بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: 301 ـ 310
(301)
ب ـ هل ينعقد الحلف بغيره سبحانه؟
    قال ابن تيمية : وقد اتفق العلماء على أنّه لا ينعقد اليمين بغير اللّه ، ولو حلف بالكعبة أو بالملائكة أو بالأنبياء ( عليهم السَّلام ) لم تنعقد يمينه ، ولم يقل أحد إنه ينعقد اليمين بأحد من الأنبياء ، فإنّ عن أحمد في انعقاد اليمين بالنبي روايتين ، لكن الّذي عليه الجمهور كمالك والشافعي ، وأبي حنيفة أنه لا ينعقد اليمين به ، كإحدى الروايتين عن أحمد ، وهذا هو الصحيح (1).
    وقال ابن قدامة في المغني : ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات ، ولا تجب الكفارة بالحلف فيها ... وهو قول أكثر الفقهاء ، وقال أصحابنا : الحلف برسول اللّه يمين موجبة للكفارة ، وروي عن أحمد أنه قال : إذا حلف بحق رسول اللّه وحنث فعليه الكفارة. قال أصحابنا : لأنه أحد شرطي الشهادة ، فالحلف به موجب للكفارة ، كالحلف باسم اللّه (2).
    وبالإمعان في كلام ابن قدامة يظهر عدم صحة ما ذكره ابن تيمية من أنه « اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير اللّه » وأين هو من قول ابن قدامة : « قال أصحابنا : الحلف برسول اللّه يمين موجبة للكفارة؟ وهو وابن قدامة كلاهما حنبليان ، وبما أن المسألة فقهية لا نستعرضها أزيد من ذلك ، وإنما نركز البحث على المسألة الثالثة.

ج ـ هل يجوز الحلف بغير اللّه أو لا؟
    هذه المسألة هي الّتي عقدنا الفصل لبيان حكمها. قال ابن تيمية : « لا يشرع ذلك بل ينهى عنه إمّا نهي تحريم وإمّا نهي تنزيه ، وإنّ للعلماء في ذلك قولين ، والصحيح أنه نهي تحريم ، وفي الصحيح عنه ( صلى اللّه عليه وآله ) أنه قال : من كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت ، وفي الترمذي أنه قال : من
1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : ج 1 ص 209.
2 ـ المغني لابن قدامة : ج 11 ص 17.


(302)
حلف بغير اللّه فقد أشرك (1).
    وقال الصنعاني : إنّ الحلف بغير اللّه شرك صغير (2) ، وقال ابن قدامة : ولا يجوز الحلف بغير اللّه وصفاته ، نحو أن يحلف بأبيه أو الكعبة أو صحابي أو إمام. قال الشافعي : أخشى أن يكون معصية. قال ابن عبد البر : وهذا أصل مجمع عليه ، وقيل; يجوز ذلك لأنّ اللّه تعالى أقسم بمخلوقاته فقال : « والصّافّات صفّاً ، والمرسلات عرفاً ، والنازعات غرقاً » ، وقال النبي للأعرابي السائل عن الصلاة : « أفلح وأبيه إن صدق » وفي حديث أبي الشعراء : « وأبيك لو طعنت في فخذها لأجزاك » ثم إن لم يكن الحلف بغير اللّه محرّماً فهو مكروه ، فإن حلف فليستغفر اللّه تعالى ، أو ليذكر اللّه تعالى ، كما قال النبي : من حلف باللاّت والعزّى فليقل : لا إله إلاّ اللّه (3).
    أنت ترى أنّ ابن تيمية وتلميذ منهجه الشيخ الصنعاني أفتيا بالحرمة ، ولكن الظاهر من عبارة ابن قدامة أن المسألة مما اختلف فيه الفقهاء ، فهم بين محرّم ومجوّز ، حتّى أنّ الشافعي قال : أخشى أن يكون معصية ، وإذ كانت المسألة على هذا المستوى من الاختلاف ، فهل يجوز تكفير الحالف بمثل هذه المسألة؟ مع أنّ أكثر الفقهاء قائلون بالجواز.
    قال في الفقه على المذاهب الأربعة : « إذا قصد الحالف إشراك غير اللّه معه في التعظيم ففيه تفصيل في المذاهب ، ثم ذكر التفصيل بالنحو الآتي » :
     « الحلف بالطلاق نحو : علىّ الطلاق : إن فعلت كذا ، جائز بدون كراهة ، ويلزمه الطلاق إذا كان الغرض منه الوثيقة ، أي وثوق الخصم بصدق الحالف ، جاز بدون كراهة. وإذا لم يكن الغرض منه ذلك ، أو كان حلفاً على الماضي فإنه يكره ، وكذلك الحلف ( بنحو وأبيك ولعمرك ) .
    وقالت الشافعية : يكره الحلف بغير اللّه إذا لم يقصد شيئاً مما ذكر في أعلى الصحيفة ، ويكره الحلف بالطلاق.
1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : ج 1 ص 17.
2 ـ تطهير الاعتقاد ، ص 14.
3 ـ المغني لابن قدامة : ج 11 ص 163 ( كتاب الأيمان ) طبع دارالكتاب العربي ـ بيروت.


