بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: 221 ـ 230
(221)
    وقال الشهرستاني : عبدالله بن اباض الذي خرج في أيام مروان بن محمّد (1) .
    ولعلّ وجه اشتباههم هو : وقوع فتنة الاباضية في أواخر حكومة مروان بن محمّد ، وكان في رأس الفتنة عبدالله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي طالب الحق وكان اباضياً.
    قال ابن العماد : وفي سنة 130 كانت فتنة الاباضية وهم المنسوبون إلى عبدالله بن اباض. قال : مخالفونا من أهل القبلة كفّار ، ومرتكب الكبيرة موحّد غير مؤمن ، بناءً على أنّ الأعمال داخلة في الإيمان ، وكفّروا عليّاً وأكثر الصحابة ، وكان داعيتهم في هذه الفتنة عبدالله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي (طالب الحق) ، وكانت لهم وقعة بقديد مع عبدالعزيز بن عبدالله بن عمرو بن عثمان فقتل عبدالعزيز ومن معه من أهل المدينة ، فكانوا سبعمائة أكثرهم من قريش منهم : تخرمة بن سليمان الوالبي ، روى عن عبدالله بن جعفر وجماعة ، وبعدها سارت الخوارج إلى وادي القرى ولقيهم عبدالملك السعدي فقتلهم ولحق رئيسهم إلى مكّة فقتله أيضاً ، ثمّ سار إلى تبالة ـ وراء مكّة بستّ مراحل ـ فقتل داعيتهم الكندي (2) .
    ومن الأوهام ما ذكره ابن نشوان الحميري عن أبي القاسم البلخي المعتزلي : انّ عبدالله لم يمت حتى ترك قوله أجمع ، ورجع إلى الاعتزال (3) ، والرجل توفّي ولم يكن للاعتزال أي أثر ، فإنّ رأس الاعتزال هو واصل بن عطاء الذي ولد عام 80.
    ثمّ إنّ الاباضية انقسمت إلى فرق خرجوا عن الاعتدال والمرونة ومالوا
    1 ـ الشهرستاني : الملل و النحل 1/134.
    2 ـ ابن عماد الحنبلي : شذرات الذهب 1/177.
    3 ـ ابن نشوان الحميري : الحور العين 173.


(222)
إلى التطرّف والشدّة ، ولكن جمهور الاباضية على الاعتدال. يقول الأشعري :
    وجمهور الاباضية يتولّى المحكّمة كلّها إلاّ من خرج ، ويزعمون أنّ مخالفيهم من أهل الصلاة كفّار ، وليسوا بمشركين ، حلال مناكحتم وموارثتهم حلال غنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب ، حرام ماوارء ذلك ، وحرام قتلهم وسبيهم في السر ، إلاّ من دعا إلى الشرك في دار التقيّة ودان به ، وزعموا أنّ الدار ـ يعنون دار مخالفيهم ـ دار توحيد إلاّ عسكر السلطان ، فإنّه دار كفر ـ يعني عندهم ـ.
    وحكي عنهم أنّهم أجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم ، وحرّموا الاستعراض إذا خرجوا ، وحرّموا دماء مخالفيهم حتّى يدعوهم إلى دينهم ، فبرأت الخوارج منهم على ذلك ، وقالوا : إنّ كل طاعة إيمان ودين ، وإنّ مرتكبي الكبائر موحّدون وليسوا بمؤمنين (1) .
    وقريب من ذلك ما ذكره البغدادي في كتابه ، يقول : افترقت الاباضية فيما بينها فرقاً يجمعها القول بأنّ كفّار هذه الاُمّة ـ يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الاُمّة ـ براء من الشرك والإيمان ، وانّهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنّهم كفّار ، وأجازوا شهادتهم وحرّموا دماءهم في السرّ واستحلّوها في العلانية ، وصحّحوا مناكحتهم ، والتوارث منهم ، وزعموا أنّهم في ذلك محاربون لله ولرسوله ، لايدينون دين الحق ، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض ، والذي استحلّوه الخيل والسلاح ، فأمّا الذهب والفضة فإنّهم يردّونهما إلى أصحابهما عند الغنيمة.
    ثمّ افترقت الاباضية فيما بينهم أربع فرق : الحفصية ، والحارثية ، واليزيدية ، وأصحاب طاعة لايراد الله بها.
    1 ـ الأشعري : مقالات الإسلاميين 104 ـ 105.

