بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 201 ـ 210
(201)
الموضع من البقيع رخامة مكتوبه عليها : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمدللّه مبيد الأُمم ومحي الرمم ، هذا قبر فاطمة بنت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) سيدة نساء العالمين ، وقبر الحسن بن علىّ بن أبي طالب ، وعلىّ بن الحسين بن أبي طالب ، ومحمد بن علىّ و جعفر بن محمد » (1).
    وذكر السبط ابن الجوزي المتوفى عام 654 هـ في تذكرة الخواص ص 311 نظير ذلك ، وهذا هو محمد بن أبي بكر التلمساني يصف المدينة الطيبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله : « وقبر الحسن بن علىّ عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترتفع إليه قليلا ، عليه مكتوب : هذا قبر الحسن بن علىّ ، دفن إلى جنب أُمه فاطمة رضي اللّه عنها وعنه (2).
    ويقول الحافظ محمد بن محمود بن النجار المتوفى عام 643 هـ في أخبار مدينة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : .. في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أول البقيع ، وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم للزيارة ، رضي اللّه عنهم (3).
    يقول ابن جبير ذلك السائح الطائر الصيت المتوفى عام 614 هـ في رحلته في وصف بقيع الغرقد : مقابل قبر مالك ، قبر السلامة الطاهرة إبراهيم ابن النبي عليه قبة بيضاء وعلى اليمين منها تربة ابن عمر بن الخطاب ( رضي الّه عنه ) ... وبإزائه قبر عقيل ابن أبي طالب ( رضي اللّه عنه ) . وعبداللّه بن جعفر الطيار ( رضي اللّه عنه ) ، وبإزائهم روضة فيها أزواج النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، ويليها روضة العباس بن عبدالمطلب والحسن بن علي ( رضي اللّه عنه ) ، وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور ، وعن يمين الخارج من ، رأس الحسن إلى رجلي العباس ( رضي اللّه عنهما ) ، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متسعان مغشيان بألواح ملصقة أبدع ، إلصاق ، مرصعة بصفائح الصفر ، ومكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر ، وعلى هذا
1 ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر ، ج 2 ص 288.
2 ـ مجلة العرب رقم 5 ـ 6 المؤرخ 1393.
3 ـ أخبار مدينة الرسول اهتم بنشره صالح محمد جمال ـ طبع مكة المكرمة 1366.


(202)
الشكل قبة إبراهيم ابن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، ويلي هذه القبة العباسية بيت ينسب لفاطمة بنت الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، ويعرف ببيت الحزن ... وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النورين ( رضي اللّه عنه ) ، وعليه قبة صغيرة مختصرة ، وعلى مقربة منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُم علىّ ( رضي اللّه عنها ) وعن بنيها (1).
    روى البلاذري أنّه لما ماتت زينب بنت جحش سنة عشرين صلى عليها « عمر » وكان دفنها في يوم صائف ، ضرب « عمر » على قبرها فسطاطاً (2) ولم يكن الهدف من ضربه تسهيل الأمر لمن يتعاطى دفنها ، بل لأجل تسهيله لأهلها حتّى يتفيّأوا بظلّه ويقرأوا ما تيسّر من القرآن والدعاء ، فلاحظ.

حصيلة البحث
    إنّ سيرة المسلمين من عصر الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين ، إلى عصرنا هذا أقوى حجة على الحكم الشرعي ـ فإنّ اتفاق العلماء في عصر و « إجماعهم على حكم » حجة شرعية عليه ، فكيف اتفاقهم عليه طيلة قرون ، ولا سيما الصحابة العدول.
    فالصحابة واروا جسد النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في بيته ، ولم يخطر ببال أحد أن البناء على القبور محرّم ، ولا أظن أنّ جاهلا متنسّكاً يفرق بين البناء المتقدم على الدفن والمتأخر عنه ، فضلا عن عالم ، فإنّ كون قبر الميت تحت بناء تكريم له وتعظيم ، والقوم يتلقونه شركاء لأنّه تعظيم لغير اللّه ، فلا يفرق بين البناء على القبور أو دفن الميت تحت بناء.
    وليس هذا شيء ينكره أحد من المسلمين.
    والعجب أنّ الوهابيين لما واجهوا هذه السيرة المستمرة عمدوا إلى تفسير هذه السيرة بأنّ النبي إنما دفن في بيته ، لأجل حديث رواه أبوبكر ، قال ابن كثير : إنّ أصحاب النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) لم يدروا أين يقبرون
1 ـ رحلة ابن جبير ، بيروت دار صادر. وقد زار المدينة المنورة عام 578 هـ.
2 ـ أنساب الأشراف ج 1 ص 436.