(303)
    وقالت الحنابلة : يحرم الحلف بغير اللّه وصفاته ، ولو بنبي أو ولي ، ويكره الحلف بالطلاق والعتاق والمشهور الحرمة » (1).
    فعلى ضوء هذا فقد أفتى الحنابلة من بين المذاهب الأربعة بالحرمة ، وذهبت الحنفية والشافعية إلى الجواز وللمالكية قولان.
    هذه هي الأقوال في المسألة ، وإليك تحليلها فقهياً واجتهاداً :

عرض المسألة على القرآن
    إنّ القرآن الكريم هو الثقل الأكبر والقدوة العليا والمثل الحي لكل مسلم ، نرى فيه الحلف بغير اللّه في غير واحد من السور ، فقد أقسم تعالى في سورة الشمس وحدها بغير ذاته وصفاته ، أعني الشمس وضحاها ، والقمر والنهار والليل ، والسماء والأِض ، والنفس الإنسانية ، وأقسم سبحانه في سورة النازعات بأمرين : المرسلات والناشرات ، كذلك ورد الحلف بغير اللّه في سورة « الطارق » و « القلم » و « العصر » و « البلد » وغيرها.
    وإليك نماذج من آيات الحلف بغير اللّه سبحانه الواردة في غير هذه السور :
     ( وَالتِّينِ وَالزَّيتُونِ * وَطُورِ سِينيِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأمينِ ) (2) .
    ( وَالليلِ إذَا يَغْشَى * وَالنَّهارِ إذَا تَجَلّى ) (3) .
    ( وَالفَجْرِ * ولَيال عَشْر * والشَّفْعِ وَالوَتْرِ * وَالليلِ إذَا يَسْرِ ) (4).
    ( وَالطُّورِ * وَكِتاب مَسْطُور * فِي رَقٍّ مَنْشور * وَالبَيتِ المَعْمُورِ * والسَّقْفِ المَرفُوعِ * وَالبَحْرِ المَسجُورِ ) (5).
1 ـ الفقه على المذاهب الأربعة ، ج 2 ( كتاب اليمين ) ، ص 75.
2 ـ سورة التين : الآية 1 ـ 3.
3 ـ سورة الليل : الآية 1 ـ 2.
4 ـ سورة الفجر : الآية 1 ـ 4.
5 ـ سورة الطور : الآية 1 ـ 6.


(304)
    إذا كان القرآن كتاب هداية للبشر والناس يتخذونه قدوة وأُسوة ، فلو كان هذا النوع من الحلف حراماً على العباد ، وأمراً خاصاً باللّه سبحانه ، لكان المفروض أن يحذّر منه القرآن ، ويذكر بأن هذا من خصائصه سبحانه.
    ومن هنا يعلم أنّ توصيف الحلف بغير اللّه بكونه شركاً صغيراً يستلزم نسبة الشرك إلى اللّه سبحانه ، وإذا كانت ماهية الحلف بغير اللّه ماهية شركية فلا يفرق بينه وبين عباده ، فإذا كانت ماهية الشيء ظلماً وتجاوزاً على البريء ، فاللّه وعباده فيه سيان ، قال تعالى : ( قُلْ إنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمونَ ) (1).
    إنّ الحلف بهذه العظائم كما يتضمن الدعوة إلى التدبّر والدقة في صنعها ، والنواميس السائدة عليها ، واللطائف الموجودة فيها ، وبالتالي يحتج بها على صانع لها عالم وقادر وحي و ... ، كذلك يتضمن جواز الحلف بها إذا كان موجوداً مقدساً ، كما حلف سبحانه بحياة النبي وقال :
     ( لَعَمْرُكَ إنَّهُم لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمِهُونَ ) (2).

عرض المسألة على الأحاديث
    هذا بالنسبة إلى القرآن ، وإليك عرض المسألة على سنة النبي الأكرم ، أعني قوله وفعله وتقريره ، فقد حلف بغير اللّه في موارد عديدة منها :
    1 ـ روى مسلم في صحيحه :
     « جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول اللّه أىّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال : أما وأبيك فننبئنّك : أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل البقاء » (3).
    2 ـ روى مسلم أيضاً :
1 ـ سورة الأعراف : الآية 28.
2 ـ سورة الحجر : الآية 72.
3 ـ صحيح مسلم ، ج 3 ، كتاب الزكاة ـ باب أفضل الصدقة ، ص 94.


(305)
     « وجاء رجل إلى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ـ من نجد ـ يسأل عن الإسلام ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : خمس صلوات في اليوم والليل.
    فقال : هل علىّ غيرهن؟
    قال : لا ... إلاّ أن تطّوّع ، وصيام شهر رمضان.
    فقال : هل علىّ غيره؟
    قال : لا ... إلاّ أن تطّوّع ، وذكر له رسول اللّه الزكاة.
    فقال الرجل : هل علىَّ غيرها؟
    قال : لا ... إلاّ أن تطّوّع.
    فأدبر الرجل وهو يقول : لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.
    فقال رسول اللّه : أفلح وأبيه (1) إن صدق.
    أو قال : دخل الجنة ـ وأبيه ـ إن صدق » (2).
    3 ـ وروي الحديث في مسند أحمد بن حنبل ، وفي نهايته : أنّ النبي قال له :
     « ... فلعمري لئن تتكلم (3) بمعروف و تنهى عن منكر ، خير من أن تسكت » (4).
    وهناك أحاديث أُخرى لا يسع الكتاب ذكرها (5).
    وقد أقسم الإمام علىّ ( عليه السَّلام ) ـ ذلك النموذج البارع في التربية
1 ـ أي حلفاً بأبيه ، فالواو واو القسم.
2 ـ صحيح مسلم ، ج 1 باب ما هو الإسلام ، ص 32.
3 ـ أي تتكلم ـ للمخاطب ـ كما في قوله تعالى : « فأنت له تصدى » « أي تتصدى ».
4 ـ مسند أحمد ، ج 5 ص 225.
5 ـ راجع مسند أحمد : ج 5 ص 212 ، وسنن ابن ماجة : ج 1 ص 255 وج 4 ص 595.


(306)
الإسلامية والقيم العالية ـ بنفسه الشريفة مرات في خطبه ورسائله وكلماته (1).
    وهذا أبوبكر بن أبي قحافة يقول للسارق الّذي سرق حلي ابنته ، فقال : « وأبيك ما ليلك بليل سارق » (2).
    ولا أرى البحث أكثر من هذا إلاّ تطويلا بلا طائل ، وبما أنّ الوهابيين يتمسكون ببعض الأحاديث فلا بأس بدراستها :
    1 ـ إنّ رسول اللّه سمع عمر و هو يقول : وأبي ، فقال : إنّ اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، ومن كان حالفاً فليحلف باللّه أو يسكت (3).
    يلاحظ على الاستدلال : بأنّ وجه النهي عن الحلف بالآباء ، أنّ أباءهم في الغالب كانوا مشركين وعبدة الأصنام ، فلم تكن لهم حرمة ولا كرامة حتّى يحلف أحد بهم ، ويؤيد ذلك ما روي عن النبي أنه قال : « ولا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمهاتكم ولا بالأنداد » (4) وروي أيضاً : « لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت » (5).
    على أنّه يحتمل أن يكون النهي عن الحلف بالأب في مقام فصل الخصومات و حسم الخلافات ، وقد عرفت أنّ الفاصل في هذا المجال هو الحلف باللّه وصفاته.
    وأكثر ما يمكن أن يقال : إنّ النهي تنزيهي لا تحريمي بشهادة ما سبق من الحلف بغير اللّه في حديث الرجل النجدي.
    2 ـ جاء ابن عمر رجل فقال : أحلف بالكعبة؟ قال له : لا ، ولكن احلف برب الكعبة ، فإنّ عمر كان يحلف بأبيه ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
1 ـ نهج البلاغة : تعليق محمد عبده : الخطبة رقم 22 و25 و56 و85 و161 و168 و182 و183 و187 والرسالة رقم 6 و9 و54. 2. الموطأ ، أخرجه في باب الحدود برقم 29.
3 ـ سنن ابن ماجة : ج 1 ص 277 ، سنن الترمذي : ج 4 ص 109 وغيرهما.
4 ـ سنن النسائي ج 7 ص 9.
5 ـ سنن النسائي : ج 7 ص 7 ، سنن ابن ماجة : ج 1 ص 278 ـ والطواغيت هي الأصنام.


(307)
لا تحلف بأبيك فإنّ من حلف بغير اللّه فقد أشرك (1).
    يلاحظ على الاستدلال : أنّ الحديث يتألف من أُمور ثلاثة :
    1 ـ إِنَّ رجلا جاء إلى ابن عمر فقال : أحلف بالكعبة؟ فأجابه بقوله : لا ، ولكن احلف برب الكعبة.
    2 ـ إِنَّ عمر بن الخطاب كان يحلف بأبيه ، فنهاه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عن ذلك.
    3 ـ إِنَّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) علل ذلك بقوله : « من حلف بغير اللّه فقد أشرك ».
    والمتبادر من كلام الرسول حيث وقع تعليلا لنهي عمر عن الحلف بوالده ـ الكافر ـ ما إذا كان المحلوف به شيئاً غير مقدس كالكافر والصنم ، وأما إذا كان المحلوف به مقدساً وذا فضيلة وكرامة كالكعبة ، فكلام الرسول منصرف عنه ، وإنما اجتهد ابن عمر حيث حمل كلام الرسول حتّى على الحلف بالمقدس ، كالكعبة ، واجتهاده حجة على نفسه لا على غيره.
    وهناك جواب آخر ، وهو أنه يحتمل وقوع التحريف في الخبر ، وأن قوله فقال : « رسول اللّه » مصحّف قوله : وقال رسول اللّه ، وعندئذ يكون كلام الرسول مستقلا ، لا تعليلا بشيء حتّى النهي عن الحلف بالكافر ، وعلى هذا فالحديث مركب من أُمور ثلاثة جمعها ابن عمر في حديث واحد.
    والّذي يعرب عن أنّ كلام الرسول كان كلاماً مستقلا غير واقع في ذيل النهي عن الحلف بالأب ، ما رواه إمام الحنابلة عن ابن عمر ، قال :
     « كان يحلف أبي ، فنهاه النبي وقال : من حلف بشيء دون اللّه فقد أشرك » (2) فلو كان كلام الرسول مصدّراً بنهي عمر عن الحلف بأبيه كان اللازم أن يقول : « فقال » مكان « قال » وعلى فرض استقلاله ووروده بدون
1 ـ السنن للبيهقي : ج 1 ص 29 ، وقريب منه في مسند أحمد : ج 2 ص 69.
2 ـ مسند أحمد : ج 2 ص 34.


(308)
« الفاء » يكون القدر المتيقن منه الحلف بالأصنام.
    ويشهد على ذلك ما رواه النسائي : أن النبىَّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قال : « من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلاّ اللّه » (1).
    والحديث يعرب عن أن رواسب الجاهلية كانت باقية في بعض النفوس ، فكانوا يحلفون بأصنامهم المعبودة ، فأمرهم النبي أن يقولوا بعد الحلف : « لا إله إلاّ اللّه » ليقضي على تلك الرواسب الجاهلية.
    وحصيلة الجوابين : إنَّ قول النبي : « من حلف بغير اللّه فقد أشرك » إمّا مختص بغير المقدسات كالحلف باللات والعزى والكافر ، أو مختص بالأصنام والأوثان فقط ، ولا يعم الكافر فضلا عن المقدسات.
1 ـ سنن النسائي : ج 7 ص 8.

(309)
(11)
    ابن تيمية والحلف على اللّه بحق الأولياء
    إنّ من نقاط الاختلاف بين جماهير المسلمين والوهابيين هي مسألة الحلف على اللّه بحق الأولياء.
    قال ابن تيمية : التوسل في لغة الصحابة : أن يطلب من النبي الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين و متوجهين بدعائه وشفاعته ، ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند اللّه ، وأمّا في لغة كثير من الناس : أن يسأل بذلك ، ويقسم عليه بذلك ، واللّه تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات ، بل لا يقسم بها بحال ، فلا يقال أقسمت عليك يا رب بملائكتك ، ونحو ذلك ، بل إنما يقسم باللّه وأسمائه وصفاته ... وأمّا أن يسأل اللّه ويقسم عليه بمخلوقاته ، فهذا لا أصل له في الإسلام.
    وقال : وقوله : « اللّهمّ إنّي أسألك بمعاقد العز من عرشك ، ومنتهى الرحمة من كتابك ، وباسمك وجدك الأعلى وكلماتك التامة » مع أنّ في جواز الدعاء به قولين للعلماء : فجوّزه أبو يوسف وغيره ، ومنع منه أبو حنيفة وأمثاله ، فينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة الّتي جاء بها الكتاب والسنة (1).
    ترى أنّ ابن تيمية يفتي بالحرمة من دون أن يذكر لها مصدراً ، بل يفتي على خلاف النص كما ستعرفه.
    1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : ج 1 ص 21.

(310)
    وجاء الرفاعي يتفلسف في تبيين حرمة الحلف على اللّه بمخلوقه ، ويقول :
    إنّ الإقسام على اللّه بمخلوقاته أمر خطير يقرب من الشرك ، إن لم يكن هو ذاته ، فالإقسام على اللّه بمحمد وهو مخلوق بل وأشرف المخلوقين لا يجوز ، لأنّ الحلف بمخلوق على مخلوق حرام ، وإنّه شرك لأنّه حلف بغير اللّه ، فالحلف على اللّه ، بمخلوقاته من باب أولى ، أي جعلنا المخلوق بمرتبة الخالق ، والخالق بمرتبة المخلوق ، لأنّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه ، ولذلك كان الحلف بالشيء دليلا على عظمته ، وأنّه أعظم شيء عند المحلوف عليه (1).
    ومن هنا كان الحلف بالمخلوق على اللّه شركاً باللّه ، لأننا خصصنا هذه المكانة العليا بالمخلوق ، مع أنها هي بالخالق أولى (2).
    يلاحظ عليه : أنّ كلامه يشتمل على أمرين :
    1 ـ إنَّ الحلف بغير اللّه شرك.
    2 ـ إنَّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه ، فلازم الحلف بالمخلوق على اللّه كونه أعظم من اللّه.
    وكلتا الدعويين باطلتان ، أمّا الأُولى فقد عرفت في البحث السابق أن الحلف بغير اللّه ليس بحرام ، بل هو سنة متبعة بين المسلمين ، فقد حلف رسوله ووصيه بغير اللّه ، وأن الكتاب قدوة وأسوة ، فقد حلف بعمر النبي وحلف بالقرآن الكريم وقال : « يس والقرآن الحكيم » فما هذا الإفتاء به دليل ، والتشريع بلا برهان؟
     ( قُلْ ُآللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرونَ ) (3).
1 ـ تلاحظ أن هذا لا ينسجم مع ما سبق منه : « إنّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه » وفي النسخة بعد لفظة « عليه » لفظة « به ».
2 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل : ص 217 ـ 218.
3 ـ سورة يونس : الآية 59.
بحوث في الملل والنحل ـ الجزء الرابع ::: فهرس