(223)
    ثم قال : واليزيدية ، منهم غلاة لقولهم بنسخ شريعة الإسلام في آخر الزمان (1) .
    ولأجل تصريح عبدالله بن اباض بأنّ المراد من الكفر هو الكفر بالنعم لا محيص عن تفسير الكفر فيما نقله البغدادي عنه بالكفر بالنعم ، نعم بعض الفرق منهم خرجوا عن الاعتدال وحكموا بكفر المسلمين كفراً حقيقياً.
    هذا ما يقوله أصحاب المقالات عنهم ولكنّهم في كتبهم المنتشرة في السنوات الأخيرة يقولون خلاف ذلك ، وانّهم لا يختلفون مع جماهير المسلمين إلاّ في مسألة التحكيم ، وأمّا ما سواه فهم وغيرهم سواسية ، وينكرون وجود هذه الفرق التي نسبها إليهم الأشعري ثم البغدادي (2) . ولأجل ذلك يجب دراسة مذهبهم من كتبهم.
    الاباضية في كتب اعلامهم :
    قد تعرّفت على المذهب الاباضي وترجمة مؤسّسه على ما في كتب الفرق والتاريخ ، غير أنّ كُتّاب الاباضية في العصر الحاضر وماقبله يتحرّجون من أن يُعَدُّوا من فرق الخوارج ، وإن كانوا يتّفقون معهم في بعض المبادئ ولكن يخالفونهم في كثير من المبادئ والعقائد ، ويعتقدون أنّه مذهب نجم في أواخر القرن الأوّل بيد مؤسّسه عبدالله بن اباض وجابر بن زيد العماني ، فكأنّ الأوّل قائداً مخطّطاً والثاني قائداً دينياً ، وانّ الخوارج هم المتطرّفون كالأزارقة الذين كانوا يكفّرون المسلمين ويعدّونهم مشركين ويستبيحون أموالهم ويستحيون
    1 ـ البغدادي : الفَرق بين الفِرق : 103 ، ثمّ ذكر عقائد فرق الاباضية تبعاً للشيخ الأشعري في المقالات 102 ـ 111 ، ومن أراد التفصيل فليرجع إليهما.
    2 ـ الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/21 ـ 28.


(224)
نسائهم ويقتلون أولادهم ، وأمّا غيرهم الذين لايعتنقون هذا المبدأ وماشابه فليسوا من الخوارج.
    وقد بذلت الاباضية في هذه العصور الأخيرة جهوداً في تنزيههم عن كونهم من هذه الطائفة وانّ المقصود منه غيرهم ، وإليك بعض نصوصهم وتحليلاتهم :

هل الاباضية من الخوارج؟ :
    1 ـ قد عمد البعض من الخوارج بعد وقعة النهروان إلى سلوك طريق لايتّفق مع الاُصول الصحيحة للشريعة الغّراء وأحد ثوا في الإسلام حدثاً كبيراً بما استحلّوا من استعراض المسلمين بالسيف وتكفير أهل القبلة الذين لايذهبون مذهبهم ، وتفرّق هؤلاء الخارجون إلى فرق عديدة كان منها الأزارقة والنجدات والصفرية ... وهؤلاء هم الذين أصبحوا يعرفون بالخوارج ، ويعني وصفهم بذلك أنّهم خارجون عن الدين ومارقون بما استحلّوا من المحرّمات وما خالفوا فيه من الأحكام الصحيحة للإسلام.
    أمّا الاباضية ـ وهم عرفوا بجماعة المسلمين أهل الحقّ والاستقامة ـ فهم لايرون رأي هؤلاء الخوارج بل يرونهم مارقين خارجين عن الدين ، ورغم أنّهم يوالون المحكّمة الاُولى ـ وعلى رأسهم عبدالله بن وهب الراسبي ـ إلاّ أنّهم لم يوافقوا الأزارقة و من والاهم من بعده بل تبّرأوا منهم ولم يذهبوا مذهبهم.
    وعلى ذلك فالخوارج هم غير الاباضية ولايمكن اعتبار الاباضية احدى فرقهم ، وإلاّ فكيف نجمع بين النقيضين في صعيد واحد ، وكيف نصف من يتمسّك بصحيح الإسلام ، ولايكفّر أصحاب القبلة ، ولايستحلّ دماء المسلمين ولا أموالهم إلاّ دفعاً لبغي أو ردّاً لعدوان؟ .... كيف نصف هؤلاء بأنّهم من


(225)
الخوارج الذين أبوا إلاّ مفارقة الجماعة والخروج عليهم واستعراض المسلمين بالسيف ، واستحلال دمائهم وأموالهم بغير حقّها ، وذهابهم إلى تكفير هؤلاء ، وإذا كانت الاباضية قد والوا المحكّمة الاُولى إلاّ أنّ ولاءهم لم يكن لمن خرج من بعد ذلك على الدين ، وكان سلوكهم مروقاً وعصياناً (1) .
    2 ـ الاباضية لم يجمعهم جامع بالصفرية والأزارقة ومن نحا نحوهم إلاّ انكار الحكومة بين علي ومعاوية ، وأمّا استحلال الدماء والأموال من أهل التوحيد ، والحكم بكفرهم كفرَ شرك ، فقد انفرد به الأزارقة والصفرية والنجدية ، وبه استباحوا حمى المسلمين ولمّا كان مخالفونا لايتورّعون ، ولايكلِّفون أنفسهم مؤونة البحث عن الحق ، ليقفوا عنده ، خلطوا بين الاباضية الذين لايستبيحون قطرة من دم موحّد بالتوحيد الذي معه ، وبين ما استحلّوا الدماء بالمعصية الكبيرة حتى قتلوا الأطفال تبعاً لآبائهم ، مع أنّ الفرق كبير جداً كالفرق بين المستحل والمحرّم.
    ثمّ قال : إنّ تسمية الخوارج لم تكن معهودة في أوّل الأمر ، وإنّما هي انتشرت بعد استشراء أمر الأزارقة ولم تعرف هذه التسمية في أصحاب عليّ ، المنكرين للتحكيم والراضين به ، ولعلّ أوّل ما ظهر هذا اللفظ بعد ثبوت الأمر لمعاوية والاستقرار ولم يفرّقوا في ذلك بين المتطرف وغيره (2) .
    3 ـ إنّ الاباضية رغم اعتدالهم من الناحية المذهبية والفقهية إلاّ أنّهم كانوا في عداء سياسي مع دولة بني اُمية ودولة بني العباس لأنّهم كانوا يقولون بأنّ الإمامة أو الخلافة حق لأيّ مسلم صالح ، فلا تكون قاصرة على قريش ، ولا على بطونها المختلفة من الأمويين أو العباسيين أو العلويين ، ولمّا كان هذا الموقف
    1 ـ صالح بن أحمد الصوافي : الإمام جابر بن زيد العماني : 212.
    2 ـ أبو إسحاق السالمي : تحفة الأعيان : هامش الجزء الأوّل كما في الإمام جابر بن زيد العماني.


(226)
السياسي للاباضية يلتقي من الناحية النظرية ومن الناحية الفكرية البحتة مع الخوارج : الأزارقة والنجدات والصفرية ، فقد عممّ كُتاب الفرق القول ووضعوا الاباضية ضمن هؤلاء الخوارج واعتبروهم فرقة رابعة من فرقهم ، والاباضية أنفسهم كما هو موجود في كتبهم القديمة والحديثة يتبرّأون من هؤلاء الخوارج كل البراءة بل ويقاتلونهم بأشدّ قتال.
    إنّ المذهب الاباضي لم يعرف بهذا الاسم إلاّ منذ الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة حينما غلب على أصحابه هذا الاسم واشتهروا به ، وانّما أصحابه قبل ذلك يعرفون باسم جماعة القعدة وهو اسم له دلالته السياسية ، وقد أطلقه عليهم جماعات الخوارج من الأزارقة وغيرهم احتقاراً لهم ورفضاً لمبدئهم : ذاك في القعود ، فقد وضع هؤلاء القعدة لأنفسهم مبدأ المسالمة وعدم اشتهار السيف في وجه اخوانهم من المسلمين ، وأجازوا لأنفسهم البقاء تحت حكم الجبابرة ، وقالوا بعدم جواز قتل أطفال مخالفيهم ولا قتل نسائهم ولا استحلال أموالهم وأخذوا يعملون على نشر مبادئهم السياسية في سرّيّة وكتمان ، ودخلوا في مرحلة كتمان طويلة امتدّت منذ أن تأسّس المذهب على يد جابر بن زيد في أواخر القرن الأوّل للهجرة حتى هاجر معظم علماء المذهب وآخر أئمة الكتمان أبو سفيان محبوب بن الرحيل إلى عمان في أواخر القرن الثاني للهجرة (1) .
    4 ـ إنّ مذهب الاباضية لم يعرف بهذا الاسم في المصادر الاباضية إلاّ في الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة وقد قبلت الاباضية بهذا الاسم منذ ذلك التاريخ لأنّه غلب عليهم بمرور الزمن وصار علماً يلتفّون حوله ، وإنّما يطلقون على أنفسهم قبل ذلك اسم « جماعة المسلمين » أو « أهل الدعوة » أو « أهل الاستقامة » وقد سمّاهم أعداؤهم من الخوارج المتطرّفين باسم « القعدة »
    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : 54 ـ 56.

(227)
احتقاراً لهم ، لأنّهم طبقاً لوجهة نظر هؤلاء الخوارج ، قعدوا عن الجهاد في سبيل الله بمحاربة الولاة والحكّام الظالمين.
    وكان هؤلاء القعدة قد رأوا القعود عن الحرب ، وعن رفع السيف ضد اخوانهم المسلمين عقب موقعة النهروان التي وقعت بين الإمام علي بن أبي طالب وجماعة المحكّمة الذين عارضوه لقبوله التحكيم ، وقالوا : « لاحكم إلاّ لله » واشتهروا باسم « المحكّمة » أو « الشراة » أو « الحرورية » وأطلق عليهم خصومهم من أرباب الدولة الأمويّة اسم الخوارج (1) .
    5 ـ إنّ الصفريّة اتّخذت الخروج بالسيف على الدولة وسيلة لتحقيق أهدافهم ، فإنّ الصفريّة في بلاد المغرب اتّبعوا هذا الاسلوب في هذه المنطقة النائية ، ولذلك رفعوا لواء الثورة ضدّ بني اُميّة منذ عام 122.
    وقد أظهر هؤلاء الصفرية من تطرّف شديد في معاملتهم لخصومهم سواء كانوا من العرب أم من البرير ، فكانوا يستحلّون سبي النساء ، ويستحلّون الأموال ، يسفكون الدماء ، وكانوا في حركتهم في بلاد المغرب أقسى على الناس من حركة الأزارقة في بلاد المشرق ، وقد وصل تطرّف البرير الصفرية إلى غايته عندما داهموا القيروان في عام 139 ، واحتلّوها وفعلوا بأهلها وبمساجدها ما تقشعرّ له الأبدان على يد قبيلة« ورفجومة » التي كان أهلها من غلاة الصفرية.
    ثمّ بعد فترات تنقّلت قيادة البربر من الصفرية إلى الاباضية بعد أن ضاق البربر بعنف الصفرية وتطّرفهم المقيت ، فضعف أمر الصفرية منذ ذلك الحين وذاب أغلبهم في الاباضية (2) .
    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر والمغرب : 12 ـ 13.
    2 ـ نفس المصدر : 53.


(228)
    6 ـ المذهب الاباضي يعتمد في اُصوله على الكتاب والسنّة ويتّفق في كثير من اُصوله وفروعه مع مذهب أهل السنّة ، ولايختلف معها إلاّ في مسائل قليلة ، اختلاف مذاهب السنّة فيما بينها ، فلا يخلو منها مذهب لايخالف غيره في قليل أو كثير من المسائل ، وما كان اعتماد المذهب الاباضي على الكتاب والسنّة وعدم تباعده عن مذاهب السنّة إلاّ لأنّ مؤسسّه جابر بن زيد قد أخذ عن الصحابة الذين أخذ عنهم أصحاب هذه المذاهب من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة ، بل انّه يمتاز على أصحاب هذه المذاهب ، في انّه أخذ عن الصحابة مباشرة بينما هم لم يأخذوا في معظهم إلاّ من التابعين ، كما أنّ الأحاديث التي جمعها هو وغيره من علماء وفقهاء وجمّاع الأحاديث من الاباضية كالربيع بن حبيب وغيره ، ليست إلاّ أحاديث وردت عند البخاري ومسلم وغيرهم من أئمّة الحديث كأبي دواد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطبراني والبيهقي وغيرهم من أهل السنّة والجماعة (1) .
    7 ـ اطلاق لفظ الخوارج على الاباضية من الدعايات الفاجرة التي نشأت عن التعصّب السياسي أوّلا ثمّ عن المذهبي ثانياً ، لمّا ظهر غلاة المذاهب وقد خلطوا بين الاباضية والأزارقة والصفرية والنجدية.
    إنّ لاطلاق الخوارج على الاباضية سببين :
    الف ـ اشتراكهم مع سائر الخوارج في انكار التحكيم ، فصار ذلك سبباً للجمع بين كل منكر للتحكيم في صعيد واحد.
    ب ـ إنّ تسمية الخوارج لم تكن معهودة في أوّل الأمر وإنّما انتشرت بعد استشراء أمر الأزارقة ، ولم تعرف هذه التسمية في أصحاب علىّ المنكرين للتحكيم والراضين به ، ولعلّ أوّل ما ظهر هذا الأمر بعد ثبوت الأمر لمعاوية ، فإنّ
    1 ـ الدكتور رجب محمّد عبدالحليم : الاباضية في مصر و المغرب : 60.

(229)
الأمويين أطلقوا هذه التسمية على كل من يعارض ملكهم العضوض (1) ولم يفرّقوا بين الاباضية وبين سواهم من متطرّفي الخوارج (2) .
    8 ـ إنّ ابن اباض تبّرأ من الأزارقة في الرسالة التي كتبها إلى عبدالملك وجاء فيها : أنا براء إلى الله من ابن الأزرق وضيعه وأبقاعه ، لأنّه خرج عن مبادئ الإسلام فيما ظهر لنا و أحدث وارتدّ وكفر بعد إسلامه فنبرأ إلى الله منهم (3) .

نَظُرنا في الموضوع :
    هذه كلمات القوم وهي تعبّر عن كونهم مصرّين على أنّهم ليسوا بخوارج ومن سمّاهم بذلك فقد ظلمهم ، وبما أنّ الخوارج لم يكونوا ذوي سمعة حسنة ، وكان المسلمون يتبرّأون من عقائدهم وأعمالهم ، صار هذا هو الحافز لعلماء الاباضية على السعي البالغ من اخراج أنفسهم عن صفوفهم ، وانّهم فرقة مستقلّة لاصلة لهم بالخوارج إلاّكونهم مشتركين في أصل واحد وهو انكار التحكيم.
    ولعلّ القارىء ، يتعجّب من الاطناب والافاضة في المقام وماهذا إلاّ لأجل اراءة منطق القوم فيما يتبنّونه لئلاّنبخس حقوقهم ، فإنّهم كما عرفت يتّهمون المخالفين بعدم التورع في البحث وعدم تكليف الأنفس مؤونة الفحص عن الحق ، ولكنّها غير لاصقة بنا ، فإنّا كلّفنا أنفسنا مؤونة البحث ويشهد بذلك نقل كلماتهم ، ومع هذا كل ما ذكروه أشبه بالخطابة ، وذلك :
    1 ـ لازم ذلك أن يسمّوا الشيعة أيضاً باسم الخوارج.
    2 ـ صالح بن أحمد الصوافي ، الإمام جابر بن زيد العماني : 213 ـ 214 ، والكاتب غفل عن القريض المعروف في شأن أبي بلال المنتصر كما سيوافيك ، وكانت الحادثة سنة 60 قبل فتنة الأزارقة.
    3 ـ الإمام جابر بن زيد العماني : 224 ، ونقلا عن الجواهر المنتقاة للبرادي : 156 ـ 167.


(230)
أوّلا : إنّ هذه الكلمات تحكي أنّ الاباضية أوّل من خطّ خطّ الاعتدال ومشى على ضوئه ، واكتفى بالعزلة والقعود ولم يحارب الناس ، ولم يعترضهم ، ولكنّه في غير محلّه إذ لو صحّ كلّ ذلك في عبدالله بن اباض فراسم هذا الخط هو أبو بلال مرداس بن جدير ، فإنّه أوّل من ندّد بعمل الخوارج في اعتراضهم الناس و نهب أموالهم ، وكان ينادي بأعلى صوته بأنّه لا يحارب الاّ من حاربه ولايروّع أحداً ولا ... ولا ... فعلى ذلك يجب أن يقال : إنّ مبدىء هذه الكفرة هو أبوبلال المقتول عام« 60 » وقد كان أبو بلال قد شهد صفّين مع علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ وأنكر التحكيم وشهد النهر ونجا فيمن نجا (1) .
    ثانياً : إنّ الحجر الأساس لفرقة الخوارج هو التطّرف والخروج عن الاعتدال ، وإن كان للتطرّف مدارج ومراحل ، فالقوم من بدو الخروج على علي وانكار التحكيم عليه بعدما فرضوه عليه ، كانو متطرّفين ، لا يحترمون دماً ولاعرضاً. إنّ تخصيص التطرّف بالأزارقة ، والنجدات ، والصفرية بزعم أنّهم هم الذين كانوا يستعرضون المسلمين ، ويستحلّون دماءهم ، ويكفّرون أهل القبلة ، كلام فارغ عن الحجّة ، بل الحجة على خلافه ، فإنّ المحكّمة الاُولى وعلى رأسهم عبدالله بن وهب الراسبي أيضاً كانوا من المتطرّفين ، ويظهر ذلك من خطب هذا الراسبي وكلماته التي ألقاها في الحروراء ، وقد نقلنا بعض كلماته في الفصل السادس ، وإليك لقطات منها :
    قال مخاطباً إخوانه عند الشخوص من الحروراء إلى النهروان : فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضرّة (2) .
    1 ـ المبرّد : الكامل 2/183 ومرّ تفصيله.
    2 ـ مرّ المصدر في الفصل السادس.
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الخامس ::: فهرس