(203)
رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) حتّى قال أبوبكر : سمعت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يقول : : لم يقبر نبىّ إلاّ حيث يموت (1).
    ثم أضاف المؤلف : فعلمنا من هذه الأحاديث أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) دفن في بيته كما أمر بذلك ، فعلى هذا فلا حجة فيه للقبوريين في البناء على القبور ، إذ لم يبن على قبره ، وإنّما دفن في بيته (2).
    ولا يخفى وجود التهافت في عبارته ، فصدرها يدل على أنّ دفن النبي في بيته كان بأمره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، ولو لم يكن أمره لما دفنوه فيه ، لأنّ الدفن في البناء حرام ، وذيل العبارة يدل على التفريق بين الدفن تحت البناء القائم والبناء على القبر.
    فلو أراد الوجه الأول كما هو ظاهره حيث استقصى مصادر الحديث المذكور قرابة ست صفحات ، فهو مردود بدفن الشيخين في البيت ، مع أنّه لم يرد في حقهما ما ورد في حق النبي.
    ولو أراد الثاني فهو تفريق لا يجنح إليه ذو مسكة ، بعد وحدة الملاك والاشتراك في المفسدة المزعومة.
    وبعد دلالة الذكر الحكيم والسيرة على الجواز ، لا مناص عن طرح هذه الروايات أو تأوليها.

3 ـ البناء تعظيم لشعائر اللّه
    إنّ تعظيم قبور الأنبياء والأولياء وتنظيفها وحفظها عن تطرق الفساد والانهدام مظهر لتعظيم شعائر اللّه قال سبحانه :
     ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظَّم شَعَائِرَ اللّهِ فإنَّها مِنْ تَقْوى القُلُوبِ ) (3).
1 ـ البداية والنهاية ج 5 ص 266 ، وقد جاءت مصادر هذه الرواية في كتاب رياض الجنة ص 264.
2 ـ رياض الجنة 269 .
3 ـ سورة الحج : الآية 32.


(204)
    والاستدلال بالآية يتوقف على ثبوت صغرى وكبرى :
    الغصرى عبارة عن كون الأنبياء وأوصيائهم ومن يرتبط بهم أحياءً وأمواتاً من شعائر اللّه ... والكبرى عبارة عن كون البناء والتنظيف وصيانة المقابر تعظيم لشعائر اللّه.
    ولا أظن أنّ الكبرى تحتاج إلى مزيد بيان ، إنما المهم بيان الصغرى ، وأنّ الأنبياء والأوصياء من شعائر اللّه ، وبيان ذلك يحتاج إلى نقل ما ورد حول شعائر اللّه من الآيات :
    1 ـ ( إنَّ الصّفا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّه ) (1).
    2 ـ ( يَا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللّهَ وَلاَ الشّهْرَ الحَرَامِ وَلا الهَدْيَ وَ لاَ القَلاَئِدَ وَ لاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رضْوَاناً ) (2).
    3 ـ ( وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِر اللّه لَكُمْ فِيْهَا خَيْرٌ ) (3).
    4 ـ وفي رواية أُخرى جعل مكان شعائر اللّه ، حرمات اللّه وقال :
     ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعامُ إلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنِ الأوثَانِ ... ) (4) .
    ما هو المقصود من ( شعائر اللّه ) ؟
    هنا احتمالات :
    1 ـ تعظيم آيات وجوده سبحانه.
    2 ـ معالم عبادته وأعلام طاعته.
    3 ـ معالم دينه وشريعته وكل ما يمتإليهما بصلة.
1 ـ سورة البقرة : الآية 158.
2 ـ سورة المائدة : الآية 2.
3 ـ سورة الحج : الآية 36.
4 ـ سورة الحج : الآية 30.


(205)
    أمّا الأول فلم يقل به أحد ، إذ كل ما في الكون آيات وجوده ، ولا يصحّ تعظيم كل موجود بحجة أنه دليل على الصانع.
    وأمّا الثاني فهو داخل في الآية قطعاً ، وقد عدّ الصفا والمروة والبدن من شعائر اللّه ، فهي من معالم عبادته وأعلام طاعنه ، إنما الكلام في اختصاص الآية بمعالم العبادة وأعلام طاعته ، الظاهر المتبادر هو الثالث ، أي معالم دينه سبحانه ، سواء أكانت أعلاماً لعبادته وطاعة أم لا ، فالأنبياء والأوصياء والشهداء والصحف والقرآن الكريم والأحاديث النبوية كلها من شعائر دين اللّه وأعلام شريعته ، فمن عظمها فقد عظم شعائر الدين.
    قال القرطبي : فشعائر اللّه : أعلام دينه ، لا سيما ما يتعلق بالمناسك (1) ولقد أحسن حيث عمّم أولا ، ثم ذكر مورد الآية ثانياً ، ومما يعرب عن ذلك أنّ إيجاب التعظيم تعلق بـ ( حرمات اللّه ) في آية أُخرى.
    قال سبحانه : ( وَمَنْ يُعظَّمْ حُرُماتِ اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ ربّه ) ، والحرمات ما لا يحل انتهاكه ، فأحكامه سبحانه حرمات اللّه ، إذ لا يحل انتهاكها ، وأعلام طاعته وعبادته وحرمات اللّه ، إذ يحرم هتكها وأنبياؤه وأوصياؤهم وشهداء دينه وكتبه وصحفه من حرمات اللّه ، يحرم هتكهم ، فلو عظّمهم المؤمن أحياء وأمواتاً فقد عمل بالآيتين : « وَمَن يَعظّم حرمات اللّه » « ومن يعظّم شعائر اللّه ».

4 ـ الإذن في ترفيع بيوت خاصة
    لقد أذن اللّه تعالى في ترفيع البيوت الّتي يذكر فيها اسمه فقال : ( في بُيُوت أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوَّ وِ الآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاّبَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه ) (2) وقد عرفت أنّ ابن تيمية جعل الآية دليلا على تكريم المساجد ، ولكنّه غفل عن أنّ البيوت غير المساجد ، فهناك بيت وهناك مسجد ، والبيت هو البناء الّذي يتشكّل من جدران أربعة وعليها
1 ـ تفسير القرطبي ، طبع دار إحياء التراث العربي ، ج 12 ص 56.
2 ـ سورة النور : الآية 36 ـ 37.


(206)
سقف قائم ، ولأجل ذلك يقال للكعبة بيت اللّه ، وللساحة المحيطة به ( المسجد الحرام ) وأيضاً يستحب أن تكون المساجد غير مسقّفة ، وترى المسجد الحرام مكشوفاً تحت السماء من دون سقف يظلّه ، دون البيت فالسقف من مقوماته.
    قال سبحانه : ( وَلَوْلاَ أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بَالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِم سُقُفاً مِنْ فِضّة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُون ) (1).
    فالبيوت غير المساجد ، ولو تنزلنا فهي أعمّ منها تشمل المسجد وغيره. هذا كله حول البيوت ، وأمّا الرفع الوارد في الآية الكريمة فسواء أفسّر بالرفع الحسي بإرساء القواعد وإقامة الجدران كما في قوله سبحانه : ( وَإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسماعِيلُ ) (2) ، أَمْ فسّر بالرفع المعنوي كما هو الحال في قوله سبحانه : ( وَرَفَعَنَاه مَكَاناً عَلياً ) (3). أي منحناه مكانة عالية. فلو فسرّ بالرفع الحسّي يكون دليلا على جواز تشييد بيوت الأنبياء والأولياء ، وتعميرها في حياتهم وبعد وفاتهم حسب إطلاق الآية ، وقد كان بيوت كثير من الأئمة الصالحين هي مقابرهم ، فتشييد هذه البيوت عمل جائز بنص الآية ، وأمّا لو فسّر بالرفع المعنوي ، وأنّ من وظائف المسلمين تكريم هذه البيوت كما هو المتبادر ، فتعمير بيوتهم من مظاهر ذلك التعظيم المعنوي ، كما أنّ تدميرها وجعلها معرضة لما لا يناسب ساحتهم ، تجاهل لهذه الآية وتولٍّ عنها.
    ومن لطيف ما روي في المقام ما رواه الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك ، وبريدة ، أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قرأ قوله : ( في بيوت أذن اللّه أن ترفع ) فقام إليه رجل وقال : أي بيوت يا رسول اللّه؟ فقال : « بيوت الأنبياء » فقام إليه أبوبكر وقال : يا رسول اللّه وهذا البيت منها؟ ـ مشيراً إلى بيت علىّ وفاطمة ـ فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : نعم من أفاضلها (4).
1 ـ سورة الزخرف : الآية 33.
2 ـ سورة البقرة : الآية 127.
3 ـ سورة مريم : الآية 57.
4 ـ الدر المنثور : ج 5 ص 50.


(207)
    فهذه الآية وحدها كافية في جواز تعظيم بيوت الأنبياء والأوصياء وأهل بيت النبي مطلقاً ، ومقابرهم ومراقدهم إذا كانت بيوتهم.

5 ـ إظهار المودة للنبي والقربى
    إنّ القرآن الكريم ـ يأمرنا ـ بكل صراحة ـ بحب النبي وأقربائه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، ومودّتهم ومحبّتهم فيقول :
     ( وَمَنْ يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَالِبُونَ ) (1) .
    ( قُل لا أسْالُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ فِي القُرْبَى ) (2).
    ومن الواضح لدى كل من يخاطبه اللّه بهذه الآية أنّ البناء على مراقد النبي وأهل بيته ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو نوع من إظهار الحب والمودة لهم ، وبذلك يخرج عن كونه بدعة لوجود أصل له في الكتاب والسنة ، ولو بصورة كلية.
    وهذه العادة متبعة عند كافة الشعوب ، والاُمم في العالم ، فالجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودة لصاحب ذلك القبر ، ولذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية والعلمية في كنائس ومقابر مشهورة ، ويزرعون أنواع الأزهار والأشجار حولها.
    إلى هنا تمّ الكلام حول جواز البناء على القبور مطلقاً ، وقبور الأنبياء والأوصياء والصالحين خاصة ، على وجه لم يبق لمتدبّر فيه شكّ ، ولا لمكابر إنكار ، إلاّ من أعمى اللّه بصره وبصيرته.
    هذه هي الآيات الواضحة الدلالة على جواز البناء ، وهذه هي سيرة المسلمين المشرقة طوال القرون.
1 ـ سورة المائدة : الآية 56.
2 ـ سورة الشورى : الآية 23.


(208)
    فلو فرضنا تعارض الأدلة من الجانبين ، فالأصل هو الإباحة كما سيوافيك.

6 ـ الأصل هو الإباحة
    إنّ القائل بالحرمة يجب أن يستدل عليها ، والقائل بالإباحة يكفيه الأصل ( عدم الحرمة إلاّ ما قام الدليل على تحريمه ) وقد عرفت أنّه ليس هناك شبه دليل على الحرمة ، والآيات أدل دليل على أنّه سبحانه لا يعذب أُمَّةً إلاّ بعد إرسال الرسل و بعثهم ، وهو كناية عن وصول البيان والتشريع إلى الناس ، فلو لم يصل ـ وإن بلغه الرسول ـ لا يكون منجزاً في حق العبد. قال سبحانه :
     ( وَمَا كُنّا مُعَذّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولا ) (1).
    وظاهر الآيات يعطي أن وظيفة التشريع تبيين المحرمات لا المباحات. قال سبحانه :
     ( قَلْ تَعَالُوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم ) (2) .
    وقال : ( قُلْ لاَ أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَىّ مُحَرّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ.. ) (3).
    فإذا كان صعيد التشريع فارغاً عمّا يدل على التحريم فهو حجة على كون الشيء مباحاً محللا.
    وإليك البحث عن بناء المساجد على قبور الصالحين ، وهو الموضوع الخامس فيما طرحه ابن تيمية.
1 ـ سورة الإسراء : الآية 15.
2 ـ سورة الأنعام : الآية 151.
3 ـ سورة الأنعام : الآية 145.


(209)
(5)
ابن تيمية وبناء المساجد على القبور
    قال ابن تيمية : « ولا يشرع اتّخاذها ـ أي القبور ـ مساجد » (1).
    وقال أيضاً : « لا يجوز بناء المسجد على القبور ».
    وقد استدلّ الوهابيون على ما يتبنّونه بالحديث التالي المروي بعبارات مختلفة :
    1 ـ « قاتل اللّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ».
    2 ـ « لعن اللّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ».
    3 ـ « ألا ومن كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إنّي أنهاكم عن ذلك ».
    4 ـ « أخرجوا أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ، واعلموا أنَّ شرار الناس الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ».
    5 ـ « لعن اللّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (2).
1 ـ مضى مصدرها.
2 ـ راجع للوقوف على مصادر هذه الأحاديث صحيح البخاري كتاب الجنائز ج 2 ص 111 ، السنن للنسائي ج 2 كتاب الجنائز ص 871 ، صحيح مسلم ج 2 ص 568 كتاب المساجد وغيرها ، وقد جمع مصادر الحديث وصوره المختلفة محمد ناصر الدين الألباني في كتابه تحذير الساجد ص 11 ـ 28 فذكر للحديث 14 صورة كما جمعها أبو عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي في كتاب رياض الجنة ص 278 ـ 281.


(210)
    إنّ الوهابيين استغلوا هذا الحديث وخرجوا بهذه النتيجة بأنّ مفادها :
    أ ـ حرمة بناء المساجد على القبور.
    ب ـ وحرمة قصد الصلاة فيها.
    حتّى قال ابن تيمية : إنّ المسجد والقبر لا يجتمعان (1).
    وهذا هو الكلام الّذي يجتره ويكرره كل من جاء بعده ، فنظروا إلى الروايات بعقيدة مسبقة ، وتركوا إجماع الأُمة ودلالة الكتاب على الجواز كما بيّناه ، فنقول : إنّ لهذه الروايات محتملات :
    1 ـ الصلاة على القبور بالسجود عليها تعظيماً.
    2 ـ الصلاة باتّجاه القبور واتّخاذها قبلة.
    3 ـ بناء المساجد على القبور وقصد الصلاة فيها تبركاً بالمقبور.
    4 ـ إقامة الصلاة عند مراقد الأنبياء ومقابرهم فقط.
    فهل للحديث إطلاق يعم هذه الصورة والمحتملات كما ادّعاه الألباني تبعاً لشيخه ابن تيمية ، وزعم أنّ هذا الحديث من جوامع كلمه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) .
    أو أنّ الحديث ينصرف ـ بشهادة القرائن المتصلة والمنفصلة ـ إلى بعض الصور مما يلازم كون العمل شركاً ، والمصلي مشركاً وخارجاً عن الحدود الّتي حددها الكتاب والسنة ، كما هو الحق بشهادة القرائن العشر التالية؟ وإليك البيان :
    1 ـ إنّ الحديث يركّز على عمل اليهود والنصارى ، وأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، وينهى المسلمين عن متابعتهم في ذلك.
1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 59 ـ 60 وزاد المعاد تأليف ابن القيم ص 661.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس