأخوذ من أثر الرسول ، وكان له أثر خاص في إخراج العجل الّذي كان له خوار. فلو اعتقد المسلم ـ تبعاً للقرآن ـ بأنه توسل باسباب غير طبيعية لإضلال قومه ، فهل يصحّ اتهامه بالشرك؟.
    وبالجملة : ليس الاعتقاد بالسلطة الغيبية في مقابل الاعتقاد بالسلطة العادية ، كما وليس التوسل بالأسباب غير العادية في مقابل التوسل بالأسباب العادية ، معيارين للتوحيد والشرك ، بل كل واحد منهما يمكن أن يقع على وجهين ، فعلى وجه يوافق الأُصول التوحيدية ، وعلى آخر يخالفها.

3 ـ هل الموت والحياة ملاكان للتوحيد والشرك؟
    يظهر من الوهابيين أنهم يجوّزون استغاثة الأحياء ، وفي الوقت نفسه يرون استغاثة الأموات شركاً. يقول محمد بن عبدالوهاب : وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي رجلا صالحاً تقول له : ادع اللّه لي ، كما كان أصحاب الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يسألونه في حياته ، وأمّا بعد مماته فحاشا وكلاّ أن يكونوا سألوا ذلك ، بل أنكر السلف على من قصد دعاء اللّه عند قبره ، فكيف بدعاء نفسه (4).
1 ـ سورة آل عمران : الآية 49.
2 ـ سورة المائدة : الآية 115 وسورة الصف : الآية 14.
3 ـ سورة طه : الآية 96.
4 ـ كشف الشبهات ـ طبع مصر ـ ص 70.


(80)
    عجيب جداً أن يكون عمل محدد ومشخّص إذا طلب من الحي ، نفس التوحيد ، وإذ طلب من الميت يكون عين الشرك. إنّ القرآن ينقل عن بعض شيعة موسى ويقول : ( فاسْتَغَاثَهُ الّذي مِنْ شِيَعتِه عَلَى الّذي من عَدوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوْسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (1) فنفس هذه الاستغاثة في حال الحياة ، يتصور على وجهين ، يحكم على أحدهما أنه موافق لأصول التوحيد ، وعلى الآخر بخلافها!!
    إنّ هذه الاستغاثة إنما تكون على وفق التوحيد إذا اعتقد أنّ موسى في حال حياته يقوم بالاغاثة بقدرة مكتسبة وإذن منه سبحانه ، ولو اعتقد بأصالته في إغاثة المستغيث فقد اعتقد بألوهيته ، فإذا كان هذا هو المعيار في الاستغاثة من الحي ، فليكن هذا هو المعيار عند الاستمداد بالأرواح المقدسة العالمة الشاعرة حسب أخبار القرآن ( أو الأموات ) على زعم الوهابيين.
    فلو فرضنا أنّ أحداً من شيعة موسى استغاث به بعد خروج روحه الشريف عن بدنه على نحو الاستغاثة الأُولى ، فهل يتصوّر أنّه أشرك باللّه؟ وأنّه عبد موسى لاعتقاده أنّه يغيث المستغيث حياً وميتاً؟.
    ولو كانت حياة المستغاث ومماته معياراً ، فإنّما يصحّ أن يكون معياراً في الجدوائية وخلافها ، لا في الشرك و التوحيد.
    وبذلك تقف على ضعف كلام تلميذ ابن تيمية حيث يقول : « و من أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإنّ الميت قد انقطع عمله ، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً » (2).
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من الدليلين لا يثبت مدّعاه ، لأنّ قوله : « فإنّ الميت قد انقطع عمله » على فرض صحته ، يثبت عدم الفائدة في
1 ـ سورة القصص : الآية 15.
2 ـ فتح المجيد ، تأليف حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ص 67 الطبعة السادسة.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس