بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 221 ـ 230
(221)
حتّى أنهم اليوم يعتبرون ذلك شركاً ، وكل من فعل ذلك يكون عندهم مشركاً ، وإليك توضيح المسألة :
    1 ـ لا شك أنّ إقامة الصلاة عند القبور لغاية عبادة صاحب القبر أو اتخاذه قبلة شرك ، ولكن لاتجد على وجه البسيطة مسلماً يفعل ذلك ، بل لا يحوم حوله البعداء من الأوساط الإسلامية ، فضلا عن المتحضّرين منهم ، المتواجدين في الأوساط الدينية.
    2 ـ إنّ هدف المسلمين من إقامة الصلاة والدعاء عند قبور الأولياء ، هو التبرك بالمكان الّذي احتضن جسد حبيب من أحبّاء اللّه ، فيتمتع ذلك المكان بمنزلة سامية ، فالصلاة والدعاء هناك يعودان بثواب أكثر على فاعلهما.
    إنّ لمشاهد الأولياء ومراقدهم شرفاً وفضيلة خاصة لا توجد في غيرها ، ولأجل ذلك أوصى الشيخان بدفنهما في جوار النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، فالمصلي لدى قبورهم لا يقصد سوى ما قصده الشيخان لا غير. فلو كان قصد التبرك بمكان شركاً فلماذا أوصى الشيخان بالدفن بجوار النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ؟.
    3 ـ إنّ القرآن الكريم يأمر حجاج بيت اللّه الحرام بإقامة الصلاة عند مقام إبراهيم ، وهو الصخرة الّتي وقف عليها إبراهيم لبناء الكعبة ، فيقول : ( وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وَأمْناً وَاتَّخذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهيمَ مُصَلّىً ) (1).
    إنّ الصلاة في مقام إبراهيم لأجل التبرك بمقام النبي إبراهيم ، فلو كانت عبادة اللّه تبارك وتعالى مقرونة بالتبرك بمكان المخلوق شركاً ، فلماذا أمر به سبحانه ، فهل هناك فرق بين مقامهم ومثواهم؟ .
    4 ـ سأل المنصور العباسي مالك بن أنس وهما في مسجد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا أبا عبد اللّه ، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول اللّه؟ فقال مالك : لم تصرف عنه ، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى اللّه يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه (2).
1 ـ سورة البقرة : الآية 125.
2 ـ وفاء الوفاء ج 4 ص 1376.


(222)
    والعجب أنّ الكاتب الوهابي ( الرفاعي ) حاول أن يكذب القصة ، قال : « إنّ أبا جعفر المنصور كان من أعلم علماء عصره ، فلا يصح أن يكون جاهلا فيستفسر ».
    يا للعجب! من أين علم أنه كان مثل مالك بن أنس إمام المدينة المنورة؟
    وهل له آثار في الفقه والحديث مثل مالك؟
    ماهذه الكلمة الساقطة؟ وأي دليل على أنه لم يكن جاهلا بهذه المسألة فيستفسر مثله أو من هو أعلم منه ؟
    5 ـ روى السيوطي في أحاديث المعراج أنّ النبي الأكرم نزل في المدينة وطور وسيناء وبيت لحم ، وصلّى فيها ، فقال له جبرائيل : يا رسول اللّه أتعلم أين صلّيت؟ إنّك صليت في طيبة ، وإليها مهاجرتك ، وصلّيت في طور سيناء ، حيث كلم اللّه موسى تكليماً ، وصليت في بيت لحم حيث ولد عيسى (1).
    ولا أظن أن يتوهم أحد وجود الفرق بين المولد والمرقد بالتجويز في الأول دون الثاني.
    6 ـ إنّ المسلمين جميعاً يصلّون في حجر إسماعيل ، مع أنّ الحجر مدفنه ومدفن أُمه هاجر ، فأيٌ فرق بين مرقد النبي ومدفن أبيه إسماعيل؟
    7 ـ ولقد بلغت هاجر أُم إسماعيل مرتبة عند اللّه بسبب صبرها وتحمّلها المتاعب في سبيل اللّه سبحانه ، فجعل اللّه موضع أقدامها محلا للعبادة ، وأوجب على حجاج بيته الحرام أن يسعوا فيها كما سعت هاجر بين جبلي الصفا والمروة ، فنسأل إذا كان صبرها على المكاره ، وتحمّلها المتاعب في سبيل اللّه تعالى قد منحا الكرامة لموضع أقدمها ، وأوجب اللّه على المسلمين أن يعبدوه سبحانه في ذلك المكان بالسعي بين الصفا والمروة ، فلماذا لا يكون قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
1 ـ الخصائص الكبرى لجلال الدين السيوطي ج 1 ص 154.

(223)
مباركاً ومقدساً ، في حين أنّه تحمّل أنواع المصاعب والمصائب والمكاره من أجل إصلاح المجتمع وإرشاده.
    قال ابن القيم ـ تلميذ ابن تيمية ـ : « إنّ عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد ، آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطىء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ، ومتعبّدات لهم إلى يوم القيامة ، وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه » (1).
    8 ـ إذا كانت الصلاة عند القبر محرّمة في الشريعة الإسلامية ، فلماذا قضت عائشة عمرها في البيت الّذي دفن فيه الرسول؟.
    9 ـ إنّ السيدة فاطمة الزهراء الّتي قال في حقها النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ اللّه يرضى برضى فاطمة ويغضب بغضبها » (2) كانت تزور قبر عمّها حمزة في كل جمعة أو في كل أسبوع مرتين ، وكانت تبكي وتصلّي عند قبره.
    يقول البيهقي : كانت فاطمة ( رضي اللّه عنها ) تزور قبر عمّها حمزة كل جمعة ، فتصلّي وتبكي عنده (3).
    10 ـ إنّ مراقد الأنبياء ومشاهدهم تعدّ جزءاً من مطلق الأرض الّتي جعلها اللّه سبحانه محلا لعبادته ، وقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » (4).
    فما الدليل على إخراج مشاهد الأنبياء والأولياء والصالحين عن إطلاق الحديث المتفق عليه ، أفيزعم الوهابي ان الصلاة في مشاهد الأنبياء ومراقدهم أقل ثواباً من مطلق الأرض؟!
1 ـ زاد المعاد في هدى خير العباد طبع مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة بإشراف طه عبدالرؤوف 1390 هـ ق .
2 ـ صحيح البخاري ج 5 باب مناقب قرابة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ص 20 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 154.
3 ـ السنن للبيهقي ج 4 ص 78 مستدرك الصحيحين للحاكم ج 1 ص 377.
4 ـ صحيح البخاري ج 1 ص 91 ، مسند أحمد ج 2 ص 222.


(224)
    وأخيراً نرى أنّ المسلمين يقيمون الصلاة طيلة أربعة عشر قرناً عند قبر النبي والخليفتين ، من دون أن يختلج ببال أحد من أنّ إقامة الصلاة عند القبور حرام أو مكروه.
    كيف ، ولو كان مكروهاً أو حراماً لما أوصى الإمام الحسن بن علي بدفن جسده المطهر عند قبر جده المصطفى ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) حتّى حالت بنو أُمية دون إنفاذ وصيته.
    هذه الوجوه العشرة كافية لمن أراد اتباع الحق ، ولا أظنّ أنّ المنصف المتحرّي للحقيقة ـ إذا تجرّد عن الهوى ـ ينبذ هذه الأدلة وراء ظهره.
    وفي الختام نذكر حكم الإضاءة عند القبور ، فربّما يحكم بالحرمة لما رواه النسائي عن ابن عباس أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) لعن زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسرج (1).
    إنّ هذا الحديث وأمثاله يهدف إلى ما إذا كانت الإضاءة تبذيراً للمال ، أو تشبّهاً ببعض الأُمم والشعوب ، وإلاّ فالإضاءة إذا كانت لغاية قراءة القرآن والدعاء لا تكون محرمة.
    بل يقول العلامة السندي في شرحه على الحديث : « والنهي عنه لأنّه تضييع مال بلا نفع » (2).
    أضف إلى ما في الحديث من لعن زائرات القبور ، مع أنّ عائشة زارت البقيع مع النبي ، وقد علّمها كيفية الزيارة كما تقدم حديثه.
1 ـ السنن للنسائي ج 3 ص 77.
2 ـ السنن للنسائي ج 3 ص 77 طبع مصر وج 4 ص 95 طبع بيروت شرح الجامع الصغير ج 2 ص 198.


(225)
(7)
ابن تيمية والتوسل بالأنبياء والصالحين
    إنّ التوسل بالأنبياء والصالحين في حال حياتهم أو بعد التحاقهم بالرفيق الأعلى من الأُمور الرائجة بين الموحدين في جميع الأجيال والقرون ، وقد أثارت فتوى ابن تيمية فيها بالحرمة ضجّة كبرى بين المسلمين ، فالمسلمون كانوا إلى عصر ابن تيمية على جواز التوسل بشروطه المسوغة ، إلى أن جاء ابن تيمية فأفتى بالحرمة ، وتبعه الوهابيون ، فأقصى ما جاز عندهم من التوسل هو التوسل بدعاء النبي في حال حياته ، غير أنّ الشبه والظنون الّتي اعتمدوا عليها في منع التوسل كانت تقتضي منع هذا القسم أيضاً ، لأنّه توسل بالمخلوق لا محالة في مقام العبادة ، لكنّهم لم يجدوا منتدحاً عن القول بجوازه لتصريح القرآن به ، حيث حثّ المسلمين على المجىء إلى النبي وطلب الاستغفار منه ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أنّهُم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحيماً ) (1) ، وقال سبحانه : ( وَإذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا يَسْتَغْفِرْ لَكُم رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤوُسَهُم وَرَأيْتَهُم يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (2) وقال سبحانه ناقلا عن أبناء يعقوب ( يَا أبَانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنّا كُنّا خَاطِئِينَ ) (3).
1 ـ سورة النساء : الآية 64.
2 ـ سورة المنافقون : الآية 5.
3 ـ سورة يوسف : الآية 97.


(226)
    ولأجل الحط من شأن النبي وكرامته يجعلون النبي مساوياً للمؤمنين ويقولون : « إنّ التوسل الجائز هو التوسل بدعاء المؤمن حال حياته ، ولو جاز التوسل بدعاء النبي فليس هذا إلاّ لكونه أحد المؤمنين ، ويجوز التوسل بدعاء كل أخ مؤمن من غير فرق بين النبي وغيره ، وأمّا غير ذلك فكله ممنوع ».
    وستوافيك أقسامه وكلماتهم فيها ، وبما أنّ الوهابيين مازالوا يستدلون ضد المتوسلين ببعض الآيات ، نقدم البحث عنها ونقول :

آيتان على طاولة التفسير
( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُم وَلاَ تَحْويلا * أُولئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِم الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ ، وَيَرجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُوراً ) (1).
    يقول محمد نسيب الرفاعي مؤسس الدعوة السلفية وخادمها في الرياض : إنّك ترى أنّ اللّه تعالى يلفت أنظار المؤمنين إلى أنّ عمل المشركين بالتزلّف إلى اللّه بأشخاص المخلوقين لا يفيدهم شيئاً ، لأنهم لا يملكون كشف الضرّ عنهم ولا تحويلا ، فدعاؤهم بالذوات أو التوسل بهم لا يقدّم ولا يؤخّر ، ولا يوصلهم ، لأنهم أخطأوا الطريق إلى اللّه.
    إنّ هاتين الآيتين في سورة الإسراء نزلتا في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجنّيون ، أمّا الإنس الذين كانوا يعبدونهم فلم يشعروا بإسلامهم ، فأخبرهم اللّه بوحيه المنزل على عبده ورسوله محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ هؤلاء الذين يزعم المشركون أنهم يقرّبونهم إلى اللّه زلفى ، يتسابقون ويتنافسون فيما بينهم بالتقرّب إلى الله تعالى ، ويرجون رحمته و يخشون عذابه ، فكيف أيها المشركون تدعونهم لكشف الضر عنكم وتوسّطونهم ، فما الّذي تؤملون منهم وهم على أشدّ ما يكونون حاجة إلى اللّه تعالى ، فالذي لا يملك شيئاً ، لا يعطي شيئاً (2).
1 ـ سورة الإسراء : الآية 56 ـ 57.
2 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ص 12 ـ 13.


(227)
    إنّ الاستدلال بهاتين الآيتين على رد التوسل الشائع بين المسلمين من عجيب الأُمور ، فإنّ التوبيخ فيهما متوجّه إلى المشركين الذين كانوا معتقدين بألوهية معبوداتهم ، وأنهم يملكون كشف الضر وتحويل السوء عن الدعاة ، واللّه سبحانه يرد عليهم بأنّ المدعوين في أشد الحاجة إلى طلب التقرب إلى اللّه سبحانه ، فكيف يمكن لهم كشف الضر عنهم؟ وأيّة صلة بين أولئك المشركين المعتقدين بألوهية المدعوين ، والموحدين الذين يعتقدون بأنّه لا يملك كشف الضر إلاّ اللّه ، ولكنّهم يوسّطون بينهم وبين ربّهم أحد عباد اللّه الصالحين ، الّذي له مكانة عند اللّه ، لعلّه سبحانه يجيب دعوته لأجله وحرمته ومقامه ، وليس ذلك ببدعة ، فقد أمر بتوسيط دعاء النبي في طلب المغفرة من اللّه ، وأمر العصاة أن يطلبوا منه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) الاستغفار على ما عرفت.
    والقسمان يشتركان في توسيط المخلوق ، سواء أكان ذاته القدسية أمْ دعاءَهُ المستجاب.
    ثم إنّه في ذيل كلامه يقول : « إنّ الذين كان العرب يوسطونهم في توسلاتهم كانوا يتقربون إلى اللّه بأعمالهم الصالحة ، فما بال المسلمين المتوسلين لا يقتدون بهم ، ولم لا يفعلون ما يفعلون ما داموا بهم وبصلاحهم واثقين » ؟.
    وللملاحظة والتدبّر في كلامه مجال واسع :
    أمّا أولا ـ فمن أين علم أنّ هؤلاء الذين كان العرب يوسطونهم كانوا يتقربون إلى اللّه بأعمالهم الصالحة؟ فليس في الآية شيء يدل على ذلك.
    وثانياً ـ لو صحّ ذلك فمعنى كلامه أنّ التوسل منحصر في ذلك ، مع أنّه من المجوزين لتوسل المسلم بدعاء النبي في حال حياته ، بل بدعاء أخيه المسلم ، فلماذا صار التخلف هيهنا عن هديهم ومذهبهم جائزاً مع أنهم لم يكونوا متقربين إلاّ بأعمالهم فقط.
    والحق أنّ الكاتب اتّخذ موقفاً مسبقاً في مجال التوسل ، وهو إحياء ما بذره ابن تيمية ، فلذلك ترى أنّه يقفو في كتابه أثر شيخه ، بلا تخلّف عنه قيد شعرة ، مع أنه يتظاهر في بدء كتابه بأنه يريد أن يعالج الموضوع علاجاً محايداً


(228)
عن كلّ تحيّز (1).

أقسام التوسل : المشروع والممنوع عند الوهابيين
    ثم إنّ الرفاعي لغاية التظاهر بالحياد في الكتابة عن التوسل ، يقسمه إلى مشروع وممنوع ويقول : وينقسم التوسل المشروع إلى ثلاثة أقسام :
    1 ـ توسل المؤمن إلى اللّه تعالى بذاته العلية ، وبأسمائه الحسنى ، وبصفاته العلى.
    2 ـ توسل المؤمن إلى اللّه تعالى بأعماله الصالحة.
    3 ـ توسل المؤمن إلى الّه تعالى بدعاء أخيه المؤمن له.
    ثم إنّه يقدم الكتابة في الموضوعات الثلاثة فيما يقرب من مائة وسبعين صفحة ، مع أنّ هذه الموضوعات من المسائل البديهية لدى الأُمم جمعاء ، فضلا عن المسلمين ، ولكنّه جاء يصرف القلم والحبر والورق في هذه الموضوعات لغاية التظاهر بأنه ليس مانعاً من التوسل ، لكن التوسل المشروع هو هذه.
    ثم إنّه خصّ الشطر الآخر من كتابه التوسل الممنوع ، وجعله ثلاثة :
    1 ـ التوسل إلى اللّه بذوات النبيين والصالحين ، وبالأمكنة الفاضلة كالكعبة والمشعر الحرام ، وبالأزمنة المباركة كشهر رمضان وليلة القدر وأشهر الحج والأشهر الحرم.
    2 ـ التوسل إلى اللّه بجاه فلان أو حرمته أو ما أشبه ذلك.
    3 ـ الإقسام على اللّه تعالى بالمتوسل به.
    ثم إنّه بدأ في البحث عن أحكام هذه التوسلات الثلاثة ، وخرج بالمآل بحرمتها إمّا بالطعن في أسناد الأحاديث ، أو بنقد مضامينها ، مع أنّ المأثورات الواردة في ذلك المقام مستفيضة أو متواترة بالمعنى ، فمن العجيب المناقشة في أسناد المستفيض أو المتواتر. نعم إنّ الشيخ الرفاعي تنازل عن توصيف هذه
1 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ص 9.

(229)
التوسلات بالشرك ، وأفتى بحرمتها ، مع أنّ المعروف من ابن تيمية وأذنابه هو توصيفها بالشرك ، أو كونها ذريعة له.
    يقول ابن تيمية في بيان مراتب التوسل :
    أحدها : إنَّ الدعاء لغير اللّه سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً ، وسواء أكان من الأنبياء ( عليهم السَّلام ) أمْ غيرهم ، فيقال : يا سيدي أغثني ، وأنا مستجير بك وغير ذلك ، فهذا هو الشرك باللّه.
    الثاني : أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء الصالحين : ادع اللّه وادع لنا ربك ونحو ذلك ، فهذا مما لا يستريب عالم في أنه غير جائز.
    الثالث : أن يقول : أسالك بجاه فلان عندك وحرمته ونحو ذلك (1).
    ترى أنّه وصف الصورة الأُولى بالشرك والثانية والثالثة بعدم الجواز ، فقد فرغنا من تبيين معيار التوحيد والشرك فلا نعيد ، وإنّما نتكلم في الجواز وعدمه ، ولنبحث عن الصور الثلاث الّتي جاءت في كلام الرفاعي ، وزعم أنها ممنوعة ، فنقول :
1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 22 ـ 23.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس